إنجيل يوحنا: كتاب الآيات : يسوع ويوحنا المعمدان

يسوع ويوحنا المعمدان
3: 22- 36

مثل هذا الفرح فرحي، وهو الآن كامل. له هو أن يزيد، ولي أنا أن أنقص.
ظهرت العلاقات بين يسوع ويوحنا المعمدان منذ الفصل الأول. في المطلع، نقرأ: "ظهر رسول من الله إسمه يوحنا. جاء يشهد للنور حتى يؤمن الناس بالنور" (1: 6- 7). يوحنا هو الشاهد للنور، وليس هو النور. النور هو يسوع الكلمة. وسيكون يوحنّا الشاهد للعريس، وليس هو العريس. العريس هو يسوع المسيح الذي دعا الكنيسة إلى أعراسه في قانا الجليل. وقدّم يوحنا شهادته أمام اليهود حين اعترف بأنه ليس المسيح، بل صوت صارخٍ في البرية (1: 19- 23). وشهد أمام تلاميذه: "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (1: 29، 36).
وفي هذا النصّ يقدّم لنا الإنجيلي آخر كلمات يوحنا المعمدان. بعد هذا، سوف نجد تلميحات ترد على لان يسوع: "أرسلتم رسلاً إلى يوحنا، فشهد يوحنا للحق... لي شهادة أعظم من شهادة يوحنا: لي أعمالي التي أعطاني الآب أن أعملها" (5: 33، 36). شهادة يوحنا نسبية، ولكن يسوع يشير إليها لأنّ اليهود قبلوها إلى درجة ما. وهناك تلميح أخير إلى يوحنا في 10: 40- 42: "ورجع يسوع إلى عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمّد من قبل، فأقام هناك. فجاء إليه كثير من الناس وقالوا: ما عمل يوحنا آية واحدة، ولكن ما قاله في هذا الرجل كان كله صحيحاً. فآمن بيسوع كثير من الناس".
ذكر يوحنا التلاميذ في 2: 12: ساروا مع يسوع بعد معجزة قانا الجليل. وبعد ذلك، يبدو أنهم أخفقوا. وها هم يظهرون من جديد. أيكون الحوار بين يسوع ونيقوديمس تمّ بدون شهود؟ أيكون التلاميذ (أو بعض منهم) حضروا اللقاء وسمعوا دون أن يُذكر إسمهم؟ مهما كانت المراجع التي استقى منها الإنجيلي، فدوره كبير ككاتب ولاهوتي في نشاطه الإبداعي والخلاّق.
هل كان يسوع يعمّد؟ سؤال مدهش. ولكن يبدو أنّ يوحنا يشير إلى هذا الأمر بكل بساطة. ولكنه سيصحّحه فيما بعد في 4: 1- 2: لم يكن هو يعمّد، بل تلاميذه. في الأناجيل الإزائية، سننتظر القيامة لنرى يسوع يأمر تلاميذه بأن يعمّدوا. وتأكيد يوحنا على أنّ يسوع كان يعمّد، قد يكون صحيحاً. فيسوع قد عمّد، على ما يبدو (مثل المعمدان)، قبل أن يصبح نبياً متنقّلاً. هل كان تلميذ المعمدان؟ هذا ما لا تقوله النصوص. هل عمّد حيث كان يوحنا يعمّد؟ هذا ما لا نعرفه. والحديث عن المعمودية قد يلقي ضوءاً على علاقات يسوع مع عالم العماديين. ولكنه ما عتّم أن ابتعد عنهم وانخرط في رسالته الخاصة.
وكان جدال بين يهودي وتلاميذ يوحنا (آ 25) في مسألة الطهارة. قد يكون موضوع الجدال خلاف حول قيمة عماد يوحنا بالنسبة إلى طقوس الطهارة لدى اليهود. أو حول العلاقة بين معمودية يسوع ومعمودية يوحنا. ووَليْ النصّ يوجّهنا إلى هذا التفسير الثاني.
ونصل إلى شهادة يوحنا (آ 26- 30). كان يسوع يعمّد "في بلاد اليهودية" (آ 22). إشارة غير دقيقة. لا شكّ في وادي الأردن، وفي مكان بعيد عن المكان الذي كان فيه يعمّد يوحنا المعمدان: أي: عين نون حيث المياه كثيرة (عين نون أي عينون، أي: عيون، جمع عين ونبع). كان يوحنا يعمّد في عبر الأردن. ولكننا لا نعرف موضع المكان الذي عمّد فيه. لم نعد في بيت عنيا كما في 1: 28.
إنّ كلمة يوحنا عن يسوع تجمع 1: 20 (لست المسيح) مع 1: 6 (كان رجل مرسل من الله). أنتم تشهدون بأني قلت: "ما أنا المسيح، بل رسول قدّامه".
أما موضوع شهادة يوحنا فيرد في حديث عن "العريس وصديق العريس" (آ 29- 30).
صديق العريس هو الإشبين في تقليدنا الشرقي. هو صديق العريس. يهيّىء الزواج، ويسهر في يوم الزواج لكي تسير الأمور على أحسن ما يرام. يتنصّت ليسمع "الضجة"، صوت الإحتفال الذي يقود العريس إلى عروسه. حينئذ ينتهي دوره. وهكذا انتهى دور يوحنا حين أطلّ يسوع.
سنجد هذه المقابلة نفسها في الأناجيل الإزائية (مر 2: 19): "أتنتظرون من أهل العريس أن يصوموا والعريس معهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يقدرون أن يصوموا". قابل يسوع زمن الصوم (لتلاميذ المعمدان) مع زمن الفرح الذي هو زمن يسوع.
هناك مقابلة بين يسوع ويوحنا. "له هو أن يزيد، ولي أنا أن أنقص" (آ 30). ولقد حافظت الليتورجيا على هذه العلاقة، فجعلت عيد يوحنا في 24 حزيران، حين يبدأ النهار ينقص. ومولد يسوع في 25 كانون الأول، حين يطول النهار. ولقد أوجز القديس أغوسطينس مكانة يوحنا بالنسبة إلى يسوع فقال بفم يوحنا: "أنا أَسمع: إنه ذاك الذي يتكلّم. أنا أستنير: إنه النور. أنا أذن وهو الكلمة".
حين نقرأ النص (آ 22- 24) نفهم أننا أمام نشاط عمادي، يقوم به يسوع كما يقوم به يوحنا المعمدان، وهو يمتدّ زمناً طويلاً. ويشير النصّ أيضاً إلى الجموع الكثيرة التي جاءت تعتمد. فالمياه كثيرة هناك، لهذا سُمّي المكان "عيون". ونقرأ أن يسوع وتلاميذه جاؤوا إلى بلاد اليهودية. هذا لا يعني أنهم كانوا في الجليل، بل في أورشليم.
إن هذا المقطع (آ 22- 30) ينفصل انفصالاً واضحاً عن المقطع الذي سبقه. ولكن موقعه هنا بين خطبتين، له معناه. فقد أراد الإنجيلي أن يقابل بين العماد المسيحي وعماد يوحنا. فهناك من يريد أن يحرّك النصوص لأسباب أدبية ونقدية. فما هي أصول المواد التي صاغها الإنجيلي هنا؟ إن آ 22- 23 توردان لنا تقليداً سبق تدوين الأناجيل. أما آ 24، فتبدو ملاحظة خاصة أوردها الإنجيلي. وهي تفترض لدى القارىء معرفة بإنجيل لا يبدأ فيه نشاط يسوع إلاّ بعد القبض على يوحنا (رج مر 1: 14: وبعد اعتقال يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يعلن إنجيل ملكوت الله). إنّ الإنجيل الرابع يجعلنا نستشفّ أنه عالم الأمور، وهو يوردها دون "هجوم" على تلاميذ يوحنا.
هل من معنى رمزي لأسماء الأماكن المذكورة في آ 23؟ لا ننسى أنّ المكان الذي كان يسوع يعمّد فيه لا يذكر (رج 4: 1- 3). حسب أوسابيوس القيصري، تقع عين نون وساليم جنوبي بير شان (سيتوبوليس). إذن، غربي الأردن، في الدكابوليس (المدن العشر). فهي المنطقة الوحيدة التي كان بإمكان يوحنا أن يظهر فيها ويعمّد على ضفّة الأردن الغربية، لأن سائر أجزاء تلك الضفة كانت في يد الرومان. وإن آ 26 تدلّ على أن نشاط المعمدان يتم على الضفة الغربية. و"المياه الكثيرة" تقابل الينابيع (أو: العيون) الخمسة التي تجري اليوم في الدير، في سهل بير شان المروي، جنوب تل الردرة (؟). إذا نظرنا إلى نشاط يوحنا العمادي في إطاره التاريخي والكرونولوجي، بدا كأنه حدث سياسي هام. بما أن الجموع تزحف إليه، فهو لا يستطيع أن يظهر في منطقة الوالي الروماني. أما يسوع فيعمّد في المنطقة المحتلّة. فنشاطه لا يبدو بشكل حركة جماهيرية ذات طابع سياسي وخطر.
هذه الآيات ترسم إطار الجدال بين "يهودي" وتلاميذ يوحنا. هذه المزاحمة هي مناسبة لكي يورد الإنجيلي آخر شهادة أدّاها يوحنا المعمدان ليسوع. فهو يهتمّ اهتماماً خاصاً بأن يثبّت مسيرة فكره اللاهوتية بأحداث تاريخية على الأرض. فالنور الذي تحدّث عنه في 3: 19، هو يسوع الذي يعمل الآن بشكل صامت وخفي، ولكن في العمق (4: 1). وهذا النشاط الذي تورده آ 22، هو جزء من عطيّة الابن الوحيد التي وهبها الآب للعالم (3: 16). فإذا أردنا أن نزيد على الأمكنة التي كان يوحنا يعمّد فيها، المدلول الرمزي، لقلنا: هي عيون السلام، عيون الخلاص. لقد جاءت الجموع تطلب الخلاص لدى يوحنا المعمدان، لا لدى يسوع. ولكن يُطرح السؤال: أين هو الخلاص الحقيقي؟
يبدو لنا يسوع في هذا النشاط وكأنه يضيع وقته! فكما في السنوات الطويلة من حياته الخفية في الناصرة، كذلك في هذا الوقت الذي فيه ينتظر يسوع بينما تلاميذه يعمّدون (4: 2). وإن "إخوته" سوف يلحّون عليه (7: 3) بأن يستفيد من الظرف ويعمل في إطار يعطي نتائج ملموسة (في أورشليم). ولكن يسوع يعتبر أنّ العمل الصامت ليس إضاعة وقت. فقيمة الأعمال المسيحية لا ترتبط بالنتائج الخارجية. بل بأن نعرف أننا نتمّم مشيئة الآب.
في آ 25، هناك جدال مع "يهودي". وقد ظنّ بعض الشرّاح أنّ الجدال كان مع "يسوع". ولكننا لا نجد أيّة شهادة على هذا الإقتراح، لا في المخطوطات اليونانية ولا في أيّة ترجمة قديمة. في آ 27، تُزاد عبارات تودّ أن تشرح النصّ: "لا يأخذ أحد شيئاً (بنفسه) إلاّ إذا أعطي له (من فوق) من السماء".
ما هي مناسبة تدوين هذا المقطع (آ 25- 30)؟ صعوبات في الكنيسة الأولى تجاه العالم اليهودي الذي يمارس ممارسة واسعة عماد يوحنا (رج أع 19: 3). من هذه الزاوية اهتمّ الإنجيلي بقضية قديمة جدّاً. هو لم يخترعها، بل وجدها في التقليد فأقحمها في نصّه. هذا ما تدلّ عليه آ 22- 23. فالجدال بين تلاميذ "معمّد" شهير وتلاميذ هذا "الآتي حديثاً" الذي يعمّد بشكل آخر (4: 2)، يوافق الوضع الروحي في فلسطين في أيام المسيح.
إذن، نحن في آ 25 أمام مادة تاريخية. وتعيدنا آ 28 إلى قلب الإنجيل (1: 20، 23، 27). وتذكّرنا آ 29- 30 بصور نجدها عند الإزائيين. لقد جاء يسوع إلى المعمدان ليعتمد، فشهد له يوحنا. وستشدّد الكنيسة الأولى على هذه الشهادة لتدلّ على عظمة يسوع تجاه يوحنا.
هناك سؤال جوهري في نظر يوحنا الإنجيلي: ما هي العلاقة بين معمودية يوحنا وسرّ العماد المسيحي؟ كيف كانوا يمارسون العماد في محيط يسوع؟ هذا ما لا يوضحه يوحنا هنا، فيكتفي بأن يقول بعض الشيء في 4: 2. فما قاله أراد أن يوضح موضوع الحوار مع نيقوديمس: الولادة المسيحية الجديدة بالماء والروح. هكذا شدّد على فعل الروح. وهذا الفعل يميّز الحدث المسيحي عن كل عماد يهودي. وسيظهر التمايز الأساسي في 1: 33. قال يوحنا: "ما كنت أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمّد بالماء قال لي: الذي ترى الروح ينزل ويستقرّ عليه هو الذي سيعمّد بالروح القدس".
إنّ كلمة "طهارة" تدلّ على طقوس الوضوء ومراسم التطهير عند اليهود. نحن هنا في إطار القرن الأول المسيحي بطقوسه المتعدّدة.
نقرأ في آ 23: كان الناس يجيئون إلى المعمدان ويتعمّدون. ولكن تلاميذ يوحنا سيقولون في آ 26: "جميع الناس يجيئون إليه (= إلى يسوع)". أجل، يسوع هو العريس، وإليه تُزفّ العروس، أي شعب الله. هذا ما يجب أن يعمله تلاميذ المعمدان في نهاية القرن الأول المسيحي: أن يدخلوا في الكنيسة فيكونوا مع هؤلاء "الجميع" الآتين إلى يسوع.
ويبدو يوحنا عظيماً. إنه مثال لأصدقاء العريض في كنيسة المسيح. وعظمة المعمدان وتجرّده يميّزانه عن "غيرة" تلاميذه الضيّقة (آ 26). سمّوا معلّمهم "رابي" (رج 1: 38، 49؛ 3: 2= هذا اللقب ليسوع). قالوا: ذاك الذي كان معك. أي ذاك الذي جاء إليك يطلب العماد، ها هو يعمل بطريقة مستقلّة. عندئذ بدأت شهادة المعمدان وهي ردّ على كل ما قيل منذ آ 22 إلى آ 26.
" لا يأخذ أحد شيئاً إلاّ إذا أعطي له من السماء". هذا المبدأ ينطبق على عمل يوحنا، كما ينطبق على عمل المسيح.
تحدّث يوحنا عن يسوع الذي هو "العريس" الذاهب إلى "عروسه". إعتاد الشرق القديم أن يمثّل المدينة كأنها امرأة أو فتاة. نقرأ في زك 9: 9: "إبتهجي يا بنت صهيون واهتفي يا بنت أورشليم" أي: يا مدينة صهيون، يا مدينة أورشليم. ونقرأ في 2 صم 17: 13 (حسب اليونانية السبعينية): "أسرع الشعب إلى ملكه كالروس إلى عريسها". وتحدّث سفر الخروج (34: 14) عن الربّ "الغيور" على شعبه كالعريس على عروسه. هو يريدها نقيّة ويطلب منها أن تحبّه دون سواه. وزمن عبور الصحراء هو زمن خطبة إسرائيل (إر 2: 2: "أذكر مودّتك في صباك، وحبّك يوم خطبتك"). وحسب حز 16: 8 ثبّت الربّ حبّه لشعبه بقسم: هو عهد لا يُحلّ. إنّ الربّ يفرح بعروسه (أش 62: 5) ويزيّنها (أش 49: 18؛ 61: 10). وجاءت أقوال يوحنا المعمدان في هذا الخط الذي عرف ذروته في نشيد الأناشيد.
وإذا عدنا إلى تقليد الرابانيين، نركما أنّ الله نفسه مارس وظيفة "الإشبين" تجاه آدم. فقد زيّن حوّاء وقادها إلى آدم (رج تك 2: 22). والمقابلة مع وظيفة الله، تدلّنا على العظمة التي ارتفع إليها المعمدان في آ 29. ونجد ما يقابل هذه الآية في موقف بولس تجاه كنيسة كورنتوس: "أنا أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد وهو المسيح، لأقدّمكم إليه عذراء طاهرة" (2 كور 11: 2).
ونصل إلى شهادة المعمدان الأخيرة عن يسوع (آ 31- 36): "من جاء من فوق فهو فوق الناس جميعاً. ومن كان من الأرض، فهو أرضي...".
إذا عدنا إلى "النصّ الغربي" ومجموعة النصّ الإمبراطوري نقرأ آ 34 ب كما يلي: "لأنه يهب الروح بغير حساب". وهناك النصّ الأقصر: "لأنه يعطي بلا حساب". ولكن من يعطي من؟ وفي آ 31 ج لا نجد في عدد من المخطوطات عبارة "فهو فوق الناس جميعاً". وهناك مخطوطات تزيد بعد آ 36: "وبعد هذا، أسلم يوحنا".
في آ 32: "لا أحد يقبل شهادته". ولكن في آ 33، نقرأ: "من قبل شهادته". هذه طريقة في الكلام تريد أن تشدّد على فكرة خاصة. مثلاً، الجمل وخرم الإبرة.
جُعل المسيح فوق الجميع، لأنه ذاك "الذي جاء من فوق" (آ 31). هذا يتوافق مع ما يقوله الإزائيون حول ابن الإنسان الآتي من السماء. ومع هذا، نلاحظ أنّ المعمدان لم "يذهب" مع تلاميذه إلى يسوع، رغم نشيده على تفوّق يسوع. هذا هو الواقع التاريخي. يجب بالأحرى أن نقرأ في شهادة المعمدان الإعلان الرسولي، خصوصاً في آ 35- 36: "الآب يحبّ الابن فجعل كل شيء في يده". هذا هو كلام يسوع، وقد جعل في فم يوحنا المعمدان، بل في فم الكنيسة الأولى.
لماذا امّحى المعمدان أمام يسوع بشكل حاسم (آ 30)؟ المسيح هو الآخر الذي يختلف كل الإختلاف عن أي من البشر. شهادة يوحنا الأخيرة التي تنبع من العهد القديم، تصبّ في شهادة إيمان الكنيسة الأولى حول يسوع الذي ما زال يحيا فيها من خلال كرازتها. فالذي ينطلق من الإيمان بالله يستطيع أن يفهم هذه الشهادة.
يعرف يوحنا أن لا إله إلاّ الله الواحد. ولكن يسوع يشارك في الطبيعة الإلهية. إنه "فوق كلّ شيء". "فوق جميع الناس" (آ 31). "فمن قبل شهادته" التزم شخصياً بأن يوقّع، بأن يختم، بأن يشهد أنّ يسوع هو صادق، وأن الحياة الأبدية، حياة الله الثابتة، هي في متناولنا بواسطة يسوع.
ولا يني الإنجيلي يؤكّد أن يسوع لا يتكلّم باسمه الخاص. إنه يتكلّم ويعمل بالنظر إلى وحدته مع الآب: "فالذي يعمله الآب يعمله الإبن مثله" (5: 19). إنه والآب واحد (10: 30). ولكن شهادته الإلهية لم تقبل (أو ترفض) فقط خلال نشاطه على الأرض، وقبل الفصح، بل امتدّ هذا الرفض في الإعلان المسيحي الرسولي (رج 3: 11: نتكلّم بما نعرف). وكذلك نقول عن آ 33: "من قبل شهادته". هذه العبارة تتعلّق بكل إنسان يسمع تعليم المسيح في كل زمان ومكان: الله هو الذي يكلّمنا حقاً في المسيح.
ونضع آ 34 في إطار تاريخ الكنيسة الواسع. بما أنّ الله كلّمنا في يسوع، فهو يكلّمنا أيضاً بواسطة كل الذين يبشّروننا بالمسيح باسم يسوع. فأقوال الله هي أعمال يسوع وخطبه، هي كل عمله الخلاصي الذي به كشف حبّ الله لنا (3: 16). ونحن لا نستطيع أن ندرك هذه الأقوال إلاّ بالروح الذي أعطي للذين يؤمنون، والذي فيه لا تزال تشهد لعمل المسيح الخلاصي (رج 7: 38 ي؛ 14: 16، 26؛ 15: 26؛ 16: 7 ي؛ 20: 22).
إذا فهمنا آ 34 أ على هذا الشكل، نفهم آ 34 ب. طرح السؤال: من يعطي؟ الآب أم الإبن أم الروح القدس؟ هناك من يقول إن الآب يعطي الإبن ملء الروح الذي بفضله تُعلن كلمة الله. وهناك من يرى أن المسيح هو فاعل الفعل: لأنه (لأن يسوع) يهب الروح بغير حساب، وهكذا نعود إلى 6: 63: "الأقوال التي قلتها لكم هي روح وهي حياة". إن يسوع يعطينا الروح بشكل كلمة الله.
إذ يحبّ الآب إبنه يعطيه روحه. وبدوره يعطي الإبن الروح للذين يعطيهم حبّه. ولكن الرباط الحميم بين الآب والإبن (آ 35 أ) يفهمنا أيضاً أن كل سلطان أعطي للإبن على الناس كما على الخليقة كلها. لا يفعل الآب في الخليقة إلاّ بابنه. لهذا يختتم الإنجيلي شهادته فيقول: من قبل الإبن بدأ حياة اتحاد مع الله. من رفض الإبن رفض الخلاص بسبب غضب الله. فيحلّ عليه "غضب الله" (آ 37).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM