الفَصل الرَّابع: عِيدُ الفِصْحِ عيدُ التّحْرير

الفَصل الرَّابع
عِيدُ الفِصْحِ عيدُ التّحْرير
12 : 1 – 13 : 16

أ- مقدّمة
بعد أن وصلنا الى ذُروة الصِراع بين الله والفرعون، نتركُ رواية النكبات التي تضرب مصر، لندخل في إطار تنظيميّ اشتراعيّ، يشدّد على الاحتفال بطقوس تذكّر العبرانيّين بخلاصهم وتنظيمهم كشعب يعبد الله الواحد. هكذا تأسسّ عيد الفصح في بني إسرائيل، أفرادًا وجماعات، مدى أجيالهم.
أمّا النصوص التي تذكر هذا العيد وما يرافقه من ممارسات وأحداث، فهي مزيج من تقاليدَ متعدّدة، زاد عليها الشراح ما زادوا في ما بعد، فبدت معقّدةً تحتاج الى تحليل دقيق. نجد في هذه النصوص أقساطًا تعود الى التقليد الكهنوتيّ الذي نتعرّف إليه من خلال اهتمامه بالشعائر الطقسيّة، واستعمالِه تعابيرَ خاصّةٍ به، ونجدُ أقساطًا تعود الى التقليد اليَهْوَهيّ، وفيها ما فيها من أخبار ما يذكّرنا بالفصول 7- 11 وما يرتبط منها بموت الأبكار وخروج العبرانيّين من مصر.
أمام هذه النصوص التشريعيّة التي تحدِّثنا عن الليتورجيّا والعبادة، نتوقف على ملاحظتين ضروريّتين، تساعداننا على الولوج في هذا الأسلوب الذي يملأ صفحاتٍ عديدةً من الكتاب المقدّس.
الملاحظة الأولى: يبدأ النصّ بهذه العبارة: وقال الله لموسى (12: 1). أمّا مضمونُ النصّ فقديم جدًّا، وأمّا صياغته فقد جاءت في وقت متأخّر، أي خلالَ العهد الاشتراعي (القرن السابع ق. م.) أو العهد الكهنوتي (بين القرن السابع والخامس ق. م.). فإذا عرفنا أن موسى قد وضع الأساس لهذه النصوص، فيجب أن ننتظر زمن ما بعدَ الجلاء، لتتمّ صياغة النصوص عن الفصح في شعب الله.
الملاحظة الثانية : ما سنقرأه في هذه النصوص، هو مجموعة فرائض وتعليمات دقيقة، تساعدنا على الاحتفال بعيد الفصح والفطير بطريقة لائقة بالرب. إن هذه النصوص لا تعطينا تحديدًا لكمات نوردها، أو مبادئ عامة تبين لنا أهمية العمل الديني الذي نقوم به، إنّما تعلمنا أشياء وحركاتٍ وأوقاتًا وشروطًا يجب المحافظة عليها، وكل هذه العناصر تعبّر عن روح دينيّة عميقة ستوجّهُ الشعب في خطّ الإيمان المستقيم.
يمكننا أن نمّيز في هذين الفصلين (12: 1-13: 16) أربعةَ أقسام، ثلاثةٌ منها تحمل طابعًا تشريعيًّا، وقسمٌ رابع يحمل طابَعاً إخباريًّا: عيد الفصح، عيد الفطير، تقدمة الأبكار، تلك هي الأقسام التشريعيّة التي تأتي بصورة متقطّعة.، ويفصل بينها القسم الإخباريّ الذي يَروي خروج العبرانيين من أرض مصر.
يرجع هذا النصّ الى التقاليد الثلاثة. فالآيات (12: 21-27، 29-34؛ 13: 13-16) تعود إلى التقليد اليهوهي. والآيات (12: 1- 20، 28، 37- 51؛ 13: 1-2) تعود إلى التقليد الكهنوتي. وما تبقى من آيات أي (12: 21-27، 35-36؛ 13: 7-12) تعود إلى التقليد الإلوهيمي. ويجدر القول أخيرًا إنّ خبر الضربة العاشرة والخروج من مصر يبدأ بالآيات (29:12-42) وينتهي في الآيات (17:13 ي).
وسنعمد إلى تفسير الآيات، لا بحسب تسلسُلها في هذين الفصلين، بل بحسب الموضوع الذي تتطرّق إليه، فنذكر أولاً الفصح، ثم الفطير ثم الأبكار، وننتهي بالضربة العاشرة.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- عيد الفصح والفطير (12: 1 - 51)

أوّلاً: تنظيم الفصح (12: 1-14)
يتحدّث هذا المقطع عن الفصح أو الفطير (رج 13: 1ي؛ لا 23: 5-8؛ عد 28: 16-25؛ تث 16: 1-8)، ويعتبر شرّاح كثيرون أنّ الفصح والفطير كانا منفصلين في البداية. كان الفصح ذبيحة يتمّمها البدو خلال الليل، بمناسبة حجّ يقومون به، وجاء في ما بعد من كتب الفرائض المتعلّقة بالذبائح: أين تُذبح، متى تُذبح، كم يكون عدد المدعوّين، ما هي الشروط الضروريّة المطلوبة من المشتركين؟ أمّا الفطير فعيد زراعيّ يحتفل به الفلاّحون، فيقدّمون بواكير غلّة الشعير (يش 16: 9). إنّ الاحتفال بالفصح جاء سابقًا لزمن موسى (رج 5: 1-3)، كما أنّ الفطير سبق دخول بني إسرائيل الى أرض كنعان. غير أنّ بني إسرائيل سيربطون هذا الاحتفال بالخروج من مصر (12: 39)، وعندما يشرِّع التقليد الكهنوتيّ، سيجعل الفصح والفطير عيدًا واحدًا: يذبحون الحمل ويتهيّأون لأكل الخبز الفطير، فيدخلون السنة الجديدة، ولا يخافون على غلال أرضهم ونتاج حيوانهم.
(آ 12: 1-2) هذا الشهر هو شهر أبيب (13: 4) أي شهر السنابل، وسيسمّى نيسان بعد الجلاء، تأثّرًا بالبابليّين، وهو يمتدّ من 15 آذار الى 15 نيسان. كانت السنة الجديدة تبدأ في 11 تشرين (15 أيلول- 15 تشرين الأول)، ولمّا أخذ العبرانيّون بروزنامة البابليّين، صارت بداية السنة في نيسان (رج 23: 16؛ 24: 22). لهذا نرى الكاتب يشدّد على كلمة "رأس" (راش في العبرية) وكلمة "أول" (راشون في العبريّة).
(آ 3-4) يتوجّه موسى وهارون بكلامهما الى الجماعة. الكلمة العبريّة "عده" (راجع عدتو في السريانيّة) يمكنها أن ترجع الى الجِذر "وعد" (راجع في العبريّة "يعد"، أي حدّد وعيّن، وفي العربيّة وعد وواعد) الذي يعني جمع ولاقى وقابل وحضر، أو إلى الجذر "عود، عيد" (راجع في العربيّة "عيد" ويسمى كذلك لأنّه يعود كل سنة) الذي يعني أَلِفَ واعتاد. الجماعة (عده) هي هنا جماعة صلاة وعبادة، وهكذا يسمّيها التقليد الكهنوتيّ، ومن معنى الجماعة اشتقّت كلمة "مجمع" (أو كنيس) كما في تجمعّ اليهود للصلاة، بينما يسميّ التقليد الاشتراعيّ الجماعة "قهل" أي جمع وحشد، ومنها أخذ المسيحيّون كلمة "إكليسيا" اليونانيّة، كنيسة في العربيّة والسريانيّة (كنش تعني جمع وضمّ). اما "عده " فاعطت "سينا غوغي ".
العاشر من الشهر هو يوم مقدّس والشهر يقسم الى ثلاثة أعشار.
الرابع عشر من الشهر هو يوم البدر (حز 45: 21)
أنكون أمام تقليدين؟ تقليدٍ قديم يعيّد في العاشر من الشهر، وتقليدٍ حديث (اتّبعه اليهود والمسيحيّون)، يعيّد في اليوم الرابعَ عشرَ من شهر نيسان.
أمّا عدد المدعوّين فلا يجوز أن يكون أقلّ من عشرة، بحسب تقليد المعلّمين، لأنّ العدد عشَرة ضروريّ ليكون المؤمنون جماعةً لها الحقُّ أن تصلّي في المجمع، وتذبح ذبيحةً في الهيكل.
(آ 5-6) يكون الحمل (شاه في العبريّة راجع في العربيّة "شاة" التي تعني الذكر والأنثى من الغنم دون تحديد العمر والنوع) صحيحًا، سليمًا، كاملاً (تميم في العبريّة. راجع تامّ في العربيّة) لا عيب فيه، لأنّه يُعَدّ كالذبيحة المقدّمة للرب (لا 22: 19- 21). ويكون الحمل ذكرًا، لأنّ الذكَر أرفع مقامًا من الأنثى (لا 1: 3؛ 19:22)، ويكون ابنَ سنة.
يُذبح بين الغُروبَين. فسّرَ السامريّون هذه العبارة فقالوا: بين غروب الشمس وغروب الضوء. أمّا الفرّيسيون فقالوا بين الوقت الذي فيه تميل الشمس الى الغروب، والغروب.
(آ 7- 10) لا يؤكل اللحم نِيْئًا، مخافة أن يأكل المَرْء من الدم مع اللحم، وهذا لا يجوز، لأنّ الدم مَركِز الحياة (تك 9: 4؛ لا 17: 11-14). يؤكل مشويًّا، فلا ماء في الصحراء لطبخه ولا وقت. يؤكل كلُّه قبل الصباح الباكر، ويُحرق ما بقي منه، لأنّه مقدّس.
وكان يرافق هذا العيد، عادةُ رشِّ الدم على العتبة. فالتقاليد القديمة تعتبر أنّ الدم على العتبة يسدّ الباب بوجه الأرواح النجسة، وأنّ هذا الدم هو بمثابة علامة يرفعها أهل البيت الى إلههم ليحمي لهم بيتهم. أمّا العبرانيّون ففسّروا عادةَ رشِّ الدم أنّها علامة للرب: عندما يمرّ ملاك الموت، ويضرب المصريّين، سيجتاز كل بيت عليه هذه العلامةُ فلا يضربُه. بالإضافة الى ذلك، نعرف أنّ مدخلَ البيت وبابَه مكانٌ مقدس (اش 8:57؛ تث 9:6؛ 20:11)
العجين الفطير هو العجين الذي لم يختمر. يسمّيه سفرُ التثنية (3:16) خبزَ العناء (راجع عنى في العبريّة) والشقاء، بسبب الظروف التي رافقت حياة الشعب في مصر. أمّا الأعشابُ المُرّة (الخسّ والهِنْدِباء) التي كانت ترافق الذبيحة كتوابل، فقد دلّت مرارتُها على مرارة العيش في عبوديّة مصر.
(آ 11-14) يكون المشتركون في الذبيحة في حالة استعداد للسفر. فالكلمة العبريّة "حفزون " تدلّ على العجَلة والتهيُّؤ، ويمكن أن تدلّ على وضع ليتورجيّ كالاستواء على الركبتين أو الوَرِكين (راجع كلمة "حفز" في العربيّة)
إنّه فصح. " الكلمة العبرّية " "فسح " تعني التذكار إذا أرجعناها الى الأصل المصريّ. أمّا الترجمة اللاتينية فقد ربطت كلمة "فسح" بكلمة "العبور" التي تَرِد مرارًا في النصّ. ويبدو أنّ المعنى الواجبَ الأخذِ به للفعل هو "تخطّى، تجاوز (راجع في العربية فسح: باعد في الخط، وسع خطاه) لأنّ الرب تجاوز في تلك الليلة بيوت العبرانيّين بسبب الدم على عتَبة بيوتهم.

ثانيًا: فرائض أخرى تتعلّق بالفصح (12: 21-28)
نجد في هذا المقطع اليَهْوَهيّ بعضَ فرائضَ أخرى عن الاحتفال بالفصح، وهو يختلف بعضَ الشيء عمّا قرأناه في النصّ الكهنوتيّ (12: 1-14).
يكلّم موسى شيوخ الشعب، لا الجماعةَ كلَّها كما في التقليد الكهنوتيّ (3:12)، ويطلب إليهم أن يأخذوا خروفًا في العشائر لا في العائلات. لا يذكر التقليد اليَهْوَهيّ الوليمة كما تَرِد في التقليد الكهنوتيّ (8:12- 11 )، بل يهتمّ برشّ الدّم بواسطة غصن من الزُوفى، وهي تلك النبتة العطرة التي تستعمل في طقوس التطهير (عد 6:19؛ مز 51 :9؛ عب 19:9) ويشدّد على منع كل إنسان من الخروج من البيت قبل الصباح، لئلاّ يلتقيه المُفسد القاتل.
نقرأ الآيات 24-27 نخسّ بلغة قريبة من لغة سفر التثنية، لأنّها تشدّد على حفظ هذه الفرائض منذ استيطان شعب الله أرضَ كنعان، إلى الأبد، ولأنّها تعطي الاحتفال أبعادًا تعليميّة، فتجعل الأولاد يفهمون معنى هذا العيد، ويعرفون أنّ ذبيحة الفصح هي تذكير للأجيال الآتية بخلاص الله لشعبه. هذا التقليد، لا يزال باقيًا حتى اليوم: في ليلة الفصح يسأل الابن أباه: لماذا يمارسون هذا العيد؟ فيجيبه الأب شارحًا له ما تمَّ تلك الليلة.

ثالثًا: تفاصيل جديدة تتعلّق بالاحتفال بالفصح (43:12- 51)
نحن في إطار التقليد الكهنوتيّ الذي يعطينا تفاصيل جديدة عن كيفيّة الاحتفال بالفصح في أرض كنعان.
(آ 43-45) الشريعة واضحة: الغريب لا يأكل من الفصح. إن كان العيد يرتبط بتحرير الشعب، فكيف نريد للغرباء الذين لا يقاسمون العبرانيّين إيمانهم، أن يشاركوهم في الفصح. أمّا إذا دخل هذا الغريب في الجماعة بواسطة الختان، حينئذ يستطيع أن يشارك في العيد. ثم يميّز النصّ بين المقيم وسْط الشعب بطريقة عابرة مؤقّتة (توشب في العبريّة) والأجيرِ (شكير في العبريّة) والنزيل (جر في العبرية) الذي يحلّ بين الشعب ضيفًا.
(آ 46-49) نجد في هذه الآيات إعادةً لِمَا قرأناه في 12: 3، 4، 10، واهتمامًا بأن لا يُكسر للضحية عظم، وذلك دلالة على وحدة العائلة (رج يو 19: 36 عن يسوع الحمل الحقيقي).
(آ 50- 51) هما ترداد للآيتين 28:12، 41: وعمل العبرانيّون كما أمرهم الرب.
إذا قابلنا النصوص الثلاثة عن حفلة الفصح، نجد أنّ النصّ الأوّل (12: 1-14) يتوافق والنصَّ الثالث (12 : 43- 51)، بينما يتميّز عنهما النصُّ الثاني (12: 21-28) ببعض الفروقات.
يبدو الفصح في النصّين، الأولِ والثالث، بشكل وليمة عائليّة، والدمّ فوق الأبواب يعني أنّ الله تجاوز بيوت العبرانيّين فلم يضربهم. أمّا الاحتفال بالعيد فوَقْفٌ على الشعب دون الغرباء، إلاّ إذا اختتنوا، وهكذا يرتبط الختان بالفصح.
ويبدو الفصح في النصّ الثاني بشكل ذبيحة عشائريّة تتمّ في كل بيت من بيوت الجماعة، مع طقوس خاصّة بحماية البيت: يرشّون الدم بواسطة الزوفى، العيد هو عيد العَيلة، يحتفل به الأب ويُفهم أولاده معنى الطقوس.
هذا الاختلاف بين النصوص له معناه العميق، لأنّه يبيّن لنا أنّ الطقوس تتطوّر، فتُماشي الشعبَ وحاجاتِه دون المَساس بالجوهر. وهذا التطوّر علامةُ الجماعات الحيّة التي لا تتشبثّ بالماضي خوفًا من المستقبل، بل تنظر الى الحاضر على هَدْيِ الروح القدس، وتتطلع إلى المستقبل بثقة وإيمان.

رابعًا: طقوس عيد الفطير (12: 15-20)
نقرأ في هذا النصّ فريضة تأمر المؤمنين بإزالة الخمير من بيوتهم، وبأكل الخبز الفطير مدّةَ سبعةِ أيّام. هذه الفريضة يعمل بها كلّ المقيمين بأرض إسرائيل، سَواءٌ أكانوا إسرائيليّين أَم غرباء، ومن تعدّاها يقتلُ قتلاً.
الخبز الفطير هو الخبزُ الذي لم يختمر. الكلمة العبريّة "مصوت " ترجع حسب بعض الشرّاح الى العربي "مزّ" الذي يدل على الطعام بين الحُلو والحامض، (والمَزّة هو الخمر اللذيذ الطعم) أو "مص" (المصوص لحم يُنقع ويُطبخ في الخلّ). ولكن مهما يكن من أصل الكلمة، فهي تَعني الخبز الذي لا يحتوي أيّ خمير، والذي يأكله البدو في صحرائهم. فالخمير علامة نجاسة يجب التخلّصُ منها. فكل أثَر للغلّة السابقة تُفسد الغلّةَ اللاحقة، وتعرضها لخَطَر التَلَف. ولقد أخذ العبرانيّون من عالم الصحراء مدلولَ الفطير، وزادوا عليه المدلول التاريخيّ، فربطوه بالخلاص من أرض مصر، وجعلوه في إطار ليتورجيّ محورُه عيد الفصح.
في الأجيال القريبة من المسيحيّة كان عيد الخبز الفطير وعيدُ الفصح عينين في عيد واحد، يحتفل بهما اليهوديّ فيتذكّر خلاصه من مصر. ويحتفل المسيحيّ (لو 22: 1) بعيد الفصح كواقع تاريخيّ يربطه بشعب الله في العهد القديم، وكصورة عن الخلاص الجديد في يسوع المسيح الذي هو فصحُنا. يقول القديس بولس: "أما تعرفون أنّ قليلاً من الخمير يخمّر العجين كلّه؟ فتطهّروا من الخميرة القديمة لتصيروا عجينًا جديدًا، لأنّكم فطير لا خميرَ فيه، فحَمَلُ فصحنا ذُبح، وهو المسيح، فلنعيّد إذن، لا بالخميرة القديمة، ولا بخمير الشرّ والفساد، بل بفطير النقاوة والحق " (1 كور 5: 6-8 ؛ رج غل 5: 9-12؛ مت 6:16).
2- فرائضُ عن الفطير وعن تقدمة الأبكار (13: 1-16)

أوّلاً: فرائض لاحقة عن عيد الفطير (3:13-10)
يرجع هذا المقطع الى التقليد اليَهْوَهيّ المتأثّر بالتقليد الاشتراعيّ (قابل 13: 9، 16 وتث 8:6-9؛ 11: 18-19)، وهو يُفهمنا بأيّ روح نعيّد عيدَ الفصح وعيد الفطير.
يبدأ موسى كلامه: أذكروا هذا اليوم كما تذكرون يوم السبت (20: 8)، هذه هي شريعة الرب. والتذكير ليس رجوعًا الى الماضي فحسْب. بل تطلعٌ الى الواقع الحاضر الذي يعيشه المؤمن كل سنة. "اليومَ أنتم خارجون" كما خرج آباؤكم في الزمن الماضي. وعندما يعلّم الأب ابنَه، ويذكره بتلك الليلة الأولى، فهو يجعل نفسه بين الذين ذاقوا طعم ذلك الخلاص فيقول، "لسبب ما صنع الرب لي خلاصًا حين أخرجني من مصر" (8:13).
وهذا التذكير سيكون علامة منظورة: وَشْم على اليد، عصابة على الجبهة، كلام في الفم يردّده المؤمن فينطبع في قلبه. بهذا يصبح العيد تذكيرًا حيًّا وحاضرًا بواسطة شريعة الله، وبكلمته الفاعلة وبيده القديرة التي تخلّص الشعب من العبودية. ولهذا يحتفل بنو إسرائيل بالعيد كلَّ سنة فلا يَنْسَون الخلاص العجيب الذي تمّ لآبائهم، وما يزال فاعلاً فيهم.

ثانيًا: تقدمة الأبكار من الناس والبهائم (13: 1-2، 11-16)
المقطع الأوّل (آ 1-2)، وهو من التقليد الكهنوتيّ، يُعلن المبدأ العامّ: قدّس لي كلّ بِكْر فاتحِ رَحمِ، فيكونَ لي مُلكًا خاصًّا. والمقطع الثاني (آ 11-16)، وهو من التقليد اليَهْوَهيّ المطعّم بالتقليد الاشتراعيّ، يتبع المبدأ المذكور بمُلحقٍ يوضح بعض الأمور التي تطورّت مع الزمن، دون أن تَمسّ الجوهر.
إنّ عادة تقدمة بواكير الأرض والمواشي ، أمر مألوف عند شعوب كثيرة ، لأنّه يذكّرها بأنّ البواكير مُلك الإله، وهي تكرّسها له فتستجلب برَكَته على الحقول والمواشي، وتهدّىء غضبه. هذه العادة التي عرفها البدوُ والحضَرُ على السَواء، قد دخلت منذ القديم في تشريع العبرانيّين (28:22-29؛ عد 3: 11-13 ، 40- 51؛ 18: 15-16؛ تث 15: 19-23)، فارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالخروج من مصر، وبالضربة العاشرة التي أدّت الى مقتل أبكار المصريّين. يسأل الأبناء فيجيب الآباء: رفض فرعون أن يطلقنا، فقتل الربّ كلَّ بكر في مصر، ولذلك أنا أذبح كلّ بِكْر فاتحِ رَحِمٍ ، وأفتدي (فدا في العبرية، وتعني في العربية استنقذ واستبدل) الحمار من الحيوان (لا شك بحسب فائدته) والبكور من الناس. عرف الكنعانيّون الذبائح البشريّة، ولكنّ تشريع الكتاب المقدس رفضها رفضًا قاطعًا (راجع ذبيحة إسحق في سفر التكوين 22: 1 ي) وإن لم يستطع أن يمنع ممارستها، (رج 2 مل 3:16؛ 6:21؛ 23: 10؛ مي 7:6؛ ار 30:7-31).

ثالثًا: الضربة العاشرة والخروج من مصر (12: 29-42)
نرجع في هذا المقطع الى القسم الإخباريّ الذي تركناه في الفصل الحادي عشر، لنذكر الفرائض الطقسيّة المتعلّقة بعيد الفصح، وما يمتُّ إليه بصِلة. يروي هذا المقطع كيف كانت ليلة الضربة العاشرة، وكيف تمّ إطلاق العبرانيّين من مصر. هذا الحدَث الذي هو قمّة أحداث بني إسرائيل، قد دخل في إطار ليتورجيّ، فاحتفل به المؤمنون كلّ سنة، متذكّرين الخلاص الذي تمّ لهم بالسجود والشكر والعبادة.
يُقسم النصّ قسمين. يَروي القسم الأوّل (12: 29-36) وبطريقة مقتَضَبة الضربةَ العاشرة، ويَروي القسمُ الثاني (37:12-42) كيف بارَح (في العبريّة "برح") العبرانيون أرضَ مصر وتركوها.
(آ 12: 29-30) يذكر النصّ الأبكار المقتولين، ويصوّر الرّعبَ الذي حلّ بالبلاد، ويُسمعنا الصراخَ العظيم في كل بيت من بيوت مصر. ولكنْ كيف نفسّر مقتلَ الأبكار؟ هل حلَّ وباءٌ بالبلاد؟ (راجع مثلاً 2 مل 19: 35؛ اش 36:37؛ عد 37:14) ولكنّ الوباء لا يختار الأبكار دون سائر الناس. هل مات بكرُ فرعون فخاف الناس على أبكارهم؟ أيكون هناك تضخيمٌ للأمور، للدلالة على قدرة الله التي تدخّلت بطريقة عجيبة فتمَّ الخلاصُ للشعب؟
(آ 31-34) إنقلبت الأمور رأسًا على عَقِب. كان موسى يطلب الى فرعون أن يُطلِق الشعب فكان يرفض، وها هو فرعون الآن يطلب الى موسى أن يبارِح البلادَ مع شعبه.
في آ 34 نقرأ: حَمَلَ الشعبُ عجينهم قبل أن يختمر... عليهم أن يُسرعوا فيتركوا البلاد ليلاً. وهكذا ارتبطت عادة قديمة (أكل الفطير) بقصة تاريخيّة. لم يُمْهل الوقتُ العبرانيّين فينتظروا عجينهم حتى يختمر.
(آ 35-36) يذكر الكاتب كيف سلبَ العبرانيّون المصريّين مَصاغَ الفضة والذهب والثيابَ الفاخرة، لتكون زينةَ الله في أيام العيد.
(آ 37- 41) هذه الآيات تطرح علينا ثلاثة أسئلة:
السؤال الأوّل أيَّ طريق سلك العبرانيّون حين هربوا من مصر؟. الى هذا السؤال أجَبْنا في المقدمة فقلنا: أنطلقوا من رعمسيس الى سكوّت القريبة من الفيتوم ، والتي تقع شرقيَّ بلاد جاسان.
السؤال الثاني ما هو عدد العبرانيّين الذين خرجوا من مصر؟ يقول الكتاب: ستُّ مئةِ ألفِ رجل ما عدا النساءَ والأطفال. إن كان الأمر كذلك، فيكون عدد العبرانيّين مليونين أو ثلاثة ملايين. ولكن هل يُعقل أن يستعبد المصريّون العبرانيّين وهم بهذه الكثرة، بينما تقول التقارير: إنّ سكان مصر في ذلك الوقت كانوا بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين، وعددُ جيشها يقارب الثلاثين ألفًا؟ هذه الصعوبة وجدت لها تفاسير عديدة، نتوقّف منها على تفسيرين اثنين. التفسير الأوّل يقول: إنّ كلمة "ألف" لا تعني عددًا محدّدًا كما يفهمون، بل العشيرة والأسرة. ولا يكون الخارجون من مصر ستَّ مئةِ أسرة، أي ما يوازي خمسةَ آلاف نسمة وهو عدد معقول. والتفسير الثاني يستوحيه أصحابه من الأنبياء الذين تطلّعوا الى المستقبل وتحدّثوا عنه، وكأنّه حاضرٌ معهم. فستُّ مئة ألف ليست عددَ الشعب يوم خرج من مصر بقيادة موسى، بل عدد الشعب في نهاية الأزمنة عندما يأتي المسيح الملك.
السؤال الثالث ما هي المدة التي قضاها العبرانيّون في مصر؟ تقول آ 12: 40- 41 إنّ مدّة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت أربع مئة وثلاثين سنة. ويقول سفر التكوين (15: 13) بلسان الله: سيكون نسلُ إبراهيم غرباء... أربع مئة سنة. أمّا التقليدان اليونانيُّ والسامريّ فيجعلان مدّة حياة الآباء والإقامة في مصر أربَع مئةٍ وثلاثين سنة: 215 سنة للآباء215 سنة للإقامة بأرض مصر. هذا الرقم (اي 215) يأخذ به التعليم المسيحي (اع 6:7؛ غل 17:3) مقتفيًا أثَر التقليد اليهوديّ، وهو رقم يتوافق مع الأجيال الأربعة التي تفصل نزول الآباء الى مصر عن خروج العبرانيّين منها بقيادة موسى (6: 14- 20؛ تك 16:15)
(آ 42) في هذه الليلة سَهرِ الرب فأخرج شعبه من مصر. إذن، ستكون هذه الليلة لجميع بني إسرائيل ليلةً يسهرون فيها، فيتذكّرون ما عمِله الله لهم. وهي ليلة من ليالٍ أربع تحدّث عنها تَرجوم نيوفيتي. فليل الفصح يذكّر المؤمن بخَلْق العالم، والوعد لإبراهيم، والتحرير من مصر، ويعلن له نهاية العالم وتتمّة الخلاص عندما يأتي الملك المسيح، ليس فقط لشعب من الشعوب، قبل لشعوب الأرض كلّها.

ج- ملاحظات حول عيد الفصح
1- عيد الفصح عند اليهود

أولاً: المراجع
كان الفصح في زمن المسيح أهمَّ أعياد اليهود وما زال. سنتطرقّ الى تاريخه الطويل وسنمهّد بحثَنا الى العهد الجديد وزمن الكنيسة، تاركين جانبًا المَنْحى الذي أخذه العيد عند اليهود بعد خراب أورشليم (راجع مقالة "فسحيم " أي عيد الفصح في المشناة) أو عند السامريّين الذين حافظوا على طقوس قديمة جدًا.
نبقى الآنَ في عالم العهد القديم، فنلاحظ أنّ النصوص المتحدّثة عن الفصح قليلة، وأنّ تأويلها صعب ومعقّد. هناك نصوص ليتورجيّة: طقوس الفصح التي يتضمّنها خبرُ الخروج من مصر (ف 12)، الروزنامات الدينيّة (23: 15؛ 34: 18، 25؛ تث 16: 1-8، لا 23: 5-8)، كتبُ الطقوس (عد 28: 16-25؛ حز 45: 21-24)، تنظيماتٌ لاحقة نقرأها في سفر العدد (9: 1-14) وهي تبرّر إقامة الفصح في الشهر الثاني.
وهناك نصوصٌ تاريخيّة تصوّر لنا كيفيةَ احتفال بني إسرائيل بالفصح في هذا العهد أو ذاك: الفصح الأوّل في زمن الخروج (12: 1 ي)، الفصح الأوّل بعد دخول أرض كنعان (يش 5: 10-12)، فصح الملك حزقيّا (2 أخ 30: 1 ي) والملك يوشّيا (2 مل 23: 21-23؛ 2 اخ 35: 1-8)، فصح الرجوع من الجلاء (عز 6: 19-22) وذلك الذي احتفلت به جماعة يهوديّة عاشت في جزيرة في النيل قرب أَسوان قبل القرن الخامس ق. م.، وتركت لنا بعضَ الكتابات على أوراق البَرْديّ وبقايا الفخّار.

ثانيًا: التطوّر التاريخيّ في التقليد الكهنوتيّ
نقرأ كلّ النصوص التشريعيّة (ما عدا نصَّ حزقيال) المتعلّقةِ بعيد الفصح في أسفار موسى الخمسة، وهي ترجع إلى تقاليدَ متعدّدة تساعدُنا على تتبعّ تطوّر عيد الفصح على مرّ العصور. إنّ النصوص الأقربَ عهدًا إلينا هي الأوضحُ بسبب التفاصيل التي تحويها. منها سننطلق لنرجع، إذا استطعنا، إلى الأصول الأولى لعيد الفصح.
يتمثّل التقليد الكهنوتيّ في سفر اللاوّيين (23: 5-8) وسفر العدد (28: 16- 25) (رج 9: 1-14) وسفر الخروج (12: 1-2، 40- 51). إنّ هذه النصوص تحدّثنا عن عيدين اثنَين: عيدِ الفصح وعيد الفطير. يُحتفل بعيد الفصِح في بَدر الشهر الأول من السنة الربيعيّة. منذ العاشر من الشهر، تختار كلّ عائلة حمَلاً عمرُه سنة، حملاً ذكرًا لا عيبَ فيه، تذبحه في غَسَق اليوم الرابعَ عشرَ من الشهر، وترشّ بدمه عَتبة باب البيت وقائميته. يَشْوون لحم هذه الذبيحة، ويأكلونه في ليل البدر، ولا يكسِرون عظمًا لهذه الضحية، كما يُحرقون كل ما يتبقّى من هذه الوليمة المقدّسة. يأكلون الذبيحة مع خبز فطير وأعشاب مُرّة وهم يستعدّون للرحيل. إذا كانت الأسرة قليلة العدد تجتمع بأسرة أخرى، مع العلم أنّ الغرباء المقيمين، لا يشاركون في هذه الذبيحة ما لم يختتنوا.
وفي اليوم الخامس عشر يبدأ عيد الفطير (مصوت في العبريّة). يزيلون من بيوتهم الخبز القديم (فيه الخمير) ولا يأكلون على سبعة أيام (15- 21) إلاّ خبزًا فطيرًا لا خمير فيه. في اليوم الاول والسابع "سبت " يستريحون فيهما ولا يعملون فيهما عملاً، فيشاركون الجماعة المقدّسة في احتفالاتها.
ما قرأناه هنا في التقليد الكهنوتيّ يطابق نصّ حزقيال (45: 21) وعزرا (6: 19-22) الذي يصوّر لنا فصحًا بعد العودة من الجلاء.

ثالثًا: التطوّر التاريخيّ في التقليد الاشتراعيّ
لأوّل وهْلة يبدو النصّ الاشتراعيّ (تث 16: 1-8) وكأنه يجمع في عيد واحد عيدَ الفصح وعيد الفطير. غير أنّ النصّ يبدو متعدّد العناصر. فالآيات 1، 2، 4-7 تحكي عن الفصح الذي يحتفلون به في شهر أبيب، ولكنْ دون تحديد اليوم. يختارون الضحيّة من البقر أو الضأن، ويذبحونها عند غروب الشمس. لا في أيّ مكان يقيمون فيه، بل في الموضع الذي اختاره الله ليحمل فيه اسمه، أي في أورشليم. ففي معبد أورشليم تُذبح الضحية ويُشوى لحمها ويُؤكل في الليل، وعند الصباح يعودون الى منازلهم.
والآيات 3، 4، 8 تحكي عن الفطير. على سبعة أيّام يأكلون الفطير، يأكلون خبز العناء، ويمتنعون عن العمل في اليوم السابع، ليشاركوا الجماعة في احتفال مقدّس. إنّ التقارب بين عيد الفصح وعيد الفطير يبدو مصطنعًا: كيف يرجعون الى منازلهم غداةَ ليلة الفصح، ثم ينتظرون سبعةَ أيّام ليشاركوا في اجتماع اليوم السابع؟
لمّا احتفل الملك يوشيّا بعيد الفصح، احتفل به على طريقة سفر تثنية الاشتراع (2 مك 23: 21-23). وشدّد الكاتب الملهم على الجديد في هذا العيد، دون أن يأتي على ذكر الفطير. قال: "ولم يُعمل فصح مثلُ ذلك الفصح أيّامَ أيّ ملك من ملوك إسرائيل ويهوذا، ولا في أيّام القُضاة الذين حكموا في إسرائيل ". وسيُسهب سفر الأخبار الثاني (35: 1-8) في الحديث عن ذلك الفصح.
ولكن أين الجديد في هذا الفصح الذي أقامه يوشيّا؟ هنا نقابل بين نصوص سفر التثنية وما تعوّد عليه بنو إسرائيل منذ القديم.

رابعًا: الروزنامات الدينيّة القديمة
إنّ أقدم روزنامتين دينيّتين تتكلمان عن الفطير، ولا تتكلّمان عن الفصح (23: 15؛ 18:34). كانوا يأكلون الفطير سبعةَ أيّام في شهر أبيب، ويذهبون الى الحجّ (23: 14، 17؛ 23:34). أمّا سفرُ الملوك الأوّل (9: 25) فيذكر فقط عيدَ الفطير وعيد الأسابيع وعيد المظالّ (رج 2 اخ 8: 13؛ تث 16: 16).
يذكر سفر الخروج (34: 25) عيدَ الفصح، ولكن خارجَ روزنامة الأعياد التي يحجّون فيها (رج 18:23). أمّا التجديد الذي جاء به سفرُ التثنية وإصلاحُ يوشيّا، فهو أنّه جعل عيد الفصح عيدًا يحجّون فيه المعبدَ الرسميَّ الوحيد في أورشليم. كانوا يحتفلون بالفصح في الماضي، في كلّ مدينة وفي كل بيت (12: 21-23؛ تث 16: 5) وكان عيد الفصح غيرَ حجّ عيد الفطير. ولمّا كان العيدان يصادفان الفترةَ ذاتَها، ولمّا كانا يلتقيان في بعض الملامح، جُمعا في عيد واحد. غير أنّ عمليّة الجمع هذه لم تتمَّ في عهد يوشيّا، بل في زمن الجلاء، كما هو واضح في سفر حزقيال (45: 21) والنصوص الكهنوتية.
يقول سفر يشوع (5: 10-12) إنّ العبرانيّين احتفلوا بالفصح في الجِلجال ، في مساء اليوم الرابعَ عشرَ من الشهر. نصبوا خيامهم وأكلوا في ذلك اليوم من محاصيل الأرض بعد أن توقّف المنّ عن السقوط. وأكلوا أيضًا الفطير والفريك. وهكذا يكون الفطير نهايةَ الخروج وبداية دخول أرض الموعد.
ويبدو أنّ عيد الفصح كان عيدًا يشارك فيه الجميع، ويحتفلون به في معبد رابطة القبائل. ولكن لمّا تراخى الرباط بين أعضاء القبيلة الواحدة، بسبب مركزيّة العبادة، صار عيد الفصح عيدًا عائليًّا، وسيظلّ كذلك الى زمن إصلاح يوشيّا.

خامسًا: أصل الفصح
الفصح هو عيد الرُعاة وذبيحةُ البدو أو أنصافِ البدو التي لا تحتاج الى مذبح ولا الى الكاهن. هذه الذبيحة الدمويّة كانت تقام في الربيع، للحصول على خِصْب القطيع ونموّه. أمّا الدم الموضوع فوق عتبة الباب، وكان في الأصل فوق مدخل الخيمة، فهو هنا ليمنع قوّات الشرّ من الدخول. قبل أن ينطلق الرعاةُ انتجاعًا، كانوا يقدّمون الضحية فيأكلون لحمها مشويًّا، ولا حاجةَ الى أوعية. يأكلونها مع خبز فطيركما هي عادة البدو، ويأكلون معها الأعشابَ الموجودة في البريّة.
ليس عيد الفصح أصلاً عيدَ تقدمة الأبكار، رغمَ وجود شريعة الأبكار مع نصوص عيد الفصح، والرباطُ بينهما رباطٌ خارجيّ، ونقطةُ الوصل بينهما هي الضربة العاشرة. في ليلة الفصح ضرب الربّ أبكارَ مصر وتجاوز البيوت الموسومة بالدم فلم يضربها. من أجل ذلك يقدَّم الأبكار للرب.
عيد الفصح عيد قديم جدًا وسابق لخروج بني إسرائيل من مصر، ويبدو أنّ العيد الذي طلب موسى أن يحتفل به مع شعبه (5: 1) هو عيدُ الفصح، ولكن متى يُحتفل بهذا العيد؟ ستحدّد النصوص الكهنوتيّة يوم العيد بليلة 14 / 15 من الشهر الأول، وهذا الوقت يجعل عيد الفصح عيدًا ليليًّا يحتفلون به في البريّة. والاحتفال به مقرّر ليلة البدر، لأنّها الليلة التي يكون فيها ضوء القمر على أشَدّه.

سادسًا: أصل الفطير
الفطير خبز من دون خمير. أمّا عيد الفطير فكان علامةَ بداية حَصاد الشعير. منذ يبتدىء المِنجل بقطع السنابل (تث 16: 9) تَعُدّ سبعة أسابيع، فيكون عيدُ الأسابيع أو عيد الحصاد. في عيد الفطير يأكلون على مدى سبعة أيام خبزًا من دون خمير، مصنوعًا بالحبّ الجديد. لا يكون فيه من الحبّ القديم لأنّه يدلّ على بداية جديدة.
لا تحضروا أمامي وأيديكم فارغة من أيّة تقدمة (23: 15؛ 34:20). وهكذا يأخذ عيد الفطير طابعَ تقدمة البواكير. إنّ عيد الفطير هو عيدُ تهيئة البواكير وعيد الأسابيع هو نهاية حَصاد القمح وعيدُ بواكير الغلال الحقيقيّ.
عيد الفطير عيد زراعيّ عيّده العبرانيّون يومَ دخلوا أرض كنعان (لا 23: 10)، فيكون أنّهم أخذوه عن الكنعانيّين الذين أقاموا بينهم. كان عيد الفطير يدوم أسبوعًا من السبت الى السبت (23: 15؛ 18:34؛ رج 12: 16؛ تث 16 : 8؛ لا 23: 6-8). وبما انه عيد مرتبط بالزراعة فما تمكّنوا من تحديد وقت العيد، فقالوا في شهر أبيب.
كان بنو إسرائيل يحتفلون بعيد الفصح في بدء الشهر الذي كانوا يعيّدون فيه الفطير، ولمّا صار الفصح عيدَ حجِّ كالفطير، وجدوا من الملائم أن يُجمع العيدان في عيد واحد.

سابعًا: رَبْطُ عيد الفصح والفطير بتاريخ الخلاص
تُجمع كلُّ التقاليد على رَبْطِ الفطير (23: 15؛ 18:34؛ تث 3:16) أو الفصح (تث 16: 1، 6) أو الفصح والفطير (12 : 23-27، 39: تقليد يَهْوَهيّ، 12: 12، 13، 17 تقليد كهنوتيّ) بالخروج من مصر. ويبدو الرباط واضحًا جليًّا خصوصًا في الفصل الثاني عشر الذي يدمج طقوس العيدين بخبر الخروج من مصر. الاحتفال بالعيد ساعد الشعب على النجاة، ونُظّمت الطقوسُ لتذكّر الشعب بما تمّ لهم من خلاص.
عيد الفصح هو تعبير عن صراع الله مع أعدائه، وقمّة هذا الصراع هي تلك الليلة التي فيها يسهر المؤمن كما الرب (12: 42). في الغداة (14: 24) هُزِمَ المصريّون، وانتصر الرب، فأنشدوا له مديحًا سينتهي بتمجيد هيكل أورشليم، حيث يقيم الله الى الأبد (15: 17). إنّ ديانة بني إسرائيل ديانةٌ تاريخيّة، وإيمانهم مؤسّس على تدخّل الله من أجل شعبه. كان هناك عيد فصح في الصحراء، وكان عيد فطير في كنعان، وَكِلا العيدين يُحتفل بهما في الربيع. وكان ربيع تدخّل فيه الله بصورة عجيبة محرِّراً شعبه، فكان ذاك الربيع بداية تاريخ شعب اختاره الله. فاستفاد بنو إسرائيل من هذين العيدين، ليتذكّروا الحدَثَ الأهمّ في تاريخ خلاصهم، ألا وهو الخروجُ من مصر.

ثامنًا: خاتمة
يتميّز عيد الفصح بعد الإصلاح الديني بأنّه احتفال يتمّ في هيكل أورشليم، تليه وليمة عائليّة. كانوا يذهبون الى المعبد، فيذبحون الضحيّة، ثم يعود كلٌّ الى بيته ليشارك في الوليمة المقدّسة في إطار العائلة. وبعد دمار هيكل أورشليم، صار عيد الفصح عيدًا عائليًّا، وما زال الى أيامنا هذه.
الوليمة الفصحيّة عشاء دينيّ مطبوع بطابع الوقار والفرح. هناك تبريك كؤوس الخمر، وأكلُ اللحم المشويّ، ومباركة الله على أعماله، وتفسير معاني عيد الفصح (كما في سفر الخروج 12: 26-27؛ 13: 3-8، 14-15) ونشيد الهلّل (المزامير 115-118). كل هذه الطقوس قد تنظّمت وترتّبت في المشناة ونحن نقرأ منها مقطعًا يبيّن لنا الروح التي تسيطر على بني إسرائيل، عندما يحتفلون بعيد الفصح.
على الإنسان في كل جيل أن ينظر الى نفسه، وكأنّه هو بذاته خرج من مصرائيم. وقد قيل: تُخبر ابنك في ذلك اليوم فتقول له: من أجل هذا تدخّل الله من أجلي، لمّا خرجت من مصرائيم. هو لم يخلّص فقط آباءنا، تبارك اسمه، بل خلّصنا نحن أيضًا فيهم، لأنّه قيل: أخرجنا من هناك ليقودنا الى أرض حلفَ لآبائنا عليها ليعطيَنا إيّاها. من أجل هذا يجب علينا أن نشكره ونمدحه وننشده ونحتفي به، ونُجلّه، ونعظّمه ونمجّده ونباركه هو الذي صنع لنا ولآبائنا كلّ هذه المعجزات: أخرجنا من العبودية الى الحرية، من الضيق الى الفرح، من الحِداد الى العيد، من الظلمة الى النور العظيم، من التضييق الى التحرير. فلنُنشد أمامه نشيدًا جديدًا: هلّلويا.
2- عيد الفصح عند المسيحيّين

جاء المسيح الى العالم، وشارك اليهودَ في فصحهم، لكنّه أراد لهذا الفصح أن يكون أفضلَ ممّا هو عليه. لم يقبل بذلك هؤلاء الذين جاء من أجلهم، فتركهم وجعل الفصح الجديد يحلّ محلَّ الفصح القديم، ووضعه في خطّه الصحيح وكمّله.
في عيد كلّ فصح كان يسوع يعمل أعمالاً ويقول أقوالاً تبدّل معنى الفصح الذي تعوّد الناس عليه. نرى فصح ابن الله الوحيد الذي يترك أباه وأمّه في الحزن، ليبقى في بيت أبيه ( لو 2: 41- 51). نرى فصح الهيكل الجديد حيث يطهِّر يسوع المعبد الموقّت العابر، ويعلن عن المعبد النهائيّ الذي هو جسده القائم من الموت (يو 2: 13-23؛ 4: 21-24). نرى فصح الخبز المكثَّر الذي صار جسدَه المقدّم ذبيحةً (يو 6: 1 ي). نرى فصح الحَمَل الجديد: يحلّ يسوع محلَّ الضحيّة الفصحيّة، فينظّم وليمة فصحيّة جديدة، وينطلق في خروج خاصّ به فيعبُر من هذا العالم الخاطىء الى ملكوت الآب (يو 1:13).
لقد فهم الرسل نوايا يسوع هذه، كلٌّ من وُجهته. فصوّر الإزائيّون، أي كلٌّ من متى ومرقس ولوقا، عشاءَ يسوع الأخير كوليمة فصحيّة. تعشَّوا داخل أسوار أورشليم، فتضمّن عشاؤهم تلاوةَ مزامير الهلّل في اطار ليتورجيّ (مر 14: 26). ولكنّ هذه الوليمة كانت عشاء فصح جديد. تلا يسوع التبريكات الطقسيّة المعتادة على الخبز والخمر، ولكنّه زاد عليها كلماتٍ تؤسسّ سرّ الافخارستيّا أو القربان المقدّس. أعطى جسده مأكلاً ودمه مشربًا، فصوّر لنا موته كذبيحة فصحيّة كان هو حَمَلَها الجديد (مر 14: 22-24). أمّا يوحنا فشدّد بالحريّ على هذا الواقع، وأدخل في إنجيله التلميحات العديدة إلى يسوع الحمَل (يو 1 :29-36)، فجعل ذبح الحمل الفصحيّ يتمّ بعد ظهر الرابعَ عشرَ من "نيسان" (يو 28:18، 29) في الساعة التي مات فيها يسوع على الصليب فكان الضحيّةَ الفصحيّة الحقيقيّة (يو 19: 36).
صلب يسوع ليلةَ السبت (مر 15: 42؛ يو 19: 31) فقام من بين الأموات غداةَ هذا السبت عينه، أي في أوّل الأسبوع (مر 16: 2). وفي هذا اليوم عينه التقى الرسلُ ربَّهم القائمَ من الموت خلال وليمة تُعِيد العشاء السريّ ( لو 24: 30 ي؛ مر 16: 14 ؛ يو 20: 19-26). وهكذا اعتادت الجماعة المسيحيّة الأولى الاجتماعَ في اليوم الأوّل من الاسبوع، يومَ الأحد (رؤ 1 : 10) يومَ الربّ ( اع 20: 7؛ 1 كور 16: 2) فيكسرون الخبز ويتذكّرون قيامة يسوع وينتظرون مجيئه (1 كور 11: 26). ذاك كان عيدَ فصحهم الأسبوعيّ.
ولكنْ كان للمسيحيين احتفالٌ سنويّ ينخرط في خطّ الفصح القديم مع مضمون جديد. كان اليهود يحتفلون بتحرّرهم من نِير أجنبي، وينتظرون مسيحًا وطنيًّا يحرّرهم اليوم كما حرّر آباءهم في الماضي. أمّا المسيحيّون فيعيّدون تحرّرهم من الخطيئة والموت، ويتّحدون بالمسيح الذي صلب ومات وقام ليشاركوه في حياته الأبديّة. ويوجّهون آمالهم الى مجيئه المجيد.
وفي تلك الليلة التي تضيء عليهم كالنهار، يهتمّون بلقائهم في العشاء بحمل الله الحامل خطايا العالم: يستعدّون بصوم وسهر، ويقرأون قصّة الخروج (أو العبور) بأبعادها الجديدة، أي على ضوء موت المسيح وقيامتِه (1 بطرس 1 : 13- 21): يعرفون أنّهم معمّدون، وأنّهم يشكّلون شعب الله في الغربة، فيسيرون وأوساطُهم مشدودة الى أرض الموعد، الى ملكوت السماء. وبما أنّ المسيح ضحيّتهم الفصحية قد ذُبح، عليهم أن يحتفلوا بالعيد لا بالخميرة القديمة، خمير الشرّ والفساد، بل بفطير النقاوة والحقّ (1 كور 5 : 6 ) .
عاشوا مع يسوع سرَّ فصحه، فماتوا عن الخطيئة وقاموا الى حياة جديدة (روم 6: 3- 11 ؛ 1 كور 12: 12). وسيتمّ سرّ الفصح هذا بالنسبة إليهم يومَ يموتون ويقومون ويلتقون الربّ. ففصح الأرض يهيّىء لهم هذا العبور الأخير، يهيّىء لهم الفصح الرثائيّ في الآخرة الذي هو مشاركة في عُرس الحمل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM