الكتاب الأول
سفر الخروج
مقدمة عامة
1- مدخل الى سِفر الخُروج.
كان الخروجُ من أرض مصر محطّةً هامّةً في تاريخِ بني إسرائيلَ وحدَثًا يتميز عمّا عداه من الأحداث. بالخروج تكوّنَ شعبٌ جديد، وبه ترتبطُ حياةُ بني إسرائيل وإليهِ عودُ شرائعُه وطقوسهُ ومعتقداتهُ. عندما يريدُ المؤمنُ أن يتأملَ في خلاصٍ يتوقّعُه فهو سيعودُ بالنّظرِ إلى هذا الحدَثِ التأسيسي الذي يغطّي بحضورِه كلَّ أحداثِ التّاريخ التي سبقَتْه وتلك التي جاءت بعدَه. فلا دخولُ أرضِ كنعان، ولا وعيُ الشعبِ لوَحدةِ الأسباطِ الاثني عَشَرَ (يش 24) ولا تأسيسُ المَلَكيّة وتنظيمُها بقيادةِ داودَ، ولا الجلاءُ ولا شيءٌ آخرُ استطاعَ أن يحلَّ في تاريخِ بني إسرائيلَ محلَّ الخروجِ من مصرَ والإقامةِ في البريّة ، والعكسُ هو الصحيح. فالشعبُ نظرَ إلى كلِّ هذه الأمورِ على ضوءِ " الخروج " وانطلقَ في فكرهِ اللاهوتيّ والتاريخيِّ من "سرّ" الخروج، هذا الزمن الذي فيه كان اللهُ يهتمُّ بشعبهِ بمحبّةٍ كما يهتمُّ العريسُ بعروسهِ (هو 11: 1-4؛ تث 8: 11-16)، وذلك رغمَ تمرّدهِ على من أحبّهُ وعصيانِه له. نُظُمُ بني إسرائيل وشرائِعُهم نفهمُها هي أيضا في إطارِ أحداثِ الخروج. لِمَ الفصحُ (12: 16)، لِمَ الفطيرُ (12: 39؛ 8:13)، لِمَ تقدمةُ الأبكار (13: 14-15)؟ مثلُ هذه الأسئلةِ لا تجدُ جوابَها في أنّ تلكَ هي عادةُ أهلِ البلاد التي عِشْنا فيها، وإن يكن الأمرُ صحيحًا من الوِجْهةِ البشريّة المحض، بل في أنّ ذلك هو ما فعلهُ الله من أجلِنا يومَ خرجْنا من مصرَ. لِمَ نحترمُ الغريبَ ونساعدُه؟ الجواب: لأنّ حياتَنا كغرباءَ في مصرَ علّمتْنا ما تكونُ عليه حياةُ الغريبِ من قساوةِ عَيشٍ (22: 20؛ 29:23).
الخروج في حياةِ شعبِ إسرائيلَ هو وقتُ ولادتهِ ومجيئهِ الى الوجود: منذ ذلك الوقتِ بدأ تاريخُه، وما سبقَ ذلك الحدثَ (دعوةُ الله للآباءِ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوبَ) كان مقدّمةً له، وما تبِعَه كان امتدادًا له. وهو أيضًا وقتٌ مميّز عرفَ الشعبُ فيه سعادةَ لقائهِ بالرّبّ. إن سِفر الخُروج يطرحُ أسئلةً عديدةً منها: هل يؤمنون في المستقبل؟ (4: 1، 6: 19) هلِ اللهُ بينَنا أم لا؟ (7:17) وما اسمُه؟ (3: 13-15) وهل يمكنُ أن نراه؟ (31: 18-23) لماذا هذه المغامرةُ وفيها ما فيها من خطر ليقودَنا فجها موسى؟ (14: 11 ؛ 3:16) الى هذه التساؤلاتِ سيجيبُ سِفر الخروج، ولكنّ الشعبَ سيفهمُ الأجوبةَ تدريجيًّا وسوف ينتظر زمنَ الجلاءِ، زمنَ المحنةِ القاسية، ليفهمَ دورَ الألمِ في تاريخَ كلَ خلاص.
منذُ عرَّفَ موسى شعبَه بإله العهدِ الذي وحْدَهُ يستحقُّ العبادة، منذ ذلك اليوم تأمّلَ بنو إسرائيلَ في الحدَثِ المؤسسَّ لوجودِهم (أي الخروج والعهد في سيناء) فعرفُوا آنّ الله قد دخلَ التاريخ. وفهِمُوا من هو هذا الإلهُ الذي قادَهم في مسيرتهِم، وعَلِموا أنّ اسمَهُ "يهوه" أي الذي هو وحدَهُ إله لشعبهِ دون سائرِ الآلهة. يهْوه هو الإلهُ الأمينُ لعهدِه، وقد بعثَ في قلبِ شعبهِ أملاً جعلهم يصرُخون إليهِ من أعماقِ شقائِهم وعُبوديّتِهم. سمِعَ صراخَهم وتغلّبَ على كلّ المقاوماتِ ليجتذبَهم إليهِ من أرضِ العبوديّة الى أرض الحريّة، من عالَمِ العبوديّة للبشرَ الى عالمِ العبادةِ للهِ الواحد. هذا الإلهُ أرادَ أن يجمعَ أُناسًا متفرّقين فيؤلّفَ منهم شعبًا واحدًا جعلَهُ شعبَه الخاصّ. قطع معَهُم عهدًا وسلّمَ إليهِم رسالةً ووعدهم بحُضورِه معهم عَبْر شخص موسى، أو من خلال الطُّقوس الليتورجيّة التي يحتفلُ بها الكهنةُ في معبَدِه.
في سِفر الخروج، سنقرأ قسمًا كبيرًا من هذه المغامرةِ كلِّها التي يعيشُها بنو إسرائيلَ مع الله. إلى معانيه سنتعرّفُ، وفي نصوصه سنبحثُ، لنجدَ في كلامِ الله الحاضرِ دومًا أمامَنا نداء نسمعُه اليومَ، لأنّ كلَّ شعبٍ هو شعبُ الله، وكلَّ إنسانٍ هو إبنُ الله، فنرى فيهِ النّورَ والحياة.
وبعد هذا المدخلِ نتعرّفُ الى سِفر الخروج وتصميمِه ومواضيعِه والإطارِ الذي كُتِبَ فيه.
2- اسم الكتاب.
إسمُه سِفرُ الخروج لأنّه يَروي كيفَ خرجَ العِبرانيّون من مصرَ بقيادةِ موسى. ونستطيعُ أن نسمّيَهُ سِفر العُبور، لأنّ بني إسرائيلَ عبَرُوا البحرَ الأحمَر (أو أقلَّهُ مستنقعاتِ البحيراتِ المُرّة) فانتقلُوا من أرضِ مصرَ، التي تمثِّلُ بالنسبةِ إليهم أرضَ العبوديّة، الى البريّةِ ، بريّةِ سيناءَ، قبلَ أن يعبُروا البريّة فيدخلوا أرضَ كنعانَ، أرضَ الموعِد.
إسمُه في العبريّة "شموت" أي أسماء، لأنّه يبدأ بهاتين الكلمتين "وإله شموت " ومعناها: "إليكَ أسماء" بني إسرائيل. هكذا اعتاد الأقدمون أن يُسمُّوا الكتابَ بأولى كلماتِه. إسمهُ في اليونانيّة "إكسودُس" أي الخُروج والانطلاق من مصر، وفي السُّريانيّة " مفقنا " أي الخروج كما من النفَق والجُحْرِ. سمّاه المعلِّمون اليهودُ "كتاب الأسماء" و "ثاني الخمسة"، لأنّه الثاني بينَ أسفارِ موسى الخمسة ("بنتاتوكس" في اليونانية).
هذا الكتابُ الذي يأتي بعد سِفر التكوين يشكّلُ تتمّةً لما وردَ في سفر التكوين، رغم المسافةِ الزمنيّة التي تفصلُ قصّةَ يوسفَ التي تختتمُ سفرَ التكوين، عن قصّة موسى في مصر التي تفتتحُ سِفرَ الخروج. ويمتدُّ سفرُ الخروج الى سفرَي اللاويّين والعَدَد اللذين لا يُفهمان دون الرّجوعِ إليه. إنّ أسفارَ موسى كانت في الأساسِ تؤلّفُ سِفرًا واحدًا ولقد قُسمت إلى خمسةِ مدارجَ أو أقسامٍ ليسهُلَ استعمالُها في التلاوة الليتورجيّة، إلاّ أنّ التسلسلَ بين سِفرٍ وآخرَ يبقى واضحًا وسوفَ ننتظرُ مثلاً نهايةَ سِفرِ التّثْنِية (34: 1 ي) لنجدَ خبَر موتِ موسى ودفنهِ في وادٍ من وديانِ مُؤاب.
يروي سفرُ الخروج قصّةَ بني إسرائيلَ منذ موتِ يوسفَ في مصر (تك 26:50) الى إقامةِ خيمةِ الاجتماع في بريّة سيناءَ، في اليوم الأول من الشهرِ الأولِ من السنّةِ الثانيةِ لخُروجِهم من مصر (40: 2-17). لقد تبدّلَ الجوُّ تمامًا. نسي المصريون ما فعلَهُ يوسفُ لأجلهِم، وقامَ ملكٌ جديد على مصرَ، وكان لا يعرف يوسفَ (8:1). ولم تعُدْ أسرة يعقوبَ بضعةَ أفرادٍ لا يتعدَّوْنَ السّبعين شخصًا، بل نَمَتْ وصارتْ أمّةً عظيمةً وقوّيةً. كان بنو يعقوبَ جماعةً احترَمَها الفرعونُ وأَعطاها أرضَ جاسان، أخصبَ أرضهِ، فصارُوا عائشينَ في العُبوديّةِ، وخطرُ الموتِ يُحدق بهم.
غير أنّ هذا الشعبَ العائشَ في العبوديةِ سيأخذُه الربّ بيدهِ فيخرجهُ من مصرَ، عبر البريّة الى جبل سيناءَ، وهناكَ يعيدُ إليهِ الحرّيةَ. يقيمُ معه عهدًا يعطيهِ فيهِ الوصايا العشْرَ مع سائرِ الشرائع الدينيّة والأخلاقيةِ والاجتماعية والليتورجيّة في سيناء، وينظّم حياتَهُ في البرّية قبلَ أن يبلغَ أرضَ كنعانَ التي وعَد اللهُ الآباءَ أن يعطيَها لأبنائِهم (13:32 ؛ 33: 1)
3- تصميم الكتاب ومضمونه.
يبدو سفرُ الخروج في وجهَيْن اثنَيْن. هو كتابٌ إخباريّ، وهو قانونٌ تشريعيّ. إنّه يروي أحداثًا عاشَها شعبٌ من الشّعوب، ويوردُ نُصوصًاْ تشريعيّةً جاءتْ مع الأخبارِ بشكلِ وصايا وفرائضَ وسُنَنٍ . بعضُ هذه النصوصِ التّشريعيّةِ مستقلّ عن النصوصِ الإخباريّة، ندرسُها فنكتشفُ فيها أقدمَ ما وصلَ إلينا من شرائعَ وعاداتٍ عملَ بها العِبرانيّون. وبعضُها الآخر يرتبطُ بالنّصِّ الإخباريّ، وهذا يفرِضُ علينا أن نبدَأ بدرسِ تلك الحقْبةِ التاريخيّة القديمة التي حملَتْ معها إرادةَ الله في شعبهِ.
أمّا تصميمُ الكتاب فبسيطٌ جدًّا، وهو يتألّفُ من ثلاثةِ أقسام:
القسمُ الأوّل (1: 1-15: 21) يروي قصّةَ الخُروج من مصرَ فيذكُر عبوديّةَ العِبرانيّين (ف 1) وولادةَ موسى وحداثتَه (ف 2) ونداءَ الربِّ له (ف 3-4) وبدايةَ القيامِ بالرسالةِ التي أوْكَلَها الله إليه (ف 5-6). بعد هذا نقرا خبَر الضّرباتِ العشْرِ (ف 7- 11) ثم تنظيمَ أكْلِ حَمَلِ الفِصْح قبلَ الخُروج من مصرَ (ف 12-13) وأخيرًا عُبور البَحْرِ الأحمرِ (ف 14) ونشيدَ الشّعبِ لانتصارِ إلههِ على جيشِ فرعَوْنَ (15: 1-21).
ألقسمُ الثاني (15: 22-27:18) يشكّلُ انتقالاً من حياةٍ في مصرَ، في عبوديّةِ فرعوْنَ، إلى حياة في البرّيةِ، في عبادةِ الربّ. وهذه هي الأحداثُ التي عرفَها الشعبُ في البرّيةِ بعد عبورِه البحرَ الأحمر: مياهُ مارة (15: 22-28)، السلوى والمنّ (ف 16)، الصخرُ الذي تخرجُ منه المياه (17: 1-7)، قبيلةُ عماليق (8:17-16)، مجيءُ يترو، حَمي موسى (ف 18). أمّا ما تبقّى من أحداثٍ سيعيشُها الشّعبُ قبلَ الوصولِ الى أرضِ كنعانَ، فسنقرأُها في سِفْر العَدَد.
القسمُ الثالث (ف 19-40) يؤلّفُ مجموعة تختلفُ عناصرُها بعضُها عن بعضٍ ، غير أنّها ترتبطُ كلُّها بعهْدِ سيناء. بعد أنْ يصلَ اْلشعبُ الى سيناءَ ويستعدَّ للقاءِ الربّ (ف 19)، يعطيهِ الربُّ وصاياه وشرائعَهُ (ف 20-23) ويقطعُ معَه عهدًا (ف 24). ثمّ يصعَدُ موسى إلى الجبل ليتسلّمَ التعليماتِ المتعلّقةَ ببناءِ معبَدِ الصّحراء وتنظيمِ الكهنةِ الذين يخدُمونهُ (ف 25- 31). ولكنّ حادثةَ العجلِ الذهبيّ تحتّمُ على الشّعبِ تجديدَ عهدهِ مع الرّبِّ (ف 32-34)، وبعدَها سيبدأ موسى تنفيذَ ما أمرهُ به الربُّ من بناءِ معبَدٍ لهُ وسَطَ البرّية (ف 35-40).
هذا التصميمُ يبدو واضحًا إن نظرْنا إليهِ نظرةً إجماليّة، ولكنْ إن تفحّصنا عنه بتدقيقٍ ، اكتشفْنا أخبارًا تَرِدُ مرّتين، إمّا بطريقةٍ يستقلُّ فيها الخبرُ عن الآخرِ كدعوةِ موسى (3: 1-17:4؛ 6: 1-13)، وإمّا بطريقةٍ يمتزجُ فيها الخبرُ بالآخرِ، فلا نعودُ نميّزُ بين تقليدٍ وتقليد، كضرباتِ مصرَ العشْر (ف 7-11) أو عهْدِ سيناءَ (ف 24). أمّا الشرائعُ فوصلتْ إلينا في نصَّيْنِ مختلفَيْن: نصٍ أول هو الوصايا العشرُ (20: 1-7) بطابَعِها الأخلاقيّ، ونصِّ ثانٍ هو قانونُ العهدِ بطابَعه التعبّديّ.
4- بُنْيةُ الكتاب وتركيبُه.
يتألّفُ سفرُ الخروج من عناصرَ ترتبطُ بالتقاليدِ الكبرى التي تغطّي البنتاتوكس أو أسفارَ موسى الخمسةَ وهي: التقليدُ اليَهوَهِيّ، والتقليدُ الإلوهيميّ، والتقليدُ الكهنوتيّ. لكل تقليدٍ طريقتُه وأسلوبُه ونظرتُه الخاصّةُ الى الأمورِ وفكرتُه اللاهوتيّةُ التي يريدُ أن يوصلَها إلينا. وكلُّ تقليدٍ يَروي لنَا كيفَ أخرجَ الله شعبًا من مصرَ بيدِ موسى، واختارَه ليقيمَ معه عهدًا ويسلّمَ إليهِ وصايا. اهتمّت هذه التقاليدُ الثلاثةُ بربْطِ الشرائعِ بأحداثِ التّاريخ، وبإبرازِ دَوْرِ موسى كمحرّرٍ لشعبهِ، كوسيطٍ بين الله والشّعبِ، ليوصِلَ إلى الشعبِ إرادةَ الربّ وشريعتَهُ.
أجَلْ، إنّ سِفرَ الخروج مزيجٌ من هذهِ التقاليدِ الثلاثةِ " وهو لم يبرزْ في صورتهِ النّهائيّةِ التي نعرفُها قبلَ القرنِ الخامسِ ق. م. وعندما ندرسُه نجدُ مقاطعَ أُخذت من هذا التقليدِ أو ذاك ، مُزج بعضُها ببعض، أو جُعل المقطر قربَ الآخَر رغمَ طابعِ التكرارِ الذيَ ينتج عن ذلك. وقد حصلَ أن أُعيدت صياغةُ بعضِ الفصولِ صياغةً جديدة. يبقى علينا أن نبيّنَ بطريقةٍ عامّةٍ حصّةَ كلِّ تقليدٍ من هذهِ التّقاليدِ الثّلاثةِ في سِفرِ الخروج.
1- التقليد اليَهوهي: أعطانا نسيجَ الأخبارِ التي نقرأُها في (ف 1-19)، فلمْ يزِدِ الناشرُ عليها إلاّ ملحقاتٍ قصيرةً. إنّ هذا التّقليدَ لم يحتفظْ لنا بالتّفاصيلِ عن حياة بني إسرائيلَ بعد موتِ يوسفَ وعَيْشهِم في عبوديّةِ المِصريّين (1: 6، 8، 12) إلاّ أنّهُ يتوسع الحديثِ عن دعوةِ موسى والدّورِ الذي لعِبهُ مع الفرعون (2: 15-6: 1) وعن ضرباتِ مصرَ (تنسب إليه سبع ضربات، والعدد 7 رمز الكمال) التي قدّمَها بشكلِ ملحمةٍ دودنَ أن ينسى أنّ ما حصلَ للمصريّين ظاهرةٌ طبيعيّة في أرضِهما (7: 14- 11: 10). يروي هذا التقليدُ موتَ أبكارِ المصريين وخروجَ العِبْرانيين من أرضِ مصر (29:12-39)، ثمّ يذكُر سريعًا مسيرةَ الشّعبِ إلى سيناء (7:13؛ 19: 25)، فلا يضيعُ الوقت، والهدف ليس الطريقَ بل اللقاءُ بالربّ. في (24: 1؛ 9- 11؛ 32: 1-35:34) نقرأُ حديثًا عن العهدِ والشرائع اللاحقة. وفي (34: 10-27) تردُ روايةُ العجلِ الذهبيّ (وهذا أوّلُ انحرافٍ عن الدّين) كمقدّمةٍ لوصايا ليتورجيّةٍ تُعلّمُ الشّعبَ كيف يعبُدون الرّبَّ ، الإلهَ الخفيَّ، متحاشين عن كلّ صورةٍ أو تمثالٍ، وكيف يعيِّدون له أعيادَه الثلاثةَ (الأسابيع، والعنصرة والقطاف)، وكيف يقدِّمون له بواكيرَهم في معبَدهِ.
ب- التّقليدُ الإلوهييّ: يورِدُ الأحداثَ الكبيرةَ نفسَها التي يوردُها التقليدُ اليَهْوَهيّ ولكنّه يبدو أكثرَ بساطةً وإيجازًا. ولمّا دُمج التقليدان (بعد دمار السّامرةِ حيثُ دُوّنَ التقليدُ الإلوهيميّ) سيطَر التقليدُ اليَهوهيّ على الإلوهيميّ، فلم نَعدْ نتبيّنُ ما يتميّزُ بهِ التقليدُ الآتي من مملكةِ الشمِّال. ولكن رغم ذلك نلاحظُ أنَّ التقليدَ الإلوهيميَّ يتوسعُ في الحديثِ عن التضييقِ على العِبْرانيين وعن ولادة موسى وحداثتهِ (1: 15-2: 15)، ويتفرّدُ في ذكرِ كشفِ الربّ عن اسمهِ لموسَى، يومَ ناداهُ من العُلَّيْقةِ المتّقدة (9:3-14)، وقال له: أنا يهْوه، أنا هو الذي هو. يورد هذا التقليدُ فقط خمسَ ضرباتٍ على مصرَ ويتفرّدُ بذِكْرِ الظّلمةِ التي تغطّي مصرَ كلّها (10: 21، 23، 27)، ويروي لنا كيفَ انتصر العبرانيّون على بني عماليق (17: 8-15)، ويشيرُ إلى العلاقاتِ التي قامتْ بيت موسى والمديانيّين الذين أثرّوا على موسى في تنظيم الشعبِ تنظيمًا اجتماعيًّا (ف 18). في التّقليدِ الإلوهيميِّ نقرأُ الوصايا العشرَ (20: 2-17) وشرائعَ قانونِ العهْدِ (22:20-19:23) التي تشدّدُ على متطلَّباتِ الله في عالمِ الأخلاق ، ونقرأُ خبَر الذّبيحةٍ الخاصّةِ التي قطع فيها الربُّ عهدَهُ مع شعبهِ (3:24-8): "هذا هو دمُ العَهْدِ الذّي عاهدَكُمُ الربُّ بهِ عَلَى جَمِيعَ هَذِهِ الأقْوالِ".
ج- التقليدُ الكهنوتيّ: نتعرّفُ إليهِ من خلالَ الإشاراتَ إلى التّواريخ والإحصاءاتِ والأنسابِ (1: 1-5؛ 6: 14-25؛ 7: 7؛ 12: 37، 40-42؛ 17: 1؛ 19: 2). وهو يعرضُ علينا التاريخَ بإيجازٍ ، دونَ أن يلغيَ من تصويرِه كلَّ غلوٍّ ومبالغةٍ ، وهذا واضح في تصويرِه للمعجزاتِ (7: 19؛ 14: 22) أو في توسُّعِه في الأمورِ التّشريعيّةِ (16: 2-32). يتفرّدُ هذا التقليدُ بروايةٍ ثانيةٍ لدعوةِ الله لموسى يكشفُ فيها اسمَهُ (6: 2-13:7). إنّ الكهنوتيّ يوردُ كالإلوهيميّ خمسَ ضرباتٍ ويذكرُ ضربةَ البعوض (8: 12-15) وضربةَ القُروح (9: 8-12) اللتّين لا يذكرهما التقليدان الآخران. يهتمُّ بالأحكامِ المتعلقةِ بعيدِ الفصح وطريقةِ إقامةِ شعائرِه (12: 1-13: 16) وبكلِّ التّشريعِ الطّويلِ الخاصة بالمعبَدِ والكَهَنوت (ف 25- 31؛ 35-40).
كلّ هذه التقاليدِ جمَعَها كاتبُ سِفر الخروج الأخيرُ فكوّنَ تاريخًا مقدّسًا لحِقبةٍ حاسمةٍ في حياةِ بني إسرائيل. إنّ تحريرَ العبرانيين المستعبَدين في مصرَ، وعهدَ الربّ معَهم في سيناء، وإعطاءهم الشريعةَ بواسطةِ موسى، كلُّ ذلك يشكّلُ أحداثًا عظيمةً بقيتْ عالقةً في ذاكرةِ الشعبِ ، لأنّها تفسّرُ اختيار الله له اختيارا خاصًّا دفعَه الى اليمانِ باللهِ الواحدِ والأمانةِ لهذا الربِّ الذي كشفَ عن ذاتهِ وسارَ مع شعبهِ في البرّية وأوصلَهُ الى أرض الموعد.
وإذا أردْنا أن نرسم ملخّصاً تدوين سِفرِ الخروج في تاريخِ إسرائيل يمكنُنا أن نوجزَه كما يلي:
في البدايةِ كان حدَثان هامّان في حياةِ الشّعبِ ، هما الخروج من مصرَ وعهدُ سيناء ، وقد نسجَ الكهنةُ الرّواةُ حولهما أخبارًا تناقلَها النّاسُ في إطارِ كرازةٍ ليتورجيّةٍ بمناسبةِ الاحتفالِ بعيدِ الفصْح أو بغيرِه من الأعيادِ. بعد ذلك جُمعتْ هذه الأخبارُ المتفرّقةُ وترتّبت حول الحدَثيْن الهامَّيْنِ اللذين ذكرنا، ثم زاد " الكهنةُ " على هذهِ النَواةِ الإخباريةِ قوانينَ تشريعيّةً قصيرةً نذكرُ منها الوصايا العشْرَ وقانونَ العهد.
في عهد داودَ وسليمانَ نظّمَ "الكاتبُ" اليَهْوهيُّ التقاليدَ التي وصلتْ إليهِ، وجعَلَها في إطارِ خبرٍ تاريخيّ، ونفَحها بنظرتهِ اللاهوتيّةِ المبنيّة على تاريخ الخلاص. وكذا فعل "الكاتبُ" الإلوهيميُّ العائشُ في مملكةِ الشمِّال موطنِ قبيلةِ أفرائيمَ ومنسّى. ثم جاء "الكاتبُ" الكهنوتيُّ فأخذ بالتقليدَيْن السابقَيْن اللذين كانا قد انصهَرا بعدَ خرابِ السّامرةِ في تقليدٍ مشترَكٍ ، وكمّلهُما بعناصرَ مأخوذةٍ من التقليدِ الكهنوتيّ، أهمُّها التشريعُ عن مسكنِ الله في البرّيةِ، وطرقُ عبادتِه كما كانت في برّيةِ سيناءَ على عهدِ موسى.
وبعد هذا نتساءلُ: من كتبَ سفر الخروج؟ قال التقليدُ اليهوديُّ في الأجيالِ السابقةِ للمسيحيّةِ: إن موسى هو الذي كتبَ سفرَ الخروج، كما كتب سائرَ كتبِ البنتاتوكس. غير أنّ هذا القولَ لا يريدُ أن يلمّح الى هُوّيّةِ الكاتب، بقدْر ما يريدُ أن يعلِنَ أنّ هذا الكتابَ يتّصلُ بموسى، ومنهُ يأخذُ سلطتَه ونفوذَهُ. وأخذَ التقليدُ المسيحيُّ بما قالَهُ التقليدُ اليهوديُّ، فلم يناقشْهُ قولَهُ قبلَ بزوغِ العُصور الحديثةِ في أوروبّا، حيثُ بدأَ العلماءُ يبحثون في النصّ بحثًا أدبيًا وعلميًّا، فاكتشفوا التقاليدَ التي ذكرْنا.
ونقول انطلاقاً من النّصّ الذي بين أيدينا والذي كاتبُه الأوّلُ هو الله مُلهِمُ الكتبِ المقدسة كلِّها، نقول إنّ مؤلّفَ سفرِ الخروج ليس إنسانًا واحدًا، بل أناسٌ عديدون كانوا في جماعةٍ تعيشُ إيمانَها وسْطَ ظروفِ الحياةِ اليومية. تذكّروا تاريخهم على ضوءِ وحيِ الله الذي لا يترُك جماعتَه تضِلّ، فكانَ من ثمارِ تأمّلهِم هذه المجموعةُ التي ستدوَّنُ بصورةٍ نهائيّة بعدَ الرجوع من سبي بابلَ فتصبح لنا ولأبنائنا، كما كانَت للشعبِ اليهوديِّ، كلامًا نجدُ فيه تعبيرًا عن إيمانِنا وقاعدةً لحياتِنا.
5- هدف سفر الخروج ومواضيعه.
ونتساءلُ أيضا: لماذا كُتبَ هذا السفرُ، وما الذي قصَدهُ "ناشرُه" من تجميعِ هذه الأخبارِ ودمجِها وتنظيمِها؟ وما الفائدةُ التي توخّاها من عملِه؟
شدّد كلّ من التقليد اليَهْوهيّ والإلوهيميّ على معنى تاريخِ الخلاص، وعلى عملِ الله في البشريّة، لاسيّما في الشعبِ الذي اختصّه لنفسِه. وشدّد التقليدُ الكهنوتيّ على تنظيمِ العبادةِ وشعائرِ الطّقوسِ ووظائفِ الكهنة. تاريخٌ وتشريعٌ أرادهما اللهُ منذُ الأزمنةِ البعيدة. حَفظ التيّارُ الأولُ في ذاكرةِ الشّعب تاريخًا مجيدًا، وفسّر التيّارُ الثاني للشعبِ أساسَ النُّظم الدينيّةِ التي يعملُ بها اليوم.
ويبقى سؤالٌ آخرُ: في أيّ إطارٍ كُتبَت هذه الأخبارُ وفي أيّ ظرفٍ جُمعت هذه الشرائعُ وإلامَ هدف كاتبُها وجامِعُها؟
لأجل الإجابةِ على هذا السّؤال ننطلِقُ من التعابيرِ الإيمانيّة التي عرفَها بنو إسرائيلَ في مراحلِ تاريخهِم، فنكتشف عَبْر النصوص التشريعيّةِ والإخباريّةِ فعلَ إيمانٍ تلتْهُ الجماعة في ظروفٍ خاصّة، وقد حُفظ لنا في سفرِ تثنيةِ الاشتراع (6: 21-23؛ 26: 5-9) أو سفر يشوع بن نون (ف 24). يبدو فعلُ الإيمان هذا موجزًا مقتضبًا يستطيع كل مؤمنٍ أن يحفظَه غيبًا ويردّدَه، وهو يقول: كان الشعب مضطهَدًا في مصر، فصرخَ إلى الله، فنجّاه اللهُ وقادَه الى البرّية، ومن هناك أدخَله أرضَ كنعان. فعلُ الإيمان هذا لا يرتكزُ أولاً على بواعثَ لاهوتيّةٍ مجرّدة، بل على وقائعَ تاريخيّةٍ ملموسة.
بعد ذلك ظهرَ فعلُ إيمانٍ آخرُ دخلَ فيه عهدُ سيناءَ، وقصّةُ الآباءِ، وخبرُ المعاركِ الحربيّة. وهكذا ستُدوَّن أسفار موسى انطلاقًا من هذه التعابيرِ الإيمانيّةِ المرتكِزة على وقائعَ تاريخيّة، فترسمُ لنا لوحةً واسعةً تبدأ بخلقِ العالم والإنسانِ، وتنتهي باحتلالِ كنعان، وتتضمّنُ في ما تتضمّنُ، تقاليدَ الآباءِ وأحداثَ الخروج والمسيرةَ في البرّيةِ وعهدَ سيناء والتّشريع الموسويّ.
كلُّ إعلانِ إيمانٍ له هدفٌ عمَليّ يُستعمَلُ في إطارِ الطّقوس. وهذا ما حصلَ لبني إسرائيلَ الذين كانوا يتلُون خلالَ ليتورجيّتهَم إعلانَ إيمانِهم ويردّدونهُ في أعيادهِم السنويّةِ ويتذكّرون فيه أحداثَ الماضي. وكان الكهنةُ، خدّامُ المعبد، يستفيدون من هذه التجمّعاتِ بمناسبةِ العيد ليكرِزوا على الشعبِ ما فعلَ اللهُ لهم ويعلّموا الناسَ جيلاً بعدَ جيلٍ . فكان لنا بذلِك النواةُ الأولى لسفر الخروج الذي وجد في عيدِ الفصحِ الإطارَ الطقسيّ. كان الفصحُ عيدًا قديمًا في قبائلِ الصّحراء، فربطهُ العبرانيّون بحدَثِ الخُروج من مصرَ، وجعلوه في إطارٍ ليتورجيّ يعيشُه الشعبُ سنةً بعد سنةٍ ، فيحسُّ وكأنّه يعيشُ اليومَ ما عاشَهُ أجدادُه، ويختبرُ ما اختبروه من حياةٍ مع الله.
أمّا القسمُ المتعلقُ بالعهدِ، فيرتبطُ بالاحتفال بما سُمّيَ عيدَ العهد. في إطار هذا العيد كانُوا يقرأون قسمًا من الشريعةِ كلَّ سنةٍ ، ويقرأونَها كلَّها مرَّة كلَّ سبعِ سنواتٍ في عيد المظالّ، كما يقولُ سفر التثنية (31: 10- 11)، وكما فعلَ يشوعُ بنُ نون يومَ جمعَ الشعبَ في شكيمَ وقطعَ لهم عهدًا مع الربّ (يش 24: 1 ي).
أمّا مواضيعُ سفر الخروج فتتلخّصُ في ما يلي: الرب خلّصَ شعبَهُ من العبوديّةِ، لأنّهُ الإلهُ الأمينُ الذي يفي بما وعدَ بهِ الآباء، وخلاصه لا يكون عملاً وقتيًّا عابرًا، لكن اهتمامًا دائمًا مُتّصلاً بشعبٍ يقودُه بعنايته عبرَ البرّية، بانتظار أن يقيمَ معه عهدًا ويعطيَهُ شريعةً ويعلّمَهُ كيف يعيشُ برفقةِ الله.
الربّ هو الإلهُ الواحد، فلا يلتفتُ شعبُه الى آلهة آخرين. الله حاضرٌ وسطَ شعبهِ حُضورًا دائمًا، وهو يطلب إلى شعبه أن يحضرَ ساعةَ يدعوه الى خيمةِ الاجتماع، ليقدّمَ هناكَ الذبائحَ المفروضةَ، ويعبّرَ للربّ عن تعلّقِه به في عبادةٍ تفرِضُ عليه قداسةَ النّفسِ والجسد.
الربّ هو إلهُ الكون، وقوّتُه تفعلُ في مصرَ (7: 3 ي؛ 11: 9 ي) وفي الأرض كلّها (9: 29). هو القدير الذي يبتُّ مصير شعوبِ كنعان، ويخصّ شعبَهُ بأرض يملِّكهُ إيّاها، كما يتصرّفُ بخيراتِ مصرَ كما يشاء (3: 21-22).
الربّ هو خالقُ الإنسان (4: 11) والمتحكّمُ بقوى الطبيعةِ يوجّهُها بحسبِ مقاصدِه، فتأتمِرُ بأمرِه خادمةً طائعة. يجعلُ الهواءَ يهبُّ في الوقتِ المناسب، (14: 21 ي) ويجعلُ الضرباتِ تتلاحقُ وتتراكمُ فوق أرضِ مصرَ لتحطمّ كبرياءَ فرعون.
ليس الربُّ إلهًا يعيشُ في علياءِ سمائهِ وحسبُ، بل هو يهتمُّ بالبشرِ ويُعنى بمصيرِ شعبهِ فيقودُهم في البريةِ بنورهِ، ويطعمُهم المنّ والسلوى ويسقيهم ماءَ الصّخرِ الصوّان. هو الإلهُ العادلُ الذي يعاقب، ولكنّهُ أيضا الإلهُ الرحيمُ الذي يغفرُ الخطايا: الرب إلهٌ رحيم حنونٌ طويلُ البال وكثيرُ المراحم والوفاء، يحفظُ الرحمةَ لألوفِ الأجيالِ ويغفرُ الإثمَ والمعصيةَ والخطيئة.
6- الإطار الجغرافيّ لسفر الخروج.
إنّ معرفةَ الأمكنة التي عاش فردا العبرانيّون في زمانِ عبوديّتهم، والتي مروُّا فيها في طريقهِم الى برّيةِ سيناءَ، أمرٌ مهمٌ ومفيدٌ لفهْمِ نصوصِ الكتابِ المقدّس فهمًا دقيقًا. غيرَ أنّ هذه المعرفَة تبدو صعبةً، ولن تكونَ بالدقّةِ التي يقولُ بها لباحثُ في العصورِ الحديثة. أمّا الأسبابُ فعديدة:
أولاً: نقصٌ في المعلوماتِ الكتابيّة التي اهتمّت بمسيرة الإيمانِ أكثرَ من اهتمامِها بمسيرة الأَقدام.
ثانيًا: غيابُ معطياتٍ في كتبِ المصريّين تساعدُنا على مقابلتِها بمعطياتِ الكتاب المقدس.
ثالثًا: تردّدُ علمَ التّاريخَ والآثارِ في تحديدِ موقعَ هذه المدينة أو تلك.
رابعًا: بلبلةٌ في معرفتِنا لمضيقِ السّويس حيثُ هربَ بنو إسرائيلَ بسببِ التغيّرات التي طرأَتْ على جغرافيّته على مدى ثلاثين قرنًا.
إذاً سيكونُ لنا فقط الإطارُ التقريبيّ لأحداثِ سفرِ الخروج. وهذا يكفي. المؤمنَ الذي يهمُّه أولاً وأخيرًا أن يتّصلَ بكلامِ الله الذي نزلَ إلى الأرضِ عبرَ شعبٍ من الشّعوب.
كانت عاصمةُ مصر على أيام فراعنةِ السلالة التاسعةَ عشْرةَ مدينة طيبة في الجنوب، ولكنّهم أسسَّوا لهم مراكز ثانويةً في الشمّال: الفيتوم (بيت أتوم، أحدِ آلهةِ الشّمس) في وادي توميلات، قربَ بحيرة تمساح، ورعمسيس التي بناها رعمسيس الثاني على إحدى شُعبِ النّيل، وأفاريس، التي بناها الملوكُ الرعاة، قبلَ انسحابِهم، على أحد سواعدِ النيل الشرقيّ عند مصبِّه. بعضُ هذه المدنِ ترتبطُ بسفرِ الخروج (1: 11) لأنّها كانت موضعًا لخَزْنِ المؤونة (تك 41: 35-36)، وقد بناها بنو إسرائيلَ وغيرُهم من الغرباءِ الذين سخَّرهُم المصريّون.
أمّا أرض جاسانَ التّي أقام فيها بنو إسرائيل أربعةَ أجيالٍ مع قُطعانِهم (تك 45: 10؛ 28:46-29 ؛ 47: 1-6 ؛ خر 18:8؛ 9: 26) فهي المنطقةُ المحدّدة شَمالاً ببحيرة منزلة، وجنوبًا بالفيتوم ووادي توميلات، وغربًا بإحدى شُعبِ النّيل، وشرقًا بالبحيراتِ المُرّة.
إنطلقَ بنو إسرائيلَ من جاسانَ، من مدينةِ رعمسيسَ (12: 37) وساروا في البرّية، والسؤالُ الذي يطرح: أيَّ اتّجاهِ أخذوا، أيَّ طريقٍ سلكوا؟
إذا أخذنا بخَبرِ التّقليدِ اليَهْوهيّ نفهمُ أنّ بني إسرائيلَ ذهبوا توًّا إلى الشرقِ باتّجاه قادش، ثم مسة (15: 25) أو مريبة (7:17؛ رج عد 10: 1-4) التي تقع قربَ قادش. أمّا ذكرُ بني عماليق (8:17-16) فيفترض أنّنا أمام صحراء النقب، موضوع إقامةِ هذا الشّعبِ الذي حارب بني إسرائيل. هل قصّر التقليدُ اليَهوهيّ المسافةَ وجعلَ العبرانيّين يَصِلُون بسرعةٍ الى أرض الموعدِ بِيَدِ الله القديرة؟ هل نحن أمام "خروج أوّل" اشترك فيه بعضُ العبرانيّين برفقةِ الملوك الرعاةِ يومَ تركوا أرضَ مصرَ في القرن السادسَ عشَر ق. م.، وذكره التقليد اليهوهيّ الذي كتبهُ أهلُ الجنوب، ومنهم بنو يهوذا وكالب الذين كانوا أوّلَ الواصلين الى أرضِ كنعان؟ هذه الروايةُ يأخذُ بها أشعيا (11: 15-16؛ رج مز 78) الذي يحدّثُنا عن لسانِ بلاد مصرَ، وهو الخليج الواقع إلى الشمّال من بَرْزَخ النيّل.
غير أنّ التقليدَ الإلوهيميّ، وهو تقليدُ قبيلةِ أفرائيمَ ومنسّى ، فيرسم بدقّةٍ الطريقَ الذي سلكَه العبرانيّون بقيادةِ موسى. لا شكّ في أنّ هاتين القبيلتَيْن عاشتا في مصرَ كما يقول سفرُ التكوين (41: 50-52؛ 48: 1ي)، وكان من بني أفرائيمَ يشوعُ بنُ نون ، ساعدُ موسى الأيمن وفاتحُ كنعان (عد 13: 8-16). بالإضافةِ الى ذلك نشعرُ أنّ ذكْرَ الخروجِ من مصرَ مع المسيرةِ في الصحراء، ظلّ حيًّا في قبائلِ الشمّالِ بطريقةٍ خاصة. ويشهدُ على ذلك ما قالَه وفعلَه أبناؤُهم. وما يبدو يقينًا هو أنّ بني إسرائيلَ لم يسلكوا طريقَ بلادِ الفلسطيين الذين جاؤوا حديثًا من بلادِ اليونان ، وأقاموا على ساحلِ البحر. فكيف لهم أن يواجهُوا شعبًا قويًّا وهِم ما هم عليه من ضعف (رج 13: 17-18)؟ وكيف يصلون سالمين الى أرضِ كنعان، وطريقُ الشمّال المصريِّ مزروعٌ بالتحصيناتِ التي بناها الفراعنةُ ليدرَأُوا عنهم خطرَ الشّعوبِ الساميّة؟
إذاً، خرجَ بنو إسرائيل باتّجاهِ الجنوبِ الشّرقيِّ من مصرَ، فساروا في وادي توميلات، وتوجّهوا الى الجنوب، الى البحيرات المُرّة، حيث وجدوا مساحةً من المياهِ قليلةَ العُمقِ، يمكنُ أن تصبحَ مَجازةً إذا تراجعتْ عنها المياهُ. من هنا مرَّ موسى وشعبُه فنجا من ملاحقةِ الحاميةِ المصريّة القائمةِ في تلكَ المنطقة. هذا هو الافتراضُ الأقربُ إلى المعقول.
وعبَر موسى مضيقَ النّيل، وقادَ شعبَهُ في طريقٍ عرفَهُ يومَ عاشَ في المنفى خوفًا من غضبِ الفرعَوْن (15:2)، وقادهُم في طريقِ مديانَ وسيناءَ.
مديانُ منطقةٌ في شمَالِ الجزيرةِ العربيّة. والمديانيّون مجموعةُ شعوبٍ أو قبائلَ تتنقّلُ من مكانٍ الى آخرَ حتى تصلَ الى بريةِ سيناء. إنّ التقاليدَ تذكرُ عشيرةَ دانِ المديانيّة التي تحالفت وبني إسرائيل (2: 16؛ 13: 1؛ 18: 1؛ عد 10: 29). ويتحدّث الكتاب عن القينيّين (قض 1: 16؛ 4: 11 ؛ 1 صم 15: 6)، إحدى عشائرِ المديانيّين، الذين سُمُّوا كذلك لأنّهم كانوا يشتغلون الحديد (رج في العربّية قان الحديد أي سوّاه، والقين هو الحدّاد وكل صانع). اذن، نحن أمامَ قبائلَ نصفِ متحضّرةٍ تعمل في التّجارةِ بين مصرَ كنعانَ. أمّا المِديانيّون الذين التقاهم موسى فهم، على ما يبدو، بنو كوش أو كوشان (رج 2 اخ 16:21) الذين تذكرهم النصوصُ المصريّةُ القديمةُ، وتجعلُ مساكِنَهم جنوبي كنعان (عد 12: 1 امرأة موسى الكوشيّة).
لن نعرفَ يومًا بالتمام المكانَ الذي نُفي فيه موسى بين المديانيّين، واشتغل عندهم كراعي غنم (2: 21؛ 3: 1)، لكن مما نعرفُهُ هو أنّه ذهبَ إلى جبلِ الله الذي تُسمّيهِ التقاليدُ الإلوهيميّةُ والاشتراعيةُ المتأصّلة في الشّمال "جبل حوريب" (1 مل 8:19)، والتقاليدُ اليَهوهيّة والكهنوتّيةُ المتأصّلة في الجنوب "جبل سيناء"، غيرَ عابئةٍ بالتقاربِ بين اسمِ الاله سين (أي القمر) واسم هذا الجبل الذي قدّسَهُ الربُّ بحضورِه. عند سفحِ هذا الجبل، الذي تُجمع تقاليدُ راجعة الى القرن الرابع المسيحيّ على القول إِنّهُ جبلُ موسى، ظهرَ اللهُ لموسى ثم ظهرَ لشعبهِ وأقام معهُ عهدًا.
وهكذا يكونُ طريقُ موسى وشعبِه الى جبلِ سيناءَ، قد انطلقَ من جنوبيّ مضيقِ السّويس، فسارَ باتّجاهِ المنطقةِ الواطئةِ المحاذيةِ للبحرِ الأحمر، ثم مالَ إلى الشّرق والجنوبِ الشرقيّ عبرَ الوديان الى أن وصلَ الى جبلِ سيناءَ. أمّا المحطّاتُ التي يشيرُ إليها سفرُ الخروج (15: 22-27؛ 16: 1 ؛ 19: 3) فهي واحات وسَط الصحراء: واحةُ مارة أي عيون موسى، وواحةُ إيليم أي وادي جرندل، وواحةُ رفيديم أي وادي فيران.
7- تاريخ الشرق ومصر في زمن الخروج.
لقد أحصى المؤرّخُ المصريّ فيتون ثلاثين أو إحدى وثلاثينَ سلالةً فرعونّيةً ملوكيّة، وقسم التاريخَ المصريّ ثلاثَ حِقباتٍ . سبقتِ الحِقْبةَ الأولى حقبةٌ سحيقةٌ في القِدَم، ولحقَت الحقبةَ الأخيرة حقباتٌ عرفت الأزماتِ ومظاهرَ الانحطاطِ والانحلال.
نتعّرف في الحقبةِ الأولى الى المملكةِ القديمة (2800- 2300)، وكلِّ من السّلالاتِ الثّالثةِ الى السّادسة؛ وفي الحقبةِ الثّانية إلى المملكةِ المتوسّطة (2100- 1580)، وكلِّ من السّلالات الحاديةَ عشْرة الى السّادسَةَ عشرةَ، وفي الحقبةِ الثالثةِ الى المملكةِ الحديثة، وكلِّ من السّلالات الثامنةَ عشرةَ الى العشرين (أو الى السلالة الخامسة والعشرين بحسبِ بعضِ المؤرّخين والتي تمتدّ الى سنة 660).
تعوَّد الشرّاحُ إجمالاً أن يحدّدوا زمنَ سفر الخروج في عهد المملكة الحديثة، وبالضّبط في عهدِ السّلالة التاسعةَ عشْرة (1320- 1200). ولكنّ قصّةَ الخروج لها تاريخٌ طويل يفرِضُ علينا أن نرجعَ الى الوراء، لنرسمَ بعضَ المحطّاتِ الكبرى في تاريخِ مصرَ والبلدانِ المجاورةِ، بين القرنين الخامسَ عشَر والثالثَ عشَر ق. م.
ثارت طيبةُ على الملوكِ الرّعاة، وانتصرَ الفرعونُ احموسيسُ (1580- 1558) على الغُزاةِ المتسلّطين، فهدمَ عاصمتَهم أفاريس، وثبّتَ ملكَه مؤسّسًا الحقبةَ الحديثةَ في تاريخِ مصر. وبعد أن عاد السّلامُ الى البلادِ وازدهرتِ التجارةُ، بدأت مصرُ سياسةً تَوسّعيّة بقيادةِ تحوتمسَ الثّالث (1483- 1450)، أعظم رِجالِ الحربِ فيها، ففرض هذا الفرعونُ سلطتَه على الشّرقِ الأوسط، وكان يجرّدُ حملة كلَّ سنةٍ على فِلسطينَ ولبنانَ وسوريا الى الفراتِ الأعلى، فيجمع الجزيةَ التي تدفعُها هذه الممالكُ ويعودُ إلى بلادهِ غانمًا رابحًا. كانت حملاتُه سبعَ عشرةَ، وكان لهُ أن يحارِب خلالَها الحثّيين والحوريّين.
أمّا الحثّيون فشعب هنديّ أوربيّ امتزجَ بالشّعوبِ الساميّةِ، وأسّسَ في القرنِ الثامنَ عشَر في الأناضول، مملكةً ما عتّمت أن توسّعت في القرنِ السابعَ عشَر، وامتدّتْ الى جبلِ طورسَ واجتازتْ حلبَ قبلَ أن تحتلَّ بابلَ حوالي سنة 1550. لقد كان الحثّيون أولَ مملكةٍ قويةٍ في الشّرق، وكان لهم مدنيَّةٌ متطوّرة ودستورٌ دُوّن في القرن الخامسَ عشَر ق. م.، فدلّ على مستواهم الأخلاقيِّ الرّفيع.
أمّا الحوريّون فشعبٌ جاءَ من أعالي بلادِ الرافدين. أسّسُوا مملكةً قويّةً وقفتْ بوجهِ الحثّيين في القرن الخامسَ عشَر، وأجبرتْهُم على البقاءِ في آسيا الصّغرى، والانكفاءِ وراء حدود سوريا. إلاّ أنّ الحثّيين سيسحقون الحوريّين في القرن الرابعَ عشَر بقيادة "سوفيلوليوما "، ويصلون بجيشهِم الى لبنانَ حيثُ يلتقُون المصريين، ويبدأُون معهم حربًا ستدومُ مئةَ سنةٍ (1380- 1280).
في القرنِ الثالثَ عشَر سينتصرُ المصريّون على الحثيّين بقيادة رعمسيسَ الثّاني (1292- 1225) في قادش، ويبرمُ معَهُم معاهدةَ سلام. بعد ذلك ستجْتاحُ شعوبُ البحرِ مملكةَ الحثيّين، وتحرقُ عاصمتَهم "حطورة"، وتمزّقُ مملكتَهم، فلا يبقى إلاّ بضعةُ آثارٍ من مدنيّةٍ عريقة.
أمّا كنعان المتاخمة لمصرَ والمقسّمةُ الى ممالكَ متمايزةٍ ، فقد كان قدَرُها أن تخضعَ لسلطةِ مصرَ، وأن تعانيَ من مرورِ الجيوشِ فيها فتكون مسرحًا لحروبِها (كما في مجدّو سنة 1483). كان أهلُها من الفلاّحين والصنّاعِ والرعاة. وكانت البلادُ تنعمُ بالازدهارِ يومَ يسيطرُ السّلام؛ غير أنّ ملوكَ المدنِ كانوا يتصارعون دومًا في ما بينهم، ويسعى كلٌّ منهم الى كسبِ ودِّ سيّدهِ المصريّ على حسابِ حسن الجوار. ولهذا عمّت البلبلةُ في السياسةِ ، وكان الأمنُ في خطرٍ دائم بسببِ حروبٍ متواصلةٍ تزاد عليها حملاتُ الغزاة الآتين من الصحراء.
هذه الحالة من الفوضى جعلت مصرَ حاميةً لأمنِ هذه الممالك مستثمرةً لاقتصادها وثروتها، فسيطرَ المصريون على طرقِ التّجارة، واستخرجوا المعادِنَ من برّيةِ سيناءَ، وبسطُوا سلطتَهم على بلادِ الحبشة يجلبون منها العبيدَ لأشغالِ الحُقول والبناء. كلُّ هذا كسَبَ لمصرَ أموالاً طائلةً صرفَتْها في حياةٍ من البَذْخ والرَخاء، فازدهرت فيها الآدابُ ونمتِ الفُنون، ممّا جعلَ لها شهرةً لا ينازعُها إيّاها أحد.
سلطةُ الفرعون في مصر سلطةٌ مطلقة ترجعُ بأصلِها الى الإله. أمّا أداةُ هذه السّلطة فجيش محترِف ومنظَّم يتمتعُّ بالأموالِ الوافرة. إزاء فئةِ الجيش نجدُ فئةَ الكهنةِ الغنيّة والقديرة. وتبقى بعد ذلك فئةُ الفلاّحين المساكين الذين لا يتميّزون بشيءٍ عن العبيدِ والغُرَباء. فالغرباءُ كانوا كثيرين في مصرَ، وقد جاؤوها طلبًا للكسْب والربح، أو كأسْرى حربٍ يشتغلون في استثمارِ الأراضي، وتشييدِ المباني الضّخمة التي عرفتْها السلالةُ التاسعةَ عشْرة.
هذا هو الإطارُ الذي عاشَ فيه العبرانيّون قبلَ خروجهم من أرضِ مصرَ، وعبورِهم البحرَ الأحمر، وتجوّلهِم في برّية سيناءَ، الى أن تأزَف الساعةُ التي فيها يدخلون أرضَ كنعانَ بقيادةِ يشوعَ بنِ نون، خليفةِ موسى عليهم.
وهنا نتساءلُ: ما هي علاقةُ أحداثِ سفر الخروج بالتاريخِ كما نقرأُه، لا في الكتاب المقدّس فحسب، بل من خلالِ الاكتشافاتِ الأثريّةِ في مصرَ وغيرِها من ممالكِ الشّرق الأوسط؟
8- سفر الخروج والتاريخ.
أَلمحنا، عندما ذكرْنا التقاليد، إلى أنّ سفرَ الخروج لم يكتبْ مرةً واحدةً منذ ثلاثةِ أو أربعةِ الآف سنةٍ ، فوصلَ إلينا بصيغةٍ نهائيةٍ متحجّرة، بل ظلّ إرثًا شفهيًّا يتناقلُه الأبناءُ عن الآباءِ، وتغنيه الجماعة المؤمنة التي تُعمِلُ فيه ذاكرتها وتطبعُه بعقلِها وقلبِها وعواطِفها. هذا الإرثُ الأدبيّ والروحيّ تأمّلت فيه أجيالٌ وأجيال، فحافظت على حقيقتهِ الأساسيّةِ، ولكنّها عرفت أنه حقيقةٌ حيّة فجعلتها حاضرةً للمؤمنين، وكأنّهم يسمعونَها للمرة الاولى.
بدأ الحدَثُ خبرًا شعبيًّا عفويًّا، ثم جاءَ مَنْ نظمَ العناصرَ المتفرّقةَ، ورتّبَها لتقال في إطار المعابد المنتشرة في أرض إسرائيل. وأخيرًا تبرّع مَنْ دوّنَ الأخبارَ، وجمعَ الشرائعَ كما وصلت إليه، فأعطانا تحفةً أدبيّة، وفكرًا روحيًّا كان باعثًا على تجديد الإيمان، ومثالاً ينظرُ إليه الشعبُ، فيجد فيه برنامجَ حياةٍ يعمل بموجَبهِ. وهكذا، فالكلامُ الذي وصل إلينا عبرَ سفر الخروج، ينطلقُ من حقيقةٍ وواقعٍ، ولكنّه يأخذُ هذا الواقع فيضخّمهُ، ويمسكُ بالحقيقةِ البسيطةِ فيضخّمُها، ويبرزُها لعيونِ النّاس. كلُّ هذا جعلنَا نتساءل: أين الحقيقةُ والواقعُ في سفرِ الخروج؟
نقول أولاً إنّ أحداثَ سفرِ الخروج حقيقةٌ وواقعٌ ، ونقول ثانيةً إنّ سفرَ الخروج يرتبط بالتاريخ، ولولا التاريخُ الذي يستندُ إليه، لما كان لهذا السفرِ من معنى. نطرحُ هذين القولَيْن، بوجهِ الذين يعتبرون ما نقرأهُ في سفرِ الخروج، مجّردَ خرافاتٍ أو رواياتٍ صبيانيّةٍ ، لا تستحقُّ أن تستلفِتَ أنظارَنا.
إذا أردْنا أن نفهَم سفرَ الخروج بارتباطهِ بالواقع، علينا أن نميّزَ فيه أمورًا عديدةً. فحقيقةُ سلسلةِ الأنسابِ التي تناقلَها الأبناءُ عن الآباء، ثم رتّبها المؤرّخون بطريقةٍ موجزة قبلَ أن تدوّنَ في زمنِ الجَلاء أو بعدَه (6: 14-25)، غيرُ حقيقةِ ظهورِ الربّ لموسى في العلَّيْقة الملتهبةِ (3: 24)، والكلامِ الذي قالَهُ اللهُ لموسى (12: 1). ففي الحالةِ الأخيرة نحن أمامَ اختبارٍ روحيّ يفوقُ الطّبيعةَ ولا ترافقُه دومًا ظواهرُ خارجيّة، ولكنّه اختبار حقيقيٌّ سيدفعُ موسى الى القيام بمَهمّةٍ كانت شبهَ مستحيلةٍ على البشر. وحقيقة "ضرباتِ " مصرَ، وعبورِ البحرِ الأَحمر، بأسلوبِها الملحمّي، هي غيرُ حقيقةِ الشرائع، التي أَوردَها الكاتبُ، وجعلَها في ما بعد داخلَ هذا الإطارِ الإخباريّ. لا شكّ في أنّ الوصايا العشْرَ، هي عطيّةُ الله للشعبِ عبرَ شخصِ موسى. ولكن بأيّ شكلٍ وصلت إلى موسى؟ وأيَّ طريقٍ سلكتْ قبل أن تبلغَ إلينا بالشكل الذي نعرفُه؟ مثلُ هذا السؤالِ، يجدُ جوابًا في النّقدِ الأدبيّ للنصوصِ، وهذا أمرٌ سوفَ نتطرَّقُ إليهِ، خلال شرحِنا لآياتِ سفر الخروج. ونقولُ أيضًا: إنّ خيمةَ الاجتماعِ، كما يصوِّرها سفرُ الخروج، ليست كخيمةٍ في الصحراء، بل هي رسمٌ مصغّر عن هيكلِ أورشليم. كيف تريدون لمؤمن رأى الهيكلَ الذي هو فخرُ الأمّة، أن يصوّرَ معبدًا لله بغيرِ الصّورةِ التي يشاهدُها كلَّ يوم؟ وهل ننسى أنّ العبادةَ هي هي، أكانت في معبدٍ حقيرٍ أم هيكلٍ ضخمٍ، ما دامَ الله حاضرًا وسْطَ شعبهِ، وما دام الشعبُ متهيئًّا لاستماعِ كلمتِه؟
لقد تعوّدْنا منذ الصّغر، أن نسمع أخبارَ سفر الخروج، وتعوّدْنا أن نرى فيها سلسلةً من المعجزاتِ، فاستنتجْنا أنّنا أمامَ تاريخِ عجيب مدهشٍ ، يتدخلُ فيه اللهُ كلَّ دقيقةٍ في حياةِ شعبهِ. ولكن يكفي أن نقرأ الكتابَ قراءَةً متمهّلةً، لنغيّرَ نظرتَنا إلى الأمور، فلا نحسب أنّ الله حاضرٌ بصورةٍ ملموسة كالبشر، يسمعه النّاس ويَروْنه. إنّ اللهَ يتدخّلُ في حياةِ البشر وتاريخهِم، ولكن بطريقةٍ خفيّة، وهو كالريح، تسمع صوتها، ولكنّك لا تعرفُ من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب (يو 8:3).
فإذا نظرنا مثلاً الى المعجزاتِ والعجائبِ، وجب علينا أن نفهمَ عقليّةَ الكاتب المُلهَم، الذي لا يميّز، عندما يتدخّلُ الله في الكونِ، بين مسيرة الأشياءِ بصورةٍ طبيعيّةٍ ، ومسيرتها بطريقةٍ تفوقُ الطبيعة. الله هو الكبيرُ العظيمُ (رج مز 48: 1ي) وكلُّ آيةٍ من آياتِه، عملٌ يستحقّ الذكرَ ويبعثُ على الدّهشةِ والتعجّب. هو يعملُ من خلالِ الطبيعة، فيرسِلُ الشّفاءَ الى شعبِه، ساعةَ يحتاجُ إليهِ، وهو يعملُ بطريقةٍ مُغايِرةٍ لسُنَنِ الطبيعةِ، فيجعل عددًا كبيرًا من النّاسِ يجدون قوتَهم في خمس خبزات وسمكتين. يبقى على المؤمِن أن يتعرّفَ إلى يد الله في أعماله، ولقد عملَ الأنبياءُ المتكلّمون باسمِ الله، على تنبيهِ الشّعبِ الى أمورٍ لم تكن لِتخْطُر على بالهِم، أنّها تدلُّ على تدخُّلِ الله.
فالعجيبةُ تحمل الإنسان على الإعجاب والدهشة، ثم تدفعُه الى التعرّف الى يدِ الله الفاعلة في الكون. فالضرباتُ التي حلّت في مصرَ ظواهرُ معروفةٌ ، ولكنّ الكاتبَ المُلهَم، حشَدها في مجال ضيّقِ ليدلَّ على قدرةِ الله، التي ستحطّمُ كبرياءَ ملكٍ أرادَ أن يتحدّى الله. ولن نحتاج، إلى أنْ نتصّورَ أمواجِ البحر الأحمر عاليةَ صاخبةً، لتبرُز أمامَنا عجيبةُ العبور، بل يكفي أن يكونَ العبرانيّون قد اجتازوا البحيراتِ المرّة، ونجَوا بأنفسِهم من المصريّين، ليعتبروا أنّ قدرةَ الله قد خلّصَتْهم. هذه القدرةُ التي لا تقف بوجِهها أمواجُ الكون الأولى وأعماق اللُجَج، كيف تقف بوجهها المستنقعاتُ القليلةُ العُمْق؟! يقولُ المزمِور (74: 13-14): "شققْتَ البحرَ بجبروتك، كسرْتَ رؤوس التنانين على المياه. رضضْتَ لاويثان وجعلتَه قوتًا للحيتان". بعد هذا أيّةُ قوة تقف أمام قوّة الله؟!
إنّنا عندما نضَعُ المعجزةَ في إطارِها الطبيعيّ (مثلاً عبور البحر الاحمر)، فنحن لا ننظُر الطابعِ الغريب للأَحداث، كما يرويها سفرُ الخروج، إنّما نشدِّدُ، على أنّ الله يستفيدُ من عملِ الطّبيعةِ، وتعاقُبِ الأحداث، ليتدخّل في التاريخ، في تاريخِ شعبٍ ربطَ مصيرَهُ بالله، في تاريخِ كلِّ الشّعوب.
هنا، على مستوى التّاريخ تتميز ديانةُ بني إسرائيلَ، عن دياناتِ الشّعوب المجاورة. فديانةُ الكنعانيّين مبنيّةٌ على حياة الطّبيعةِ بشتائها حاملِ الرقاد والموت، وربيعِها حاملِ القيامةِ والحياة. أمّا ديانةُ بني إسرائيلَ فمبنيّة على تاريخ يعيشُ الشعبُ وقائعَهُ في احتفالاتِه الليتورجيّة. وعندما أخذَ بنو إسرائيلَ بأعيادِ كنعان،ً أعطَوْها مضمونًا تاريخيًّا، فربطُوها بأحداثِ الخلاص. فصارَ عيدُ الفطير عيدَ الخلاص من مصر، وعيدُ العنصرة عيدَ الشّريعة المعطاةِ على جبل سيناء، وعيدُ المظال، عيدَ الحياةِ السّعيدةِ مع الربّ في البريّة، أربعين سنةً.
إنّ تاريخَ الخروج الذي كتبه بنو إسرائيلَ ينطلِقُ من الواقع، وتصوُّرَهم للأمور بعيدٌ كلَّ البعدِ عن الخرافةِ وطريقةِ الأخبار الأسطوريّة. وإذا كان الكاتبُ الملهمُ استعملَ فنًّا أدبيًّا يضخّم فيه الأمور، فهو لم يهدفْ يومًا إلى تعظيم الإنسانِ وتمجيد الأبطالِ، بل إلى إظهارِ عظمةِ الله. ومع أنّ المُناخَ الذي وُلدَ فيه سفرُ الخروج، مناخٌ مُشرِك وعابدُ أوثان، وهو محيطُ مصرَ القديمةِ، فنحنُ لا نجدُ فيه أيَّ أثر لأخبارِ الآلهةِ، كما في أساطيرِ أوغاريت واليونان. وإذا كان جوُّ السِّحر والتنجيم الذي عرفتْه مصرُ يخيّم على أخبارِ الضّرباتِ التي تصيبُ مصرَ بفعلِ عصا موسى، فالمناخُ الحقيقيُّ الذي يسيطرُ على هذهِ المقاطع، هو أنّ الله أقوى من كل آلهةِ مصرَ الكاذبة الضّعيفة. الربُّ هو الإلهُ الواحدُ الحقيقيُّ، به نعترفُ، وإيّاهُ نمجّد، أمّا البشرُ مهما علا شأنُهم، فيبقَون مجرّدَ بشرٍ ، لا أبطالاً على مثالِ أبطالِ هوميروس. وعندما يذكرُهم الكاتب، لا يسعى الى تعظيمِهم في عيوننا، بل إلى استنتاجِ عِبْرةٍ تكون لنا درسًا. عظمةُ هؤلاءِ النّاس أنّهم سمعُوا الله، وعظمةُ موسى أنّه كان أداةً بيدِ الله الذي اختارَه لأجل عمل الخلاص. والتاريخُ لم يُكتبْ لذاتِه، بل كتاريخِ شريعة " ككتابٍ يعلّمُ الشّعبَ كيفَ يعيشون، ويدلُّهُم على الطّريق الذي فيه يسيرون. فالأخبارُ لم تُجعَلْ للأخبار وحسب، بل لاستخلاصِ العِبْرة للمؤمنين العائشين اليومَ، الذين يسمعون ما صنعَهُ الله من أجل شعبهِ، وما يطلبُ منهْم أن يفعلوا، ليكونَ سلوكُهم لائقًا باختيارِ الله لهم.
إنّ التاريخَ كتاريخٍ، أمرٌ ثانويّ بالنّسبةِ الى الكاتبِ المُلهَم ، وإن كانَ إطارُ سفرِ الخروج إطارًا تاريخيًّا. هو يهملُ معلوماتٍ تاريخيةً وجغرافيّةً، نتمنّى لو كانتْ بينَ أيدينا، فلا يدلُّنا على الطريق الذي سلكه العبرانيّون في البرّية، أو على أيِّ جبل قطعوا فيه عهدًا مع الربّ. لا يخبرُنا من هم بنو مديان الذين لقِيَهُم العبرانيّون في طريقِهم، ولا يذكرُ لنا شيئًا عن التّاريخِ القديمِ، بل هو لا يهتمُّ بمصرَ العظيمةِ، في القرن الثالثَ عشَر ق. م.، ولا برعمسيسَ الثاني، الشهيرِ بأعمالهِ العظيمةِ وحروبهِ المدْهِشة. اختارَ الكاتبُ الملهمُ، أن يرويَ قصةَ الله مع النّاسِ، فاهتمَّ بالله أولاً وأخيرًا، لأنّ الله هو الألِفُ والياءُ، والبدايةُ والنهايةُ، وهو الذي يوجّهُ الامورَ لخيرِ الذين يحبُّونه.
9- سفر الخروج كتاب وصايا الله وشرائعه.
يتضمّنُ سفر الخروج أوّل النصوصِ التّشريعيّة في إسرائيل: لائحةَ الوصايا الأولى (20: 2-17) وقانونَ العهد (20: 22-23: 19) بحسَبِ التّقليد الإلوهيميّ، ثم لائحةَ الوصايا الثانية أو قانونَ تجديد العهد (34: 14-26) بحسب التّقليد اليَهوهيّ. وإنّ ما يلفت انتباهَنا، هو الطابَعُ الدينيّ لهذا التّشريع، بمعنى أنّ الشريعةَ تأتي من الله لا من الإنسان. لم تكنْ هذه الحالةُ في شعبِ إسرائيلَ فحسْب، بل في كُلِّ أم الشّرقِ القديم. نوردُ على سبيلِ المثال قوانينَ حمورابي التي تَرِدُ في إطارِ أناشيدَ تمتدحُ الآلهة، ولاسيَّما إلهِ الشّمسِ وربِّ الحقِّ والعدل.
في شعبِ إسرائيل، الربُّ هو من يملي الشريعة، ويحدّد واجباتِ أبناءِ شعبه تجاهَه، ويبيّنُ أنّ الباعثَ على حفظِ الشّريعة، هو باعثٌ دينيّ بَحْت. هذا ما نكتشفُهَ في لائحتي الوصايا، الاولى والثانيةِ، اللتين كانتا تُتلَيان في إطار ليتورجيّ. وهذا ما نكتشفُه أيضًا في قانونِ العهْدِ، حيث تمتزجُ الشرائعُ المدنيّةُ والجزائيّةُ بالأحكامِ الدينيّة، فتبدو المجموعةُ كلُّها، كأَنَّها دستورُ عهدِ الشّعبِ مع الله. إذن لا تمييزَ بين قانونٍ مدنيِّ، وقانونٍ دينيّ، ولا فصلَ بين ما يفرِضُه الله، ويشرّعُه البشر. كلُّ شريعة ترجعُ إلى الله، ولا تمييزَ بين ما يأتي مباشرةً من الله، وما يصلُ إليهم عَبْر موسى، كليمِ الله.
لمّا اكتشفَ العلماءُ قانونَ حمورابي سنة 1902، وجدُوا تقاربًا بينَهُ وبينَ النّصوص التي نقرأُها في قانونِ العهد، وكذا كانتِ الحالةُ بالنّسبةِ إلى النّصوص الأشّوريّة والحثيّة. ولما اكتشفُوا دستورَ ليفيت عشتارَ السومريّ، استنتجوا مناخًا اجتماعيًّا وقانونيًّا واحدًا، استقَتْ منه شعوب الشّرق القديم. أمّا ما نجدُه في سفرِ الخروج، فقانونٌ بسيطٌ وقديمُ العهد، لا دستورُ دولةٍ متحضرة، كما كانت عليه سومرُ أو أشور، بل دستورُ جماعة من الرّعاةِ والمزارعين، يتوافقُ وبلادَ كنعانَ كما نعرِفُها. بدأ ظهورُ هذا التّشريعِ شفهيًّا قبل أن يُدوَّن، بدأ عمليًّا قبل أن يصبحَ قوانينَ نظريةً. نزاعٌ بين الأفرادِ يتبعهُ إفتاءٌ وتحكيم، ثم تصبحُ هذه الاجتهاداتُ عناصرَ سينطلقُ منها المشترِعُ، ليكتُبَ قوانينَه (18: 13-16). ثم تطوّرَ هذا التّشريعُ الأوّلُ الذي ارتبطَ بحياةِ البَداوة، فصارَ قانونَ العهدِ الذي سيهتمُّ بتنظيمِ الفِلاحةِ وأعمالِ الحَقْل والكرم والبيتِ، فيدلُّنا على أنّ العبرانيّين تركوا حياة البداوة، وأخذوا بحياة الحضارة. غيرَ أنَّ المشترعَ لم يُلغِْ أيّةَ شريعةٍ من الشرائع، وفيها كلامُ الله، بل جعلها مع شرائعَ أحدثَ عهدًا، ترافقُ تطوّرَ الحياةِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّة.
هذا بالنسبة الى قانونِ العهد، وهو يحوي قوانينَ اجتماعيّةً... أمّا الوصايا فلا تحوي إلاّ أحكامًا دينيّة وأخلاقيّة، وهذا ما جعل النقّادَ يعتبرونها انعكاسًا لكرازة الأنبياء. غير أنّ عبادةَ الله لم تنتظرْ زمنَ الأنبياءِ، لتَفرضَ على المؤمنين أن يسلُكوا بحسب سُنَنِ الأخلاق وأحكامِها. إنّ نَواة الوصايا قديمةٌ جدًا، وقد وصلتْ إلينا عبرَ تقليدٍ دينيٍّ ، أثّرَ فيه الأنبياءُ والمعلّمون، نقرأها في نسختينِ، تختلفُ الواحدةُ عن الأخرى في بعضِ التفاصيل: الأولى في سفرِ الخروج (20: 2-7)، والثانية في سفرِ التثّنية (5: 6-18)، وفي كليهما روحُ شريعةِ موسى، كما وصلتْ إليهِ على جبلِ سيناء.
ويحتوي سفرُ الخروج فصولاً عديدةً، تورد قوانينَ تتعلّقُ بشعائرِ العبادة، من تكريس المذبح وتقدمةِ الأبكار وتقديسِ السّبت والاحتفال بأعيادِ السّنَة. ويطولُ الحديثُ عن كيفيّة إشادة المعبدِ، وإقامةِ الاحتفالاتِ المفروضةِ على الكهنةِ وعلى الشّعب. كلُّ هذا نجدْه خاصّةً في الفُصولِ الأخير من سفر الخروج (ف 25- 31؛ 35- 40)، وقد قالوا فيها: إنّها كُتبت في زمنٍ متأخّر، فعكست شعائرَ العبادةِ، كما كانت تُقامُ في عهدِ سليمان وهيكلهِ الفخم. فاللباسُ المذهَّب، لا نجدُه عند رعاةٍ لا يتعدّى لباسُهم وبَرَ الجمال وصوفَ الغنم، والمعبدُ العظيمُ لم يكن إلاّ خيمةً كسائرِ الخيم. هذه الخيمةُ كانت مكانَ اجتماعِ الله بشعبهِ، وكان فيها تابوتُ العهد، (أي ذلك الصندوقُ المقدّس) الذي يرمُزُ إلى حضورِ الله ، وكان الكهنةُ وسطاءَ بينَ الله وشعبِه، يقدّمون له الذبائحَ ويكفّرون عن الخطايا.
كانتِ الشرائعُ القديمةُ توردُ أوّلَ روزنامةٍ دينيّةٍ، وكانت تحوي أعيادَ السنّة العظيمةِ: عيدَ الفطير، عيدَ بواكيرِ الحصاد، عيدَ أواخرِ القِطاف (23: 14-17؛ 34: 18-23) . لم يعرف العبرانيّون قبل دخولهم أرضَ كنعان هذه الأعيادَ التي ترتبطُ بعالمِ الزراعة، غير أنّهم سيأخذون بها في ما بعد، ويطبعونَها بطابَعِ تاريخِهمِ المقدّس. فيبتلعُ عيدُ الفصح (الذي هو عيد الرعاة) عيدَ الفطيرِ الذي لم يعدْ فقط مناسبةَ يقدِّمُ فيها المؤمنُ بواكيرَ مواشيهِ وغلالهِ، بل مناسبةً يذكُر فيها الشعبُ خلاصَهُ من مصرَ، في تلك الليلةِ (ليلة الفصح الأولى) التي فيها عفا الربُّ عن بيوتِ بني إسرائيلَ، المرشوشةِ بدم الحملِ المذبوحِ في هذه الليلة. ثم يصبح عيدُ القطافِ عيدَ المظالِّ الذي يذكر الشعبً بحياةِ آبائهِ تحت الخيمةِ في البريّة، وعيدُ الحصاد يصبحُ عيدَ العنصرةِ، يومَ أعطى الربُّ شريعتَهُ لشعبهِ على جبلِ سيناءَ.
10- سِفرُ الخروج في حياةِ شعبِ الله.
يشكّل الخروجُ من مصرَ والوحيُ في سيناءَ، حدَثين رئيسَيْن في تكوينِ شعب الله، وتنظيمِ شعائرِ ديانتهِ. لذلك بَقِيا حيَّين في ذاكرةِ شعبِ الله، فاعِلَيْن في حياتهِ. فالعهدُ الذي يعلنُه يشوع (ف 24) على الشّعب في شكيم، يرتبطُ بعهد سيناءَ، والذبيحةُ التي يقيمُها إيليّا على الجبل (1 مل 30-39)، هي تجديدٌ لعهدِ الله مع شعبهِ: ينبُذُ عبادةَ البَعْل وسائرِ الآلهة، ويرتبطُ من جديدٍ بالشريعةِ التي أعلنَها الربُّ على جبلِ سيناءَ، والتي ذهبَ إيليّا يستلهِمُها النّورَ، في ظروفٍ صارت فيها عبادةُ الله الواحدِ في خطر (1 مل 8:19-17).
إنّ تدخّلَ الله في حياةِ شعبهِ، كما نقرأُه في سفرِ الخروج، سيتردّدُ صداه في سائرِ الكتاب المقدّس. فيشوعُ يرفعُ صلاتَهُ الى الربّ الذي أصعدَ الشّعبَ من مصرَ (يش 17:24؛ رج 2: 10؛ 3: 1؛ مي 6: 2؛ مز 81: 11) . الربّ هو إلهُ شعبِ إسرائيلَ (هو 12: 10 ؛ 4:13- 5)، وقد خطبَ شعبَه كما يخطبُ العريسُ عروسَهُ (ار 2: 2)، وعاشَ معه في البريّةِ عَيْشَ الحبّ والوِفاق (مز 8:16؛ هو 2: 17؛ 1:11).
صرف الربّ العجائبَ في مصرَ (مي 7: 15)، وسار على رأسِ شعبهِ كالرّاعي مع قطيعِه والقائدِ مع جيشِه. يقولُ المزمورُ (68: 8-9) في ذلك: "عندما خرجتَ يا ألله قدّامَ شعبِك، عندما صعدْتَ تجتازُ البرّيةَ، ارتعشَتِ الأرضُ وتغيّر لونُ السّماءِ من وجهِكَ يا إلهَ سيناء، من وجهِ الله، إلهِ إسرائيل". ويقول المزمورُ (77: 20- 21): "في البحرِ (الأحمر) طريقُكَ يا أللهُ، وفي المياهِ الغزيرةِ سُبُلُك، وآثارُ خطواتِكَ لا تُعرف. هدَيْتَ شعبَكَ (في برّية سيناء) كالغَنَم على يدِ موسى وهارون". في هذا الإطارِ الليتورجيّ، تُعدِّدُ المزاميرُ (135: 8-9؛ 316: 10؛ رج مز 78 1ي؛ 105: 1 ي) ضرباتِ مصرَ، وتذِكر عُبورَ البحرِ الأحمرِ ومعجِزاتِ البّريّة. ويعلِنُ سفرُ أشعيا في قسمهِ الثاني للمؤمنين، أنّهم سيرجِعُون من سبْي بابِلَ، كما عادَ آباؤهم من عُبوديّةِ مصرَ، وسيكونُ الربُّ معَهُم، فيقودُهم كما قاد آباءَهم في زمنِ موسى (اش 16:43 ؛ 48: 21؛ 52: 11-12).
هذا في حياةِ شعبِ القهِ القديم، أمّا في حياةِ شعبِ الله الجديدِ الّذي هو الكنيسة، فنحن نرى العهدَ الجديدَ يوردُ أحداثَ سفرِ الخروج، فيكتشفُ فيها رموزًا لحقيقةِ الشّريعةِ الجديدة. يقول القديسُ بولسُ، في رسالتِه الأولى الى أهلِ كُورِنتس (10: 1-4): " لا أريد أن تجهلوا أيّها الإخوةُ، أنّ آباءَنا كانوا كلُّهم تحتَ حمايةِ الغَمَام، وكلُّهم عبرُوا البحرَ، وكلُّهم تعمّدوا عمادَ موسى في الغمامِ والبحر، وكلُّهم أكلُوا طعامًا روحيًا واحدًا، وكلُّهم شرِبُوا شرابًا روحيًا واحدًا من صخرةٍ روحيّةٍ ترافقُهم، وهذه الصخرةُ هي المسيح". يرىَ القدّيسُ بولسُ في عبورِ البحرِ الأحمر ما يوازي العِمادَ المسيحي، وفي المنِّ والمياهِ رمزًا مُسبقًا الى الإفخارستيّا، وهو يقول (2 كور 5: 7): "فحمَلُ فصحِنا ذُبح، وهو المسيح ".
أمّا في إنجيلِ يوحنّا، فالمسيحُ هو موسى الجديد، وهو يعطينا الخبزَ الحيّ النازلَ من السماءِ (يو 6: 32) الّذي يفوق مَنَّ البريةِ العجيب. أمّا المقابَلات بين إنجيلِ يوحنّا وسفرِ الخروج فعديدة، نورد بعضها: (قابل الخروج 3: 1 ي مع يوحنا 1 : 29-34، الخروج 4: 1 ي مع يوحنا 2: 1- 11 ، الخروج 11-12 مع يوحنا 13:2 الخروج 14: 1 ي مع يوحنا 5:3).
أمّا سفرُ الرّؤيا (15: 3) فيوازي بينَ إنتصارِ المختارين على الموت، وعبور العبرانيّين للبحر الأحمر. ويصوّر القدّيسُ بطرسُ في رسالتهِ الأولى (13:1) الحياة المسيحيّةَ مستلهِمًا الطقوسَ الفصحيّة ، كما أنّ الرسالةَ الى العبرانيين تبيّنُ أنّ يسوعَ أسمى من موسى، وأنّ كهنوتَهُ وذبيحتَهُ يفوقانِ كهنوتَ جبلِ سيناءَ وذبائحَهُ (عب 7-9). وكما أنّ العهدَ القديم أُبرِم في ذبيحةٍ (3:24-8)، هكذا خُتِمَ العهدُ الجديدُ بدمِ ذبيحةِ يسوعَ المسيح (عب 18:9-28).
ولقد قرأ آباءُ الكنيسةِ سفرَ الخروج، وفسّرُوا فصولَهُ، فبَقي لنا من أفرامَ تفسيرُ اثنَيْن وثلاثين فصلاً من فصولهِ، ومن أوريجنس سلسلةٌ من العظات، ومن ديودورس الطّرسوسيّ ، وتيودورسَ المبسوسطيّ، بعضُ المقاطعِ القصيرة، ومن كيرلّسَ الإسكندريِّ وبروكوبيوسَ الغزّاوي، شرْحُهما لآياتٍ مختارة. ولكن الآباءَ سيرجعون كلُّهم إلى سفرِ الخروج، ليتوسّعُوا في الحديثِ على نمطيّةِ العِماد، ورموزِ سرّ الافخارستيّا، مستلهِمين شروحَ العهدِ الجديد، وليتكلّموا عن البحرِ الأحمرِ والمياهِ والحياةِ في البرّية، وكلُّ هذا سوفَ نعودُ إليه، خلالَ شرْحِنا لآياتِ سفرِ الخروج