الفصل الثَالِث: النِّضَالُ في سَبيلِ الحُرِّيَّة

الفصل الثَالِث
النِّضَالُ في سَبيلِ الحُرِّيَّة
7 : 8 – 10 : 11

1- مقدّمة
1- الضَرَبات على مصر

قصة الخروج من مصر هي الحدَثُ الأساسيّ في الإيمان بالله المخلّص، فلا يمكن أن تُرْوى كأيّة رواية، وإلاّ فكيف تبقى محفورةً في ذاكرة الأجيال؟ نحن أمام تحرير شعب من العبوديّة، وهذا التحرير ثم بعد صِراع طويل، ظلّت نتيجته غيرَ معروفة حتى الدقيقة الأخيرة. وفي هذا الصِراع تواجَه، لا أناسٌ عاديّون، بل أبطال، بل ملوكٌ وآلهة. إنّ أبناء العبرانيّين الذين عاشوا في زمن موسى، تذكّروا هذا الصِراع وردّدوه ورتّلوه، وأنشدوا أخبارًا عنه حفِظها التقليد، فدخلت أحداثُ هذا الماضي العظيمةُ في إطار العبادة والليتورجيّا.
هذه الأحداث نقرأها في سفر الخروج 7- 11، وهي تكوّن مجموعةً تَلفِت نظرنا بتشابكها. وعندما ننظر إليها سنتوقّف على الوجهة العامّة، لا على التفاصيل. في هذه المجموعة ترتبط الآيات 7: 1-7 بما سبق؛ أمّا الآيات 8:7- 11: 10موضوعها التقليديّ ضرَبات مصر، أو الآفاتُ التي أصابت مصر. ولكنّ قصة الضربات لا تبدأ إلاّ انطلاقًا من الآية 7: 14. فتكون الآيات 7: 8-13 كمقدّمة لقصّة الضربات. أمّا الفصل الحادي عشر فيبدو هو أيضًا كمَدْخل إلى الفصل الثاني عشر. هو لا يروي قصّة الضربة العاشرة، كما يروي غيرَها من الضرَبات، بل يعلن عنها مسبّقًا. والضربة العاشرة (قتل الأبكار) سَيرِدُ ذِكرُها عمليًّا في الآيات 12: 29-39، بعد انطلاق العبرانيّين واحتفالهم بطقوس الفصح.
أمّا الأحداث فهكذا تتوالى: بعد ان يُتمّ موسى وهارون معجزة تحويل العصا الى حيّة، فيَحذو حَذْوهما سَحَرةُ الفرعون (7: 8-13)، يَروي الكاتب قصّة الضرَبات التسع، الأولى: تحويل الماء الى دم (7: 14-25)؛ الثانية: الضفادع (7: 6-8: 11)؛ الثالثة: البَعوض (8: 12-15)؛ الرابعة: الذباب المسمّم (8: 16-28)؛ الخامسة: الوباء في الحيران (9: 1-7)؛ السادسة: القُروح في الإنسان والحيوان (9: 8- 12)؛ السابعة: البَرَد (9: 13- 35)؛ الثامنة: الجراد (10: 1-20)؛ التاسعة: الظلمة التي تغطّي أرض مصر ثلاثة أيام (10: 21-29)، كمقدّمة للقاء شعب مصر بالربّ. ثم يعلن الكاتب الضربة العاشرة (11: 1-10) فيبيّن فيها قِمّة الصراع بين الله وفرعون.
2- البُنْية الأدبيّة لهذه المجموعة

نظرة أولى الى الضربات ترينا أنّ رواية بعضها قصيرة (مثلاً الضربة الثالثة ترِد في 4 آيات) ورواية بعضها الآخر طويلة (الضربة السابعة ترد في 22 آية). إذا كان كاتب واحد قد دوّنَ هذه الأخبار، فما يكون هدفه؟ وإذا كان هناك تقاليدُ متعدّدة قد مُزجت بعضُها ببعض، يبقى علينا أن نميّز طبقات هذه التقاليد.
نظرة ثانية الى المفردات، تبيّن لنا أنّ الكاتب يسمّي الضربة "أوت" (آية في العربية)، وهي تغني علامة وعِبْرة (رج 8: 19؛ 10: 1، 22) أو "موفت" (آفة في العربية تعني المفسدة، رج 11: 9-10)، أو "مجفه " (نجف في العربية: قط الشجرة من أصلها رج 9: 14)، أو "نجع" (رج 11: 1)، أو "فلا"، أي المعجزة التي تُدهشك فتدفعك الى النظر والتأمّل (راجع فلا في العربية). ويحدّثنا الكتاب عن قساوة قلب فرعون فيوردُ تارة "حزق" (شدّ حفظ، رج 8: 15؛ 9: 12؛ 10: 20-27)، وطورًا "كبد" (في العربية كبد بمعنى ضيّق وكابد بمعنى قاسى، رج 8: 11، 28؛ 7:9)
نظرة ثالثة الى طريقة الأخبار، تبيّن لنا أنّه وإن لم نَجِد خبرَين يتشابهان كلَّ المشابهة، إلاّ أنّنا نجد نَموذَجين عاميّن نكتشفهما في رواية كلّ ضربة مع بعض الفُروقات الطفيفة. في النَموذج الأوّل يَروي الكاتب الضربة بطريقة قصيرة ومكثَّفة (الضربة الثالثة والسادسة): يأمر الله موسى (أو هارون) بأن "يضرب". تتمّ الضربة فلا يستطيع سَحَرة مصر أن يفعلوا مثلها، فيقسو قلب فرعون فلا يسمع لكلام الرب. في النموذج الثاني يروي الكاتب الضربة بطريقة طويلة وموسّعة (الضربة الرابعة والخامسة). مثلاً: يأمر الله موسى بأن يذهب إلى الفرعون، ويطلب إليه أن يطلق الشعب، وإلاّ فستأتي الضربة على مصر، فيرفض الملك. وعندما ينفّذ الله تهديده، يدعو الملكُ موسى ويتباحث معه في الشروط الكفيلة بإيقاف الضربة. تُكَفّ الضربة، ولكن الفرعون يقسّي قلبَه، فلا يفي بما وعد به.
نظرة رابعة الى النصّ، ترينا أنّ هناك تقليدين عمِلا على كتابة الضربات العشر. في التقليد اليَهْوَهيّ يظهر موسى وحدَه: يقف أمام فرعون، ويطلب إليه أن يطلق الشعب، بيده يرسل الرب الضربة، ويوقفها الله بناءً على تشفعه. أمّا في التقليد الكهنوتيّ فدور هارون دور رئيسيّ. يأمر الرب موسى أن يقول لهارون أن يتكلّم أو أن يفعل. في هذا الإطار لا مكانَ للحوار بين موسى (أو هارون) والفرعون. يصنع هارون المعجزة، فيتدخّل سَحَرة مصر، فيفعلون مثلها أو يقرّون بعجزهم. ويتدخّل الله فيقسّي قلب فرعون. الى التقليد الكهنوتيّ يرجع النموذَج الأوّل أو الطريقة القصيرة في الأخبار، والى التقليد اليَهْوَهيّ يرجع النموذَج الثاني أو الطريقة الطويلة في الإخبار.
وهكذا يمكننا القول إنّ الضربتين الرابعة (8: 16-28) والخامسة (9: 1-7) تَرجِعان الى التقليد اليَهْوَهيّ، وأنّ مقدّمة الضربات (7: 8-13) والضربتين الثالثة (8: 12-15) والسادسة (9: 8-12) ترجع الى التقليد الكهنوتيّ. أمّا الضربات الأولى (7: 14-25) والثانية (7: 26-8: 11) والسابعة (9: 13-35) والثامنة (10: 1-20) والتاسعة (10: 21-29) فهي مزيجٌ من التقليدين.
ويعتبر بعض شرّاح الكتاب المقدس أنّ الكاتب الملهم احتفظ بتقاليدَ متوازية من الضربة ذاتِها. فالضربتان الثالثةُ والرابعة كانتا في الأساس ضربةً واحدة، كتبت بطريقتين مختلفتين. فالتقليد الكهنوتيّ تحدّث عن البَعوض، والتقليد اليَهْوَهيِّ عن الذُباب المسمّم. فإذا كان هذا الافتراض صحيحًا نستنتج أنّ عدد الضربات لم يكن في البداية عشرًا. ونثبت هذا الواقع عندما نقابل سفرَ الخروج بالمزمورَين 78 و 105. فالمزمور 78: 44- 51 يعدّد 7 ضربات: المياه المحوّلة إلى دم، الذباب المسمّم، الضفادع، الجراد، البرَد، الوباء، موت الأبكار. والمزمور 105: 26-36 يذكر هو ايضا سبع ضربات: الظلمة، المياه المحوّلة الى دم، الضفادع، الذباب المسمّم، البعوض، البرَد، الجراد، موت الأبكار. هذا يعني بالنسبة إلينا أنّ العدد أمر رمزيّ أراد الكاتب من خلاله أن يقول لنا إنّ الرب أفرغَ كاملَ ضرباته في مصر، والعدد 7 كالعدد 10 يدلاّن على المِلْء والكمال.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- الضربات الأربع الأولى (7: 8-8: 28)

المقدّمة (7: 8-13)
تشكّل هذه الآيات نهايةً لما سبق، وتمهيدًا لرواية الضرَبات العَشْر.
تحويل العصا إلى حيّة هو نَسخة عن التقليد الكهنوتيّ لحادثة رواها التقليد اليَهْوَهيّ (4: 1- 5). في النصّ الأوّل يصنع موسى المعجزة ليُقنع الشعب؛ في النصّ الثاني (7: 8-13) يصنع هارون المعجزة، ليؤمن فرعون ورجاله بقدرة الله، في النصّ الأوّل حوّل موسى العصا إلى حيّة (نحش في العبريّة. راجع حنَش في العربيّة، وهو نوع من الحيّات بسيط)؛ في النص الثاني تتحوّل العصا إلى حيّة كبيرة جدًّا (تنّين في العبرية، وهو حيوان أُسطوريّ) والتنين هو حيوان كبير (رج تك 1: 21). وهو صورة عن مصر، ورمز عن قدرتها في عالم السِّحر (مز 13:74؛ اش 9:51-10 ؛ حز 3:29؛ 2:32). هذه الصور تجعلنا أمامَ صراع بين الله من جهة، وفرعون وسَحَرته من جهة ثانية، وشعبُ الله ينظر من البعيد. وفي هذا الصراع ستتغلّب قدرة الله على قدرة فرعون وسحرته.
يتوقّف تقليد المعلّمين على ملاحظتَين لدى قراءته هذا النص. الملاحظة الأولى: عندما دعا فرعون سحرته حَسِب أنّ ما عمله هارون أمرٌ في غاية البساطة. ولو عرف ما سيؤول إليه أمرهم لما دعاهم. الملاحظة الثانية: يذكر التقليد اسم أشهر السَحَرة في مصر "ينيس ويمبريس" اللذين صارا رمزًا الى مقاومة الإنسان لله (رج 2 تم 3: 8)

أولاً: الضربة الأولى: الماء يتحوّل الى دم (7: 14- 25)
ترتبط الضربة الأولى بنهر النيل العظيم الذي هو مصدر حياة مصر بسمكه الذي يأكله المصريّون، وبفيضانه الذي يُخصب أرضهم. ولكن ماء النيل تحوّل إلى دم، فمات السمك وحُرِمَ الشعب الماءَ سبعةَ أيام (نلاحظ هنا أيضا العدد 7)
يعمل الله بواسطة موسى نبيّه، فيتصرّف موسى في الأمور وكأن الله ذاتَه يتصرّف فيها.
كيف يفسّر المفسّرون هذه الضربة؟ يقول بعضُهم إنّ وباءً أمات السمكَ في الأثر، فجعل مياهه غيرَ صالحة للشرب (7: 18)، فراح الناس يحفرون حول الناثر ليشربوا ماءً (7: 24). ويقول البعض الآخر إنّ الماء تحوّل إلى دم (7: 17، 19، 20). أيكون أنّ التراب كان كثيرًا ممّا سبّب موت السمك؟
وسوف يشير الكاتب إلى شموليَّة ضربة موسى. لم تتحوّل مياه النيل فقط إلى دم، بل كل مياه في مصر، سَواءٌ أكانت في النهر أم خارجَه. الضربة تَعُمّ الجميع، فلا يُفلت منها أحد. وهكذا نرى أنّ الكاتب الملهَم لا يهتمّ برواية دقيقة للأمور، بل بإظهار قدرة الله. أمّا تحويلُ الماء الى دم فعقاب الله لظُلم الفرعون الذي أمر بإلقاء أطفال بني إسرائيل في النهر (1: 22). إنّ الرب يعاقب الطبيعة الجامدة قبل أن يعاقب الإنسان. فإن ارتدع الإنسان توقّف الله عن العقاب اللاحق، وإلاّ وصل العقاب الى الإنسان. أخطأ آدم فعاقب الله الأرض قبل أن يعاقب الإنسان، أخطأ فرعون فعاقب النهر، وبما أنّ الفرعون سيقسّي قلبه، فسيسفك له دم بِكره.
إذا نظرنا الى الواقع الجغرافيّ والتاريخيّ نفهم أنّ ظاهرة تحويل النهر الى دم (أي الى تراب أحمر) أمر طبيعيّ يحصل في الربيع من كل سنة، يومَ يفيض نهر النيل. ولكن الكاتب يعتبر أنّ ما حصل في تلك السنة أمرٌ عجيب، وأنّ المعجزة لم تكن للمصريّين خيرًا، بل ضربة موجعة تنبّههم الى حضور الله، إذا أرادوا. وفي هذا يقول سفر الحكمة (11: 7-8): "إنّك بلبَلْت أولئك (المصريّين) إذ بدلتهم بمَعين النهر الدائم دمًا صديدًا عقابًا لهم على قضائهم بقتل الأطفال. وهؤلاء (العبرانيّون) أعطيتهم ماء غزيرًا".
ونقول أخيرًا: نحن أمامَ صِراع يتعدّى البشر، صراعٍ بين النيل الذي يؤلّهه الفرعون ويعبده، والربِّ الذي أظهر قدرته بواسطة عبدِه موسى.

ثانيًا: الضربة الثانية: الضفادع (7: 26-8: 11)
ظهور الضفادع أمر مألوف في مصر بعد الفيضان السنويّ. ولكنْ ما أدهش الناسَ هو أنّ الضفادع ملأت البلاد كلَّها بما فيها قصر الفرعون. ظهرت فجأة واختفت فجأة، وفي كِلا الحالَين ائتمرت بأمر الله. كما كان المصرّيون يعتبرون النيل إلهًا، كذلك كانوا يقدّسون الضفادع. وكما تغلّب اللهُ على النيل، سيتصرّف في أمر الضفادع وَفْق مشيئته.
ما يهمّنا في هذا الحدَث هو أنّ فرعون فهِم أنّ الله هو من يأتي الآفة، وهو من يوقفها، ولهذا دعا موسى وهارون ليشفعا إلى الله من أجله. وما يهمّنا أيضًا هو دورُ موسى للتشفعّ إلى الله، وهو القدير بقدرة الله. قال موسى لفرعون: إقترح عليّ متى تشاء. قال فرعون: غدًا. قال موسى: كما قلت. ونعرف أخيرًا أنّ فرعون يَعِدُ بإطلاق الشعب، عندما تكون الضربة قائمة، ويعود عن وعده عندما تزول الضربة.

ثالثًا: الضربة الثالثة: البَعوض (8: 12- 15)
يَروي النصّ هذه الضربة الثالثة في بِضعة أسطر، ويشدّد على أنّ المعجزة لا تكمن في ظهور البَعوض، وهو أمر مألوف في مصر، بل في توقيت حصول الضربة: ضرب هارونُ ترابَ الأرض بعصاه فكان البعوض. إذًا، هناك تزامُنٌ بين قول الله وفعله، عَبْرَ شخص هارون.

رابعًا: الضربة الرابعة: الذباب المسمّم (8: 16-28)
نلاحظ للمرّة الأولى أنّ الضربة التي تضرب المصريّين لا تمسّ العبرانيّين، لأنّ الله يميّز بين أرض مصر ومِنْطقة جاسان، حيث يقيم شعبه، وفي ذلك علامة على أنّ الله نظر إلى شعبه بعطف، وعزَمَ على أن يخلّصه. الله حاضر حيث شعبُه حاضر، وهكذا سيعرف المصريّون أنّ العبرانيّين هم شعبُ الله. وسيعرف الشعب أنّ الله ليس بعيدًا عن البشر، عن الذين خصَّ نفسَه بهم، بل هو يسكن بينهم، يشاركهم في حياتهم وذُلّهم، ويحميهم من الآفة التي تضرب البلاد.
نلاحظ أيضا أنّ فرعون رضيَ بأن يُطلق العبرانيّين ليقدّموا ذبائحهم للربّ، ولكنّه لا يرضى أن يتركوا البلاد نهائيًّا، غير أنّ موسى لم يقبل بشروطه، لأسباب تتعلّق بالطقوس وشعائر العبادة: كيف سيذبح العبرانيّون لإلههم حيواناتٍ يصوّر المصريون آلهتَهم على صورتها؟
وهكذا نرى فرعون يتراجع شيئًا فشيئًا أمام الله القدير. بعد أن وعدهم وعدًا غامضا (8: 4)، ها هو يسمح لهم بتقدمة ذبيحتهم حيث يقيمون، ثم يسمح للرجال بمغادرة البلاد، دون النساء، والأطفال (10: 8-9)، ثم للجميع بمغادرة البلاد، على أن يتركوا قُطعانهم في مصر (10: 24). وأخيرًا، وبعد الضربة العاشرة، سيستسلم كليًّا بناءً لطلب موسى (12: 31-32)

2- ضرَباتٌ ثلاث (9: 1-35)
خامسًا: الضربة الخامسة: الوَباء (9: 1-7)
يقول النصّ إنّ الضرْبة صدرت عن الله الذي سيضرب المواشي في الرِّيف، ولكنّه يحمي مواشيَ العبرانيّين، فلا يموت شيء من جميع ما لبني إسرائيل (9: 4). ورغم كلِّ هذا يرفض الفرعون أن يفهم، أنّ الله يتدخل بواسطة موسى، ولذلك ما زال على قساوة قلبه، فلم يترك الشعبَ يذهب الى البريّة لعبادة ربّه.

سادسًا: الضربة السادسة: القُروح (9: 8-12)
يتصرّف موسى في هذه الضربة بطريقة سِحْريّة، أمّا السَحَرة فجَمَدوا مكانَهم، وما استطاعوا المجيء الى موسى بسبب القروح. ذرَّى موسى الرماد، فتحوّل قروحًا في الناس والبهائم، وهذه هي المرّةُ الأولى التي يقول فيها الكتاب إنّ الله بنفسه قسّى قلب فرعون استعدادًا للضربة الأخيرة.

سابعًا: الضربة السابعة: البَرَد (9: 13-35)
يروي الكاتب مطوّلاً هذه الضربة، ويتلوها بطريقة احتفاليّة، فيشدّد على مدلولها اللاهوتيّ قبل أيّ شيء آخر. أمّا البَرَد فأمرٌ مألوف في بلادنا الشرقيّة التي تعرف العواصف الشديدة والبَرَد المخرِّب. وأمّا الرعد والبَرْق والبَرَد فهي، بحسَب نِظْرة القدماء، تجلّي غضبِ الآلهة التي تعاقب البشر بالخراب الذي تحدثه قوى الطبيعة هذه.
تعوّدنا أن نقرأ كيف تتمّ الضربة: يأتي موسى أمام فرعون ويقول له أن يطلق الشعب، وإلاّ فستأتيه الضربة. ينفّذ موسى أمرَ الله، فيمدّ يده أو عصاه (9: 23) الى السماء فتنزل الضربة عنيفةً على أرض مصرَ كلِّها (9: 22-6). حينئذٍ يدعو موسى فرعونُ ليتشفعّ الى الله من أجله، ويَعِدُه بأن يُطْلِق الشعب. يقبل موسى بعرض فرعون، وهو متأكّد أنّه لن يَفيَ بوعده (27:9-30). ويتمّ ما يَعِدُ به موسى فيتوقّف البَرَد، ولكنّ فرعون ينسى ما وعد به (34:9- 35).
يذكر الكاتب في الآيات 14-16 أنّ ضرَبات الربّ هي امتحان لفرعون، فيعرف أنْ ليس على الأرض إلهٌ نظيرُ الله. كان بإمكان الله أن يزيل فرعون من الوجود، ولكنه لم يفعل. إنّ معجزات الله لا تهدف الى مَحْو "أعدائه"، بل الى إظهار مجده، فيرى الناس قدرته ويذيعون أعماله ويمجّدونه في كل الأرض. الله هو السيّد المطلق والحرّ في جميع أعماله. هذا ما قاله القدّيس بولس في رسالته الى أهل رومة (17:9)
في الآيات 19- 21 يعرض موسى على رجال فرعون إمكانيّةَ الهرب من الضربة الآتية: من يجعلْ مواشيه داخل البيوت يَحمِها من هذه الآفة. بعضهم سمع كلام الله، والبعض الآخر لم يأخذ بكلام الرب، فهلكت ماشيته. نلاحظ هنا أنّ التمييز يتمّ بين الذين هم شعب إسرائيل، والذين هم شعب مصر، ويتمّ أيضًا بين الذين يخافون الرب والذين لا يخافونه. نشعر هنا بانفتاح في عقليّة العبرانيّين الذين بدأوا يعتبرون أنّ الله ليس مُلكًا خاصًّا لهم، وأنّه يخلص أناسًا ليسوا من شعبه، شرطَ أن تكون مَخافته في قلوبهم. وهكذا كما حمى الرب أرضَ جاسان (9: 26) ها هو يَحمي المصريّين الذين سمعوا كلامَ موسى، وعملوا بحسب ما دعاهم إليه.
إعترف فرعون بخطيئته وأقرّ بعدل الله، عندما يضرب المصريّين لأنّهم أناس أشرار (رشع في العبريّة راجع رسع في العربيّة أي فَسُد واسترضى، وفي السريانية أثِم وأجرم وأساء).
3- الضرَبات الثلاث الباقية (10: 1 - 11: 10)

ثامنًا: الضربة الثامنة: الجراد (10: 1- 20)
بقي بعضُ الخضير الذي لم يُتلفه البَرَد، وكان قد طلع الذي تأخّر في تلك السنة، فلمّا جاء الجراد، وآفتُه معروفة في الشرق (كذلك الذي كان في لبنان إبّانَ الحرب العالميّة الأولى)، أكل جميعَ النبات في الحقول ودخل بيوتَ الناس.
كان العهد القديم يعتبر الجراد عِقابًا يرسله الله على بلد من البلدان (عا 7: 1-2). ورآه ناحوم (3: 15 ي) جيشًا يجتاح أرضَ الرب، ونظر فيه النبيّ يوئيل (ف 1-2) صورةً عن النَكْبة التي ستحلّ بالكون في اليوم الأخير.
بعد أن يذكر الكاتب أنّ الله قسَّى قلب فرعون وقلبَ رجاله، ليفهموا عظمة الله وقدرتَه (الآية الاولى)، نراه يتوسعّ في إعلان الضربة (الآيات 3- 6): ما رأى مثلَه آباؤُك ولا آباءُ آبائك منذ وُجدوا على الأرض إلى اليوم.
في هذه الضربة يبدو رجال فرعون، وللمرة الأولى، أكثرَ حكمةً وفطنة من مَلِكِهم. ينصحونه بأن يُطْلِقَ الشعب: ألم تعلم بعدُ أنّ مصر قد خرِبت (الآية 7)؟!
نتوقّف في الآية الثانية على ملاحظة لاهوتيّة تتعلّق بشعائر الطقوس والعبادة. يقول الكاتب إنّ هذه المعجزات ستكون تعليمًا لبني إسرائيل، فلا يَنْسَوْنَه مدى أجيالهم، ويقرّون أنّ يهوه هو الإله وحدَه. نفهم هنا أهميّة التعليم الدينيّ خلال الاجتماعات الطقسيّة: كانوا يَتْلون على المؤمنين قصّةَ هذه الأحداث، فيردّدُها المؤمنون على أبنائهم، وينشد الجميع عظائم الله.

تاسعًا: الضربة التاسعة: الظلام (10: 21-29)
كانت الضربة التاسعة ظلامًا غطّى أرض مصر ثلاثةَ أيام. وشَرْح هذه الظاهرة واضح في ما نعرفه من رياح "الخمسين" التي تجرُّ وراءها عاصفة من الرمل، فلا يجرؤُ الناس ولا البهائم أن يخرجوا الى الخارج. أمّا المعجزة فلا تقوم في وجود هذه الرياح، بل في أنّ هذه الرياح تطيع أمرَ الله، فتغطّي بظلمتها الأرض، وأنها تصيب المصريّين دون العبرانيّين.
الظلام على المصريّين، والنورُ على العبرانيّين، ظلامُ الوثنيّة في مصر ونورُ عبادة الله الواحد في شعب الله. لقد قرأ المعلّمون هذه المعجزة على ضوء كلام المزمور (27: 1) القائل: " الرب نوري وخلاصي"، أو المزمور (119: 105): "كلمتك مصباحٌ لخطاي ونور لسبيلي "، أو أشعيا (60: 2): "إنّ الظلمة تَغْشى الأرض، والديجورَ يشمُل الشعوب، ولكن عليكِ يا أورشليم يُشرِق الرب ويتراءى عليكِ مجدُه ". أمّا سفر الحكمة (17: 1-18: 4) فسيبيّن أنّ الظلمة أثارت خوفًا عظيمًا عند المصريّين؛ أمّا شعبُ الله فتمتعِّ بنورٍ حَمَله الى العالم، وهذا النور هو نور شريعة الرب.

عاشرًا: الإعلان عن الضربة العاشرة (11: 1-10)
يعلن الكاتبُ في هذه الآيات أنّ الله سيضرب بنفسه بلادَ مصر، وأنّ ضربته ستصل الى الفرعون ذاته، ولا توفر آخرَ عبد من عبيده (11: 5). لا شمكّ في أنّ الضربة السادسة (القروح) آلمت الناسَ في جسمهم وصحّتهم؛ أمّا الضربة العاشرة فسوف تحمل الموت الى الأبكار، بكرِ فرعون ووارثِ عرشه، وأبكارِ مصرَ المكرّسين لآلهة مصر.

ج- المعاني الكتابيّة: تأمّلات في ضرَبات مصر.
1- الواقع والحقيقة

هناك سؤال أساسيّ نطرحه على ذواتنا: هل يمكن أن نجد تفسيرًا طبيعيًّا لهذه الضربات العَشْر؟ يجيب الشرّاح: إنّ هذه الضربات هي عواملُ طبيعيّة تَحدُث في مصر، ولقد ذكرنا خلال تفسيرنا للآيات كيف تصبح مياه النيل دمًا، فتخرج الضفادعُ من الماء، وكيف أنّ البعوض والذباب أمرٌ مألوف في مصر، ولا سيّما عندما تتكاثر المياه. ولكن ما الفائدة من ذكر كوارثَ طبيعيّةٍ في كتاب نعتبره كلامَ الله؟
والسؤال الآخر الذي نطرحه: هل تمّت هذه الضربات فعلاً في سنة واحدة؟ أو في وقت يحدّده بعض الشراح بين شهر آب وبدايةِ السنة الجديدة ؟ وهل تمّت هذه الضرَبات حسب الترتيب الذي تحدّثت عنه هذه الفصولُ الأربعة من سفر الخروج؟
نجيب أوّلاً أنّ الكاتب لا يهتمّ بالأمور التاريخيّة والجغرافيّة بحدّ ذاتها، ونجيب ثانيًا: أنّ هذه الضربات حدثت في وقت من الأوقات، فرأى فيها كلٌّ من موسى وفرعون علامةً على غضب الله. ونجيب ثالثًا: هذه الكوارث يمكن أن تحدث كلَّ سنة، ولكنّها حدثت في "تلك" السنة بصورة حادّة وعنيفة، فجعلت الناس يتساءلون: أليس أنّ إصبع الله هنا؟ أليس اللهُ هو من يفعل هنا؟
لقد تعوّدنا أن نرى في المعجزة نَقْضَ الله لناموس الكون وشرائعه. ولكن لماذا ننسى أنّ الله يستطيع أن يستفيد من النواميس الطبيعيّة، ليزعزع ثِقة الإنسان بنفسه، ويدفعه الى القول: الله هو هنا؟ ولذلك إن فسّر المفسّرون هذه الضربة أو تلك، أنّها حادث طبيعيّ، يبقى أنّ ضربات مصر هي علاماتُ خلاص حقيقيّة، ونحن ننظر إليها داخلَ تاريخ الخلاص، ونعتبرها مرحلةً من مراجل الصراع بين الإله الحقيقيّ وأصنامِ مصرَ وملوكها.
إنّ قصّة الضربات التي يَرويها الكتاب هي أوّلاً فعلُ إيمان بالرب القدير الذي يتمّ مواعيده، ويؤكّد أنّه ذلك الإله الذي يخلّص شعبه، ويقاتل الآخرين ويضربهم إذا عاندوا، ويغفر لكلّ خائفيه ويجنّبهم الآفات. هكذا نقرأ خبر ضرَبات مصر، فنجد فيها صورة واضحة عن انتصار الله
2- البُنْية الأدبيّة

لما حلَّلنا الأخبار عن ضربات مصر، وجدنا فيها تقاليدَ عديدة. فالأحداث التي سبقت خلاص بني إسرائيل ورافقت خروجهم من مصر، هي مهمّةٌ جدًا. وهذا ما يفسّر لنا تعدّد العناصر التي تكوَّنت داخل التقليد الشفهيّ، ثم داخل التقليد الخطيّ، قبل أن يفسّرها الكاتب المُلْهَم على ضوء كلام الله. وكما أنّ الأناجيل الأربعة تَروي حدثَ موت يسوع وقيامتِه بطرق متعدّدة، فتتّفق في الجوهر وتختلف في بعض التفاصيل الطفيفة، كذلك تَروي تقاليدُ سفر الخروج أحداثًا مهمّة ترتبط بانتقال شعب الله من دار العبوديّة الى حريّة الحياة مع الله. فعلينا نحن أن ننظر إلى الحدَث ككلّ، ولا نتوقّفَ على التفاصيل إلاّ بقدْر ما تُلقي ضوءًا على عمل الله في شعبه.
ونتوقّف عند ملاحظات ثلاث:

الملاحظة الاولى تتعلّق بترتيب رواية الضرَبات. فالضربتان الأولى والثانية (تحويل الماء إلى دم، الضفادع) تأتيان من مياه النيل، والضربتان اللاحقتان تنقُلاننا الى عالم الحشرات (البعوض والذباب)، ثم تأتي ضربتان تلحقان الأذى بالحيوان والإنسان (الوَباء والقروح)، وبعدهما تلك التي تضرب الحقول والنبات (الجراد والبرَد)، وأخيرًا الضربتان اللتان تتمّان في الليل (الظلام وقتلُ الأبكار في نصف الليل). مثلُ هذا الترتيب يهدِف الى أن يبيّن لنا كيف أنّ الله توّسل بجميع الوسائل ليتمّم مخطّطَه الخلاصيّ من أجل شعبه.

الملاحظة الثانية تتعلّق بالتدرّج الصاعد في شدة الضربات وخطورتها: إنّ الله يضرِب بقوّةٍ فرعونَ وشعبه، فنحسّ بالنَكبة تصيب أكلَ الناس وشرابهم، ثمّ صحتَهم ومواشيهم، وأخيرًا حياتهم. تدرّج في الإعلان عن الضربات بلسان موسى. يبدأ الإعلان قصيرًا مقتضَبًا في الضرَبات الأولى، فيصل في الضربة العاشرة الى إعلان رسميّ واحتفاليّ يملأ الفصلَ الحاديَ عشرَ كلَّه. تدرّجٌ في موقف فرعون: في البداية لا يعبَأ بما يحصل، ثم يدعو موسى لكي تكُفّ الضربة، بعدها تأتي التنازلات: ليعيِّد العبرانيّون في مصر، ليذهبوا ولكن من دون نسائهم وأطفالهم ، ليذهبوا ولكن من دون مواشيهم. وأخيرًا يستسلم فرعون أمام عناد موسى.

الملاحظة الثالثة تتعلّق بطريقة الله في حربه على المصريّين. لقد قابل المعلّمون في إسرائيل اللهَ بقائد جريء يشُدّ الحصار على مدينة معادية. يحيط بالمدينة ويقطع المياهَ عن السكّان. فإن استسلموا كان ذلك لخيرهم، وإلاّ جعل الآلاتِ الموسيقيّةَ تُرعبهم بضجيجها. فإن استسلموا كان ذلك حسنًا، وإلاّ دفع بالرُّماة ليرموهم بسهامهم. فإن استسلموا كان حسَنًا، وإلاّ عرض جيوشه في المناطق ليدلّ على قدرته. فإن استسلموا كان حسَنًا وإلاّ قتلَ مواشيَهم وصبّ عليهم الزيتَ المَغْليّ، ورماهم بكُرات الحجارة، وتسلّق أسوارهم وقيّدهم في السجون. فإنِ استسلموا كان خيرًا وإلاّ قتلَ رؤساءهم.
هذا ما فعله الله بالمصريّين. قطع عنهم المياه لمّا حوّل ماء النيل إلى دم، ولكنهم رفضوا أن يُطلِقوا العبرانيّين. أرسل إليهم الضفادعَ بنقيقها، لكنّهم رفضوا أن يطلقوا العبرانيّين. أرسل عليهم الذباب فوخزهم بسُمه، ولكنهم رفضوا أن يُطلقوا العبرانيّين. أرسل عليهم البعوض فظلّوا على رفضهم. قتل مواشيهم فظلّوا رافضين. أرسل إليهم القروح واللدَغات، وضرَبهم البَرَد بحجارته، وصعد الجرادُ عليهم كما على سلّم، ولكنّهم ما زالوا على رفضهم. أرسل عليهم الظلامَ فسجنهم في بيوتهم، ولكنّهم رفضوا أن يطلقوا العبرانيّين. حينئذ قتل لهم أبكارَهم.
ولكنّ الله يختلف عن رجلِ الحرب الذي يفاجىء عدوّه بهجومه ويداهمه بضرباته، الى أن يرميَه أرضًا فيقتله. فهو يحذّر فرعون عشرَ مرّات قبل أن يضرُب، فيترك له عشْرَ مرّات مكانًا للتوبة. وقبل أن يعاقبه يعفو عنه عشْرَ مرّات. إنّ فرعون في هذا السبيل يمثّل الخاطىء المتصلّب في خطيئته. هذا ما قاله الآباء الروحيّون .
3- المدلول اللاهوتيّ

يتنوّع المدلول اللاهوتيّ بتنوّع التقاليد التي روَت أحداث الخروج. فالمعجزة تَهدِف الى معاقبة شعب مصر الذي يرفُض أن يُطلق الشعب، أو تشدّد على إظهار قدرة الله ومجدِه أمام المصريّين، وأمام السَحَرة المعتدّين بسِحْرِهم. إنّ المواجهة بين عالَم الدِّين وعالَم السِحّر تبدو جليّةً واضحة.
ونرى أن قساوة قلب فرعون تبدو في وُجهَتين مختلفتين وغيرِ متعارضتين. في وُجْهة أولى نرى فرعونَ يقسّي قلبَه ويعانِد (خصوصًا في الضربات الأولى)، وفي وُجهة ثانية نرى الله يقسّي قلب فرعون، لأنّه لا يريد أن يكون انتصاره انتصارًا جزئيًّا. لا بدّ من أن يتورّط فرعون ورجاله في الحرب حتى النهاية. ولا بدَّ من أن يظهر كُفرُ الخاطىء وعنادُه قبل أن يتغلّب الله حقًّا عليه. في هذا السبيل قال القديس بولس عن الله: إنّه يرحم من يشاء، ويقسّي قلبَ من يشاء، ولا يسمح للإنسان أن يعترض (روم 18:9، 20)
ونلاحظ أخيرًا الطابعَ الليتورجيّ لرواية ضرَبات مصر. فهذا النصّ الطويل كان الكهنة يقرأونه على مَسامع الشعب خلالَ الاحتفال بعيد الفصح، فيتعلّم المؤمنون وأولادُهم كيف نجّى الله شعبَه في الماضي وكيف سينجّيهم في الحاضر. فالليتورجيّا تجعل الماضيَ حاضرًا، وتساعد المؤمنين على عيش تاريخ الخلاص، وكأنّهم اشتركوا في أحداثه. وهنا نفهم أهمّيةَ ما يتردّد في النصّ من عبارات: أطلِق شعبي ليعبدوني، مُدَّ يدك، مُدَّ عصاك، وتقسّى قلب فرعون، كما قال الرب... هذه العبارات تقف كمحطّات في سِياق الرواية، فتؤلّف عناصر الرواية، وتسيطر على عقل وقلب القارىء أو السامع فيفهم أنّ المهمّ في هذه القصة أن يُطلق فرعونُ الشعب (راجع فعل شلح في العبرية) ويتركَه يخرج من أرض مصر ليعبُد ربّه في البرية.
بهذه الطريقة كان بنو إسرائيل يتعلّمون العِبرةَ من التاريخ، وهم يحتفلون بطقوسهم وأعيادهم. كان المؤمن يتذكّر في حياته اليوميّة وفي حياة الجماعة التي ينتمي إليها، ما فعل الله لشعبه من خلاص، وكان يفهم أنّ هذه الأحداث هي تعبير عن كلمة الله التي تدعوه إلى العودة إلى ربّه بالتوبة والندامة.
4- رواية ضرَبات مصر تعليمٌ دينيّ للمؤمنين

عندما أقام بنو إسرائيل بكنعان، ووعَوا تاريخهم الفريد، احتفظوا في ذاكرتهم ببعض النكبات التي حلّت بمصر، يوم ترك آباوهم تلك البلاد. فانطلقوا من تلك الذكرَيات، وفسّروا مسيرة آبائهم والصعوبات التي لاقوها على ضوء تدخّل الله في التاريخ. إنطلقوا منها، فنظموها رواية تَدخُل في إطار القراءات التي تُتْلىَ خلالَ فترة الأعياد.
وهكذا صار التاريخ أساسًا للتعليم، فروى الرواة الذكريات التاريخيّة، بسبب مدلولها الديني، وطبعوها بطابع تعليم الأنبياء والحكماء، فصارت أمثولة للمؤمنين تذكّرهم بأعمال الله من أجلهم. من هذه الرواية سيتعلّم المؤمنون أنّ الله يريد أن يكون شعبه حرًّا من كل عبوديّة، ليعبُدَه بحرية أبناء الله، وأنّ الإنسان الذي يعارض الله هو من يقسّي قلبَه، وأن لا شيء يقف أمام إرادة الله التي ستفرِضُ نفسَها عاجلاً أم آجلاً.
وهناك تعليمٌ نَبويّ عن هذه الأحداث، ونظرةٌ الى الأمور على ضوء كلام الله ومتطلّباته، فتصبح أعمال الله كلامًا حيًّا يتوجه الى المؤمنين. عندما تحدّثنا عن الضربة الثامنة، ذكرنا النبيّ يوئيل الذي يحدّثنا عن الجراد، ونذكر الآن عاموس (4: 6-12) يحدّثنا عن نكبات حلّت بالأرض كالجوع والجفاف والوباء والجراد، وكلُّ نَكبة تنتهي بالردّة ذاتها، "ولكنّكم لم ترجعوا إليّ". لقد توجّب على بني إسرائيل أن يفهموا لغةَ الله في هذه الأحداث التي هي علامة وتنبيه وعِبرة، فهل فعلوا ؟!
اجل إنّنا نجد في هذه الفصول تعليمًا يدلّنا على كلام الله، ونداءً يدعونا للرجوع إليه، فإن رفضْنا أن نسمع له كانت حالتُنا الى الشقاء، وكان عقابنا قاسيًا، إذ نلاقي وجه ربّنا بالبكاء والنحيب (عا 5: 16-18)
لقد كشف الله عن ذاته للمصريّين يومَ تدخّل في التاريخ، فعرف العالم أنّه الإله الحاضر والفاعل في الكون. هذا التدخّل في الكون يسمّيه الأنبياء قضاءً، يكون فيه الخلاص للذين هم حِصّة الله، والهلاكُ للذين يرفضون الله. وهكذا تتّخذ الضرَبات العشْرُ أبعادًا إسكاتولوجيّة (تث 7: 15؛ 58:28- 1 6) لأنّها بداية دينونة العالم (يو 31:12).
يوم حلّت الضرَبات بمصر، لم يكن العبرانيّون شعبَ الله بعد، ولن يصبحوا شعبَ الله إلاّ بعد عهد سيناء. غير أنّ الرواية التي قرأناها عن الضربات، بدأت تميّز شعب الله عن سائر الشعوب.
فبنو إسرائيل شعبٌ جُعلوا جانبًا، فُصلوا عن سائر الشعوب ليعيشوا حياة تتمّيز عن حياة سائر الناس. ولهذا يجب عليهم أن يرتحلوا، أن يتركوا أرضَ مصر، أرضَ العبادات الوثنيّة. وهنا نتذكّر يوم أقام إبراهيم في مصر، وما لحق بفرعون من ضربات (راجع أيضًا "نجع" في العبريّة) لأنّه أخذ سارة، امرأة إبراهيم، زوجةً له. وانتهت قصّةُ إبراهيم، كما ستنتهي قصّةُ أبنائه، بالرجوع إلى أرض كنعاْن، إلى أرض الربّ ليعبدوه هناك، ولا يعبدوا إلهًا غيرَه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM