الفصل الخمسون: دفن يعقوب

الفصل الخمسون
دفن يعقوب
(50: 1- 26)

أ- المقدّمة:
1- يرجع خبر دفن يعقوب إلى التقليد اليهوهيّ بعض الآيات من التقليد الألوهيميّ (12، 3 أ، 9، 10 ب) وأخرى من التقليد الكهنوتيّ (آ 12- 13).
2- أمّا نهاية حياة يوسف ترجع إلى التقليد الألوهيميّ مع الآيات 18- 22من التقليد اليهوهيّ على ما يبدو.
3- وهكذا نقرأ في هذا الفصل مقطعَين: دفن يعقوب (50: 1- 14)، وفاة يوسف (50: 15- 26).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- دفن يعقوب (50: 1- 14)
(آ 1- 14) مات يعقوب فبكاه يوسف، تمّ أمر الأطباء فحنّطوه. بكاه بنو يعقوب أربعين يوماً والمصريّون سبعين يوماً. بكى العبرانيّون موسى وهرون ثلاثين يوماً. (تث 34: 8؛ عد 20: 29) وبكوا شاول سبعة أيّام (1 صم 31: 3). يروي المؤرّخ ديودوروس الصقلّيّ أنّ مأتم أحد الملوك المصريّين دام 72 يوماً. خلال هذه الأيّام يلبسون ثياب الحِداد ويجزّون شعر رؤوسهم ويصومون ويلتزمون بيوتهم فلا يتركونها (بسبب الحِداد لم يذهب يوسف إلى فرعون ليخبره بموت أبيه). بعد زمن الحِداد سارت الجنازة إلى أرض كنعان وسار وراءها أبناء يعقوب وعظماء مصر في مراكب وفرسان، فدهش الناس لهذا المنظر المهيب.
2- وفاة يوسف (50: 15- 26)
(آ 15- 21) مات الوالد فخاف أبناؤه وقلقوا على مصيرهم. أترى سوف ينتقم منهم يوسف بعد موت أبيهم على مثال عيسو الذي هدّد أخاه يعقوب (27: 41)؟ لم يتجرّأ إخوته على مواجهته فارسلوا إليه رسلاً يستعطفونه من أجلهم. بكى يوسف، فتشجعّ إخوته على لقائه، وجاؤوا فسجدوا له، وجعلوا نفوسهم عبيداً بين يدَيه.
أجابهم يوسف: أنا تحت مشيئة الله الذي استفاد حتّى من الخطيئة ليتمّم عمله الخلاصيّ. الله قد غفر، فعلى الإنسان أن يغفر وإلاّ حكم حكماً مغايراً لحكم الله.

ج- ملاحظات:
أنتم نويتم بي شرّاً، والله نوى بي خيراً... هذا هو المعنى العميق لقصّة يوسف. أمّا كيف يدخل الله شرّ البشر في عمله الخلاصيّ، فهذا ما لا يقوله لنا الكاتب، كما أنّه لا يتوقّف عند عواطف يوسف ونيّات قلبه، بل يتطلعّ إلى الله سيّد التاريخ، بل يتطلعّ إلى المرحلة التالية التي سيفتقد فيها شعبه ويصعده من مصر إلى الأرض التي وعد بها إبراهيم وإسحق ويعقوب.

د- مواضيع عامّة:
1- سيرة يوسف في الإطار التاريخي
أوّلاً: قصّة يوسف هي النهاية السعيدة لسيرة الآباء، وهي تصلنا بموسى، كما أنّها تفهمنا لماذا وُجد بعض قبائل إسرائيل في مصر. أتكون سيرة يوسف وإقامته مع إخوته في مصر استراحة على طريق الله أم انحرافاً عنها جعل أبناء إبراهيم ينسون أرض كنعان ويتخلَّون عن مواعيد الله لهم؟
يتساءل الشرّاح عن وجود يوسف في مصر، ولكنّ البعض الآخر يبيّن أنّ علاقة إسرائيل بمصر كانت متواصلة. وإذا كان الآباء الثلاثة الأُوَل قد وجَّهوا أنظارهم إلى آرام، أي شمال ما بينَ النهرَين، فها هو يوسف يوجّه أنظاره إلى مصر. هل نستطيع أن نرى في حياة الآباء صورة مصغّرة عن تاريخ شعب الله الذي سيتجاذبه الشمال مرّة والجنوب مرّة، بلاد الرافدَين مرّة ومملكة مصر مرّة أخرى؟
ثانياً: إنّ المعطيات الكتابيّة لا تساعد الشرّاح على تحديد المكان والزمان اللذَين عاش فيهما يوسف، وذلك بسبب ما زاده اللاحقون على النصّ القديم. كما لا نجد أيّة وثيقة تاريخيّة مصريّة عن إقامة شعب إسرائيل في مصر. غير أنّنا لا نستطيع أن نفكّر أنّ حياة يوسف تجري في جوّ مصريّ محلي.
إذا أردنا أن نحدّد التاريخ الذي عاش فيه يوسف، لا بدَّ من أن نعرف الزمن الذي عاش فيه إبراهيم والمدّة التي قضاها العبرانيّون في مصر. لقد قلنا في ما سبق إنّ إبراهيم عاش في القرن التاسع عشر أو السابع عشر ق. م.. تمّ إنّ سفر التكوين (15: 13) يورد أنّ شعب الله عاش في الضيق مدّة 400 سنة، غير أنّ سفر الخروج (12: 40) يحدّد مدة عيش الضيق في مصر بأربع مئة وثلاثين سنة. ولكنّ سفر التكوين (15: 16) يطمئن إبراهيم أنّ الجيل الرابع سيرجع إلى أرض كنعان، وهذا يعني أنّ مدّة إقامتهم في مصر لم تكن طويلة (خر 6: 14- 25؛ عد 26: 59). فاعتبر الشرّاح انطلاقاً من هذه المعطيات أنّ شعب إسرائيل عرف هجرات متعدّدة وأنّ هذه الهجرات لم تتمّ كلّها في زمنٍ واحد.
ونطرح سؤالاً آخر: من كان ملك مصر الجديد الذي لم يكن يعرف يوسف (خر 1: 8) وفضله على أرض مصر؟ هناك ثلاثة اقتراحات نستطيع أن نقرأها في اللائحة التالية:

تاريخ مصر حياة يوسف
زمن الملوك الرعاة 1700-1580 يوسف؟
السلالة الثامنة عشرة 1570- 1310
تحوتمس الأول 1490- 1435
أمينوفيس الثالث 1413- 1377
أمينوفيس الرابع وأخناتون 1377- 1385 يوسف؟
السلالة التاسعة عشرة 1345- 1200
حارمحاب 1345- 1318
رعمسيس الأول 1318- 1317 يوسف؟
رعمسيس الثاني 1301- 1234
منفتاخ 1234- 1225
يقول بعض المؤرّخين إنّ الأخبار عن يوسف تجد إطارها المعقول في زمن الملوك الرعاة (الهيكسوس) الذين جاؤوا من سوريا وفلسطين وتعاونوا مع بعض الفئات المصرّية في عهد السلالة الثالثة عشرة والرابعة عشرة، أي ما بين 1700- 1600 ق. م. ويقول البعض الآخر إنّ يوسف عرف أوت مجده في زمن أخناتون أو أمينوفيس الرابع. وتقول فئة ثالثة إنّ "بيت يوسف" جاء مصر في عهد السلالة الثامنة عشر (1570- 1310) وأقام في القسم الشرقيّ من الدلتا. ومهما يكن من أمر، فالرأي الأوّل يبدو ضعيفاً رغم أنّه كان سائداً مدة طويلة لأنّ الشرّاح لم يجدوا بعد البراهين الكافية التي تؤكّد تأكيداً جازماً علاقة قصّة يوسف بزمن الملوك الرعاة.
2- الأسلوب القصصيّ لسيرة يوسف
أوّلاً: إنّ قصّة يوسف تتميّز عن كل ما قرأناه من قصصه في سفر التكوين بسبب طولها وارتباطها بمحيط حكي. ولقد توخى الكاتب من خلالها أن يجعل العبرة الدينيّة تتجلّى عبر أحداث الحياة البسيطة.
قصّة طويلة ولكنّها تكوّن وحدة فلا نستطيع أن نخذف شيئاً منها دون أن نشوّهها. إذا كان الأقدمون قد قسّموها إلى فصول لتسهل قراءتها، فنحن سننظر إليها نظرة شاملة تساعدنا على أن نرى كيف ترتبط المشاهد بعضها ببعض فتوصلنا إلى الذروة قبل أن تنتهي إلى الخاتمة المنتظرة: الله يوجّه كلّ شيء لخير الذين يحبّونه.
نقرأ قصّة يوسف في فصول عديدة من سفر التكوين وهي ترجع إلى التقليد اليهوهيّ والتقليد الألوهيميّ مع بعض آيات من التقليد الكهنوتي. كلّ هذا جمعه الكاتب الملهم فأعطانا مسرحيّة تمثِّل فيها المأساة الدور الكبير وتنتهي بالفرح بعد لقاء الابن بأبيه. هذه القصّة التي تكوّن أحداث حياة يوسف قد رواها الرواة مراراً في حلقاتهم واجتماعاتهم قبل أن تكتب، فلا نعجب إذاً إن طالعتنا بعض التردادات في النصوص أو التنافر في المراجع. في هذه القصّة لا يتدخّل الله تدخلاً مباشراً، بل يوجّه الأحداث في سبيل تنفيذ مخطّطه. إنّها تشبه بطريقة اخبارها ما قرأناه في 24: 1 ي وزواج إسحق حيث يوجّه الله كلّ شيء دون أن يظهر على مسرح الأحداث.
ثانياً : إذا قابلنا قصّة يوسف بقصة الآباء (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وجدنا أنّ الكلام في العهد والمواعيد قد صار بعيداً، لأنّ مبدأ الأحاديث الحكميّة إعطاء الحقائق الإلهيّة في لباس الثقافة المعاصرة. فكما أنّ سفر الأمثال! جعل الله يتكلّم عبر حكمته فقصّة يوسف تجعل الله يتكلّم عبر عنايته واهتمامه بأمر أتقيائه وأحبّائه. لقد روى سفر التكوين هذه الأحداث من خلال حياة يوسف لتكوّن تعليماً دينيّاً عن عمل الله في الكون. الإله الذي وجّه عبد إبراهيم فأخذ رفقة لإسحق، وأرسل ملاكه فرافق طوبيّا الشابّ ليلتقي بسارة، هو ذاته قد رافق يوسف عبر الأسر والعبوديّة قبل أن يخلّصه من ظلم المصريّين، وهو من يخلّص شعبه من عبوديّة المصريّين يوم يسمع صراخهم ويرسل إليهم مخلّصاً في شخص موسى.
3- مراحل حياة يوسف
أوّلاً: نستطيع، عندما نطالع حياة يوسف، أن نتوقّف فيها على ثلاث مراحل:
في المرحلة الأولى نتطلعّ إلى يوسف ذلك الرجل الكامل الذي لا عيب فيه ولا لوم. هو ابن يعقوب المفضّل الذي يذكّره بزوجته راحيل المحبوبة. وُلد ليعقوب بعد انتظار طويل، وكان قريباً من الله الذي حدّثه بواسطة الأحلام. رفض ما فعله إخوته من سوء وأخبر أباه بما فعلوا (37: 2)، رفض غواية امرأة فوطيفار وفضّل الحياة في السجن والشقاء على خيانة سيّده وعصيان وصيّة ربّه (39- 9)، رفض شهوة الشرّ والانتقام من إخوته الذين باعوه (50: 13- 21).
في المرحلة الثانية ننظر إلى يوسف ذلك الرجل الذي امتحنته الشدّة. كان وحيداً لأمّه بين إخوة عديدين، ولمّا وُلد له أخٌ، بنيامين، فقَدَ امّه؛ أبغضه إخوته فباعوه للإسماعيليّين (كما يقول التقليد اليهوَهيّ) أو للمديانيّين (كما يقول التقليد الألوهييّ)، ثمّ جُعل في سجن مظلم لأنّه رفض أن يخون سيّده فوطيفار (39: 1 ي). وقد رأى يوسف في كلّ ذلك طريق العناية التي أرسلته أمام إخوته لئلاّ يموتوا جوعاً (45: 5).
في المرحلة الثالثة ننظر إلى يوسف رجل الثقة بالله والاتّكال عليه. رغم أنّه ذاق مرارة الألم ونزل إلى أسفل دركات الذلّ، فقد حافظ على ثقته بالربّ، وكلّمَا ازدادت المحن عليه تعلّق بربّه وزاد اتّكاله عليه. أحسّ بيد الله تحميه فترك العناية توجّه أموره وعرف أنّ الله يخرج من الشرّ خيراً (50: 20) وينفّذ مخطّطه، رغم نوايا البشر، في سبيل الذين يتّقونه. هذا الرجل الذي فيه روح الله (41: 38) لا يتّكل على عقله وذكائه، بل يفتح قلبه وفكره ليعرف حقيقة الله التي ساعدته في تفسير الأحلام (40: 8) وجعلت على لسانه الجواب الذي يرضي فرعون (41: 16).
ثانياً: هكذا وصلت إلينا قصّة يوسف كما نقرأها اليوم في سفر التكوين. ولكنّها مرّت في طريق طويلة قبل أن تبلغ إلينا بالصورة التي نعرفها. في الأساس كان هناك خبران: واحد من كنعان ردّدته البلدان العديدة وفحواه أنّه كان في ذلك الزمان إخوة يعيشون عيش السعادة في رعاية قطيع والدهم. في يوم من الأيّام حلم أصغرهم أنّه رأى الكواكب تسجد له. فاحتقره إخوته وباعوه عبداً في أرض غريبة. ولمّا كان في السجن اكتشف مؤامرة على الملك فتزوّج ابنته ثمّ خلفه على العرش. بعد هذا حدثت مجاعة فجاء إخوته يشترون طعامهم... وخبر آخر من أرض مصر ذكرناه في مقدّمة هذا القسم. كانت مصر تنعم بالبحبوحة والرخاء... وحلم الملك حلماً أنّ مجاعة ستضرب البلاد. لم يفسّر هذا الحلم شخص معروف بل رجل كان في السجن. قال للفرعون الحقيقة وعرض عليه إجراءات يتّخذها ليخلّص مصر من الجوع القادم إليها.
أخذ الكاتب الخبر الأوّل وحوَّر فيه بعض الشيء ليتوافق وما يعرفه عن القبائل. لم يعد هناك خمسة إخوة (رج 43: 34؛ 45: 6، 22؛ 47: 2، 24) بل اثنا عشر أخاً سيكونون أسباط إسرائيل الاثنَي عشر. في مرحلة ثانية أخذ الإخوة الخمسة أبناء يعقوب: رأوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، يوسف، وبما أنّ بني يعقوب كانوا ضدّ يوسف بن إسرائيل، وجدت العداوة بينهم وبين يوسف بجناحَيه أفرائيم ومنسّى وحليفه بنيامين الذي صار أخاه من أمّه راحيل. وفي مرحلة ثالثة سيذكر الكاتب بركة يعقوب لابنَي يوسف: أو أنّه ذكر اسم أفرائيم قبل أن يذكر اسم منسّى كما يقول الألوهيميّ (48: 15، 16، 20)، أو أنّه خالف يدَيه فجعل اليُمنى على أفرائيم واليُسرى على منسّى كما،. يقول اليهوَهيّ (48: 13، 14، 17- 19). ثمّ سيجعل يوسف يرجع إلى أرض كنعان، لأنّ يعقوب بحسب المراجع القديمة، سيموت في كنعان وهناك حيث حفر له قبراً (50: 5) سيدفن.
والخبر الثاني، الآتي من مصر، كتب ليعطي السبب الذي لأجله اعني الكهنة من الضرائب التي يدفعها الشعب المصريّ: فسجين الأمس عاش قرب هيكل أون وتد أعلمه الإله رع بما سيحدث لمصر بعد سنوات الوفر والغنى. فأخذ عنه الكاتب الملهم إقامة يعقوب في مصر واتّصال يوسف بكهنة أون وإعفاءَهم من الضرائب التي يدفعها الكهنة للملك.
وجاء وقت جمع الخبر الكنعانيّ مع الخبر المصريّ بعد أن قرأهما الكاتب الملهم مستوحياً تاريخ شعبه. بدأ اليهوهيِّ في عهد داود وسليمان فوسعّ قصّة يوسف، وجعل إخوته اثنَي عشر أخاً هم آباء القبائل الاسرائيليّة، فصارت قصّة الإخوة حلقة هامّة بين التكوين والخروج، بين حياة العبرانيّين في عهد الآباء وحياتهم مع موسى وهرون. وسيلقي الكتاب السؤال على ملوك يهوذا: هل سيكونون بمستوى الحدث الذي يعيشون كما كان آباء شعب الله في أيّام إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف ويهوذا؟
أمّا الكاتب الأولهيميّ الذي عرف ولا شكّ ما دوّنه اليهوهيّ، فقد شدّد على شخصيّة رأوبين، بكر يعقوب من ليئة. أراد الإخوة قتل يوسفي فخلّصه من أيديهم وقال: "لا تسفكوا دمه" (37: 21). ولمّا خرجوا من السجن ووقفوا جميعاً أمام يوسف قال لإخوته: "ألم أقل لكم: لا تخطأوا إلى الولد، وأنتم لم تسمعوا" (42: 22)؟ ما يهمّ الألوهيميّ أن يقوله هو أنّ متطلّبات العهد تتوجّه إلى جميع القبائل، وعلى كلّ بني إسرائيل أن يعملوا بموجبها. ثمّ نرى كيف أنّ اليهوهيّ يترك الأحداث تسير مسراها، أمّا الألوهيميّ فيجعل الله يتدخّل بطريقة مباشرة وإن سرّيّة. أبغض يوسف إخوته لأنّ والده فضّله عليهم. هكذا قال اليهوهيّ. أمّا الألوهيميّ فاعتبر أنّ الناس أداة بيد الله. أبغض يوسف إخوته بسبب أحلامه، والأحلام وحي من عند الله. ودافع رأوبين عن بنيامين، ولكنّ دفاعه لم يكن بقوّة دفاع يهوذا، فالألوهيميّ لا يتّكل على قوّة البشر بل على عون من الله الذي ينجّي الحافظين لعهده العاملين بوصاياه.
بالنسبة إلى التقليد اليهوَهيّ تنتهي قصّة يوسف ومصالحته مع إخوته في 45: 13- 15: ثمّ ألقى بنفسه على عنق بنيامين أخيه فبكى... وقبّل سائر إخوته... أمّما التقليد الألوهيميّ فالقصّة تنتهي في 50: 15 ي. ففي 50: 15- 21، خاف إخوة يوسف، بعد موت والدهم فارتمَوا أمام أخيهم وسلَّموا أنفسهم كعبيدٍ له. وهنا نكتشف عمق كلمات الكتاب: "لا تخافوا، ألعلِّي أنا مكان الله؟ الشرّ الذي نويتم عليَّ حوّله الله خيراً لكي يفعل ما ترونه الآن من الخلاص لشعب كثير". لا خوف على إخوة يوسف (رج اش 41: 10) بعد الخلاص الذي تمّ لهم على يد أخيهم. والكاتب الألوهيميّ لا ينظر إلى شرّ الإخوة ليجعله تجاه نبل يوسف، بل إلى خطر الجوع الذي يهدّد الشعب الكثير وإلى عمل الله الذي به خلّص الشعب الكثير.
4- أيّة عِبرة نستنتج من قصّة يوسف؟
إن كان يوسف لم يدخل التاريخ مع العظماء والحكماء الذين تذكرهم الكتابات القديمة فهذا لا يعني أنّ سيرة حياته أسطورة من نسيج الخيال. إنّ لقصّة يوسف أساساً في التاريخ تناقلها التقليد أباً عن جَدّ، بعد أن نسي اسم فرعون الذي رد يوسف (رج 1 مل 14: 25؛ 2 مل 23: 29) واسم المدينة التي عاش فيها (44: 4، 13). والكاتب الذي كتبها ألمَّ بأمور مصر وخاصّة في عهد سليمان يوم كانت العلاقات طيّبة بين ممر وإسرائيل على المستوى السياسيّ والثقافيّ والإداري. وكما اهتمّ سليمان بحكمة البلاد العربيّة (1 مل 10- 1 ي) اهتمّ المعلّمون بحكمة مصر (سي 39: 5).
في أطار جوّ الحكمة هذا نتبيّن في يوسف ذلك الشابّ المؤمن الذي نقّاه الله داخليّاً فكان قويًّا ساعة القوّة وسموحاً ساعة المسامحة، ونتبيّن فيه أيضاً ذلك الأديب المتعلّم الذي عرف كيف يتصرّف حتّى أمام الملوك والعظماء. كان يوسف موظّفاً في بَلاط ملكيّ فوجب عليه التمرّس بفنّ الخطابة وإسداء النصح في الوقت المناسب (2صم 17: 1- 13؛ سي 8: 9- 10؛ أم10: 21؛ 11: 14؛ 12: 8؛ 22: 29). وهذا يفرض عليه سلوكاً يليق بوظيفته وضبطاً للنفس في تصرّفاته.
نقابل تصرّف يوسف مع امرأة فوطيفار بما تقوله الكتب الحكميّة عن المرأة الغريبة (أم 2: 16، 5: 3؛ 6: 24) فنفهم أنّ أساس الحكة مخافة الله والطاعة لوصاياه (أم 1: 7، 15: 33؛ تك 42: 18).
ونقابل يوسف بدانيال، وكلاهما عاشا حياة مبنيّة على خوف الله، وكلاهما فسّرا الأحلام للملك وأعطياه النصائح وتسلَّما المسؤوليّات (دا 1: 8 ي).
غير أنّ يوسف تخلَّق بأخلاق المصريّين فاتّخذ له اسماً مصريّاً، ومارس فنونهم "السحريّة" واتّصل بكهنتهم وتزوّج ابنة أحدهم. أمّا دانيال فبقي أميناً لممارسات آبائه في عصرٍ كانت الممارسة الدينيّة منبع قوّة ليهود المشتّتين فلا يتركون إيمانهم. ونتساءل: هل شكّ الكاتب في إيمان يوسف؟ فنجيب: كلاّ. فيوسف حافظ على إيمانه وإن لم يحتج إلى التعبير عنه في مصركما فعل دانيال في بابل.
قبل أن يصل يوسف إلى هذا المستوى من الرفعة مرّ في مدرسة التواضع، لأن التواضع يسبق المجد (أم 15: 29؛ 22: 4)، ولقد ظلّ يوسف على تواضعه رافضاً أن يؤخذ بثورة وانتقام (أم 15: 18؛ 24: 29). وهكذا نستطيع أن نقرأ من خلال قصّة يوسف عمل الله الخلاصيّ الذي يختفي وراء أحداث هذه الحياة فيغمر جوانبها بنعمته ويجعل كلّ شيء في خدمة مخطّطه (أم 16: 9؛ 20: 24؛ 21: 3).
5- الشرّ في حياة الإنسان
من خلال قصّة يوسف نتعرّف إلى الشرّ في حياة الإنسان ونفهم معنى المحنة التي يقر فيها أتقياء الله. ونقرأ في النصّ الكتابي جوابَين:
الجواب الأوّل: الألم ينقّي الإنسان ويطهّره ويجعل مشيئة المؤمن تطابق مشيئة الله. إحتمال الألم علامة حبّنا لله وبه يمكننا أن نكفّر عن حياتنا وعن العالم. الألم عامل مهمّ في تكوين الشخصيّة وهو يساعد الإنسان على البلوغ إلى حياة ناضجة. أمَا بدّل الألم يوسف من صاحب الأحلام إلى الرجل الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن إخوته فينجّيهم من الموت جوعاً؟ أمَا بدّل الألم إخوة يوسف الذين فهموا أنّ ما يصيبهم من محن يرجع إلى معاملتهم لأخيهم؟
الجواب الثاني: إنّ الناس يعملون عبثاً على اختراع حواجز ليقفوا بوجه الله ومخطّطاته (41: 32)، غير أنّ الربّ يستفيد حتّى من أفكار الناس السيّئة ليخلق منها خيراً (50: 20)، لأنّ قدرة الله ومحبّته تفعلان أكثر من شرّ البشر. أدته صبور وطويل الأناة، وهو يوجّه الأحداث بحسب مخطّطه. هو لا يعجِّل، بل ينتظر ساعته. إنتظر طويلاً حتّى يفهم إخوة يوسف ما فعلوا من شرّ. وانتظر أطول مع يوسف، فرافقه في حياته مع فوطيفار وخلال إقامته في السجن (39: 2- 3) قبل أن يجعله الأداة الطيّعة بين يدَيه.
إنّ قصّة يوسف كتاب تعليم دينيّ للمؤمن الذي تلمّ به الصعوبات والمصائب، فيجد في قراءتها تشجيعاً على الثقة بالله والاتّكال على عنايته. وهي عِبرة وأمثولة للشعب الذي عرف ذلّ الحياة في بابل، فتطلّع إلى ربّه طالباً إليه الشجاعة والأمل. وكما حصل يوسف على خلاص الله، كذلك سيأتي يوم يعرف الشعب فيه قوّة الله التي ستنجّيه من حياة الأسر في بابل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM