الفصل الثاني: اِنْطلاَقُ مُوسَى لِتَحْريرِ شَعْبِه

الفصل الثاني
اِنْطلاَقُ مُوسَى لِتَحْريرِ شَعْبِه
3 : 1 – 7 : 7
أ- مقدّمة
يروي هذا الفصل نداء الربّ لموسى (3: 1-4: 17)، وأمْرَه له بأن يعود الى مصر (4 : 18- 31) ويذهب الى مَلِكها (5: 1-6: 1)، ثم يُفهمه المهمّة التي يلقيها على عاتقه (6: 2-7:7): سأخرجكم من تحت نير المصريّين.
ترجع نصوص هذا الفصل الى التقاليد الثلاثة، فإلى التقليد اليَهْوَهيّ ترجع الآيات (3: 2- 5، 7-8، 16- 20؛ 4: 1-16، 19-20، 22- 31؛ 5: 1، 3، 5، 23). والى التقليد الإلوهيميّ ترجع الآيات (3: 1، 4، 6، 9، 15، 21-22؛ 4: 17-18، 20- 21؛ 5: 1-2، 4 ؛ 6: 1 ). وإلى التقليد الكهنوتيّ ترجع الآيات الباقية وفيها نسخة جديدة عن نداء الرب لموسى وإرساله إيّاه في مهمّة تحرير شعبه.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة
1- نداء الله لموسى (3: 1-17:4)

هذا الخبر الطويل مهمّ جدًا لأنّه يروي لنا كيف سمع موسى نداء الربّ له ليحرّر شعبه. ولقد قابل الشرّاح نداء الرب لموسى بنداءاته للأنبياء (عا 7: 1 ي؛ اش 6: 1 ي؛ ار 1: 1 ي؛ حز1: 1 ي)، فوجدوا بينها عناصر مشتركة: نحن أمام رؤية فائقة الطبيعة، يتبعها كلام يُعلم المدعوّ بالمهمّة الموكولة إليه: عليه أن ينطلق الى الناس ويكلّمهم. أمّا ردّة الفعل عند المرسل فجَزَع واضطراب، وخوف وتردّد. ويجادل النبيّ ويناقش الله، فيَعِدُه الله بأن يكون معه ويساعده في ضعفه. وأخيرًا يعطي الله النبيَّ علامة تثبت صحّة رسالته في عينيه وفي نظر الآخرين.
موسى هو نبيّ، بل أكثر من نبي، لأنّه لا يكتفي بأن يندّد بخيانة الشعب وينذرهم بدينونة الله، بل سيعمل على إخراجهم من العبوديّة وعلى توعيتهم أنّهم شعب الله. ولكنّه يشبه الأنبياء في تردّده وهربه: شعر بضعفه أمام المهمّة الملقاة على عاتقه ؛ ولكنّ خوفه من غضب الله جعله يطيع الله ويذهب الى لقاء أخيه هارون كما أمره الرب.
أمّا الأشخاص الذين سيظهرون على مسرح الأحداث فهم: الله الذي يكشف عن ذاته حضورًا فاعلاً، موسى الراعي الذي يصير قائد الشعب، شيوخ بني إسرائيل، شعب إسرائيل الذي تتقاذف به الظروف، الفرعون الذي ستصيبه ضربات الله، وهارون الكاهن الذي يتكلّم باسم موسى.

أولاً: رؤية العلّيقى المتّقدة (3: 1-6)
(آ 3: 1) موسى الراعي. الله هو راعي إسرائيل وهو يسلّم الى بعض الناس أمر رعاية شعبه (2 صم 2:5 ؛ ار 8:2؛ اش 40: 11). لقد أعطي لقب الراعي للملوك والرؤساء في الشرق القديم، ولهذا يعلن الكتاب أنّ موسى استعدّ ليلعب دوره كرئيس للشعب، فكان مثل داود راعيَ غنم.
الجبل هو جبل الله، لأنّ الله تجلَّى هناك مرّة أولى لموسى، ومرّة ثانية لكل الشعب. سمّاه التقليدان، الإلوهيميُّ (17: 6؛ 33: 6) والاشتراعيّ، (تث 1: 2-6) جبلَ حوريب، أي أرضَ الخراب والقَفْر، وسمّاه التقليد اليَهْوَهيّ (19: 11، 18) والكهنوتيّ (لا 38:7؛ عد 1: 1) جبلَ سيناء، أي أرضَ سين، الإلهِ القمر عند الساميّين.
يترو هو حَمُو موسى بحسب التقليد الإلوهيميّ (رج 18:4 ؛ 18: 1ي).
(آ 2) ملاك الرب هو الرب ذاتُه كما يظهر للبشر بشكل منظور. في الآية الرابعة سنسمع الله يتكلّم، لا ملاكَه.
العلّيقى. في العبرّية "سنة" وهي قريبة من كلمة سيناء. أمّا في العربيّة فالسَّنى يعني البرق وهو رمز اتّخذه الربّ ليعلن به حضوره على شعبه. الله حاضر في النار المتوقّدة أو الآتية برقًا من السماء.
كيف سخَّر الله الطبيعة ليدلّ على حضوره؟ هل نزلت صاعقة فأحرقت العلّيقى؟ خاف موسى وزاد خوفه، عندما رأى العلّيقى تتّقد ولا تحترق، فعرف أنّه أمام حضور إلهيّ. ولكن من يستطيع يرى الله دون أن يمُوت (33: 20؛ تث 18 : 16؛ لا 16: 20) لأنه نار آكلة (17:24 ؛ لا 23:9-24)؟
(آ 3- 4) ناداه الربّ مرّتين كما نادى إبراهيم (تك 22: 11) وكما نادى يعقوب (تك 2:46).
إكتشف موسى حضور الله عبر هذه العلّيقى، كما اكتشفه يعقوب عبر السلّم في بيت إيل (تك 28: 10-22) وإيليّا عبر نسيم الهواء.
(آ 5) المكان مقدّس، مكرّس لله، يخصّ الله. إذا على المؤمن أن يخلع نعليه لئلا ينجّس المكان بما يحمله حذاؤه من غبار (رج يش 5: 25)، وليكون أمام الله في موقف "الكاهن " الذي لا يملك شيئًا وينتظر من الله كل شيء.
(آ 6) أنا إلهُ أبيك. ليس يهوه إلهًا مجهولاً. هو إله الآباء الذي تذكّر شعبه وجاء ليخلّصهم. لقد نجّى الآباء في ضيقهم، وها هو يلتفت بعطف الى أبنائهم.
ثانيًا: مهمة موسى ورسالته (7:3-12).
لم يكن مشهد العلّيقى إلاّ مقدّمةً ليوصل الله وحيه الى عبده، ولهذا سننسى العلّيقى وغرابتها، لنسمع كلام الرب كما وصل الى أذنَي موسى وقلبِه: لقد أعلمه الله بإرادته، وسلّم إليه مهمة ورسالة.
(آ 7:3) رأى الله عناء شعبه وشقاءهم. (رج 1: 11، تك 32:29؛ 42:31؛ تث 7:26).
(آ 8) نزل الله لينقذ شعبه. بهذه الطريقة الأنتروبّومورفيّة التي تشبّه الله بالبشر (رج 1 :23-25: ذكر، رأى، عرف) نفهم أنّ إله الكتاب المقدّس لا يعيش في عَلْيائه لأ بل ينزل بين البشر ويتدخّل لينقذ الضعفاء.
نقرأ فعل "نصل " الذي يعني اخرج ، اقتلع، جرّد، لنعبّر عن عملية الانقاذ التي قام بها الله. كما ينتزع الراعي الفريسة من فلا الأسد (عا3: 12 ؛ 1 صم 17: 35-37)، هكذا يفعل الله، وفعله لا يتمّ من دون عذاب وألم.
أرض تدُرّ لبنًا وعسلاً. هي عبارة قديمة نجدها في أناشيد كنعانيّة، وهي تدلّ على الغنى والوفرة التي تتفوّق بهما أرض كنعان على البرّية والصحراء (13: 5؛ 33: 3؛ عد 13: 27؛ 14: 8؛ تث 6: 3؛ 11: 9). إنّ الأرض التي وعد الله بها الآباء، هي أرضٌ يباركها بحضوره، ولكنّها مِنطقة جغرافيّة يسكنها عدد من الأمم.
الكنعانيّون والأموريّون هم سكان كنعان الأوائل. الحثيّون جاؤوا من آسية الصغرى الى أرض كنعان، الفرزيّون والحوّيون سكنوا جبال كنعان الوسطى، واليبّوسيّون أقاموا في المِنطقة المحيطة بأورشليم (قض 19: 10؛ رج تك 10: 15-17؛ 15: 20- 21) وسيحتلّ داود عاصمتهم يبوس، ويسمّيها أورشليم (2 صم 5: 6-8)
(آ 9- 10) صرخ الشعب فأرسل الرب موسى اليهم. قال له "لك " أي تعال، اذهبْ. تلك هي كلمة الله عندما يرسل أنبياءه (عا 15:7؛ هو1: 2؛ اش 19:6) ورسله ( لو10 :3؛ مت 19:28). أما مهمّة موسى فواضحة ومحدّدة: تحرير بني إسرائيل.
نجد توازيًا بين آ 7-8 وآ 9- 10 . في المرّة الأولى رأى الله عناء شعبه، وسمع صراخهم، فنزل ليصعدهم من مصر الى كنعان. في المرّة الثانية رأى الله... فأرسل موسى ليخرج الشعب. يفعل الله بذاته أو يفعل بواسطة من يرسله. يَعزُم على إنقاذ شعبه، ثم يبدأ بتنفيذ عزمه فيرسل موسى عبده.
(آ 11-12) خاف موسى وتردّد مثل إرميا (1: 6) وأشعيا (6: 5)، ولكنّ الرب وعده بحضوره معه كما وعد الأنبياء: أنا سأكون معك (ار 1: 8، 19؛ اش40: 10) هذه هي الصعوبة الأولى التي تعترض طريق موسى: ليس موسى إلاّ راعيًا فارًّا من وجه العدالة ، فكيف له أن يلقى وجه فرعون؟ ثم كيف له أن يُخرج جماعة من العبيد تحتاج إليهم مصر في أعمالها العمرانيّة؟ إنّها لمغامرة صعبة. ولهذا قدّم موسى اعتراضه الأول، فلم يُجِبْه الربّ على طريقة البشر ليقنعه، بل أعطاه علامة عن حضوره معه، ليجعله يتغلّب على كل تردّد يدفعه إلى أن يعتبر المهمّة تفوق قواه.
أمّا العلامة فهي مجيء الشعب الى هذا الجبل ليعبدوا الله فيه. تتميّز هذه العلامة الأساسيّة عن العلامات التي سيجعلها الرب بيد موسى، ليدلّ الفرعون على قدرة الله. هذه العلامة البعيدة ستكون تحقيقًا لوعد الله في المستقبل، وتأكيدًا لموسى بأنّ رسالته لن تفشل في النهاية، لأنّ الكلمة الأخيرة هي للرب مهما تلكّأ البشر في تنفيذ ما يأمرهم به. وهكذا عندما يُنتزع شعب الله من عبوديّة مصر، فهو لن يعيش في حريّة فوضويّة، بل في حريّة عباد الله، تسود حياتهم شريعة الله.

ثالثًا: يهوه اسم الرب (3: 13- 15 ).
وها هي الصعوبة الثانية. ولهذا يعترض موسى: باسم من أتكلّم، ما هو اسم الله الذي يرسلني الى أبناء شعبي والى فرعون؟
إسمه "يهوه "
أصل كلمة يهوه يرجعها بعضهم الى " هوا "، فيشبّهون الله بالنسمة والريح، ويرجعها بعضهم الآخر الى "هوى" (سقط، هلك) فيتحدّثون عن الله الذي يُسقط ويهلك المتكبّرين ليرفع المتواضعين. وأرجعه التقليد الملهم الى "هو" أي الكائن. بهذه الصورة يبدو النصّ تأكيدًا، لا لوجود الله المطلق كما حدّده اللاهوت في ما بعد، بل لوجود الله تجاهَ الآلهة الباطلة، والتي ليست بآلهة (رج اش 41: 24؛ 43: 10)0 الله هو الكائن الفاعل في الكون. يفعل اليوم ويفعل غدًا، وهو يكشِف عن ذاته من خلال عمله في الكون.
وهناك شرح آخر يعتبر أنّ الله رفض أن يُعطي اسمه، لأنّ معرفة الاسم عند الساميّين القدماء تعطي سلطة على الشخص. فهل للإنسان سلطة على الله؟ ويقولون: عندما يعرف الإنسان اسم الله، يفرض عليه طلباتِه، ويُجبره على تحقيقها له. هذا بالنسبة الى الآلهة، أمّا يهوه فهو يتميّز عن هذه الآلهة، وقد رفض أن يُدْلي باسمه الى يعقوب (تك 30:32) ومنوح، والد شمشون (قض 8:21) لأنّ اسمه عجيب. إنّه الإله الحقيقيّ الذي لا يُسْلم الى البشر اسمه أي جوهره ، بل يكتفي بأن يدلّهم الى "لفظ " ينادونه به في ساعة الضيق. الله فوق الإنسان بصورة تفوق الإدراك، فلا يستطيع الإنسان أن يسمّيه. في هذا الخطّ الذي يحافظ على قدسيّة الله وسموّه، سيرفُض التقليد اليهوديّ في ما بعد حتى التلفّظَ بكلمة يهوه، فكانوا يقرأون يهوه ويلفظون "أدوناي " أي السيّد والربّ (في اليونانيّة كيريوس). وسوف يأتي وقت يلفظون كلمة سماء (أي مسكن الله) ليتحدّثوا عن الله (مت 13: 24، 31، 33؛ 25: 1 ملكوت السماوات تعني ملكوت الله).
إسم يهوه قديم جدًا، والدليل على ذلك الأسماء المعروفة في ذلك الوقت (يوكابد، والد موسى، ومعنى اسمه مجد يهوه). كان التقليد اليَهْوَهيّ وهو تقليد الجنوب القريب من مديان، يعتبر أنّ عبادة يهوه معروفة منذ بداية البشريّة (تك 4: 16). أمّا التقليد الإلوهيميّ (تك 3: 9-15) وهو تقليد الشمال القريب من فينيقيا وآرام، فهو يعتبر مع التقليد الكهنوتيّ (تك 6: 2-3) الذي يشدّد على تميّز شعب الله عن سائر الشعوب، أنّ الله أوصى باسم يَهْوه الى موسى، وأنّ عبادة يهوه بدأت حياة شعب الله في برّية سيناء.
يهوه هو الإله الحاضر مع موسى ليساعده في عمل الخلاص الذي سيقوم به (3: 12؛ 4: 12-15). يهوه هو الإله الحيّ، وهو يتميّز عن الأصنام التي هي آلهة لا تتكلّم، وعنها يقول سفر المزامير (115: 5-7): "لها أفواه ولا تتكلّم ، لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشمّ، لها يدٌ ولا تَلْمس، لها أرجل ولا تمشي ". أمّا يهوه فهو من يتفقّد شعبه ويزورهم، فيرسل إليهم موسى ليخرجهم من مصر.
إنّ الوحي الذي وصل الى موسى ليس وحيًا مستقلاً، بل هو يرتبط بإله الآباء الذي كلّم موسى كما كلّم قبله إبراهيم وإسحق ويعقوب. وعد الرب الآباءَ بأرض كنعان، وها هو يَشْرَع في تحقيق ما وعد به لأبناء هؤلاء الآباء. وإذا كان موسى قد اكتشفت اسمًا للربّ الذي ظهر له في العلّيقى، فهذا الربُّ هو ذاته الذي عبدَه الآباء، وسيبقى "ذِكرًا" لأنه يساعد الناس على ذكر الله وتسبيحه وتمجيده، ويساعد الله أن يتذكّر الذين يدعونه فلا ينساهم.

رابعًا: برنامج العمل الذي حدّده الله لموسى (3: 16-22).
هذا المقطع هو إعادة موسَّعة لِما قرأناه في 7:3-8 وتوضيح لمهمّة موسى.
(آ 3: 16-17). إلتقى موسى شيوخ الشعب وأوصل إليهم رسالة الله.
الشيوخ هم رؤساء العشائر والوجهاء الذين يمثّلون بني إسرائيل.
تفقّدتُكم ورأيتكم. لقد عزم الله على زيارة شعبه لا ليعاقبهم (عا 3: 2)، بل ليتفقّد أمورهم ويخلّصهم (رج اش 10: 30)
(آ 8 1-19) التقى موسى بفرعون، ورفض فرعون السماح للشعب بالخروج من مصر.
طلب موسى أن يذهب الشعب مسيرة ثلاثة أيام ليذبحوا للرب. هذه الأيَّام الثلاثة لا تعني الوقت اللازم لقطع المسافة بين مكان إقامة بني إسرائيل وجبلِ سيناء، بل تعني الزمنَ اللازم لقطع مسافة يمكن أن تكون كبيرة (8: 32؛ 15: 22؛ رج تك 30: 36) قبل القيام بعمل طقسيّ (رج تك 22: 4). إنّ الربّ يريد أن يُخرج شعبه من مصر ليذبح له ذبيحة. فهو بعد أن التقى موسى، يودّ أن يلتقي الشعبَ كلّه ليقطع معهم عهدًا، بموجبه يكون لهم إلهًا ويكونون له شعبًا. يتذكّر النبي هوشع (13: 5) والني إرميا (2: 2) هذه الإقامة في البريّة، فيعتبرونها أطيبَ أيام الله مع شعبه.
(آ 20) سيتدخّل الرب ويضرب مصر. يتحدّث الكاتب عن المعجزات، أي تلك الأمور الخارقة العادة، التي يعجز البشر أن يأتوا بمثلها. هذه المعجزات (فلا في العبرّية) ستَفُلُّ عزمَ فرعون فتحدِث خللاً في إرادته، عندما يرى الضرباتِ تَحِلّ بمصر.
يد الله تعني عمله وقدرته (6: 1؛ 7: 5؛ تث 15:2). يده قويّة (3:13؛ تث 3: 24) والربّ يَمُدّها. يَبسُطها عندما يريد أن يقوم بعمل ما (7: 5؛ اش 5: 25؛ حز 14:6)، فلا يقف بوجهه شيء (تث 34:4؛ 15:5؛ 19:7).
(آ 21-22) الاحتفال بعيد دينيّ يفرِض على المؤمن أن يلبس أجمل الثياب (رج هو 13:2) وأن يتزيّن بأثمن الحِلى. من أجل ذلك سلَبَ العبرانيّون المصريّين، واعتبرَ سفرُ الحكمة (10: 17) أنّ ما أخذه بنو إسرائيل كان تعويضا لهم عن سنوات عبوديّتهم في مصر.

خامسًا: الآيات والمعجزات (4: 1-9).
ذكر موسى الصعوبة الأولى (3: 11-12. من أنا يا رب؟)، وذكر الصعوبة الثانية (3: 13-22. ما اسم هذا الاله ؟)، وها هو يذكر الصعوبة الثالثة: لن يؤمنوا بكلامي، لن يصدّقوني. حينئذ أعطاه الله سلطانًا يصنع به الآيات التي هي علامة على أنّ قدرة عُلويّة ترافق موسى.
هذه الآيات التي يأتيها موسى تُثبت سلطته أمام الشعب، وتؤكّد لفرعون وسَحَرته أنّ إله العبرانيّين يفوق آلهة المصريّين. يستطيع سحَرة مصر أن يحوّلوا العصا إلى حيّة، ولكنّهم لا يقدرون أن يَحموها من حيّة موسى (7: 10-13). إنّ قدرة الله بواسطة ممثلّيه أقوى من كل وسائل السِّحر والشَعْوذة.
(آ 4: 1-5) المعجزة الأولى: العصا تتحوّل الى حيّة. العصا هي عصا الراعي. سيكلّمنا الكتاب في ما بعد عن عصا الله (4 : 17- 20)، ثم عن عصا هارون الذي يصنع بها بعض المعجزات بناءً على أمر موسى (8: 1، 12).
(آ 6-7) المعجزة الثانية: اليد الصحيحة تصير برصاء.
(آ 8) يتحدّث الكتاب عن الآية التي يجب أن يؤمن بها الشعب ويفهم ما تَعني له. الآية هي عمل خارق يدلّ على حضور الله وعمله، هي علامة يحصَل بها الإنسان على حقيقة عمل الله فيعرفُه ويدركه.
(آ 9) المعجزة الثالثة: تحويل ماء النهر الى دم.
هذه المعجزات والعجائب هي أعمال سابقة لما سيصيب مصر على يد موسى من ضرَبات. فتحويل الماء الى دم سيتمّ في الضربة الأولى (7: 14-19)، وتحويل العصا الى حيّة سيكون مقدِّمة لسلسلة الضرَبات. أمّا تحويلُ اليد الصحيحة الى برصاء فلا نجد ما يقابلها في سلسلة الضربات.
في هذا الإطار الليتورجيّ واللاهوتيّ نعرف أنّ المجابهة ليست بين موسى ومصر، بل بين إله موسى وآلهة الفرعون. سلاح موسى يشبه الى حدِّ بعيد سلاح فرعون، وسَحَرتُه سيصنعون الأعمال العجيبة التي يأتيها موسى وهارون (7: 11، 22؛ 8: 3). لقد تنازل الله إلى مستوى السحَرة وممارساتهم، ولكنّهم لا يُعتّمون أن يُقرّوا بهزيمتهم.
هذه المعجزات التي أُعطي لموسى أن يأتيها هي بداية المجابهة بين الله ومصر، وعُربونُ حضور الله مع مَن أرسله من خلال المهمّة التي أوكلت إليه. ومادّة هذه المعجزات ترتبط بقوى عُلْويّة حسَب مفهوم الساميّين. فالحيّة تحمل بحضورها النحْس والسَعد (تك 3: 1؛ عد 21: 4-9؛ 2 مل 18: 4)، والبَرَصُ مرض مخيف لا يكشفه أو يشفيه إلاّ الكهنةُ والعلماء (لا 3 1-14)، والدّمُ مركزُ حياة الله وقوّته في الإنسان (لا 17: 1 ي).

سادسًا: هارون رفيق موسى (4: 10-17).
الصعوبة الأخيرة: يقول موسى عن نفسه إنّه ليس خطيبًا، إنّه لا يعرف أن يتكلّم، فكيف له أن يحمل رسالة شفهيّة باسم الله؟ قال له الله إنّه معه، وإنّه سيعلّمه ما يقوله، غيرَ أنّ موسى رفض القيام بالمهمّة وطلب الى الله أن يرسل غيره. حينئذ حدّثه الرب عن هارون كرفيق له في رسالته.
هارون هو اللاوي (رج قض 7:17) ووظيفته أن يعلّم الشريعة (لا 10: 11؛ تث 33: 10)، وهذا يفرض عليه أن يكون رجلاً متكلّمًا.
هذا النصّ هو أوّل نصّ يذكر فيه الكتاب هارون، شقيقَ موسى (6: 20 ؛ عد 26: 59)، وسيعطيه سفرُ الخروج (7: 1 ي) دورًا كبيرًا في الأحداث المحيطة بتحرير الشعب. لا شكّ في أنّ دوره الكهنوتيّ سيتحدّد ويتوضّح في ما بعد، فيسمّى رئيسَ الكهنة اللاويين. أمّا في هذا المقطع فدورُه النبويّ (هو فم موسى) يتغلّب على دوره الكهنوتي.
الله هو من يضع كلامه في فم نبيّه، وهو من يوحي إلى نبيّه بما يقوله (عد 38:22؛ 23: 5-16 ؛ ار 1:9). كما أنّ الله يضع كلامه في فم موسى، كذلك يضع موسى كلامه في فم هارون. إنّ كلام الله يمرّ عَبْر الأنبياء، فيصل الى الكهنة الذين يردّدونه على مسامع الآتين الى الهيكل، ويخبرونهم بأعمال الله ويَدْعونهم الى تمجيده.
إنّ النبيّ هو فم الله، لأنّ رسالته ترتبط بما سيتلفظ به فمه من كلام. دعا الربّ أشعيا (6: 6-7) فَطهَّر السرافيم شفتيه بجمرة، ودعا ارميا (1: 9) الذي جعل يده على فمه، ودعا حزقيال (3: 1-2) ففتح فمه وأمره بأكل الدرج الذي رآه. فهم موسى أنّ الله هو من يعطي الإنسان فمًا (4: 11) ، ويكون مع فم النبيّ ليعلّمه ما يقوله (4: 2، 15) ، ويعطي موسى فم أخيه هارون. فإذا كان موسى نبي الله، فهارون هو نبي موسى، بمعنى أنّه يتكلّم عنه وباسمه .
نرى في هذا المقطع كيف يتردّد موسى في الجواب إلى نداء الرب. هكذا تردّد إرميا وغيرُه من الأنبياء. إنّ النبيّ الحقيقيّ لا ينتحل لنفسه صفة النبوءة، لأنّه يعرف الصعوبة التي تواجهه في حمل كلمة الله. أراد موسى أن يتهرّب، أن لا يطيع، وهرب يونانُ من وجه الرب. أجل، لا أحد يدّعي لنفسه أيّة كرامة، سَواءٌ أكانت نبوءة أم كهنوتًا، إلاَّ إذا دعاه الله كما دعا هارون (عب 5: 4) وغيرَه ممّن اختارهم وأرسلهم ليحملوا ثمرًا يدوم (يو 15: 8).
2- رجوع موسى الى مصر (4 : 18- 31)

يكوّن هذا المقطع نقطة اللقاء بين اجتماع الله بموسى، ووقوف موسى وهارون لأوّل مرّة أمام فرعون. نحن هنا أمام مجموعة عناصر دُوّنت من أجل القراءة الليتورجيّة.

أولاً: الانطلاق والرحيل (4: 18-23).
عزمَ موسى على الرجوع الى مصر (آ 18) على ضوء كلام الله له (آ 19)، فذهب يستأذن حَماه. ولكنْ لماذا عومَ على الرحيل؟ هل أراد أن يرى إن كان العبرانيّون لا يزالون أحياء (آ18)؟ أم هل كان طالبو حياته قد ماتوا (آ 19)؟
إنطلق موسى مع امرأته وابنيَه، مع أنّ له ابنًا واحدًا (رجِ 2: 22). هذا إذا تركنا جانبًا ما تزيده بعض الترجمات، لتُضني على النصّ طابَعاً منطقيًّا يتلاءم والآيات 18: 1-6.
(آ 4: 21) يصنع موسى أمام فرعون معجزات كان قد صنعها أمام بني إسرائيل. هذه المعجزات يسميّها الكتاب "موفت " (من افت في العبريّة) وهي تُعتَبر كافةٍ تُفْسِد وتُضرّ، على مثال الضرَبات العشْر التي سنتحدّث عنها. أمام هذه المعجزات أو الآفات، سيعاند الفرعون ويكابر. وقد لجأ الكاتب الملهم الى ثلاث كلمات ليعبّر بها عن رَدّة الفعل عند الملك. الكلمة الأولى: قسّى قلبَه (3:7 في العبرية قشا لب) الكلمة الثانية: تحزّق (7: 13 في العبرية حزق) أي تقبّض وتمسّك برأيه وبدأ يعاند الله ( 10: 27). والكلمة الثالثة: ضيّق على نفسه ، ووقع في الصعوبة والعناء (كبد في العبرية 10: 1).
خلال الحديث عن ضربات مصر، سيتردّد موضوع قساوة قلب فرعون ومعاندته لله، فيقول الكتاب تارةً إنّ الله قسَّى قلب فرعون (4: 21؛ 7: 3؛ 9: 12)، ويقول طورًا إنّ فرعون قسِّى قلبه (13:7، 14، 22؛ 8: 11). ونحن نفهم من هذا الكلام أنّ الفرعون يعاند الله فيتّخذ موقفًا بالنسبة الى الأحداث. غير أنّ هذه الأحداث لم توجد إلاّ بفعل الله الذي سمح بها. وهكذا يكون الله قد سبّب قساوة قلب فرعون بطريقة مباشرة أو غيرِ مباشرة. هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية تبدو الأحداث كتنبيه لفرعون وتحذير له من قبل الله، وبذلك يُعطى الملكُ فرصةً للتوبة. فإن تأنَّى الرب ولم يعجّل في العقاب، لا يَحسِبُ الفرعون أنّ الله ضعيف. وهكذا تبدو مسؤولية الملك بكل وضوح رغم تدخّل الله في التاريخ (رج تث 30 ؛ يش 20؛ ار 5: 21).
(آ 22) نقرأ هنا مقابلة بين بكْر فرعون وبِكْر الله. وأعزُّ أبنائه (هو 11: 1 ي) هو شعب إسرائيل، لأنّه يخصَّ الله بحسب المبدأ القائل إنّ الأبكار مُلكٌ للّه (23: 19، 34: 26). وهذا ما يبرّر الامتيازات التي يتمتّعون بها، ويبرز الواجباتِ المفروضةَ عليهم، كواجبات كلّ ابن تجاه أبيه. هذه الفكرة سوف يتعمّق فيها الأنبياء (هو 2: 1؛ اش 1: 2؛ ار 3: 9) ليشدّدوا على دور شعب إسرائيل بين الشعوب، وما يجب عليه ليكون بينهم شاهدًا على حضور الله وفعله في الكون. والسؤال يُطرَح: هل قام شعب الله بمهمّته هذه؟ أما قسىّ قلبه مثلَ شعب مصر وفرعونها (رج اش 5: 1 ي)؟
إذا تطلّعنا الى نفسّية موسى، نفهم أنّه عرف يوم انطلاقه الى مصر، أنّ المهمّة ستكون صعبة، وأنّ الحصول على أيّة نتيجة لن يتمّ إلاّ عَبْرَ التضحية والألم.
ونودّ في ختام هذا المقطع أن نستخلص المعنى الروحيّ الذي يستنتجه أوريجنس في عظته الثالثة (المقطع الثالث) عن سفر الخروج: وكان الفرعون قد رفض، لأنّ سلطان الظلمة (أف 6: 12) لن يترككم تذهبون، لا يريد لكم أن تنجُوا من الظلمة، وتُقادوا الى نور المعرفة. إسمعوا ما يقول الملك: من هو هذا الذي أسمع صوته: أنا لا أعرف الربّ ولا أترك إسرائيل يذهب (5: 2)؟ هل سمعتم جواب سلطان هذا العالم؟ قال إنّه لا يعرف الله. هل رأيتم نتائج مُكابرته الوَقِحَة؟ هو لا يقاسم الناس آلامَهم، لأنّه لم يُضرَب، ولهذا تسيطر عليه الكبرياء. ولكنكم سوف ترَون قريبًا كم ستكون العقوبات مفيدةً له وكيف سيتحسّن موقفه عندما يُضرَب. هو الذي قال سابقًا: أنا لا أعرف الرب، سيقول بعد أن أحسّ بلَذْع السِياط: صلّوا الى الرب لأجلي (8: 8). ولن يتوقّف عند هذا الحدّ، بل سيتجاوز معارضة سَحَرته، ويُقرّ عندما يرى قوةَ هذه الآية أنّ إصبع الله هي هنا (8: 19). فلا يَجْهلَنَّ أحدٌ منكم تربيةَ الله له، فيَحسِبَ عقاباتِ الله شرًّا، وسِياطَه انتقامًا قائلاً: رغمَ تصلُّب الفرعون، كان العقاب له مفيدًا. قبل الضربات، هو لا يعرف الرب. وبعد الضربات، يتوسّل الى موسى لكي يصلّي إلى الرب من أجله.

ثانيًا: الختان (4: 24- 26)
إلتقى الربُّ موسى وأراد أن يقتله. قال بعض الشرّاح إنّ موسى أصابه مرض خبيث. وقال آخرون إنّ قوّة من الصحراء أرادت أن تمنعه من الرجوع الى مصر. ولكن مهما يكُنْ من أمر هذه الشروح المستوحاة من تقليد بني مديان، فالنصُّ يشدّد على أهمّية الختان كعلامةٍ تميّز أبناءَ شعب الله عن غيرهم.
ونتساءل: إلى يكُنْ موسى مختونًا، فاتّبع بذلك عادة أهل مديان؟ ويكون من أجل ذلك أن الرب هدّده، فختنت صفّورةُ الصبي، ولمست جسمَ موسى فصار وكأنه مختونٌ بعمليّة استبدال جعلت الابن يحلّ محل الأب.
ونتساءل أيضًا: هل تهامل موسى فم يَختُن ابنه (جرشوم أو ألعازر) قبل رجوعه إلى مصر؟ ولذلك اوقفه الله وأفهمه خطورة هذا الإهمال، والختان أهمّ واجبات بني إسرائيل. عندئذ قامت صفّورة بهذا العمل، فختنت ابنها وخلّصت زوجها من غضب الله. وهكذا فعبارة "عروس ذم " (ختن دميم في العبرية أي ختن الدماء) تعني العروس المحكوم عليه بالموت (بحسب تفسير رابي راشي). وفي الآية 26 فعبارة "عروس دم من أجل الختان)، تعني العروس الذي قد يموت بسبب إهماله للختان. إذا كان الكلام يعني موسى أو ابنه، فكيف يحقّ لهما أن يشتركا في الفصح وهما غيرُ مختونَين؟
نلاحظ هنا أنّ الخِتان طقس يهيّىءُ الشابّ للزواج، أو أقلَّ! يُدخل الابنَ رحميًّا في عهد المُراهقة. هذا في القديم، أمّا العبرانيّون فسوف يمارسون الختان في الأطفال، فيعطونه مَنْجًى جديدًا، إذ لم يَعُد طقسًا يُعدّ للزواج، بل طقسًا يدلّ على الانتماء إلى شعب إسرائيل، بفضل العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم. ويمكننا أن نرافق تطوّر مفهوم الختان هذا في نصوص سفر التكوين. لمّا خُتِن إسماعيل، كان عمره ثلاثَ عشْرةَ سنة (تك 17: 25)، وهو بداية سنّ الزواج. ولكن، لمّا خُتِن إسحق كان عمره ثمانية أيام (تك 21: 4)، وهو بداية انتمائه إلى شعب الله.
ساعةَ انطلق موسى الى مصر ليتكلّم باسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، هل كان يليق أن لا يمارس وصايا العهد كاملة؟ ولهذا أحسّ أنّ الله يريد أن يُميته. إنّ هجوم الله على موسى يشبه الى حدّ بعيد صراعَ الله مع يعقوب في مَجاز يبوق (تك 32: 24-32). ففي الوقت العصيب من حياته، سيفهم رجل الله أنّ عليه أن يدخل في صِراع مع الله. من هذا الصراع سيخرج مهشَّمًا مجرَّحًا، ولكنّ حياته ستتحوّل. بعد مَجاز يبوق عرف يعقوب أنّ الاتكال على الله افضلُ من الاتكال على حكمة البشر وحِيَلهم، وعرف موسى بعد ارتحاله من صحراء مديان أنّ حياته (أو حياة ابنه) هي مُلكٌ للّه، كحياة كل بكْرٍ في إسرائيل. عن الأبكار تُقدَّم ذبيحة، وعن موسى قُدّمت ذبيحة دمويّة عَبْر ابنه.

ثالثًا: مجيء هارون (27:4- 31).
تروي لنا هذه الآيات مجيء هارون ولقاءَه بموسى في جبل الله (3: 1). عرف هرون من موسى الكلمات التي كلّمه بها الرب والمعجزات التي حمَّله إيّاها. وذهب الأَخَوان فجمعا شيوخ الشعب، ونفّذ هارون المهمّة الموكولة إليه، فكان فمَ موسى عندما كلّم الشعب، ويد موسى عندما صنع المعجزات.
إنتظر موسى الفشل، ولكنّ العكس هو الذي وقع. قال موسى للرب: إنّهم لا يصدّقونني (4: 1) ولكنّ الشعب آمن وصدّق أنّ الرب افتقدهم. فسجدوا لله وعرفوا فيه ذلك الذي نظر الى مذلّتهم وعزَم على إخراجهم من أرض العبوديّة.
عندما يشرح القديس أفرام سفرَ الخروج يتوقّف عند حادثة لقاء الرب لموسى، وهو في طريقه الى مصر، فيقول (4: 4- 5): ليلةَ ذهابه، التقى الرب موسى، وحاولت قتلَه لأنّه ألغى سُنّة الختان في مِديان، فلم يختُن واحدًا من ابنَيْه. فمن يومَ كلّمه الربّ في حوريب، قطع علاقاته بامرأته، وهذا ما أحزنَها كثيرًا. لم تكن قد آمنت بكلمته، وهذا ما يَدينها، ولقد لامها موسى لأنّها منعت عن ابنها الخِتان. وباتا على هذه الأفكار، وإذا بالملاك يتجلّى أمامهما لهذين السببين، وليس بسبب الختان فحسْب.
كان من العار أن يذهب موسى الى مصر، بعد أن ألغى الختان من دون ضرورة، بينما ظلّ العبرانيّون يمارسونه رغم موت أولادهم. لذلك تجلّى الله لموسى، وكان مُغضَبًا، وقال له: من يجب أن تخاف، اللهَ الذي أمرك بالختان، أم امرأتَك التي أعاقتك عن ممارسته؟ ورأت امرأة موسى أنّ زوجَها مائت لا مَحالة، لأنّها عطّلت ممارسة الختان، وتذكّرت أنّ موسى أدان فعلها هذا. وعندما رأت الملاك، أخذت حجرًا من الصَوّان، وقطعت قُلفة ابنها، وتركته يتخبّط بدمه، ثم أمسكت برجِلَي الملاك وقالت: أنت لي عروس دم. لا تسمح بأن يتألّم في يوم عيد الختان هذا. أما كانت الفرحة عظيمةً يومَ ختنَ إبراهيم إسحق؟ قالت: أنت لي عروسُ دم؛ إن كنت لا تصنع لي رحمة، أنا التي ختنَتْ ابنَها بيدها، ولا لموسى، فاصنعها على الأقلّ من أجل شريعة الختان الذي أسّستَه.
ولما أفْلَتَ الملاكُ موسى، استفاد من الظَرف ليحدّث زوجته صفّورة: خفْتِ كلَّ الخوف من الملاك الذي تجلَّى لكَ ساعةً واحدة، فكم يجب عليّ أن أخاف وأَن أقدّس نفسي أمام الله الذي يتراءى لي في كلّ وقت، ويأتي المُعجزاتِ بيدي، وهو الذي زوّدني بهذه العصا، وأرسلني من أجل خلاص ستِّ مئةِ ألف رجل!
3- أوّل لقاء بين موسى وفرعون (5: 1-23)

موضوع هذا النصّ بسيط: يعطينا بعض التفاصيل التاريخيّة عن حياة المصريّين، وعن سلطة الفراعنة، ويجعلنا في الجوّ المناسب لنتعرّف الى ضربات مصر التي سيتحدّث عنها الكتاب في ما بعد (ف 7- 11).
يرجع النصّ بكامله إلى التقليد اليَهْوَهيّ مع احتمال تنقيحات في الآيات الأولى، على ضوء التقليد الإلوهيميّ.
(آ 5: 1- 5). زار موسى وهارون فرعون، فكانت نتيجةُ زيارتهما الفشل. سألاه أن يسمح للعبرانيّين بالقيام بمسيرة ثلاثةَ أيّام، يحُجّون فيها جبلَ الله، فرفض سؤلهم. إنّ اسم يهوه لا يَرِد بين أداء الآلهة التي يعرفها المصريّون، إذاً ليس هو بموجود، وفرعون لم يسمع باسمه .
الحجّ هو انطلاق الى أحد الأماكن التي تقدَّست بحضور الله، أو بعمل من أعماله. يحتفل المؤمنون بعيد يكون في زمن محدّد (في أول الشهر مثلاً). والعيدُ الذي يريد موسى أن يقيمه، يرتبط بذبيحة كان يذبحها الرعاة أوّلَ الربيع، إكرامًا للآلهة، فتحفظُ القطيع من كل مكروه، وتجعله ينمو ويتكاثر. هل كان العبرانيّون هم أيضا يحتفلون بهذا العيد وفي كل سنة؟ مهما يكن من أمر، فالعيد في هذه السنة غيرُه في سائر السنين. من جهة فرعون، الأخطار تُحْدق بالمملكة، ولا بدَّ من التعجيل ببناء الحصون وحماية الحدود (1: 10)؛ ومن جهة موسى، سيرتدي العيد هذه السنةَ طابَعاً خاصًّا، فلن يكون تَردادًا لطقوس قديمة، بل بداية لطقس جديد سيحتفل به العبرانيّون على مَرّ عصورهم، فيتذكرون فيه خلاصهم من أرض العبوديّة.
يقول فرعون لموسى (آ 4) إنّه يُعطِّل الشعب. الكلمة العبرانيّة "فرع " تقابل في العربيّة فرغ (فرغ من العمل أي خلا منه)، وهي قريبة من كلمة فرعون بالنسبة الى اللغة العبريّة. هل يكون موسى "فرعونَ " الشعب، فيوجّهَه في طريق الحرّية، ويقودَه إلى حياة جديدة؟
ويقول فرعون لموسى أيضًا (آ 5) إنّه يريح الشعب. الكلمة العبرانيّة "شبت " (في العربية سبت تعني استراح) ترتبط بيوم السبت. إنّ تحرير الشعب يعني الانتهاء من أعمال العبوديّة، والعيشَ في راحة السبت، لأنّ من دخل في راحة الله، يستريح من أعماله كما استراح الله من أعماله (عب 4: 10)
(آ 6-9) كانت ردّة الفعل عنيفةً عند فرعون. عاقب العبرانيّين فمنع عنهم القشّ، وفرض عليهم أن يأتوا بالقش، ولا يُنقصوا عدد الحجارة التي كانوا يصنعونها من اللَبْن والقشّ.
(آ 10-14) قام المسؤولون بالمهمة الموكولة إليهم، وفرضوا على الشعب العامل (رج آ 5: شعب الأرض، الشعب الملتصق بالأرض. " عم ها- أرص" في العبريّة) أن يقوم بعمله.
كان المسؤولون على نوعين: المسخِّرين المصريّين والمدبِّرين العبرانيّين. ولم يكن الأولّون أكثرَ تهافتًا على رضى الملك ووزرائه، ولكنّهم كانوا كلُّهم يضربون الشعب عندما يتلكّأ، ويعاملونه معاملة قاسية.
(آ 15-19) إحتجّ المدبِّرون، بعضُ المدبّرين، على هذه المعاملة القاسية التي يلاقيها بنو قومهم، لكن من دون جَدوى. تألّموا في أعماقهم، ففضّلوا أن يشاركوا شعبهم في الذُلّ على التمتعّ الزائل بالخطيئة (عب 5:11)
(آ 5: 20-23) إتّهم الشعبُ موسى وهارون بأنّهما سببُ هذا الضيق الذي اشتدّ عليهم. أمَّا هما فلم يبرِّرا موقفهما، بل التفتا الى الرب الذي أرسل موسى ليخلّص الشعب ، ثم ترك الشعبَ يشقى ويتعذّب. ولكنّ الله سيعمل، وإن لم يقتنع الفرعونُ بكلماته. سوف يضرب بيد قويّة، ولن يتوقّف حتى يتحرّر شعبه. وسيكون صراع بين الله وفرعون، وسيكونُ اللهُ هو الأقوى عَبْرَ موسى عبدهِ.
هنا نقرأ أوّل صلاة يتلوها موسى المسحوقُ بين الله وشعبه. لماذا يا ربّ، لماذا ابتليتَني بهذا الشعب؟ هي صلاة الإنسان المتضايق الذي لا يفهم لماذا يترك الله الأمورَ تسير على هذا المِنوال (ار 2: 1 ؛ مز 13: 1 ي؛ 22: 1 ي). هو يقوله للرب: لماذا أسأت الى هذا الشعب، ولماذا أرسلتني إليه؟ ولقد تساءل الناس في التاريخ مرارًا: لماذا يتدخّل الله، لماذا يرسل رسلاً يزعجون الناس الذين يفضّلون ذُلّ العبودية على عظمة الحريّة؟ لماذا يأتي فيضعَ الاضطراب في عالم يكفيه ما فيه من هموم؟ هو لا يلقي في الأرض سلامًا بل حربًا (مت 10: 34). هذه هي حالة رجل الله الذي يتألّم لألم شعبه، فتَخرج صلاته من قلبه معبّرةً عن تعلّقه بربّه ومحبته لبني قومه.
4- دعوة موسى والمهمّة الوكولة إليه
بحسب التقليد الكهنوتيّ (6: 1-7:7)

عرض الكاتب في ف 3- 4 خبرَ نداء الرب بحسب التقليدين، اليَهْوَهيِّ والإلوهيميّ، وأنهى حديثه برواية فشلِ موسى في مهمّته. وها هو يَروي في هذا المقطع خبرَ نداء الربّ لموسى، بحسب التقليد الكهنوتيّ، فيذكّر باختيار الله لإبراهيم، ويجعل الشعب ينتظر أن يحقّق الله ما وعد به الآباء، وهو امتلاك الأرض الموعودِ بها (تث 5:26- 10؛ يش 2:24-3)

أوّلاً: دعوة الله لموسى (6: 1-13)
(آ 6: 2-3) نقرأ في الآيات 2-8 ملخّصاً عن تاريخ شعب الله: تراءيت لإبراهيم...
يذكر الكاتب المُلْهم الإلهَ "شَدّاي " أي الالهَ الشديد القويّ (رج تك 17: 1). يعتبر التقليد الكهنوتيّ أنّ اسم "يهوه" كإله للآباء، قد عُرف في زمن موسى. أمّا قبل هذا الزمان فاللهُ هو إيل العليُّ القويّ الشديد.
(آ 4- 5) يتكلم الربّ عن العهد الذي أقامه مع الآباء (تك 17: 2). وعدَ وسيبقى أمينًا لوعده بالنسبة الى أبناء هؤلاء الآباء، إلى بني إسرائيل.
(آ 6) "أنجّيكم" هي ترجمة الكلمة العبريّة "جأل"، وتعني أدّعى الأمرَ وزَعم أنّه له، وطالب بمسؤوليته. لصاحب الادّعاء حقّ في فكّ رهن أرض قريبه (لا 23:25-36). لصاحب الأدّعاء الواجبُ أن يضع يده على خيرات قريبه، ويتزوّج امرأتَه فيقيمَ له نسلاً (را 2: 20؛ 4: 1-8). لصاحب الادعاء وأجبُ الانتقام (عد 35: 10-28) ليستريح المائت بسلام. تلك كانت عاداتُهم وطريقةُ تعبيرهم عن التضامن داخلَ الجماعة وبين الأقارب. والرب يلجأ الى تعابير البشر ليكشِف لهم عن ذاته.
لقّب الله نفسه "الجائل" أي صاحبَ الحقّ والادّعاء تجاه شعبه (رج اش 4: 14؛ مز 19: 15؛ أي 18: 5) لأنّه سيدافع عنهم وينتقم لهم. ولقد ظهرت رابطةُ القرابة بين الله وشعبِه منذ اختار إبراهيمَ بطريقة مجّانية، ووعده بأن يكون معه ومع نسله، وها هو الآن يأخذ على نفسه أن يخرج شعبه من أرض العبوديّة.
بعد محاولة موسى وهارون لدى فرعون، والفشلِ الذي أصابهما، كنّا ننتظر أن يبدأ الكتاب بروايته لضربات مصر. غير أنّ النصّ يتوقّف على خبر دعوة الله لموس وتحديدِه له مهمّتَه، ويشدّد على نظرة التقليد الكهنوتيّ إلى وحي اسم يهوه لأوّل مرّة في شعبه، ويهتمّ برَبْط تاريخ موسى بتاريخ الآباء، ويُعنى بذكر الأنساب والقرابات، ولاسيَّما إذا كان هذا النسَبُ هو نسَبَ هارون الذي يرتبط به كلُّ كاهن في بني إسرائيل.
إنّ رواية الخروج مهمّة جدًا. لهذا تذكّرها بنو إسرائيل، ورواها الرُواة، وحفظتها التقاليد المتعدّدة، وردّدتها الليتورجيا في الأعياد السنوية. في هذا الإطار استعاد التقليدُ الكهنوتيّ نداء الله لموسى ليتبيّن له أنّ الإله الذي ينادي موسى باسمه، هو ذاتُه الذي دعا إبراهيم وإسحق ويعقوب. إنّ إيل (وجمعه إلوهيم) شدّاي هو ذاته يهوه، وهو يتدخل في تاريخ شعبه كما تدخّل في تاريخ الآباء، وهو يعلن الآن ما سوف يفعل: أنا الذي تراءى، أقمتُ عهدي، سمعت، أنا الربّ سأخرجكم. أمَّا دور موسى فيقتصر على تَرداد ما يقوله الربّ دون أن يفعل شيئًا. وتدخّلُ الله هذا هو تتمّة لما وعد به الآباء، بفضل العهد الذي قطعه معهم.
يبدو أنّ نداء الله هذا جاء موسى في مصر، لا في مديان، وأنّ موسى قام بالمهمّة أحسنَ القيام، غير أنّ الفشل كان ينتظره: فبنو إسرائيل لن يسمعوا له، والفرعونُ يخيفه، فلا يجسر أن يفتح فمه، لأنّه أغلف الشفتين مُطْبِقُها. غير أنّ الله سيعطيه من يتكلّم بواسطته في شخص أخيه هارون.

ثانيًا: نَسَب موسى وهارون (6: 14-27).
هذه اللائحة هي بداية نَسَب بني يعقوب الاثني عشر (تك 8:46-7)، ولكنّها تكتفي بذِكْر رأوبين البكر، ثم ثاني وثالثِ ابناء يعقوب شمعون ولاوي. حينئذ تترك أبناء يعقوب وتتوسعّ في نسب لاوي، لأنّه جَدّ موسى وهارون. ثم تُغفل ذكر أبناء موسى، مع أنّنا نعرف أنّ له ولدًا اسمه جرشوم (2: 22؛ 4: 25). وتورِد أسماء أبناء هارون وبني أبنائه. ما يهمّ التقليد الكهنوتيّ هو هارون، لأنّه الكاهن المثاليّ (28: 1 ي)، وهو البكر في بيت أبيه (8:7).
عندما نقرأ هذه اللائحة، نجد أسماءً عبرانية تماثل ما قرأناه في سفر التكوين (46: 1ي) أو سفر العدد (26: 1 ي)، ولكنّنا نجدَ أيضا أسماء مصريّة مثلَ فوطيئيل وفنحاس (آ 25)، وهذا ما يدّل على علاقة بني لاوي بأرض مصر علاقةً حميمة. كان الله قد قال لإبراهيم (تك 15: 16) إنّ أبناءه يرجعون الى أرض كنعان في الجيل الرابع، وهذا ما تدلّ عليه هذه اللائحة التي تذكر موسى وهارون ابني عمرام، وبني قهات وبني لاوي. بهذه الطريقة نرى الصلة بين الآباء والأبناء الذين سيعيشون تاريخَ الخلاص في أرض مصر.

ثالثًا: مهمّة موسى وهارون (6: 28-7: 7)
هذه الآيات تتمّة لما قرأناه في الآيات 2-13، وقد قطعتها الآيات 14-27 والتي تورد لائحة الأجداد. أمّا الآيات 28- 30 فهي تَرداد للآيات 10-12 وتذكير بمهمّة موسى. نتوقف هنا على ثلاث ملاحظات.
الملاحظة الأولى تتطرّق الى أهميّة الدور الذي يلعبه موسى. موسى هو "الله " وهارون نبئه (4: 4-16). النبيّ هو من يتكلّم باسم إله من الآلهة. النبيّ هو من يتكلّم الله بفمه ويرسله ليدين الشعوب ويهدّدَها بالعقاب، أو ليعلن حدَثًا مهمًّا. بالإضافة إلى ذلك نعرف أنّ الكتاب يسمّي موسى "النبيّ" (تث 15:18، 18 ؛ 34: 10)

الملاحظة الثانية تتعلّق بسلطة هارون على موسى، وهو بِكرُه. فعمر موسى ثمانون سنة (2×40، والاربعون عمر الرجل الكامل) وعمرُ هارون ثلاثٌ وثمانون سنة. في هذا الإطار يقسم الكتاب حياةَ موسى ثلاثةَ أقسام: كان عمره أربعين سنة لمّا هرب إلى البرّية، وثمانين سنة لمّا ذهب الى الفرعون، ومئة وعشرين سنة لمّا مات (تث 31 : 2؛ 7:34). وكما قضى موسى أربعين سنة في البريّة، هكذا سيقضي شعبُه أربعين سنة (رج أع 23:7؛ 30-36) قبل أن يسمح له بدخول أرض الموعد.

الملاحظة الثالثة تتعلّق بموقف الفرعون. يعلن الله أنّ الفرعون لن يِطيع، لأنّ الله سيقسّي قلبه بالمعجزات التي سيصنعها والآفات التي سيجلبها. وهكذا تكون أحكامُ الله (6:6) علامةً للمصريّين، فيُقرّوا أنّ يهوه هو الله، وأنّه يخلّص شعبه.

ج- المعاني الكتابيّة:
1- معرفة اسم الله

لقد تاق الإنسانُ منذ القديم إلى معرفة الله، لأنّه يعيش بقلق في عالم يستحثّ عقلَه، ويدفعه الى أن يتعدّى إمكاناته، ويوقظه الى سرّ يلامسه دون أن يكشف عن ذاته.
إنّ الله الواحدَ قد كشف عن ذاته لشعب أختاره، وطلب فيه أن يخبر سائر الشعوب بما أوحي إليهم. إنّ الله الواحد قد عرّف اسمه لبني إسرائيل، عَبْرَ أنبيائهم بقدْر ما يستطيع الإنسان أن يعرف الى الله.
في الكتاب المقدّس وعالَم الشرق القديم، الحقيقةُ واسمها شيء واحد، والشخصُ واسمه أمر واحد. فالاسم لا يدلّ على شخص بصورة تقريبيّة أو جانبيّة، والاسمُ ليس وسيلةً تساعدنا على أن ننادي من ننادي، أو أن نحفظ في الذاكرة اسم الشيء الذي نراه، أو الشخصِ الذي نكلّمه. فالاسم والمدلول أمرٌ واحد، بمعنى أن للاسم وجودًا حقيقيًّا مماثلاً لما يعبّر عنه. عندما نتلفّظ باسم إنسان، نجعله حاضرًا حضورًا حاليًّا، حاضرًا بطريقة مباشرة لا يمكن التهرّبُ منها.
ولقد اعتقد السَحَرة بفاعليّة الاسم الذي يتلفّظون به، لأنّهم يملكون القدرة والفنّ السريّ على استنباط الكلمات والعبارات التي بها يسيطرون على الأشياء والأشخاص، وعلى الآلهة إذا أُحوِجوا الى ذلك. هذا المنطلَق يفسّر وجود ممارسات عديدة كالدعاء على الآخرين، والتعزيمات والرُقْيَات للحصول على أمر يصعب الحصول عليه بالقوى الطبيعيّة. وهكذا فمن عرف اسم إله أو لقبَ كائن عُلْويّ، فهو يستطيع، كما يقول السَحَرة، أن يَخطُب وُدَّه ويجعله يعمل من أجله. إنّ الساحر يعتبر أنّه يستخدم قدرة الكائن العُلْوي في الوجه الذي يريد.
ولكن الأمر يختلف عن ذلك في كما إسرائيل، لأنّ الله هو الكائن الذي أمامه يسجد كلُّ بشر، لأنّ الله هو القدير وحدَه، والبشر أمامه كائنات ضعيفة لا سلطةَ لها عليه. لا شكّ أنّ الله هو الإله القريب من البشر، كما يقول عنه الكتاب، ولكنّه يبقى الإلهَ السامي الذي لا يُدركه عقل ولا يَحدّه فكر ولا يَحِقّ لنظر أن يحدّق فيه. كل هذا يدلّ على أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف اسم الله حقًّا. يقول الرب للإنسان: عرفتك باسمك (33: 12)، ليدلّ على سلطته على الإنسان، غيرَ أنّ الإنسان لا يمكنه أن يرى الله أو يعرفه (33: 20؛ لا 16: 2؛ تث 18: 16). لا يمكنه أن يمتلك اسم الله. ليس الإنسان من يدعو الله باسمه، بل الله هو من يدعو الإنسان باسمه (اش 43: 1؛ 45: 4). إذًا، عندما نتحدّث عن الله يجب أن نعرف أنّنا ندخل في سرّ عظيم. وإذا كان لكل موجود اسم، والله هو الموجود المطلق، فنحن إن قلنا إنّنا نعرفه، فنحن نعني بذلك لا معرفةً عقليّة تحيط به وتختصره في مدلولات بشريّة، بل معرفةً بالمعنى الكتابي مبنيّةً على الحُبّ والمشاركة، ومؤسسّة على الاحترام والسجود الواجب للعظمة الإلهيّة.
2- أصل اسم يهوه

تعوّد الساميّون، ومنهم بنو إسرائيل، أن يدلّوا على الله بكلمة إيل، ولكن كان أيضًا آلهةٌ عديدة غيرُ إيل عبدها الساميّون وعبدها آباء شعب الله الذين سكنوا منذ القديم بلاد الرافدَيْن (يش 24: 2). ولكنّ الرب دعا إبراهيم وهيّأه لعبادة الله الواحد عَبْرَ اختياره له ولعائلته، فلم يسمِّ إبراهيمُ وأبناؤه الله باسم غيرِ الأسماء التي عرفوها: الإله القوي (إيل شدّاي)، الإله العليّ (إيل عليون)...
ولمّا ظهر الله لموسى أوحى اليه باسم يهوه، بالذي هو وحدَه دون سائر الآلهة. وهذا الوحي سيطرح علينا ثلاثةَ أسئلة نحاول الإجابة عنها.

السؤال الأوّل: متى ظهر اسمُ يهوه في شعب إسرائيل؟ أفي زمن موسى أم قبلَه؟ إنّ الكتاب المقدّس لا يعطينا جوابًا أكيدًا على هذا السؤال، إنّما يبدو أنّ اسم يهوه والتعبّدَ له أمران معروفان منذ بداية البشريّة، منذ عهد أنوش، بنِ شيت، بنِ آدم (تك 4: 26) الذي بدأ يدعو باسم الرب (يهوه) ويقدّم له الذبائح. ثم نقرأ اسم يهوه في الحديث عن نوح، وفي سرد سيرة الآباء بحسب التقليد اليَهْوَهيّ. إذًا، ما نستطيع أن نقوله هو أنّ موسى لم يتقبّل الوحي بإله جديد، بل تعرّف الى الله تحت هذا الاسم الذي كان جديدًا بالنسبة إليه، مع أنّ قبائل الجنوب المتاخمةَ لمديان قد عرفته ودعت باسمه. ويهوه الذي عرفه موسى ليس الإلهَ البعيد، بل ذلك الذي ربط اسمه باختيار شعبه وتحريره، بتكوين شعب سيسمّي نفسه شعبَ يهوه.

السؤال الثاني: هل هنالك من شعوب عرفت اسمَ يهوه قبل موسى؟ يستند جوابنا على السؤال الثاني إلى إشارات ما زال العلماء يناقشونها. فقد وجدنا في النصوص البابليّة كلمةَ "ياوو" أو "ياوي" وهي اختصارٌ لكلمة ياوي إيلي أي الله هو يهوه. ووجدنا أيضًا في نصوص رأس شمرا كلمةَ "يو" أو "ياو". وفي بلاد أشور كلماتٍ مؤلّفة من "ياو": يوكابد أي مجد الله، يوناداب أي الرب في المقدمة، يوئيل أي يهوه هو الله. ولقد وجد العلماء كتابة في وادي النيل تحمل كلمة يهوه المذكورةَ مع اسم قبيلة بدويّة.

السؤال الثالث: هل عرف موسى اسم يهوه في بني قومه، أم عند المديانيّين والقينيّين؟ نعرف أولاً أنّ موسى عاش طويلاً عند المديانيّين قبل أن يحرّر العبرانيّين، وأنّه صاهر كاهنهم متزوجًا صفّورة، إحدى بناته (2: 15-22)، وأنّه تقبّل وحي الله ونداءه يوم كان يرعى غنم يترو (3-4). ونعرف ثانيًا أنّ الشعب العبرانيّ، بقيادة موسى، سيلتقُون المديانيّين بعد خروجهم من مصر (18: 1 ي)، وأنّ يترو، كاهنَ المديانيّين، سيقدّم ذبيحة للرب ويُنشد المدائح ليهوه (18: 10-12). ونعرف أخيرًا أنّ المديانيّين كانوا قبيلة من قبائل القينيّين (قض 4: 11) الذين ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بقبيلة يهوذا، لاسيَّما في وقت احتلال العبرانيّين لأرض الموعد (قض 1: 6). وهكذا تقودنا هذه المعلومات إلى القول أنّ موسى عرف اسم يهوه عند المديانيّين، ولكنّه سوف يحمِّل هذا الاسم معنًى جديدًا، بعد أن تعرّف إلى الله أمام العلّيقة الملتهبة.
3- معنى اسم يهوه

يهوه هو الإله الحاضر الذي يتدخّل في التاريخ، وحضورُه حضور فاعل. ليس يهوه اسمًا يحدّد الله؛ بل علامةٌ تجلب انتباه السامع، بل طريقة تعلمنا أنّ الله آتٍ، وأنّ علينا أن نستعدّ للقائه.
إنّ مشهد العلّيقة الملتهبة يشبه الكثير من المقاطع الكتابيّة التيِ تشدّد في الوقت ذاته على أنّ الله قريبٌ منّا، وهو بعيد عنّا لأنّه سرّ عميق لا يُسبَرُ غوره.
نتذكّره في ذلك المصارع الذي صارع يعقوب. سأله يعقوب عن اسمه فأجاب: لماذا تسأل عن اسمي؟ لم يعرف يعقوب اسم هذا الشخص السرّي الذي التقاه في تلك الليلة التي اثَّرت في حياته كلّها، ولكنّه تأكّد أنّه التقى اللهَ، ولهذا سمّى المكان "فنوئيل" (تك 32: 20)، أي وجهَ الله الذي لا نراه ولا نستطيع أن نسميّه.
نتذكّر منوح، والدَ شمشون، الذي سأل الملاك الذي بشّره بميلاد ابن له، فأجابه: لماذا تسألني عن اسمي، إنّه سرّ. أي إنّه من المستحيل أن نقوله لأنّه يتعدّى عالم الأشياء، ويتجاوز العقل البشريّ (قض 13: 19)
نتذكّر كلام يشوعَ بنِ سيراخ (43: 29- 31): "نكثر الكلام ولا نستقصي، وغايةُ ما يُقال أنّه هو الكلّ. ماذا نستطيع من تمجيده وهو العظيمُ فوق جميع مصنوعاته. الرب مرهوب وعظيم جدًا وقدرتُه عجيبة". إذن لا نستطيع أن نتكلّم عن الرب بطريقة لائقة، لا نستطيع أن نحبِسه داخل الكلمات، ولا نستطيع أن نجد الكلمات التي تعبّر عن سرّه. انطلاقًا من هذا الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، تحدّث آباء الكنيسة عن اللاهوت السلبي الذي يقول مثلاً إنّ الله صالح، ولكنّه يُسارع الى القول إنّ صلاحه لا يشبه صلاح الإنسان. ولكن هذا لا يعني أنّ بيننا وبين الله هوّةً عميقة لا يمكن عُبورها. وإن كان هناك من هُوّة، فقد قطعها الربُّ حاملاً إلينا كلمته، ورَدَمَها المسيح بتجسّده فصار البعيدون قريبين (أف 2: 13) من الله، وصارت البشريّة أهلاً للرحمة، والناسُ شعبَ الله (هو 2: 21؛ اش 54: 7).
أجل، الله هو القدّوس (عا 2: 7؛ حز 20: 39؛ لا 22: 2)، وقداسته تعني أنّ اسمه يختلف عن أيّ اسم. هذه القداسة قد شدّد عليها أشعيا (6: 1) وأنبياء ما بعد الجلاء فقالوا: لا شيء يوازي الله، ولا لسان يستطيع أن يعبّر عن الله. وكما أنّنا لا نستطيع أن نرسُم صورة لله (7:20) فلا نجد اسما لله إلاّ ذلك الذي يربطه بشعبه دون أن يكشف عن سره.
4- إسم يهوه في التقاليد الثلاثة

إنّ كلاًّ من التقليد اليَهْوَهيّ والإلوهيميّ والكهنوتيّ يورد ظهور الرب لموسى وإعلانَه له عن اله يهوه، ويبيّن أنّ اسم يهوه يرتبط بالخروج من مصر وبالعهد في سيناء. إنّ هذا الكَشف عن اسم يهوه يحمل وحيَ الله الذي يتدخّل من أجل بني إسرائيل.
في 3: 9-15 نجد النصّ الأساسيّ لإعلان بالرب عن اسمه، وهو نصّ إلوهيميّ بمُجْمله مع بعض تنقيح يَهْوَهيّ. في 6: 2-9 نقرأ التقليد الكهنوتيّ الذي يشدّد على قوّة الوحي في اسم يهوه وارتباط هذا الوحي بالعهد. وفي 33: 12-34: 28 سيعطي الرب شيئًا عن مضمون اله الذي ارتبط بعهد سيناء.
نستنتجِ من هذا أنّ المضمون اللاهوتيّ لهذا الاسم ليس جديدًا، بل الجديد هو أنّ هناك عملاً تاريخيًّا قام به الله، فأعطى هذا الاسم قوة خاصّة وحاسمة. ونستنتج أنْ لا تعارض بين التقاليد الثلاثة، فالإلوهيميّ كالكهنوتيّ يشدّد على أنّ اسم يهوه صار بعد الخروج الاسمَ الرسميّ لشعب توحَّد وتنظّم. والتقليد اليَهْوَهيّ، وإن اعتَبَر أنّ اسم يهوه موجود منذ القدم في قبائل الجنوب، فإنّه جَعل القبائل تتّفق على اسم لله سيفسر لهم موسى معناه، فينضَوُون تحت لواء الربّ ويسمّون نفسهم شعبَ يهوه.
ونتوقّف على كلّ من هذه التقاليد:

أولاً: التقليد الإلوهييّ (3: 9- 15)
ما معنى سؤالِ موسى (13:3)؟ لا يسأل موسى عن اسم الرب بطريقة مباشرة كما يفعل يعقوب أو منوح، بل يبحث عن ذريعة تساعده على التهرّب من المهمّة التي يضعها الله على عاتقه (3: 11؛ 4: 1؛ 17:10). كأنّي بموسى أراد أن يجعل الله في مأزق: كيف يستطيع شعب أن يُكْرِم إلهًا لا يعرف اله؟ وكيف يسلّم الرب اسمه فيسلّم شيئًا من سرّه ويصبح بمتناول الجميع؟ إن سألوا عن اسمك فبماذا أجيب؟ الخرافات تملأ مصر، وصانعو المعجزات والسَحَرةُ كثيرون. أيكون الله واحدًا منهم؟ إسم يهوه يدلّ على القدرة والسلطة، وسوف يرى العبرانيّون والمصريّون قدرته.
ما معنى العبارة "إهيه أشر إهيه " (3: 14)؟ الفعل "هيه (في العربيّة هو، هي) يعني الكائن الموجود الذي يعبّر عن وجوده بالفعل والعمل. لسنا هنا أمام تصوّر فلسفيّ عن جوهر الله وكيانه وأزليتّه. والعبارة تأكيد على حريّة الله المطلقة الذي يعلن عن سرّه إن هو يشاء، وقدْرَ ما يشاء، وساعة يشاء، ولا يستطيع أحد أن يناقشه الحساب. كان سؤال موسى مُلحًّا وعمليًّا: باسم من سأقدّم نفسي أمام الشعب؟ باسم من سينطلق الشعب في مسيرته (مي 4: 5)؟ أجاب الرب إلى سؤال موسى، ولكنّه جعل الجواب أوسع بكثير ممّا يفترضه السؤال. فاسم يهوه ليس فقط نُطقَين، أو صوتين مؤلَّفَين من أربعة حروف يستعملها الشعب، ليميّز إلهه عن غيره من الآلهة، وأن كانت مِسلّة ميشع (سنة 840 ق. م.) تجعله مع سائر الآلهة. فاسم يهوه بالنسبة إلى بني إسرائيل سيغتني بمعطيات من التاريخ. ولذلك فعندما يذكرون الاسم، يذكرون صاحب الاسم وما قام به من أعمال.
قال الله لموسى: سأكون معك (3: 12). كما كان الله مع إسحق (تك 3:26- 5) ويعقوب (تك 15:28؛ 3:31- 5) سيكون مع موسى ومع شعبه، وسيكون مع يشوع (يش 1: 5؛ 2: 7؛ تث 31: 23) وجدعون (قض 6: 16) وداود (27: 9) وجماعة المنفيّين (اش 43: 5). يكون الله مع شعبه فيتدخّل في التاريخ، لا بشخصه ؛ والتقليد الإلوهيميّ لا يؤمن كثيرًا بأمانة الشعب للعهد، ولهذا لن يسكن الرب مع شعبه سَكنًا حميمًا (32: 2)، بل بواسطة ملاكه. وراءه يخفي وجهه، ويحافظ على المسافة بينه وبين شعبه. الله هو الرئيس والقائد، لا ذلك الذي يجد نعيمه بسَكَنِه بين البشر (23: 20- 22)
الله بعيد عن شعبه، ولكنّه يَعِدُه بالحماية. بالنسبة الى التقليد الإلوهيميّ عرف موسى اسم يهوه "الكائن الذي هو" ولهذا أخذته المخافة والرِّعدة فتراجع أمام الأقداس، كما سيفعل أشعيا في الهيكل (اش 6: 1ي)، وستطبع كلمة يهوه في قلب موسى يقينًا حقيقيًّا. الله موجود، وقد اختبر وجوده أمام العلّيقة، واختبر التسامي الذي يغلّف هذا الوجود (تث 4: 12). وهذا اليقين الاختباريّ الذي عاشه موسى في حورب، وسيعيشه الشعب في سيناء، سيكون الأساس الحقيقيّ ليقين إيمان الأجيال اللاحقة. عندما وقف موسى أمام بني إسرائيل وقال لهم: يهوه أرسلني، لم يُعْطهِم درسًا في اللاهوت أو تعليمًا من التعاليم، بل أعطاهم شهادةَ حياةٍ حملها في قلبه، وعبّر عنها بشفتيه فآمن الشعب.

ثانيًا: التقليد اليَهْوَهيّ (33: 12-34: 28)
نجد الطابع الخاصّ للتقليد اليهوهيّ في الطريقة التي بها استقبل الشعب رسالة موسى: آمن الشعبُ وفرح، انحنى أمام الله وسجَد (4: 21). فيهوه إله قريب ورحيم؛ يهوه هو الإله الدائم، إله الآباء وإله الأبناء.
في إطار تجديد العهد بعد خطيئة العجل الذهبي، يذكر الله اسمَه لموسى ويحدّد الشروط التي تساعد الشعب على الأمانة للعهد، فتكون لهم المواعيد التي قيلت للآباء.
قبل أن يظهر الرب لموسى نرى عبد الله يصلّي: هو يريد أن يرى طريق (درك في العبرية) الرب أو مجده (كبود في العبرية) أو وجهه ، يريد ظهورًا أعمقَ من الذي حصل عليه في السابق، فيسير الشعب تحت نظر الله، ويسير الله وسْط شعبه (33: 15-16). يطلب موسى علامة ستقنع الشعوب بالعلاقة الخاصّة التي تربط يهوه ببني إسرائيل. فهل يقبل الرب أن يسير وسْط شعبه؟ وهل سيفهم الشعب طرق الرب (اش 55 : 8)، وخطيئتُه الدائمة أنّه لا يعرف طرق الرب (مز 81: 14؛ 95: 10) ولا العملَ بوصاياه.
وجاء الجواب الأوّل لموسى جوابًا رافضًا: لقد طلبت كثيرًا. أنت لا تستطيع أن ترى وجهي (30: 20، 23). كيف يستطيع الإنسان أن يدخل في كيان الله، والهوّةُ عميقةٌ بين الله السامي وموسى المائت؟ لا يستطيع مائت أن يرى وجه الله، ويبقى على قَيد الحياة. وسيتساءل منوح (قض 22:13-23) كيف أنّه لم يمت مع أنّه رأى وجه الله. ولكن التقليد اليَهْوَهيّ أعلن أنّ رؤية الرب ممكنة، وإن كانت محفوظة للقليلين (حز 6:16)، والرب يتراءى للإنسان لا ليُرعبه بل ليرحمه. ولكن هنا يلتقي التقليد اليهوهيّ التقليد الإلوهيميّ، فيشدّدان على قداسة الله وبعده عن الإنسان. تنظر قفاي، وأما وجهي فلا تراه (23:33).
وبعد هذا الظهور كشف الرب عن اسمه: يهوه يهوه، إله رحيم حنون طويل البال وكثير المراحم والوفاء (34: 7). في هذا الكلام كشفٌ عن سر الله ومقاصدهِ تجاه شعبه. الرب علّم موسى كيف يبني تابوت العهد، بحسب المثال الذي أعطاه إيّاه على الجبل (25: 9)، وهو يعلّمه بأيّ اسم يدعوه، وهو يفسّر اسمه على أنّه الإله الحنون الذي يستجيب لشعبه إذا هم دعَوه.
حينئذ سقط موسى الى الأرض وسجد (34: 8-9). هذه هي النتيجة المباشرَة لظهور الله: سجودُ الكائن الذي تنازل نحو الإنسان، ليمنحه غفرانه ونعمته، وصلاة هي طلب جريء ومتواضع معًا، يلتمس فيها الإنسان رحمة الله، فتبقى هذه الرحمة معه: سرْ معنا، لا تتخلَّ عنّا، اجعلْنا ميراثك رغم خطيئتنا.

ثالثًا: التقليد الكهنوتيّ (6: 2-9)
جاء التعبير الكهنوتيّ متأخّرًا عن تعبير التقليدَين السابقين، وهو يفترضهما، ولهذا قدَّم لنا تفكيرًا لاهوتيًّا انتظمت تعابيرُه داخل إطار الليتورجيّا.
إنّ يهوه (6: 52)، يقول الرب، يربط الحاضر بالماضي، ويشدّد على أمانته لعهده وعلى وفائه لوعده. إنّ يهوه (6: 6-9) يقول الرب ثانيةً، يعلّم الشعب بما قرّر أن يفعل في المستقبل: سأُخرِجُكم، سأُنقِذُكم، سأتّخِذُكُم.
إنّ التقليد الكهنوتيّ يسميّ العلاقة بين الله والآباء، عهدًا أقام الله بموجبه علاقاتٍ مع شعبه، فعرفهم بنفسه، وفرض عليهم وصايا ليحفظوها. والعهد مع موسى سبقه عهدٌ مع نوح أعطى بموجبه الله (إلوهيم) الإنسانَ الخيرَ والبركة، ومنحه أن يتسلّط على كل الكائنات، وفرض عليه ألاّ يأكل لحمًا بدمه، وأن يمتنع عن قتل الإنسان (تك 9: 1-17). وسبقه عهد مع إبراهيم (تك 27: 1ي) وعدَه فيه "إيل شدّاي" بأن يكون أبًا لأمم كثيرة، وبأن يعطي نسله أرضَ كنعان، وفرض عليه شريعة الخِتان. أمّا مع موسى فأظهر أنّه يهوه: وعد شعبه بامتلاك أرض كنعان وفرض عليهم الوصايا العشر وأحكام الشريعة.
نجد في وعد الله لموسى وجهًا تقليديًّا، ألا وهو امتلاك أرض كنعان، ولكنّنا نجد وجهًا دينيًّا أساسيًّا: الله سيسكن وسْط شعبه: أكون إلهَكم (تك 8:17). تكونون شعبي وأكون إلهكم (7:6). أقيم بين بني إسرائيل وأكون إلهَهم (29: 44-46). وهكذا يصبح هدفُ الوعد الأوّل إقامةَ الله وسْط شعبه. ولذلك سيشدّد التقليد الكهنوتيّ على الناحية الطقسية: يجب على الشعب أن يكون مقدّسا ليستطيع أن يتقرّب من الله القدوس ويخدمه ويعبده.
أنا يهوه، هذه العبارة تتّصل بالظهور على سيناء، وفيها يقدّم الله نفسه، ويعلن عن هويّته، فيعرف الإنسان أمام من هو. يؤكّد الله قدرته وسلطانه، فيسمع الإنسان له، ويعرف شعبه أنّه الرب، ولا إلهَ سواه.
وهكذا تلتقي التقاليد الثلاثة في الإيمان الواحد، فيشدّد التقليد الإلوهيميّ على التذكير باسم يهوه، واليَهْوَهيُّ على الدعاء باسم يهوه، والكهنوتيُّ على تمجيد اسم يهوه. واسمُ يهوه ليس فقط اسمًا يهتف به بنو إسرائيل في الحرب، فيميَّزون به عن سائر الشعوب، بل وحيٌ سيتّصل به شعب الله بشخص سامِ يحمل إليه الخلاص. أجل، قبِلَ الله أن يوحي باسمه، تنازل الله الى مستوى ضعف الإنسانَ الذي يحتاج الى الصورة الحسيّة، ليدرك الأشياء. ولكن ما يمنحه الله لشعبه ليس صورةً ورسمًا وشعارًا كما عند سائر الشعوب المحيطة ببني إسرائيل، بل صوتٌ وكلمةٌ واسم. الإيمان بيهوه هو إيمان بالإله الواحد الذي يعلن بطريقة حسيّة عن اسم تتقبّله الأذُن والعقل، ويتلفّظ به الفم ، ويردّده التاريخ من جيل الى جيل. وإنّ كلمة الله تخرج من فم الله ولا تعود إليه، ما لم تحقّق ما أرسلت إليه. وخِصبها هنا سيظهر في ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى سيعرف الشعب الله، وفي المرحلة الثانية سيدعو الشعب باسم الله، وفي المرحلة الثالثة سيمجّد الشعب الله.
ولا يسَعنا في نهاية حديثنا عن اسم يهوه الذي اختبره موسى، والذي نقلته إلينا التقاليد الثلاثة، بعد أن طبعته بروحانيّتها الخاصّة، إلاّ أن نورد صلاة "قديش" (أي قدوس في العربيّة، قَديشو في السريانية، أغيوس في اليونانية) التي تعوّد اليهود على تلاوتها في نهاية صلاتهم في المجمع، وهي تعبّر عن عواطف التمجيد لله، وهي قريبة جدًا من صلاة الأبانا، الصلاةِ التي علّمنا إيّاها الربّ يسوع. تقول هذه الصلاة: ليعظَّم ويقدّس اسمك كثيرًا في الجيل الذي خلقته برضاك، ليملِكْ ملكُك، ويُزهرْ خلاصك، ويدخلْ مسيحُك فيخلُص شعبك في زمن قريب. ولنقل: آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM