الفَصل الخَامِس: طَريقُ الصّحرَاء طَريق الحُرِّيَّة

الفَصل الخَامِس
طَريقُ الصّحرَاء طَريق الحُرِّيَّة
13 : 17 – 15 : 21

أ- مقدّمة.
بعد الخروج، تَروي النصوصُ القديمة قصّةَ ما يسمى "عبور البحر الأحمر". ترك العبرانيّون بلاد مصر على عَجَلٍ ، وتوجّهوا إلى الشرق، إلى برّية سيناء، وبدّلوا وجهتهم لئلاّ يصطدموا بالحاميات المصريّة المنتشرة هناك. وما إن وصلوا إلى شاطىء البحر، حتى وجدوا الجيش المصريّ قد لحق بهم. ولكنّ الربّ سينجّيهم بطريقة عجيبة، فيجعلهم يعبرون في وَسَط البحر كما على أرض يابسة، تاركًا جيش فرعون يغرق. إنّ هذا الحَدَث يشكّل نهاية حياة العبوديّة في مصر، وبدايةَ حياة الحرية على طريق الصحراء التي ستقودهم الى أرض كنعان.
إنّ عبور البحر الأحمر ترك تأثيرًا عميقًا في التقليد الكتابيّ الذي سجّله لنا في قصة إخباريّة (17:13-14: 31) وفي نشيد ملحميّ (15: 1- 21). بهذين النصّين تنتهي مجموعة التقاليد عن الخروج من مصر، والتي ستليها النصوصُ الليتورجيّة.
يستقي النصّ الكتابيّ عناصر روايته من التقاليد اليَهْوَهيّة والكهنوتيّة والإلوهيميّة. فالآيات 14: 17-19 ترجع الى التقليد الإلوهيميّ، فتذكر ملاك الرب الذي ينتقل من أمام بني إسرائيل الى ورائهم، ليحميهم من المصرّيين، والآيات 14: 5-14 ترجع الى التقليد اليَهْوَهيّ الذي يذكر الهواء الشرقيّ الذي جعل طريق البحر كالأرض اليابسة، والآيات 13: 20-14: 4 ترجع الى التقليد الكهنوتيّ الذي سيذكر يد موسى حين تفصل أقسامَ المياه بعضَها عن بعض قبل أن تعيدها الى ما كانت عليه. أما الخبر الأساسيّ، أي عبورُ البحر (14: 15- 31) فهو مزيج من التقاليد الثلاثة.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- القصّة الإخباريّة (13: 17- 14: 31)

(آ 13: 17-19) هذه الآيات هي تتمّة لما قرأناه في 12: 29-39، وهي تذكّرنا بمسيرة الشعب من سكوّت إلى البحر الأحمر.
الطريق العاديّة من مصر إلى كنعان، هي طريق الساحل التي تمرّ قرب الآبار والحامِيات. على هذه الأرض كانت تسير القوافل التجاريّة والجيوش المصريّة.
بحر سوف (في العبرية " يم سوف " أي بحر القصب) أي بحر القُلزُم، هو بحر أو بحيرة واسعة، ينبت على جانبها القصبُ البَرْديّ (3:2-5؛ اش 6:19). قال بعض المترجمين: إنّه البحر الأحمر، كما فعلت الترجمة السبعينيّة اليونانيّة .
وأخذ موسى عظام يوسف (رج تك 25:50 ؛ يش 32:24؛ اع 15:7-16). كان يوسف قد استحلف إخوته ألاّ يتركوا عظامه في مصر، بل أن يدفنوها في أرض أجداده. هذا ما سيفعله موسى ؛ ويذكر النصّ هذا العمل ليبيّن أنّ سفر الخروج هو امتداد لسفر التكوين، وأنّ ما وعد به الله الآباء يتمّ في الأبناء. ويرى التقليد المسيحيّ القديم في عظام يوسف البارّ ذُخرًا وكنزًا للعبرانيّين على مثال عظام الشهداء.
(آ 20-22) أيتام تعني القلعة وهي في البرية شرقيَّ مصر.
عمود السحاب (أو الغمام في العبريّة "عنن " وفي العربيّة "عنان ") وعمود النور هما رمز إلى حضور الله (3: 2؛ 19: 9، 18؛ 20: 18؛ 24: 15-17)، وهما يقودان الشعب في الناحية (راجع "نحا " في العبريّة وفي العربيّة) التي يريدها الله. يستعمل التقليد اليَهْوَهيّ كلمة "عنن " والتقليد الإلوهيميّ كلمة " عرفل " (عرفلو في السُريانيّة تعني الغيم والضباب الكثيف رج تث 4: 11؛ 5: 19) والتقليد الكهنوتيّ يستعمل كلمة "كبود" التي تجمع بين السحاب والمجد (17:24 ؛ 2:28؛ عد 24: 11)، وكلّها تعني هذا الحضور الإلهي الظاهر والخفيّ معًا.
(آ 14: 1-4) هنا يبدأ خبر عبور البحر الأحمر، يرويه الكاتب بطريقة ملحميّة، ليبيّن مدى العون الإلهيّ لبني إسرائيل، في وقت كاد خروجهم من أرض مصر يتحوّل الى كارثة. يمكننا أن نستشفّ إيمانهم القويّ في تلك الساعة الحرجة، وهو إيمان يخاطر بكل شيء مستندًا إلى كلام الله.
يورد النصّ ثلاثة مواضع مرَّ قربها العبرانيّون: فم الحيروت أي مدخل القنوات (عد 33: 7-8)، والمَجْدَل وهي قلعة من القِلاع هناك (عد 33: 7؛ ار 44: 1؛ 46: 4) وبعل صفون أي بعل الشمال (عد 7:33)، ولكنّنا لا نستطيع أن نحدّد بالضبط موقع هذه المواضع.
(آ 5-14) هذا المقطع يرجع في أساسه الى التقليد اليَهْوَهيّ المطعّم ببعض الآيات الإلوهيميّة والكهنوتيّة. عندما نقرأه نلاحظ طريقة الأخبار التي تتدرّج في إثارة القارىء أو السامع، لتدخله في جوّ المأساة التي يعيشها شعب وصلت به الأمور الى شَفير الهلاك والفناء.
بارحَ بنو إسرائيل مصر، فتغيّر قلبُ المصريّين، ولحقوا بهم بكل قواهم الحربيّة، فخاف الشعب وعاتب موسى. غير أنّ موسى شدّد عزيمتهم: قفوا وانظروا خلاصَ الرب. الربّ يحارب عنكم (تث 1: 30 ؛ 30: 22؛ يش 10: 14، 42) "وأنتم لا تحرّكون ساكنًا"
(آ 15- 31) تحكي هذه الآيات عن عبور البحر الأحمر، وتذكر كيف تدخّل الله بصورة مباشرة، ليحرّر شعبه نهائيًّا من أرض العبوديّة.
إنّ ذكرى هذه الليلة العجيبة تسيطر على تاريخ شعب إسرائيل وتعلّمهم كيف يتصرّفون أمام الله القدير (تث 11 :4؛ يش 6:24-7؛ اش 51 :10؛ 63: 11-13؛ مز 13:74). عبور البحر هو علامة الخلاص، لأنّه عبور الى الحياة لشعب كان متوجّهًا إلى الموت.
قال الرب لموسى: "ما بالك تصرخ إليّ" ؟ نحن نفهم سؤال الربّ لموسى، إذا تتبّعنا النسخة السريانيّة المتأثّرة بالترجوم الاراميّ: فصرخ موسى إلى الرب، فقال الربّ لموسى...
في آ 19 نرى ملاك الربّ يسير أمام الشعب فيقوده وينجّيه من أخطار البريّة، ثم ينتقل الى ورائه ليحميه من خطر المصريّين. هذا في التقليد الإلوهيميّ ؛ أمّا التقليد اليَهْوَهيّ فيعطي للسحاب دورَ الملاك (13: 21)
تبدو آ 20 صعبة التفسير، ونحن نقرأها كما يلي: ودخل عمود السحاب بين عسكر المصريّين وعسكر بني إسرائيل، فكان من جانب أولئك مظلمًا، ومن جانب هؤلاء ينير الليل حتى لا يقتربَ أحد الفريقين من الآخر طول الليل.
ودخل بنو إسرائيل في وسْط البحر. يتحدّث النصّ عن العبرانيّين الذين ساروا في البحر كما على الأرض اليابسة. إنّ عمل الخلاص المتمثّل بعبور البحر، يعتبر خَلْقًا جديدًا لشعب يمرّ عبرَ الموت. إنّ البحر يمثّل في تقليد الأقدمين العائشين بعيدًا عنه، عالمَ العدم والموت (تك 1: 2؛ مز 18: 5-6).
نقرأ في آ 24 "هجيع الصبح " ، وهو الوقت الواقع بين الثانية والسادسة صباحًا (1 صم 11: 11). وقد ترجمنا العبارة الى "طلوع الفجر". كان البابليّون يقسّمون الليل ثلاثَ هجَعات تتألّف كلُّ هجعة من أربع ساعات. تتكلّم مراثي إرميا (2: 19) عن الهجعة الأولى فتدعو مدينة أورشليم الى البكاء والنحيب، ويتكلّم سفر القضاة (7: 19) عن الهجعة الثانية، أي هجعةِ نصف الليل، حيث هجم جدعون على المديانيّين.
في الآيتين الأخيرتين (31-32) نقرأ خاتمة الخبر مع تشديد على معنى الحدَث الديني: شاهد بنو إسرائيل قوّة الرب العظيمة، فخافوا الرب وآمنوا بعبده موسى
2- النشيد الملحيّ (15: 1- 21)

إنّ موضوع "عبور البحر الأحمر" هو الموضوع الأوّل، لا بالنسبة الى زمن تكوين شعب إسرائيل فحسب، بل بالنسبة الى إيمان بني إسرائيل عبرَ العصور، وبالنسبة الى تاريخ الليتورجيَّا المسيحية. هذا النشيد هو أقدم تعبير عن إيمان الشعب (تث 28: 6، يش 6:24-7؛ 1 صم 6:2)، وقد ردّده المؤمنون على مرّ عصورهم في طقوسهم ومدائحهم. هذا النشيد يبدو كخاتمة لمغامرة الخروج (ف 1-15). يجعل نُصْب عيونهم الحدَث الذي يتذكّرونه كلّ سنة مدى أجيالهم، وهو يشبه عددًا كبيرًا من المزامير أو الأناشيد التي حفظها لنا الكتاب المقدّس (قض 5: 1 ي، 2 صم 23: 1-7؛ حب 3: 1 ي) هذا النشيد هو مديح للرب الذي انتصر على مقاوميه وخلّص شعبه.
يقسم هذا النشيد قسمين. في القسم الأولى (آ 1-19) نقرأ نشيد موسى. بعدَ المديح للرب القدير العظيم (آ 1-3) نقرأ عن عبور العبرانيّين البحر، وغرق المصريّين فيه (آ 4- 10). ثم تمتدح آ 11 عظمة الله مرة ثانية. وترفع آ 12-17 أنظارنا الى المستقبل عندما تملأ مخافة الرب قلوب جميع الأمم.
وفي القسم الثاني (15: 25- 21) نقرأ عن مريم التي أخذت الدفّ، وبدأت ترقص مع النساء العبرانيّات. يسمّي النصّ مريم نبيّة على مثال دبورة (قض 4: 4) ويذكر أنّها أخت هارون، ولكنّه لا يذكر قرابتها الى موسى. في سفر العدد (26: 59) نقرأ أنّها أخت موسى وهارون، وفي سفر الخروج (6: 20) يذكر النصّ موسى وهارون، ولا يأتي على ذكر مريم.
ونتطرّق الى مسألتين تتعلّقان بهذا النشيد.
المسألة الأولى: متى كُتب هذا النشيد؟ نقطة الانطلاق في كلام مريم: سبّحوا الربّ لانتصاره العظيم، الخيل وفرسانها رماهم في البحر. ثم تكوّنت الآيات 1 - 10 فأنشدتها جماعة إسرائيل في البريّة، ثم زادت عليها الآيات 11-18 بعد دخولها الى أرض كنعان وتغلّبها على الأمم التي كانت هناك. وفي وقت الجلاء سينشد بنو إسرائيل هذا النشيد في عيد الفصح، فيتذكّرون أعمال الرب في الماضي، ويطلبون منه أن يكون مَلِكًا على الشعوب من الآنَ والى الأبد.
المسألة الثانية: المواضيع اللاهوتيّة التي نقرأها في هذا النشيد هي ذاتها التي نجدها في النصوص القديمة. الله هو العظيم والقدير، وقد ظهرت قدرته في الخلاص الذي تمّ بيده. الربّ هو رجل الحرب الذي يتدخّل بذراعه الممدودة ويمينه القويّة، الذي يهدّد بغضبه ونفخة أنفه. ليس الرب إلهًا كسائر الآلهة، إنّه الإله الواحد الرهيب والقوي الذي يصنع العجائب، إنّه إله الآباء الذي اسمه يهوه. وهو أيضًا الإله العطوف الذي يعتني بشعبه، ويفي بما وعد به لآبائهم فيهيّىء لهم مكانًا يقدّسونه فيه ويمجّدونه. تلك هي العناصر التي تؤلّف أساس العهد وتاريخ الخلاص.
في هذا النصّ الليتورجيّ لا يتذكِّر المؤمنون حدَث الماضي، وكأنّه ماضٍ وحسْب، بل يدخلون في الحاضر ويتهيّأون للدخول في المستقبل. فالأحداث الماضية تُقذف في الحاضر والمستقبل، والتاريخ شهادة لِما فعل الله في الماضي، ولما يفعله في الحاضر، وفي المستقبل. الخلاص واقع تاريخيّ من الماضي، وهو يتجدّد الآن وسيتجدّد الى نهاية الأزمنة. ولنا مثال على ذلك في الدور الذي تلعبه المياه (أو أمواج البحر) في هذا الحَدث. فالمياه هي الأداة التي بها يضرب الرب المصريّين ويفتك بهم. غير أنّ أمواِج البحر هي رمز عن دينونة الله في نهاية الأزمنة، كما كانت مياه الغَمْر الأولى قوّةَ معادية يومَ خلق اللهُ الكون (راجع أيضًا حدَث الطوفان). بالإضافة الى ذلك، تبدو الأمواج التي تغطّي جيش فرعون كقضاء الله على أعدائه الذي يجعل أعداءه يذهبون الى مَثْوى الأموات. ولكن عَبْرَ هذا القضاء يتجلّى خلاصُ الله لأخصّائه وأحبّائه.

ج- نظرة الى خبر عبور البحر الأحمر
1- نظرة الى الحدث كواقع وحقيقة

نتوقّف أولاً على البُنْية الأدبيّة للقسم الأوّل من النصّ (13: 17-14: 31) الذي قلنا عنه إنّه مزيج من عناصر مختلفة، ترجع الى التقاليد الكتابيّة، فنفهم أهميّة هذا الخبر الذي قرأته الجماعة، وأعادت قراءته المرّةَ بعد المرة، ولا سيّما خلال احتفالاتها الليتورجيّة. ونتساءل عن مَكانة حدَث عبور البحر الأحمر، بالنسبة الى ضرَبات مصر وعيد الفصح. هناك آراء متعدّدة، ولكل منها بعضُ الصحّة: رأيٌ أوّل يقول إنّ هذا الحدث هو تتمّة لأحداث سبقت المسيرة في البريّة؛ ورأيٌ ثانٍ يرى في عمل الله الخلاصيّ هذا الموضوعَ الرئيسيّ الذي ترتبط به سائرُ العناصر وتهيّىء الطريق له؛ ورأيٌ ثالث يقول إنّ العبور يفترض أنّ الخروج قد تمّ، وأنّ الشعب بدأ مسيرته في البريّة. ولكن مهما يكن من أمر، نقول إنّ خبر العبور يشكّل خاتمة القسم الأول من سفر الخروج، وهو يرتبط بعيد الفصح ارتباطًا وثيقًا، ويشكّل عنصرًا أساسيًّا في عيد الفصح، كما تبيّن ذلك نصوصُ التقليد الكهنوتيّ.
ونتساءل أيضًا: هل يرتكز هذا الخبر على حادث حقيقيّ حصل للعبرانيّين يوم عبورهم البحر الأحمر، أم هو صورة خياليّة توضح للمؤمنين بطريقة ملموسة كيف خلّص الله شعبه؟ هل نحن أمام أسطورة لا أساس لها، وقد كتبت من نَسْج الخيال لتعطي درسًا لاهوتيًّا للمؤمنين؟ هذا ما قاله بعض المؤرّخين، واستندوا في كلامهم الى بعض عناصر النصّ البعيدة عن الواقع: عمودُ الغمام والنار، سدُّ المياه عن يمين بني إسرائيل ويسارهم؛ سَيرُ شعب الله في البحر كما على الأرض اليابسة؛ عجلاتُ المصريّين التي تتخلعّ؛ جيشُ مصر الذي يفنى عن بكْرة أبيه. غير أنّ هذا الرأي قد تخلّى عنه معظمُ الشرّاح، واعتبروا أنّه وإن وُجِدَ تضخيم في الأخبار، فهناك نَواة تاريخيّة لا شكّ فيها، وقد انطلق منها الراوي بطريقة دراماتيكيّة. إنّ إيمان الشعب يرتكز على ذكرى خلاص حقيقيّة تمّت لهم. أمّا كيف تمّت الأمور بالفعل، فهذا ما لا نستطيع أن نتمثّله. إنّ حَدَثًا عجيبًا حصل للعبرانيّين، فرأوا فيه تدخّلاً من الله لأجلهم، أمّا ما هو هذا الحدث بالتفصيل، فنحن نَعجَز عن الإلمام به. ولكن يقول قائل، لا أثرَ لهذا الحدث في تاريخ مصر القديم، فنجيب: إنّ حادث هرب جماعة ساميّة على الحدود المصريّة، لم يكن فريدًا من نوعه في حياة مصر، ولهذا لم تهتمَّ الحَوليّات المصرّية به، كما لم تهتمَّ حَوليّات رومة بقصّة آلام يسوع كما رواها الإنجيليّون.
2- نظرة لاهوتيّة إلى حدث العبور

أوّلُ ما يطالعنا في هذا الخبر حضورُ الله بجانب شعبه، وأوّلُ علامة منظورة على هذا الحضور، هي عمودا السحاب والنار اللذان سيرافقان الشعب في مسيرته في البريّة. حضور الله هذا سيَحمي شعبه فيجعل سَدًّا بين المصريّين والعبرانيّين فلا يقترب الواحد من الآخر. والعلامة الثانية هي ملاكُ الربّ الذي يسير في المقدّمة، فيدلّ الشعب على الطريق، ثم ينتقل الى المؤخّرة ليحمي الشعب من المصريّين (19:14)
أمّا تدخّلُ الله في حياة شعبه فأمر حاضر في كل حَدَث من هذا الخبر: يقسِّي قلب فرعون (4:14، 8، 17)، يجعل الفوضى والبلبلة في عسكر المصريّين (14: 24-25)، ينفخ ريحًا شرقيّة فيجفّ البحر (14: 21) وينجو شعبه، ينفخ ريحًا غربيّة فيعود البحر إلى ما كان عليه ويغرق جيش المصريّين (14: 27-28).
ورغم حضور الله وسْط العبرانيّين وتدخّله من أجلهم ، فعواطف العبرانيّين لا تدلّ على امتنان لله وثقة به واتّكال عليه. كلّ سلوكهم تذمّر على الله وعلى موسى (14: 1-14). ساعة الخطر يتخاذل الشعبُ ويخاف ويلوم موسى، لأنّه أخرجه من أرض مصر. إنّهم يفضّلون العبوديّة في مصر على الموت في هذه البريّة. وأمام تذمّر الشعب سنتعرّف الى صبر الله وأناته وعطفه، كما سنتعرّف الى إيمان موسى وثقته بربّه، مع ما يعتري حياته من شكّ وضيق. قال للشعب: الرب يحارب عنكم. وإيمانه سينتقل الى الشعب كعدوى تفعل فيهم، فيعلنون إيمانهم بالله المخلّص. وهكذا أمام صلابة إيمان موسى، سيعترف المصريّون أنّ يهوه هو الربّ وحدَه. ويؤمن العبرانيّون بالله مخلّصِهم، وإليه يوكلون أمرهم.
إنّ معجزة الله لخلاص شعبه عَبْرَ البحر الأحمر، تبقى العنصر الأساسيّ في إيمان بني إسرائيل، وهذه المعجزة سنجدها في كلّ العهد القديم (عد 8:33؛ تث 8:26 ؛ مز 13:78؛ 106: 19) ويرى فيها التقليدُ اليهوديُّ علامةً على حضور الله القدير الذي يعلّم شعبه ويربّيه عبرَ أعماله العظيمة. أمّا التقليدُ المسيحيّ فسيرى في هذه المعجزة صورة عن المعموديّة (1كور 10: 1-2) وعلامةً على الخلاص بيسوع المسيح.
3- المُعْطَيات التاريخيّة والاركيولوجيّة
عن حدَث العبور خارجَ الكتاب المقدّس

هناك بعضُ المَعالم تساعدنا على التعرّف إلى الزمن الذي تمَّ فيه خروجُ بني إسرائيل من مصر.
سنة 1700-1550. أقام الملوك الرعاة في مصر، بعد أن اجتاحوها، فشكّلوا فيها سلطة موازية للسلطة المصريّة التي انتقلت الى الجنوب. ولكن سيطردهم عاموسيس الأول.
سنة 1550-1450 بدأ تحوتمسُ الثالث حملاتِه على كنعان، على حاضرات اسمُها يعقوب إيل ويوسف إيل.
سنة 1400-1350، وفي عهد أمينوفيس الثالث والرابع، تَذكُر لُوَيْحات تلّ العمارنة أنّ شعوبًا من البدو (عابيرو) هدّدوا الحاميات المصريّة على حدود كنعان. هل من علاقة بين "عابيرو" والعبرانيّين؟ وهل أقام العبرانيّون في بلاد كنعان في القرن الرابعَ عشرَ وما قبلَه؟
سنة 1290-1224 بدأ رعمسيسُ الثاني ببناء المدن كالفيتوم ورعمسيس (1: 11). يبدو أنّ رعمسيس هذا هو الملكُ الذي ضيّق على العبرانيّين، أمّا خلفُه مرنفتاح (1224-1204) فقد جرّد حَملاتٍ عسكريّة على فلسطين ولبنان وسوريا، وحفر على مِسلّة أسماءَ الشعوب التي انتصر عليها، ومنها إسرائيل. هل ترك بنو إسرائيل مصر في عهده، فهاجمهم خلال وجودهم في البريّة أو على حدود كنعان؟
وإليك لوحةً تلخّص ما قلناه في هذا السبيل
افتراض أول افتراض ثان افتراض ثالث
- هجوم الهكسوس ( الملوك الرعاة )
حوالي السنة 1700 وصول العبرانيين
- طرد الهكسوس حوالي 1550 التضييق على العبرانيين وصول العبرانيين
- تحوتمس الثالث ( 1500 – 1450 )
يعقوب إيل ، يوسف إيل خروج العبرانيين
- لويحات تل العمارنة
( 1400 – 1350 ) ( عابيرو )
- رعمسيس الثاني ( 1290 – 1224 )
مدينة فيتوم ومدينة رعمسيس التضييق على العبرانيين وصول العبرانيين والتضييق عليهم
- مسلة مرنفتاح
حوالي السنة 1220 خروج العبرانيين خروج العبرانيين

إنّ الافتراض الأوّل يَعتبر أنّ الخروجَ من مصر تمّ حوالي سنة 1550، في عهد تحوتمسَ الثالث، أو خلفِه أمينوفيسَ الثاني، فتكون الفترةُ الواقعة بين الخروج وعهد الملك سليمان (1 مل 6: 1) 480 سنة كما تقول التقاليد. ولكن كيف نفسّر بناء مدينة رعمسيس قبلَ عهد رعمسيس الثاني؟ هذا الافتراض قد بدأ معظمُ الشرّاح يتخلَّون عنه.
أمّا الافتراضان، الثاني والثالث، فهما يستندان الى واقع يقبل به الجميع، ألا وهو مِسلّةُ مرنفتاح التي دوّن عليها ما دوّن حوالي السنة 1220، والتي فيها نقرأ أنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الوقت في بريّة سيناء، أو على حدود كنعان. إنّ الافتراضَين يختلفان على المدّة التي قضاها العبرانيّون في مصر، ولكنّهما يتّفقان على زمن خروجهم. فالافتراض الثاني يعتبر ان العبرانيّين وصلوا الى مصرفي عهد الملوك الرُعاة، وعاشوا هناك 430 سنة (12: 4)، ثم خرجوا في عهد رعمسيس الثاني، أو عهدِ مرنفتاح. والمعطَيات الأركيولوجيّة عن يعقوب إيل ويوسف إيل وعابيرو، فلا تنطبق على العبرانيّين الذين كانوا في مصرفي ذلك الوقت. أمّا الافتراض الثالث الذي يأخذ به الكثيرون اليوم، فهو يعتبر أن العبرانيّين جاؤوا الى مصر حوالي سنة 1350، فضيّق عليهم رعمسيس الثاني، فخرجوا من بلاده حوالي السنة 1230. هذا الافتراض يتوافق مع ذكر يعقوب إيل ويوسف إيل ووجود عابيرو في كنعان (1400- 1350) كما يتوافقُ وسلسلةَ الأنساب التي تربط موسى بيعقوب؛ ولكن كيف نوفّق بين القول إنّ مدة إقامة العبرانيّين في مصر كانت مئةً أو مئةً وخمسين سنة، بينما يعتبر سفر الخروج (12: 4) أنّ مدة إقامتهم كانت 430 سنة؟
كلُّ ما قلناه يبقى مجرّدَ افتراض. غير أنّ معظم المؤرّخين، وإن اختلفوا على زمن مجيء العبرانيّين الى مصر، ومدةِ إقامتهم فيها، يتَّفقون على القول إنّ الخروج تمّ في القرن الثالث عشر، أي حوالي السنة 1250-1230، في عهد رعمسيس الثاني، أو في بداية عهد مرنفتاح.
4- سرّ الغمام أو السحاب

إنّ خبر عبور البحر الأحمر يذكر السحاب الذي كان يقف أمام العبرانيّين، فيحجب عنهم الشمس في النهار ويضيء عليهم كالنور في الليل، فيحميهم من الأخطار ويقودهم في الطريق الآمنة (13: 21-2 ؛ 14: 19، 20-24). هذا السحاب سنجده في البريّة (16: 10) وخصوصًا على جبل سيناء. هذا السحاب سنقرأ عنه في خاتمة سفر الخروج: هو يغطّي خيمة الاجتماع فيملأ مجدُ الربِّ المكانَ (40: 34-38). سنتطرّق إذن الى موضوع السحاب في التقليد الكتابيّ.
الله لا يُرى، ولكنّه يكشف عن ذاته للبشر فيصبح قريبًا منهم. الله الساكن في أعلى السماوات (1 مل 8: 27-30 ؛ اش 40: 22؛ مز 104: 3، 13) ينزل إلى البشر (تك 11: 5-7؛ خر 19: 11؛ مي 1 :3)، فيجعل حضوره يقع تحت الحواسّ. ولهذا يستفيد من عناصر الكون، من النار والبرق والرعد والمطر والسحاب. فالسحاب يُطيع أوامر الله، فيستعمله كمركبة يتنقل بواسطتها، كعرش يجلس عليه ليحدّث بني البشر (20 : 18؛ تث 26:33 ؛ اش 14 : 14؛ نا 1 :3؛ مز 18 : 12).
ويرافق السحاب ظواهر طبيعيّة كالنار والعاصفة والزوبعة والرعد (قض 5: 4- 5؛1 صم 16:12-18 ؛ مز 6:18-16)
أقدمُ شاهد على حضور الله في السحاب نجده في النصوص أليَهْوَهيّة (13: 21-22؛ 14: 19؛ عد 14: 14). عندما نقرأ هذه النصوص وغيرها، تتبيّن أمامَنا ثلاثةُ أفكار: الأولُ: السحاب علامةُ مجيءِ الرب أو حضورِه. الثاني: يلعبُ السحاب دور الموجِّه لشب الله خلال مسيرته. الثالث: السحاب فيه ظلام وفيه نور. فالسحاب الداكن الكثيف يُخفي الله عن أعين الناس، ونارُ البرق تبدو حضورًا سريعًا له. هذا ما نقرأه في سفر التثنية (4: 11): " تقدّمتم ووقفْتم أسفلَ الجبل، والجبل مضطرا الى قلب السماء وعليه الظلام والسحاب والغمام الداكن " (رج تث 5: 22-24). مثل هذا الحضور يسميّه التقليد الكهنوتيّ "كبود" وهو يعني مجد الله الذي يتجلّى عَبْرَ السحاب.
هذا المجد رآه أشعيا (6: 1ي) والسّرافيمُ حولَه؛ ورآه حزقيال (3:10-4، 18- 20) والكروبيمُ حوله، والمجد والسحاب يدلاّن على حضور الله في بيته. هذا المجد الذي كان في الهيكل سيتركُ الهيكل ساعةَ تُخرَب أورشليم، ويسير مع السائرين في طريق الجلاء. ولكنّه سيعود الى الهيكل مع العائدين الى أورشليم. يقول حزقيال (43: 2-5؛ رج 44: 4): "نظرت فرأيت مجدَ إله إسرائيل قد جاء من طريق المَشرِق... ودخل مجدُ الرب الى الهيكل من طريق الباب الذي وجهُه نحو طريق الشرق... فإذا بمجد الرب قد ملأ الهيكل ". وفي هذا المعنى يقول أشعيا (40: 5): "يتجلّى مجد الرب، ويراه كلّ ذي جسد، وهو يرافق الراجعين من السَبي". ويقول أيضا " إنّكم لا بِعَجَلة تخرجون، ولا كَمَن يهربُ تسيرون، بل أمامكم يسيرُ الربّ " (اش 12:52؛ رج 8:58).
هذا المجد سيكون على جماعة أحبّاء الله وحيث يقيمون. "أنا أكون لها (أورشليم)، يقول الرب، سورَ نارٍ من حولها ومجدًا في داخلها " (زك 2: 9) ويقول أشعيا (4: 5-6) في هذا المعنى: "يخلق الربّ على كل مكان في جبل صهيون وعلى جماعاتها، سحابًا ودخانًا في النهار، وضياءَ نارٍ ملتهبة في الليل. وفوق كل هذا يكون مجدُ الرب ضياءً يظلّلهم في الآثار من الحرّ، وملجأً يغطّيهم من السيل والمطر".
وإذا انتقلنا الى العهد الجديد وقرأنا النصوص الإسكاتولوجيّة في الإنجيل (مت 24: 30؛ مر 13: 26؛ لو 21: 27)، لاحظنا اتّصالَ السحاب بقدرة الله ومجده اللذين هما التعبيرُ عن حضوره (رج مر 62:14 ؛ مت 64:26 ؛ أع 1 :9، 1تس 17:4). إبن الانسان هو اللهُ بالذّات، وهو يأتي بقوّة ويتجلّى مجدُه، أمّا السحاب الذي يستُره فيدلّ على حضوره بيننا وعمله من أجلنا.
وعندما نقرأ خبر مشهد التجلّي (مت 17: 1-8؛ مر 2:9-8 ؛ لو 28:9-36 ؛ 2 بط 1:6 1-18) نرى السحاب يفصل يسوع عن تلاميذه، ونسمع صوت الآب من السحاب. وإذا قرأنا بصورة خاصّة نصّ القديس لوقا (9: 28-36)، رأينا المسيح في مجده السماويّ بثيابه البيضاء اللامعة، ورأيناه بين موسى إيليّا يحدّثهما عن "خروجه "، أي عن الفصح الذي سيحتفل به، وعن موته القريب. وإذ يقترح بطرس أن تُنصب ثلاثُ مَظالّ، جاءت سحابة فظلّلت الرسل. حينئذ خاف الرسل أمام الحضور الإلهيّ، كما خاف بنو إسرائيل أمام الجبل المقدّس (19: 1 ي).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM