إنجيل يوحنا: كتاب الآيات: نداء نتنائيل

نداء نتنائيل
1: 45- 51

قال يسوع لنتنائيل: "رأيتك، وأنت تحت التينة، قبل أن يدعوك فبلبس".
واهتم الإنجيلي إهتمامًا خاص بلقاء يسوع بنتنائيل. فهذا الرسول الذي من قانا الجليل 12: 2) لا يعرفه إلا إنجيل يوحنا. وقد أراد التقليد أن يماثله مع برتلماوس (نتنائيل هو برتلماوس) لأن اسمه يرد حالاً بعد إسم فيلبس في لائحة الاثني عشر (مر 3: 18). وجعله آخرون سمعان القانوي، لأن أصله من قانا (مر 3: 18) (أو بالاحرى: سمعان الكنعاني). يجب أن نقرّ بجهلنا. كما لا نستطيع أن نقول إنه كان من الاثني عشر.
عرف أصل يسوع (من الناصرة) فأبدى شكاً وارتياباً: أيخرج من الناصرة شيء فيه صلاح؟ لا، لا يستطيع المسيح أن يخرج من قرية حقيرة لا تذكرها التوراة. وهذا التعارض بين المسيح المجيد وأصل يسوع الخفي، يشكّل عثار التجسّد. فعلى الإيمان أن يتغلّب على حاجز اللحم والدم لكي يرى في الانسان يسوع مرسل اله. غير أن اليهود لم يستطيعوا أن يتجاوزوا هذه العتبة. قالوا: "أليس هذا يسوع بن يوسف؟ نحن نعرف أباه وأمه. فكيف يقول الآن: إني نزلت من السماء" (6: 42)؟
وفعل يسوع لنتنائيل ما فعله لبطرس. دلّ على معرفة غير متوقعة. "رأيتك حين كنت تحت التينة". فيسوع يبرهن، في إنجيل يوحنا، على معرفة سميا للأحداث والأشخاص. نقرأ في 2: 25: "هو لا يحتاج إلى من يخبره عن أحد، لأنه كان يعلم ما في قلب الانسان". وفي 6: 16: "عرف يسوع أن تلاميذه يتذمرون". وفي 13: 31، كان يسوع يعرف "أن ساعته جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب".
لماذا التلميح إلى التينة؟ لأنها الشجرة المفضّلة التي يجلس تحتها الرابانيون لكي يدرسوا التوراة. فهناك عبارة يستعملونها: "جلس تحت التينة". وهي تعني: تأمّل في الكتب المقدسة. وهناك رأي آخر يقول بتلميح إلى شجرة معرفة الخير والشر. بحث نتنائيل "الإسرائيلي الحقيقي" في الكتب عما ينبىء بمجيء المسيح، فأعلن له يسوع بأن ما انتظره إسرائيل قد تحقّق في شخصه.
تأثر نتنائيل تأثراً عميقاً بشخص يسوع، فأعطاه لقبين: "ابن الله". "ملك إسرائيل". ملك إسرائيل، هي تسمية تدل عند يوحنا على لقب مسيحاني. وهي أقلّ خطراً من عبارة "ملك اليهود" التي استملت خلال الآلام (18: 33، 39؛ 19: 3، 19- 21).
و"ابن الله" هو لقب مسيحاني ينسب إلى الملك ساعة يجلس على العرش للمرة الأولى (2 صم 7: 14). ويشدد مز 2: 6- 7 على الرباط بين لقب "ابن الله" ولقب "ملك إسرائيل". ولكن في إنجيل يوحنا، وفي قلب قرائه، سيتخذ لقب "ابن الله" كامل معناه بعد قيامة يسوع.
في آ 49، هناك خطّاط أقحم لفظة "حقا". "أنت حقاً ابن الله". لقد فهم هذه العبارة على أنها تأكيد، لا سؤال (أما أنت ابن الله؟). وهناك خطّاط آخر بدّل النص. كان: "سترون السماء مفتوحة". فصار: "منذ الآن سترون السماء مفتوحة". وهكذا تُذكر كلمات يسوع أمام المجلس الأعلى: "منذ الآن سترون ابن الانسان" (مت 26: 64)
نتنائيل يعني: الله أعطى. أو: عطية الله (في اليونانية: تيودور أي عطية الله). كان هذا الإسم معروفاً في الأوساط اليهودية، وقد حوّله يوحنا حسب عادته (رج عد 1: 8).
يظهر النص الأول بوضوح أنه، حين وصل نتنائيل، تكلّم عنه يسوع أولاً إلى آخرين (آ 47: قال فيه). وبعد هذا توجّه إليه مباشرة وبطريقة شخصية (آ 48).
في آ 47 نقرأ: "ها هو". هذا ما يدلّ على الدهشة والتعجّب.
هو "إسرائيلي حقيقي" (أو: حقّ)، حميم، صريح، لا غشّ فيه. إسرائيل هو اسم تكريمي ليعقوب وتك 32: 29 يترجمه: صار قوياً ضد الله. قال: "لا تسمّى بعد اليوم يعقوب، بل إسرائيل، لأنك كنت قوياً على الله وستنتصر على البشر". إن المسيحية الأولى عاملت باحتقار لفظة يهودي (2: 6). أما لفظة "إسرائيلي" فهي لقب تكريم (رج روم 11: 2؛ 2 كور 11: 22).
نقرأ في بداية آ 51: آمين، آمين. الحق، الحق. ما هو أكيد، ما هو ثابت. ما هو كذلك وما يجب أن يبقى كذلك. في العهد القديم نجد لفظة "آمين" كأداة تعجّب في نهاية الخطبة أو كجواب على عبارات المباركة والقسم. ولا نجدها كتأكيد في بداية الخطبة إلا في فم يسوع. وهي ترتبط دوماً بفعل: أقول لك، لكم.
إتبعت الجماعة الأولى الاستعمال اليهودي للفظة آمين في نهاية الصلاة، فقالت مثلاً في 1 كور 14: 16 بلسان بولس: "كيف يقول: "آمين" إذا ما شكرت"؟ وفي رؤ 5: 14 انشدت الملائكة فأجاب الأحياء الأربعة: "آمين" وخرّ الأربعة والعشرون شيخاً وسجدوا. وفي روم 11: 36، هتف بولس: "كل شيء هو منه وبه وإليه، فله المجد إلى الدهور! آمين". وفي 1 بط 4: 11 نجد مجدلة مماثلة ليسوع المسيح: "له المجد والعزة إلى دهر الدهور! آمين".
إذا عدنا إلى الإزائيين وجدنا في كل مرة "آمين" واحداً، وهذا خمسون مرة. مثلا في مت 5: 18: "الحق أقول لكم: إنه لا يزول من الناموس ياء أو نقطة واحدة حتى يتمّ الكل". وفي مت 6: 2: "الحق أتول لكم: قد أخذوا أجرهم". أما عند يوحنا فتتكرّر لفظة آمين 25 مرة، وهذا ما يميّز إنجيل يوحنا. غير أن لهذا التكرار معناه. فـ "آمين" يسوع الذي يبدأ تعليماً هو شيء جديد كل الجدة، شيء لم يُسمع به. هذا ما عرف به يوحنا فأبرزه. ثم إن نص الإنجيل الرابع يبدو أمامنا حصيلة نهائية من مواد تاريخية وتأملات شخصية.
بُني هذا المقطع أيضاً حسب الرسمة التي عرفناها في آ 40- 42: وجد (لقي). شهد، جاء، التقى. ثم إن ارتداد نتنائيل يرتدي ملامح خاصة بالإنجيل الرابع: إن شريعة موسى تهيّىء الطريق لإيمان المسيحي. والإسرائيلي الحقيقي يرى في يسوع ذاك الذي هو المسيح. ويسوع يجلب الناس إليه بمعرفته لما في قلوبهم. وتسمية "ابن الانسان" تشمل سرّ المسيح كله.
إن الأسماء المحدّدة تحديداً لاهوتياً كبيراً، والتي طبّقها نتنائيل على يسوع، لا تقنعنا إذا نظرنا إليها من الزاوية التاريخية البحتة. فيجب أن نقرأها على ضوء القيامة. كما لا نجد إشارة إلى الزمان أو المكان. فللكاتب أهداف أخرى. هو لا يكتب هنا لمسيحيين من أصل يوناني يعيشون في آسية الصغرى (تركيا اليوم). بل هو يبرز التعارض بين الرسالة المسيحية الأولى وخصومه اليهود في فلسطين...وهكذا نرى أن آ 45- 51 لم "تخترع" في أفسس في نهاية القرن الأول (كما قال بعض الشرّاح). لقد وُلدت في فلسطين قبل سنة 70. ونتنائيل هو وجه تاريخي. إنه يمثّل الإسرائيلي الذي لا غشّ فيه، والذي قاده تأمله في الأسفار المقدّسة إلى التعرّف إلى يسوع.
هل نتنائيل هو برتلماوس المذكور في الأناجيل الإزائية؟ هناك من يقول إن نتنائيل هم الإسم الشخصي. وبرتلماوس هو لقب (رج بر يونا أي ابن يونا). في لائحة الرسل، يتبع إسم برتلماوس إسم فيلبس (مر 3: 18 وز). هذا في الأناجيل الإزائية. وفي أع 1: 13 يرد إسم برتلماوس مع إسم توما كما في يو 21: 2.
ونعود إلى إنجيل يوحنا فنقول إنه لم "يخترع" الأشخاص والأحداث. بل هو انطلق من الواقع التاريخي، فأعطاه من خلال التأمل بعداً لاهوتياً.
ما الذي توخّاه الكاتب حين دوّن هذا المقطع؟
أولاً أراد أن يخبرنا أن حلقة التلاميذ تمتدّ بواسطة شهادة المدعوّين الأولين، وتأثير شخصية يسوع. "لقي" فيلبس نتنائيل، كما لقي اندراوس سمعان. كلاهما ذهبا في طلب صديقيهما. بحثا عنه لا "ليسيطرا" عليه. فعملهما الرسولي قابل حاجة عميقة في إشراك صديقهما في فرح نعما به. لم يعظ أحدهما قائلاً: "بجب...". بل "وجدنا". هذا الاعلان الفرِح لما وجدا، هو إنجيلهما، هو الخبر الطيب الذي يحملانه. وحده الذي اكتشف المسيح (في لقاء حميم) يستطيع أن "يربح" إليه أناساً آخرين. هذا هو جوهر الحبّ الذي يدفع المؤمن إلى مثل هذا النشاط الرسالي.
ثانياً أراد أن يضع أمامنا شخص نتنائيل الذي يمثّل "الاسرائيلي الحقيقي". كان على إسرائيل كله، شأنه شأن نتنائيل، أن يأتي إلى يسوع. فنتنائيل يتحدّث عن كلمة حملت إليه بلاغاً وإعلاناً (رج 4: 42؛ 25؛ 3، 25). إنه يتصرّف بطريقة تغاير طريقة الجموع التي تؤمن فقط بسبب المعجزات. ولهذا لم يكشف يسوع عن ذاته لها: "وإذ كان يسوع في أورشليم، آمن كثيرون حين رأوا العجائب التي كان يجريها. أما هو فلم يكن يثق بهم لأنه كان يعرفهم جميعاً" (2: 23- 24).
عاد فيلبس ونتنائيل إلى موسى والأنبياء ليكونوا قاعدة لهما. يجب أن يكون المسيح شخصية يتوافق بقداسته واتحاده بالله، مع الآمال الكبيرة التي تحدّث عنها موسى والأنبياء. سأل نتنائيل. فلم يجب فيلبس بأن يسوع يعرف كل شيء. بل اكتفى بان يدعو نتنائيل: "تعال وانظر".
وكلمة يسوع عن نتنائيل، تثبت أن موقفه المتحفّظ أمام إعلان عن مسيح ظهر فجأة، كان مثالياً. دعاه يسوع "إسرائيلياً حقيقياً، رجلاً لا غشّ فيه". الحقيقة والغش يعودان إلى السلوك في الحياة والممارسة (8: 44). إذن، رأى يسوع في نتنائيل البار كما يجب أن يكون: حرّ من كل رياء فريسي، من كل اكتفاء بالذات وتعالٍ (رج زك 3: 10: في ذلك اليوم، يدعو كل انسان صديقه إلى تحت الكرمة وإلى تحت التينة). حيث تجد مثل هؤلاء الناس، يولد المُلك المسيحاني.
هرب الرب من أمام الجموع التي أرادت أن تجعله ملكاً بعد تكثير الأرغفة (6: 15). ولكنه قبلَ أن يعترف به إنسان مثل نتنائيل على أنه "ابن الله" و"ملك إسرائيلَ". أراد يسوع أن يراعي هؤلاء الناس، فأعلن أمام بيلاطس أنه ملك حقيقي (8: 37). ملك ليست مملكته "من هذا العالم" (18: 36).
بدأ نتنائيل فاقترب من يسوع بحذر. ولكن معرفة يسوع الشاملة له، جعلته حالاً يلقي سلاحه. وهنا أيضاً نجد شيئاً ناقصاً. سأله يسوع "معاتبا": هل يؤمن لأنه اكتشف أمراً عجائبياً (آ 50)؟ فعظمة يسوع الحقيقية هي في مكان آخر. والسبب الحقيقي الذي يفرض على نتنائيل بأن يؤمن ليس هنا: عليه أن يعترف بيسوع ويسجد فيه لذلك أقام فيه الله القدوس وسط البشر (1: 51؛ ق 1: 4).
على الإيمان الحقيقي أن يمرّ عبر المعجزات، ويتقدّم ليصل إلى اللقاء الشخصي مع حقيقة الله التي تجلّت في المسيح. هذا صحيح بالنسبة إلى نتنائيل، وصحيح بالنسبة إلى توما (20: 29: رأيتني فآمنت. "طوبى لمن لم يروني وآمنوا")، وصحيح بالنسبة إلينا. إن إيمان هذا الإسرائيلي الحقيقي سار به حتى الحب الشخصي للمسيح والله، وهو حبّ يستقلّ عن كل "البراهين" الظاهرة عن وجود الله.
ثالثاً: أراد الإنجيلي أن يعطينا تعليما أوسع عن الواقع العميق ليسوع المسيح. بدأ في 1: 29 فجمع الألقاب الكبرى التي اكتشفتها المسيحانية اليهودية، وطبّقها على يسوع. ليست هذه القاباً تليق بقائد سياسي تدير أو بحامل وحي من العالم الغنوصي. بل تليق بذاك الذي يوحي حقيقة خلقية وحب الآب للعالم. كان يوحنا قد حدّثنا عن "حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (1: 29). وأعلن أن يسوع هو "الذي يعمّد بالروح القدس" (1: 33). وها هو يسمّيه "مختار الله" (1: 34)، المعلم والرابي (1: 38). أعلن اندراوس أنه "المسيح، ممسوح الرب" (1: 41). وها هو نتنائيل يدلّ عليه: "ذاك الذي تكلّمت عنه شريعة موسى وكتب الأنبياء". "ذاك الذي يُعرف أيضاً كابن يوسف الذي من الناصرة" (1: 45). ومع هذا، رأى فيه نتنائيل "ابن الله" و"ملك إسرائيل" (1: 49). وجمع يسوع نفسه كل هذه الأسماء: ما رُسم رسمة سريعة في حلم يعقوب (أو: إسرائيل) أبي الآباء، صار في يسوع دافعاً روحياً: إن يسوع يرتبط مع أبيه السماوي برباط حميم ومستمرّ لأنه "ابن الانسان" الحقيقي الذي نزل من السماء (1: 51).
ولا يكتفي هذا المقطع بإعلان هوية يسوع بألقاب تكريمية. فأقواله وأعماله تكشف عن طبيعته. طرح نتنائيل سؤالاً فيه ما فيه من ارتياب (آ 46). فجاء جواب يسوع ليدلنا (يجعلنا نكتشف) على يسوع الحنون الذي يرى ما في القريب من صلاح ويعترف به (آ 37). إن أقوال يسوع "عن" نتنائيل، وتلك التي وجّهها "إلى" نتنائيل، تكشف لنا في يسوع شخص الله الذي يعرف كل شيء. حين تكلّم أيوب عن الله، تساءل: "أما يرى سلوكي، أما يعدّ كل خطواتي" (أي 31: 4)؟ والعالم اليهودي المتأخر سمّى الله "ذاك الذي يرى كل شيء" (2 مك 9: 5).
والآن نكتشف الشيء عينه في الكلمة الذي صار بشراً. فيسوع، هو أيضاً، يرى كل شيء. وولوجه العجيب في الخليقة، تجلّى في كلماته على لعازر المائت (11: 11- 14). وهو يعرف أيضاً المصير المقبل لأشخاص آخرين (13: 36- 38) فينزل إلى عمق حياتهم الحميمة (1: 42؛ 2: 25؛ 6: 70). منذ البداية، هو يعرف ما ينتظره (2: 4، 19؛ 3: 14؛ 6؛ 64؛ 13: 1؛ 18: 4). تأثر نتنائيل، كما ستتأثر السامرية (4: 17- 19، 39)، من معرفة يسوع العميقة لوقائع حياته الخاصة.
ونعود إلى التينة. في المعنى الأول، هو موضع ظليل تحت شجرة قريبة من البيت. الإقامة تحت الشجرة تساوي إقامة الناس اليوم في "غرفة الجلوس". يقول مي 4: 4: "يقيم كل واحد تحت كرمته وتحت تينته" (هذا يدلّ على السلام الذي يعمّ البلاد).
ولكن نتنائيل نال مديحاً من جلوسه تحت التينة، فهذا يعني أنه كان يقوم بعمل جليل: كان يدرس التوراة.
وقد تشير التينة إلى خطيئة أبوينا الأولين. في هذا المعنى كتب اغوسطينس: "كان نتنائيل تحت التينة، كما لو كان في ظلال الموت". إذا فهمت الكلمة بهذا الشكل، فكل تاريخ خلاص البشرية الساقطة حيث نظرة الله الحنونة تسبق كل نداء إلى العمل الصالح، كل هذا التاريخ يدخل في هذا النص الذي يتحدّث عن "رآه تحت التينة".
وصورة "الملائكة الذين يصعدون وينزلون" لا يستعملها يسوع ليعلن لتلاميذه رؤية سابقة. بل هي تذكّرهم بحلم يعقوب. فما كان شعوراً سرياً حتى الآن، صار في حياة يسوع الأرضية واقعاً روحياً. ففي كل مكان يُوجد يسوع، سيكتشف التلاميذ أن الأرض انضمّت إلى السماء: تُستجاب الصلوات (9: 30- 31؛ 11: 41- 42) ويتجلّى مجد الله (1: 14؛ 2: 11).
كان نتنائيل من "قانا الجليل" (21: 2). فهو لا يتخيل أن شيئاً صالحاً يمكنه أن يخرج من الناصرة، تلك القرية القريبة من قريته (آ 46). وهكذا نستنتج أن سنوات فتوّة يسوع في الجليل تسترّت بسرّه المسيحي. لقد بدا للناس إنساناً عادياً، و"غير أهل" للوظيفة المسيحانية (1: 46؛ ق 7: 41- 42، 52). خارجياً، كان يوسف أباه وهذا ما يلقي "عتمة" على السرّ كما أراده لله (1: 45؛ ق 6: 42؛ 7: 27- 28). ولكنّ الناس الذين تحرّروا من الظواهر الخارجية وبحثوا حقاً عن الله، توصّلوا، رغم هذه الصعوبات، إلى الإيمان بألوهية المسيح المختفية وراء هذا الستار. أو بصورة أدقّ، وحسب المعنى الذي أراده الإنجيل الرابع: لقد اكتشفوا إرتفاع يسوع في ذلّه. حين مات فقط، عرفوا عظمته بالنسبة إلى العالم (12: 24).
لخّص يوحنا سرّ المسيح حين سمّاه "ابن الإنسان". ففي نهاية القرن الأولى، كان هذا اللقب بعدُ حيّاً في لاهوت الكنيسة. هذا ما يدهشنا، لا سيّما أننا لا نجد في الإنجيل الرابع تلميذاً من التلاميذ يسمّي الرب بهذا الإسم (في آ 51، ينطلق يسوع من هذا اللقب ليعطي الوحي الأخير عن شخصه). لا نجد في الأناجيل الأربعة لقب "ابن الإنسان" إلاّ كطريقة بها يدلّ يسوع على نفسه. لهذا نستطيع بحق أن نستنتج أن يسوع التاريخي سمّى نفسه بذلك الإسم. وأن هذه التسمية كانت "مقدّسة" في نظر الكنيسة الأولى، فما تجرّأت على تبديلها.
إذا عدنا إلى الإزائيين (مر 14: 62) عرفنا أن يسوع فهمَ هذه العبارة كما في دا 7: 13- 14: "وتأمّلت في رؤى الليل. فشاهدت مثل ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء. تقدّم إلى القديم الأيام وقرّب أمامه. وأوتي سلطاناً ومجداً وملكاً". إستقلّ يوحنا عن الإزائيين، ولكنه التقى معهم حين ربطوا لقب "ابن الإنسان" بالإعلانات عن المستقبل وعن الدينونة. غير أن يوحنا عمّق هذا اللقب الذي طبّقه يسوع على نفسه. تكلّم عن "ابن الإنسان" الذي ينزل ويصعد. الذي يجب عليه أن يرتفع لكي يمجّد (3: 13- 14؛ 6: 62؛ 8: 28؛ 12: 23، 34؛ 13: 31). فهو يرى أن "ابن الإنسان" هذا الذي ينزل من السماء، هو نفسه خبز السماء الذي نشترك فيه فننال الحياة (6: 27، 53).
وتعلّق الشعب بالإنتظار المسيحاني، فسأل: "من هو هذا ابن الإنسان" (9: 35؛ 12: 34)؟ ففي "ابن الإنسان" يصبح اللاهوت حاضراً على هذه الأرض. وحتى في السماء، سيكون للمسيح سلطان بأن يدين "لأنه ابن الإنسان".
من الصعب أن نُدخل لقب ابن الإنسان كما نقرأه في 1: 51، في المضامين اليوحنّاوية التي ذكرناها. ولكن يبدو أنه من الممكن أن ننطلق من النظرة الإزائية إلى هذا اللقب (وبالتالي دانيال) فنلقي ضوءاً على هذا النص. فدانيال شاهد في ابن الإنسان رئيس كل شعب القدّيسين وممثّلهم (7: 27؛ ق دا 7: 13- 14). وما مثّله ابن الإنسان (عند دانيال) بالنسبة إلى جماعة القدّيسين السماوية، قد مثّله يعقوب (أو: إسرائيل) بالنسبة إلى الشعب العبراني. وهكذا نعود إلى المقطع الذي ندرس. لقد جسّد نتنائيل إسرائيل الحقيقي كلّه. وإسرائيل هذا رأى في يسوع رئيسه ومثاله (1: 47؛ ق 1: 29). لقد وجد النموذجان التوراتيان، النموذج السماوي حسب دانيال، والنموذج الأرضي حسب خبر يعثوب، لقد وجدا كمالهما في يسوع الذي هو "ابن الإنسان" والذي عليه "صعد الملائكة ونزلوا".
وهكذا نستنتج ثلاث وجهات من غنى لاهوت العهد الجديد حول ابن الإنسان. تذكرّنا صورة ابن الإنسان أننا لسنا وحدنا، بل دوماً في جماعة شعب الله. من خلال صورة ابن الإنسان نجد الزمن الإسكاتولوجي الذي يدخل عالمنا. إن حياتنا قد اتخذت في تجسّد الابن إتجاهاً إسكاتولوجيّاً: نحن نرفع أنظارنا إلى الموطن السماوي، موطن ابن الإنسان لدى الآب، والذي سيصير موطننا (14: 2؛ فل 3: 20).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM