الفصل السابع عشر: المسألة الإزائية

الفصل السابع عشر
المسألة الإزائية
الخوري بولس الفغاليّ

حين نقرأ إنجيل متّى ومرقس ولوقا نجد إختلافات وائتلافات من أنواع متعدّدة. وهذا الواقع يطرح علينا سؤالاً: ما هي العلاقات المتبادلة بين هذه الأناجيل التي سُمّيت إزائية لأننا نستطيع أن نضع نص متّى بإزاء نص مرقس ولوقا والعكس بالعكس؟ غير أن الجواب على هذا السؤال يرتبط بمعرفة الواقع الذي نحاول تدارسه.
تحدّث القديس أوغوسطينس عن التوافق بين الإنجيليين الثلاثة، وحاول طاطيانس السوري أن يؤلّف الدياتسارون أو الإنجيل الرباعي: إستعان بالأناجيل الأربعة فدوّن سرداً متواصلاً للبشارة. وستكون محاولات عديدة لم تتوقّف إلى أيامنا في الشرق العربي. غير أن الكنيسة لم تشجّع مثل هذه المحاولات، بل فضّلت أت تتمسّك بالأناجيل الأربعة غير خائفة من الصعوبات التي تواجه أربعة نصوص مختلفة تحدّثنا عن حياة يسوع وأقواله وأعماله.
سنحاول في هذه العجالة أن نعرض المسألة الإزائية بمعزل عن كل نظرية منهجية أو دفاعية، وهمّنا أن نتعرّف إلى الأناجيل معرفة أفضل، لا أن نلغي المسألة تاركين جانباً التفاصيل. فالتفاصيل تؤثر على مضمون التقاليد الإنجيلية وسياقها وتعابيرها. ولا نخف من الإختلافات فهي تدلّ على غنى المسيح، وبالتالي على غنى الكنيسة. فشخص يسوع أعظم من يستنفده كتاب واحد. ولو أردنا أن ندوّن كل ما عمله يسوع وعلّمه لما استطاعت الدنيا كلّها أن تسع الأسفار المكتوبة (يو 21: 25).

أ- عرض الواقع الإزائي
1- مضمون الأناجيل الثلاثة.
إذا ألقينا نظرة سريعة إلى الأناجيل الثلاثة الأولى، لوجدنا أن عدداً كبيراً من الأقوال والأعمال المتناقلة عن يسوع هي هي: المعجزات عينها، الأمثال عينها، الجدالات عينها وعين الأحداث الكبرى في حياة يسوع. فشفاء المخلع مثلاً يَرِد في كل من متّى (9: 1 - 8) ومرقس (2: 1- 12) ولوقا (5: 17- 26). ويتحدّث متّى (13: 1 ي) عن أمثال الزارع وحبة الخردل التي يتحدّث عنها مرقس (4 : 1 ي) ولوقا (8: 5 ي). وكذا نقول عن الجدالات حول سلطة يسوع (مت 21: 23-27= مر 14: 27-33= لو 20: 1 - 8)، حول إداء الجزية لقيصر (مت 22: 15- 22= مر 13:12 - 17= لو 20: 20- 26)، حول أولى الوصايا (مت 22: 34- 40= مر 28:12-34= لو 10 :25-28).
ولقد اعتاد الشراح أن يسمّوا التقليد المثلث المقطوعات التي نجدها عند متّى ومرقس ولوقا. في هذا التقليد، يشكّل مرقس الحلقة الوسطى بين الإنجيلَين الأول والثالث. والتقليد المثّنى يتضمّن مقطوعات نجدها عند إنجيليين إثنين فقط. والتقليد البسيط يمثّله شاهد واحد هو متّى، مرقس أو لوقا. ونزيد على ذلك تكرار النص في الإنجيل الواحد، مثل تكثير الخبز الذي نقرأه في مت 13:14 - 21 (رج مر 6: 31- 44) و 15 :32- 38 (رج مر 8: 1- 10).

أولاً: نظرة إجمالية
يشمل التقليد المثلّث نصف مرقس (330 آية من أصل 661 آية) وثلث متّى (330 من أصل 1068) ولوقا (330 من أصل 1150) تقريباً. ثم إن مرقس لا يملك إلاّ خمسين آية خاصة به: مثل الزرع الذي ينمي (مر 4: 26- 29)، وحدث أخوة يسوع (مر 3: 21)، وشفاء الأصم الأخرس (مر 7: 31- 37)، وأعمى بيت صيدا (8: 22- 26). هذا عدا بعض الأقوال المتفرقة. وكل ما تبقى نجده عند متّى أو عند لوقا أو عند الإثنين. وهكذا يبدو مرقس كأنه القاسم المشترك في التقليد الإزائي، مع أنه يورد تقاليد لا يعرفها متّى ولوقا، كما أنه يجهل تقاليد أوردها متّى ولوقا.
أما التقليد المثنّى فيشتمل على خُمس آيات متّى ولوقا. هناك آيات خاصة بمتى يُورد فيها خير الطفولة (مت 1- 2) وثمانية أمثال (مثل الزؤان، مت 13: 24- 30، وتفسيره، آ 36- 43؛ مثل الكنز واللؤلؤة، مت 13: 44- 46؛ مثل الشبكة، مت 13: 47 - 50)، وبعض الأخبار، وأقوالاً عديدة. أما لوقا، فالآيات الخاصة به تقارب نصف إنجيله، لا سيّما في قسم الصعود إلى أورشليم الذي يبدأ في 51:9.

ثانياً: نظرة إلى التفاصيل
هذا ما يبدو لنا حين نُلقي نظرة إجمالية. ولكن حين نتطلع عن قرب، نجد أن الأمور تختلف. لا شكّ في أننا أمام تذكار واحد يرويه الإنجيليون، ولكن كم من الإختلافات في التفاصيل. مثلاً، تتضمَّن صلاة الأبانا سبع طلبات عند متّى (9:6- 13) ولا تتضمَّن إلاّ خمساً عند لوقا (2:11- 4). إذا قرأنا مت 10: 10 ولو 3:9= 10: 4 نجد أن يسوع يمنع تلاميذه من أن يحملوا أي شيء ("لا تحملوا كيس دراهم ولا مزوداً ولا حذاء"). أمّا في مر 8:6 فنقرأ: "أوصاهم ألا يأخذوا للطريق شيئاً سوى عصا". مثل هذه التفاصيل لا تُلغي اليقين الإجمالي الذي وصلنا إليه، ولكنّها تحدّد مدلوله. ولهذا يجدر بنا في كل حالة أن نتساءل: لماذا هذه الإختلافة أو تلك في نصوص تكاد تكون مطابقة؟
وإذا تفحصنا مضمون النصوص طُرح علينا سؤالان:
الأول: إذا أنكرنا كل تبعية أدبية، كيف نبرّر هذه التوافقات العديدة؟
الثاني: إذا أكدنا على تبعية متبادلة بين النصوص، كيف نفسّر الزيادات والإغفالات؟ٍ هل يكفي أن نلجأ إلى نظرة الكاتب، إلى حاجة القرَّاء؟ كيف نتجنب الأحكام التي لا تبدو مُسندة؟

2- ترتيب المواد الانجيلية
أولاً: كيف تبدو المقطوعات؟
تتوزّع الأحداث في الأناجيل الثلاثة حسب مراحل أربع.
المرحلة الأولى: بداية رسالة يسوع (مت 3: 1- 4: 11= مر 1: 1- 13= لو 3: 1- 13:4): "في تلك الأيام، ظهر يوحنّا المعمدان ينادي: توبوا، قد اقترب ملكوت السماوات... صوت منادٍ في البرية: أعدّوا طريق الرب، واجعلوا سبله قويمة" (مت 3: 3).
المرحلة الثانية: رسالة يسوع في الجليل (ست 4: 12- 18: 25 = مر 1: 14- 9: 50= لو 4: 14- 9: 50): "وبلغ يسوعَ خبر اعتقال يوحنّا، فلجأ إلى الجليل... وكان يسوع سائراً على شاطئ بحر الجليل..." (مت 4: 12، 18؛ رج آ 23).
المرحلة الثالثة: الصعود إلى أورشليم (مت 19: 1- 20: 34= مر 10: 1- 56= لو 9: 51- 19: 27): "وإذ حانت أيام إرتفاعه، عزم على الصعود إلى أورشليم" (لو 9: 51).
المرحلة الرابعة: الآلام والقيامة (مت 21- 28= مر 11- 16= لو 19- 24). "قال هذا ثم تقدّم صاعداً إلى أورشليم" (لو 19: 28).
نحن كما يبدو أمام كرازة أولانية طبعت بطابعها النهائي أحداث حياة يسوع. هذا ما نكتشفه حين نقرأ أع 37:10- 41: "أنتم تعلمون ما (الكلمة، الأمر، الحدث) جرى في اليهودية كلّها. وكان بدؤه في الجليل بعد المعمودية التي نادى بها يوحنّا، في شأن يسوع الناصري. كيف أن الله مسحه بالروح القدس والقدرة... ونحن شهود على جميع أعماله...". قد تكون هناك إضافات خاصة بكل إنجيلي، ولكن الرسمة العامة هي هي لدى الإزائيين الثلاثة.
ولكن في قلب هذا التوافق الإجمالي نجد إختلافات واضحة. هناك الصعود إلى أورشليم في إنجيل لوقا، هناك قلب في الخطب والأمثال، فيرد ما يقال للإثني عشر (مت 10: 5 ي) وكأنه يتوجّه إلى السبعين في لوقا (210 ي). ولكن الإختلاف الأهم نجده عند متّى بالنسبة إلى لوقا ومرقس. يتبع لوقا (4: 31 ي) مرقس (1: 21 - 13:6) بصورة تكاد تكون أمينة. أما متّى فيتّخذ طريقاً أخرى. يقدّم خطبة الجبل (ف 5- 7) ثم يُتبعها بعشر معجزات (ف 8- 9) تبدو متفرقة عند الإنجيليّين الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، يختلف متّى عن لوقا في تنظيم أقوال يسوع. يجمعها متّى في خمس خطب هي خطبة الجبل (ف 5- 7) وخطبة الإرسال (ف 10) وخطبة الأمثال (ف 13) وخطبة الكنيسة (ف 18) وخطبة النهاية (ف 24- 25) أما لوقا فيتركها موزّعة حسب الظروف والحاجات، فتبدو بشكل طبيعي. لا شك في أن يسوع لم يُلقِ خطباً من هذا النوع، ولكنه كان ينثر أقواله حسب الظروف فيجمعها التلاميذ ويتأملون فيها.
ثانياً: كيف تبدو الأخبار؟
هناك سياق عام يجمع بين الأناجيل الثلاثة. ولكن داخل هذا السياق نكتشف توافقاً أو إختلافاً على مستوى التفاصيل في المتتاليات. وها نحن نُعطي بعض الأمثلة.
يختلف مت 23:4-58:13 عن مر 1: 21-13:6. ومع هذا نحن نجد في هاتين المتتاليتين توافقاً على عدد من الأخبار، مع أن السياق يختلف بين إنجيل وآخر.
يتحدّث مر 1: 21- 45 عن طرد الشيطان، وشفاء حماة بطرس وإبراء الأبرص. وهذا ما يوافق مت 28:7- 8: 16. ونقرأ عن شفاء المقعد ودعوة لاوي والجدال في الصوم في كل من متّى (9: 1- 27) ومرقس (2: 1- 22). والأمثلة عديدة في هذا المجال (رج مت 12: 1 - 14= مر 2: 23- 3: 6).
مقابل هذا، قد يكون السياق هو هو، ولكن المجموعات تختلف. مثلاً، جُعل إبراء الأبرص في مرقس (1: 40- 45) قبل شفاء مقعد كفرناحوم حالاً. أما متّى فجعل عدة أحداث تفصل بين الشفاءين (مت 8: 2- 4، الأبرص؛ 9: 1- 8، المخلع).
يرافق لوقا تصميم مرقس، ولكنّه يُقحم تقاليد خاصة به دون أن يحرّك ترتيب مرقس. ولكن في قلب هذا التوافق الإجمالي، نكتشف أخباراً أُخذت من محلّها وجُعلت في محل آخر. وهاك بعض الأسئلة:
في مرقس، يسبق نداءُ التلاميذ كرازة يسوع الأولى في كفرناحوم (مر 1: 16- 20). مع مرقس، يسوع هو دائماً برفقة تلاميذه. أما لوقا (5: 1- 11)، فيجعل التلاميذ يتعرّفون أولاً إلى برنامج يسوع (لو 16:4 ي)، وبعد الصيد العجيب "تركوا كل شيء وتبعوه". ونقول الشيء عينه بالنسبة لزيارة يسوع إلى الناصرة (مر 6: 1 - 6؛ لو 16:4- 30). ونحن نجد عدة تقاليد مرقسية في قاطعة لوقا الكبرى. مثلاً، مر 3: 22- 30 ومهاجمة يسوع، بأنه بعل زبوب، سنقرأه في لو 25:11- 23. ومثَل حبة الخردل الذي جعله مرقس في خطبة الأمثال (مر 4: 30- 32= مت 13: 31- 32)، صار عند لوقا (18:13- 19) رفيق مثل الخميرة (13: 20- 21) خلال الصعود إلى أورشليم.
إذا عدنا إلى متّى (12: 24- 30) ومرقس (3: 22- 30) نجد أن الكلام على بعل زبول يسبق حالاً الحديث عن أسرة يسوع الحقيقيّة (مت 46:12- 50= مر 3: 31- 35)0 أما لوقا (11: 14 - 26) فأتبعه بكلام تلك المرأة التي تمتدح أم يسوع: "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما" (لو 27:11). وفي ما يتعلّق بأسرة يسوع فقد أورده لوقا في سياق آخر، بعد خطبة الأمثال (لو 8: 19- 21): أم يسوع وإخوته هم أصحاب الأرض الطيبة (لو 8: 15): "يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو 8: 21).
وقد نكون في حدث واحد أو مقطع واحد، فنجد بعض الإختلافات. مثلاً، التجربة الثانية عند متّى (4: 5- 7) صارت الثالثة عند لوقا (9:4- 12). كل شيء ينتهي في أورشليم عند لوقا، ومنها هذه التجربة مع تلك التي تنتظره قبل الآلام (لو 3:22، 53). أما عند متّى، فيسوع على الجبل يشبه موسى على جبل موآب (تث 34: 1: "أراه جميع الأرض"). يورد الأنجيلي الخبر ولكنّه لا يتعلّق بحرفيته، بل يشدّد على اللاهوت الذي نستنتجه منه.

3- التوافق على مستوى التعابير والألفاظ
أولاً: في بنية الخبر
هناك ملاحظات أو معترضات ترد في مكان واحد من الخبر، حتّى وأن لم تهيّئها حركة السرد. مثلاً، في خبر دعوة التلاميذ الأولين، جاءت جملة معترضة: "لأنهما كانا صيادين". نجدها عند متّى (18:4) وعند مرقس (16:1). وفي خبر شفاء المخلع ينقطع الخبر في المكان عينه وبالعبارات عينها: "فلكي تعلموا أن إبن الإنسان له سلطان يغفر به الخطايا على الأرض، قال للمخلّع" (مت 6:9= مر 2: 10= لو 5: 24). وهناك حاشية أقحمت داخل خطبة النهاية: "ليفهم القارئ" (مت 24: 15= مر 13: 14). يتوجّه الإنجيلي هنا إلى المسيحيين ويدعوهم إلى نظرة إيمانية لا تتوقف عند أحداث يفهمها جميع الناس.
توافقٌ على مستوى العبارة، وتوافقٌ على مستوى الألفاظ والكلمات. وأوضحُ مثال على ذلك كرازة يوحنّا المعمدان التي ترد في متّى (3: 7 ب- 10) ولوقا (3: 7 ب- 9): "يا أولاد الأفاعي، من أراكم سبيل الهرب من الغضب الآتي؟ فأثمروا ثمراً يدل على توبتكم، ولا تعلّلوا النفس قائلين: إن أبانا هو إبراهيم. فإني أقول لكم: إن الله قادر على أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم. ها هي ذي الفأس على أصول الشجر، فكل شجرة لا تثمر ثمراً طيباً تُقطع وتُلقى في النار". نحن أمام توافق يكاد يكون تاماً. وهذا ما يدل على أن متّى ولوقا إستقيا من المعين عينه.
قد نجد التوافق لدى الإنجيليين في ما يخص أقوال الرب، ولكن يبتعد إنجيلي عن الآخرين في القسم الإخباري. مثلاً، خبر قائد المئة (مت 8: 5- 13= لو 7: 1- 10). حين أعجب يسوع بإيمان هذا الضابط قال لوقا: "لم أجد مثل هذا الإيمان حتى في إسرائيل" (لو 9:7). أما متّى (8: 10) فقال: "لم أجد مثل هذا الإيمان عند أحد في إسرائيل" لقد خفَّفت عبارة لوقا ما في عبارة متّى من قوّة. وهناك مثال آخر في حدث إبني زبدى. "هكذا إبن الإنسان لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم ويفدي بنفسه جماعة من الناس" (مت 28:20 = مر 45:10).

ثانياً: في إيراد نصوص العهد القديم
يورد الإنجيليون الثلاثة الإستشهاد عينه كما وصل إليهم من التقليد الكنسي. قد لا يرتبط الإستشهاد بالنص العبري ولا بالنص اليوناني (كما في السبعينية) ولكنّه يرد في الكلمات عينها. أورد متّى (3: 3) ومرقس (1: 3) ولوقا (3: 4) نصاً من أشعيا (40: 3): "صوت منادٍ في البرية. أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة". لم يحدّد أشعيا هويّة المنادي (صوت). أما الإنجيليون فطبّقوا هذا الكلام على يوحنّا المعمدان الذي يعلن مجيء المسيح القريب. تحدّث أشعيا عن الرب (يهوه) فتحدّثت الأناجيل عن يسوع. وقال أشعيا (النص العبري): "صوت يصرخ: هيئوا في البرية". فاتَّبع الإنجيليون ترجمة السبعينية لينطبق كلام أشعيا على الوضع الجديد الذي يعيشونه.
ونقرأ على لسان يسوع مديحاً في المعمدان، يرد فيه نص ملا 3: 1: "هاءنذا أرسل ملاكي (رسولي، فالملاك هو الرسول. رج فعل لأك في العربية)، فيهيئ الطريق أمامي": الرب يرسل ملاكه أمامه. ولكن الإنجيل (مت 11: 10= مر 1: 2= لو 27:7) طبَّق هذا الكلام على يسوع المسيح، وقد اتفق الإزائيون الثلاثة على هذا التطبيق. ونقول الشيء عينه في ما ورد من إستشهادات في خبر تجارب يسوع. أخذها متّى (4: 4؛ 7) ولوقا (4: 4؛ 12) من سفر التثنية (3:8؛ 16:6) وطبَّقاها على يسوع. يسوع يمر في المحنة التي مرَّ فيها شعبه، ولكنه لا يقع كما وقع شعبه.
تشابهٌ على مستوى النصوص التوراتية، تشابهٌ على مستوى الألفاظ والكلمات. قال بعض الشراح: إنجيل يتبع إنجيلاً آخر. وقال آخرون: هناك لغة إنجيلية مشتركة، هناك مجموعة شواهد وُضعت بتصرف المبشِّرين فاستقت منها الكنائس والإنجيليون، وطبقوها التطبيق عينه على يسوع لمسيح.

4- إختلافات على مستوى التعبير
الحالة الأولى: حين يحاول لوقا أن يحسّن نص مرقس من جهة الأسلوب. قال مر 4: 21: "أيأتي السراج ليُوضع نحت المكيال أو تحت السرير؟ ألا يأتي ليُوضع على المنارة" (رج مت 5: 15)؟ أما لوقا فكتب: "ما من أحد يوقد سراجاً ويضعه في مخبأ أو تحت المكيال؟ بل على المنارة ليستضيء به الداخلون" (لو 33:11). جعلنا مرقسُ (ومتّى معه) في عالم فلسطيني حيث يتألف بيت الفقراء من غرفة واحدة. أما لوقا فنقلنا إلى العالم اليوناني حيث يتألّف البيت من غرف عديدة. والداخلون الذين يتحدّث عنهم هم الآتون من العالم الوثني، وهم بالتالي يحتاجون إلى نور المسيحيين. وحين يقول مرض "أيأتي"، فقد يعني المسيح في مجيئه (مر 1 :7؛ 17:2). وهكذا لا نكون فقط أمام حسن أداء للجملة من الوجهة الأدبية، بل أمام نظرة لاهوتية.
الحالة الثانية: حين تحمل الكلمة الآرامية التي في أساس النص معنيين مختلفين. تحدّث متّى (12:5= مر 17:2) عن "الأقوياء" الذين لا يشعرون بالحاجة إلى طبيب. فقال لوقا (5: 31): "ليس الأصحاء (أصحاب الصحة) بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى". فالطبيب لوقا فضّل التعارض بين المريض وصاحب العافية على المريض والقوي. أما الكلمة الآرامية الأساسية فهي "بريا" التي تعني القوي والمعافى.
الحالة الثالثة: تكون البنية ثابتة ولكن الكلمات تتبدّل. فهناك خبر شفاء المخلع حيث يتم إتصال بين مرقس ومتّى ولوقا. ثم إننا نقرأ في مت 13:23: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تقفلون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا الذين يريدون الدخول تدَعونهم يدخلون". ونقرأ في لو 52:11: "الويل لكم يا علماء الشريعة، قد استوليتم على مفتاح المعرفة، فلم تدخلوا أنتم، والذين أرادوا الدخول منعتموهم". طريقة واحدة في التويُّل (قال: الويل)، هجوم واحد ضد نوعين من الناس (الكتبة والفريسيون، علماء الشريعة)، ويُعلَن السبب بالأداة عينها (لأنكم). ولكن يتبدل الفعل (أغلق، أقفل ثم استولى، قبض) والمفعول (ملكوت السماوات، مفتاح المعرفة). وسنجد المعنى عينه في لو 11: 21- 22 كما نقرأ في مت 29:12: "كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت الرجل القوي وينهب أمتعته، إذا لم يُوثق ذلك الرجل أولاً؟ وعندئذٍ ينهب بيته" (رج مر 3: 27). نلاحظ وجود كلمة "القوي" (إسخيروس).
ونجعل في هذه الفئة مَثل الوزنات (مت 24: 14- 30) ومثل الأمناء (لو 19: 11- 27)، ثم مثل الأعراس الملوكية والمدعوين إلى الوليمة (مت 22: 1- 10؛ لو 16:14- 24). هناك مرحلة شفهية أدّت إلى بعض التنوع، ولكن بنية المثل الإجمالية ظلّت هي هي.
الحالة الرابعة: في حدث واحد ظلّت الكلمات هي هي ولكن تبدّل محلها ووضعها ووظيفتها. خرج الروح من الممسوس "بصراخ شديد" (مر 1: 43). أو هو استقبل يسوع (لو 33:4). لقد احتفظت الكلمات بمعناها. أقام (أنهض) يسوع حماة سمعان المصابة بالحمى (مر 1: 31). أما في مت 8: 15، فحين شُفيت حماة بطرس قامت. في مرقس (27:1)، تعجّب الجمع من التعليم الجديد. وفي لوقا (4: 36) من إخراج الشيطان.
وقد يتبدل موضع المفردة فتتخذ في الجملة مدلولاً آخر أو وظيفة أخرى. فكلمة "لوغوس" تعني "معجزة" في مر 1: 45 (يذيع الخبر، يذيع المعجزة. حرفياً: الكلمة) وفي لو 5: 15: تعني "الشهرة" (كانت شهرته، خبره، كلمته، تتسع). نقرأ مت 19:9 فنعرف أن يسوع تبع يائيرس. ونقرأ مر 24:5 فنعرف أن الشعب تبع يسوع. وفي كلتا الحالتين نحن أمام العبارة نفسها. وكذا نقول عن تهدئة العاصفة بعد تكثير الأرغفة. فالفعل (باسانيزو) عينه يعني في مت 14: 24 أن الأمواج تلطم السفينة. وفي مر 48:6 أن التلاميذ كانوا يجهدون في التجذيف.
كيف نفسّر هذا الوضع الذي يسمَّى الواقع الإزائي؟ ظل المسيحيون سحابة سبعة عشر قرناً ينشقون معطيات التقليد الإنجيلي ليظهروا التوافق بين النصوص. ولكن الإختلافات واضحة خاصة على مستوى التفاصيل. وهكذا طرحت الدراساتُ المسألة فتحدَّثت عن أسلوب الكاتب وطويقة تأليفه وميوله التعليمية التي تحاول أن تتجاوب مع الجماعة التي تتوجّه إليها. أمَّا الإئتلاف ففسِّر إنطلاقاً من تبعية مقطع لآخر أو إتصال أدبي بين محيط وآخر.
وها نحن نقدّم مركّبات ثلاث كانت في أساس الفرضيات اللاحقة: التقليد الشفهي، التبعية المتبادلة، المصدر المراجعي.

ب- الفرضيات
1- التقليد الشفهي
مؤسّس نهج التقليد الشفهي هو (جيسلر) (1818). رفض أن يكون في أصل الأناجيل إنجيلٌ واحد. فالكرازة الأولانية تقولبت سريعاً بسبب فقر مفردات اللغة الآرامية وحسب نواميس التكرار المتواصل. لهذا نحن نجد هذه التشابهات بين الكتابات. أمَّا الإختلافات فترجع إلى متطلبات المحيط الذي وُلد فيه النص.
إستعاد "غوده" (1872) هذه النظرية وصحّحها: إن كاتب متّى اليوناني كمّل التقليد الآرامي السابق بمجموعة خطب تُرجمت إلى اليونانية. واستعمل لوقا هذه المدوّنات المتقطعة. وزاد "غوده": "إن الأناجيل الثلاثة استقلَّت بعد أن كُتبت في أماكن مختلفة. دُوِّن مرقس في رومة سنة 64 ومتّى ولوقا حوالي سنة 66، الأول في الشرق والثاني في سورية".
ولكن نسي هذان العالمان وغيرهما أهمية التقليد الشفهي وإمكانيات الذاكرة قبل أن تدوَّن الأناجيل في الصيغة التي نعرف.
قد تكون هناك لغة مشتركة. وهكذا لا نحتاج إلى تبعية أدبية. ولكن التشابه في بُنى المقطوعات والمتتاليات يتطلب إتصالاً أدبياً بين الأناجيل، أو أقلّه بين وحدات دُوِّنت قبل أن تدخل في التقليد الإزائي. هناك كلمات تتكرّر فتربط المقطوعة بأختها (مثلاً، الأقوال حول المائدة في لو 14: 1 ي). وهناك المدراش أي الدرس الذي يبحث عن العبرة الدينية في الكتب المقدّسة. إنطلق التلاميذ من حياة يسوع وأقواله، فعادوا إلى الأسفار المقدّسة محاولين فهمها على ضوء الوضع الجديد. إنطلقوا من إستجواب يسوع أمام المحكمة العليا (سنهدرين) فأعادوا قراءة إر 26: 7 ي: "قبض عليه الكهنة والأنبياء وكل الشعب وقالوا: ستموت موتاً". ورتبّ "المدوِّنون" الأولون أول مجموعة من الجدالات على ضوء ما قرأوا في أش 13:57- 3:59: "إقتربوا إلى هنا، يا بني السامرة، يا نسل الفاسق والزانية. بمن تسخرون"؟ وأخيراً، إن مادة عظة الجبل جاءت تفسيراً مسيحياً لما نقرأ في خر 20: 13-16؛ لا 15:19 - 18؛ 23: 1 ي.
ما هو دور التقليد الشفهي في كل هذا التدوين؟ إنه مهمّ جداً. ونحن نكتشفه على مستوى التوازي والتضمينات والكلمات المتكرّرة.
ولكن التقليد الشفهي لا يكفي ليفسّر وجود متتاليات تتضمن عشرات المقطوعات المرتبة الترتيب عينه. لا بدّ أنه وُجدت رسمة سابقة للتقليد الإزائي. وهذا ما سوف نتحدّث عنه.

2- التبعية المتبادلة
إن المدافعين عن التبعية المتبادلة بين النصوص قد لفت إنتباهَهم التشابهاتُ في مضمون ألمواد وترتيبها. تركوا جانباً الظواهر الصغيرة التي تحدّثنا عنها أعلاه. ووجدوا شفيعاً لنظريتهم في شخص القديس أوغوسطينس. نسبوا إليه القول إن مرقس يرتبط إرتباطاً حرفياً بمتّى. ولكن أوغوسطينس يقول أيضاً إن متّى أو مرقس أغفلا ما رواه الذين جاؤوا بعدهما، أو إن مرقس أو لوقا أغفلا ما قاله الذين سبقوهما. وقال: عرف كل إنجيلي التقليد كله، ولكن الروح القدس وجَّهه فاختار المادة التي دوَّنها.
وقُدِّمت فرضيات. الأولى تجعل متّى في الدرجة الأولى. يتبعه مرقس ثمَّ لوقا. والثانية التي يتبعها عدد كبير من الشراح: مرقس هو مرجع متّى ولوقا. أجل، إن مرقس مستقل عن متّى ولوقا. هذا ما يقوله عدد كبير من الشراح. وإلاّ فكيف نفسّر إغفال عدد من نصوص متّى، وكيف نشرح عباراته العتيقة التي تربطنا بتقليد الكنيسة الأولاني؟ وهنا نطرح عدّة أسئلة:
أوّلاً: هل يتبع متّى لوقا والعكس بالعكس؟ هذا ما نسمّيه نظرية "الينبوعين". ولكن مجمل الشرّاح قد رذلوا هذه النظرية وقالوا إن متّى مستقل عن لوقا والعكس بالعكس. سنبرهن عن هذا الواقع مشدّدين على العلاقات بين متّى ولوقا، على توافقهما رغم اختلافهما.

- في التقليد المثلث
حين يترك متّى أو لوقا مرقس، يختلف الواحد عن الآخر على مستوى المواد المستعملة، على مستوى الترتيب، على مستوى التعبير.
على مستوى المواد المستعملة: في خبر الآلام: كل من لوقا ومتّى له تقليده الخاص فلا يأخذ عن الآخر. حين يحّول لوقا بعض الأحداث (خطبة الناصرة، الصيد العجيب) فمتّى لا يتبعه. وكذلك لا يتبع لوقا متّى في الملاحظات الخاصة به.
على مستوى الترتيب: حين. يسير كل من متّى أو لوقا في طريقه، فهو لا يختلف عن مرقس. ولكنهما يتّفقان على مرقس في حادثة الباعة المطرودين من الهيكل (مت 21: 12- 13= لو 19: 45- 46) المقدّس: "ثم دخل يسوع وطرد جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، فقلب طاولات الصيارفة ومقاعد باعة الحمام" (رج مر 11: 15- 17).
على مستوى التعبير: هنا لا نستطيع أن نؤكد أن متى أقدمُ من لوقا والعكس بالعكس. ولكنّنا نكتشف عند هذا وذاك آثار تعابيرٍ عتيقة.
وهكذا نقول إن متّى ولوقا مستقلان في مقطوعات التقليد المثلث.

- في التقليد المثنى
ونقابل بين متّى ولوقا. هناك مواد مشابهة. ولكن إن افترضنا أن متّى مثلاً عرف لوقا، فكيف نفسّر الغاءه لما أورده لوقا في القاطعة الكبرى (الصعود إلى أورشليم)؟ بالإضافة إلى ذلك، هناك إختلافات عديدة بين الإثنين: أخبار الطفولة، سلسلة نسب يسوع، ظهورات القائم من الموت، صلاة الأبانا، مثل الوزنات ومثل الأمناء.
وعلى مستوى ترتيب المواد: قد نجد متتالية مماثلة عند متّى ولوقا (مت 10: 26- 33= لو 12: 2- 9). ولكن الخلاف يبدو عميقاً في أكثر الحالات. فلو كان لوقا قد عرف متّى، فهل كان تجاسر وبعثر التأليف المتّاوي الرائع؟
وعلى مستوى التعبير: هناك مشابهات تحدّثنا عنها (مت 7:3 - 10= لو 3 : 7- 9) ولكن هناك إختلافات عديدة. وهكذا لا يستطيع أحدهما أن يكون مرجعاً للآخر.
إذن، لا تبعية أدبية مباشرة بين متّى ولوقا. ولكن توافقهما النسبي يتطلّب تفسيراً. أتكون هناك مراجع خطية أو شفهية سبقتهما؟ الأمر معقول.

ثانياً: هل يتبع لوقا مرقس؟
الجواب إيجابي لدى معظم الشراح ولا سيما في القسم المرقسي الذي يرتبط به لوقا (لو 4: 31- 6- 19؛ 4:8- 9: 50؛ 15:18 - 38:21)0 أما فيما يتعلق بالبداية والنهاية، فإن لوقا لجأ إلى مراجع أخرى.
يستعيد لوقا في هذه المتتاليات المرقسية الثلاث مواد مرقس. ونحن نفهمه حين يُغفل بعض الأمور. مثلاً، لم يذكر دهن يسوع بالطيب في بيت سمعان الابرص (مر 3:14 ي)، لأنه ذكر الحدث فيما سبق (لو 36:7- 50). وان هو رفض ان يتبع مرقس (21:3) حين تحدث عن يسوع وذويه (قالوا: انه فاقد الرشد)، فلأنه لا يريد أن يشكّك سامعيه. وللسبب عينه رفض أن يتحدث عن يسوع الذي يجهل اليوم والساعة (مر 13: 32) أو الذي يبدو متروكاً من الآب (مر 15: 34).
وراح الشراح يقولون إن لوقا جعل انجيل مرقس أمامه حين دوّن انجيله. ولكن حين نتفحّص نص الانجيليين بدقة نجد بعض الخلافات غير المعقولة. وهكذا اعتبر الشراح أنه يجب ان نتخلى عن تبعية أدبية مباشرة لمرقس. هناك مصادر مشتركة استقى منها كل من لوقا ومرقس، وجاء التقليد الشفهي فجعل بعض الخلافات ممكنة. يصح كلامنا في مقطوعات كهذه: مر 2: 1- 3: 6؛ 4: 1- 34؛ 4: 35 -43:5؛ 6:6-44؛ 27:8-29:9؛ 30:9- 10: 52؛ 11: 27- 44:12؛ 13: 1- 33. ولكن لوقا قد استقى ايضاً من مصادر لم تصل ربما إلى مرقس، ولا سيما في متتالية الصعود إلى أورشليم.

ثالثاً: هل يتبع متّى مرقس؟
يؤكّد عدد من الشرّاح أن متّى استعان بمرقس ليدوِّن إنجيله. فمواد مرقس قد وضعت كلها تقريباً في نص متّى. وزاد متّى على ما أخذه من مرقس ما وصل إليه من تقاليد إضافية، وقد عمل ما عمله لوقا فأقحم المواد بين مقطوعات مرقس. مثلاً، مت 12: 30، 33 - 45؛ 24:17-27؛ 10:19- 12؛ 20: 1-16... وقد جمع مواضيع أخذها من تقليده الخاص فجعلها في التقليد المرقسي، ولا سيما حين دوّن خطباته الكبرى (مت 10؛ 13؛ 18؛ 23- 25) أو قدّم مجموعة المعجزات في ف 8- 9.
أما التكرارات فتدعونا إلى أن نرى مصدرين، أحدهما مرقس. فنحن نقرأ القول عينه تارة في إطار لا مرقسي (مت 29:5 – 32 ؛ 10 : 38- 39) وطوراً في إطار مرقسي (مت 18: 8 – 9؛ 19 : 9).
ترتيب إنجيل متّى هو ترتيب إنجيل مرقس، خاصة بعد مت 14: 1 (= مر 6: 14) ما عدا حدثَي الباعة المطرودين من الهيكل والتينة التي يبست. ونقول الشيء عينه عن خطبة الإرسال (مت 10) وخطبة الأمثال (مت 13)
ولكننا نقول هنا ما قلناه بالنسبة إلى ارتباط لوقا بمرقس. هناك اتصال على المستوى الأَدبي يدل على أن متّى ومرقس رجعا إلى المصادر عينها.

3- المصدر المراجعي.
تبدو النظريات المراجعية في اشكال ثلاثة: مرجع واحد في أصل التقليد المثلث، مرجع إضافي في أصل التقليد المثنى، مراجع متعددة في أصل الإنجيل إجمالاً.

أولاً: التقليد المثلث ومتّى الآرامى.
تحدّث بابياس عن متّى الآرامي. فميَّز الشراح بين متّى اليوناني ومتّى الآرامي. لسنا هنا أمام إنجيل أول وحيد، بل أمام دمج بين النظرية المراجعية (متّى الأرامي) والتبعية المتبادلة (يرتبط متّى اليوناني بمرقس ومتّى الآرامي). إذن، هناك مصدران رئيسيان للتقليد المثلث: متّى الآرامي ومرقس.
ولقد حاول بعض الشرّاح (جان لافي) أن يعيد بناء متّى الآرامي: إنه يتضمّن نصوصاً لامرقسية (المعين) ومقاطع من التقليد المثلث (مثلاً، خبر ممسوس أرض الجدريين، إحياء ابنة يائيرس). وقد ورث الانجيل الأول اسم متّى لأنه استفاد أكثر من لوقا من هذا الإنجيل الارامي. وهكذا يكون لنا شاهدان في التقليد الإزائي: بطرس بواسطة مرقس، ومتّى في نصّه الأصلي. لسنا هنا فقط أمام مرجعين، بل أمام إنجيلين متواجدين هما ينبوعا التقليد الإزائي.
تجنَّب "فاغاني" كل هذه الصعوبات فقال: تُرجم متّى الآرامي إلى اليونانية فعرفه متّى اليوناني ومرقس ولوقا. أكمل مرقس هذا المدوَّن الأولاني، هذا "النص الشفهي"، بما سمعه من بطرس. واستفاد متّى ولوقا من متّى الأرامي المترجم إلى اليونانية ومن مرقس. وهكذا نصل إلى مرجع مشترك بين الازائيين الثلاثة إنطلاقاً من توافق متّى ولوقا ضد مرقس. وهذا التوافق يدل على أن مرقس لا يمكنه أن يكون المرجع الوحيد لمتّى ولوقا. إذن، نحن أمام مرجع مؤلَّّف من خمس كتيبات نجد بنيته في إنجيل مرقس وهو يتضمن المقطوعات المشتركة بين الإزائيين، كما يتضمن مقاطع ترجع إلى "المصدر الثاني" مثل خطبة الجبل.
يبقى أن الواقع الإزائي يتطلّب عدة مصادر سابقة لمرقس ومشتركة بين الأناجيل الثلاثة الأولى. والصعوبة تكمن في تحديد دقيق لمرجع واحد.

ثانياً: التقليد المثنى والمرجع الإضافي.
خلال عرضنا لنظرية التبعية المتبادلة، عرفنا أن متّى مستقل عن لوقا والعكس بالعكس. وتوافقهما ضد مرقس في التقليد المثلث يفرض وجود مرجع سابق لمرقس. يبقى علينا أن نفسّر توافقهما في التقليد المثنى. وقد كانت محاولتان في هذا السبيل.

* المحاولة الأولى: المعين.
ظن "شلايرماخر" (1832) أنه اكتشف في شهادة بابياس البرهان التقليدي لوجود مجموعة من "لوغيا" (أقوال) دوّنها الرسول (مع مجموعة مرقس). وتضمّنت هذه "اللوغيا" الخطب وسائر الأقوال. جاء هذا "المرجع الثاني" يكمّل مرقس فيجعلنا نحصل على متّى ولوقا.
تضمن هذا "المعين" اخباراً مثل تجارب يسوع وشفاء ابن ضابط كفرناحوم، وامتد إلى مقاطع مشتركة مع مرقس. ولكن ما هو أساسه التاريخي؟ أمام هذه الصعوبات ترك الشرّاح فكرة المعين وتحدثوا عن طبقات التقليد النامي دائماً.

* المحاولة الثانية: المرجع الثاني اليوناني.
راح "فاغاني" في اتجاه ثانٍ . بما أن متّى الآرامي المترجم إلى اليونانية لا يشمل مجمل التقليد الإزائي، فلا بد من وجود مرجع ثانٍ نُقل إلى اليونانية. هو لا يتضمّن إلا أقوالاً أدخلها لوقا في القاطعة الكبرى (9: 51- 14:18). هذا ما يسمَّى "كنز لوقا" الذي نزيد عليه 145 آية خاصة بمتّى.
وتحدث "باركر" في الخط عينه عن مصدرين في أصل التقليد الإزائي: متّى الأول الذي يرتبط به مرقس ومتّى مباشرة، ولوقا عبر مرقس. ومصدر إضافي هو المعين الذي يرتبط به متّى ولوقا.
إذا عدنا إلى التقليد المثلث نرى أن البحاثة يرون إجمالاً ارتباط متّى ولوقا بمرقس. وإذا عدنا إلى التقليد المثنى رأينا بعض التباعد عن النظرية المراجعية. أجل، إن العلم لا يستطيع الذهاب إلى ما لا نهاية. وتفتيت النصوص يصل بنا إلى تفتيت الإنجيل وتضييع المعنى الأساسي لإنجيل. هذا ما سمّي النهج الدياكروني أي نظرة تفصيلية إلى النصوص تصل بنا إلى الأصل الأول، إذا كان هناك من إمكانية الوصول إلى أصل أول. ولكن النهج السنكروني أخذ يستعيد مكانته في البحث العلمي الكتابي. إنه نظرة إجمالية إلى النص. فالكاتب الأخير الذي قدّمه إلينا يعتبر أن لهذا النص النهائي معنى. فلماذا لا نبحث عن معنى هذا النص قبل أن نفتّته؟ ولكن يبقى أن النهجين ضروريين. فإن توقفنا عند النهج السنكروني وحده قادتنا دراستنا إلى النظرة الأصولية التي تتعلق بالحرف ولا تجرؤ على الإنطلاق منه للوصول إلى الروح. واذا حصرنا دراستنا في النهج الدياكروني أضعنا المعنى العام وتِهنا في تفاصيل ودروس جعلت عدداً من الشرّاح ينسون أن كلام الله هو في النهاية للتأمل والصلاة.

ثالثاً: التقليد الإنجيلي والمصادر المتعددة.
تحدّث البحّاثة عن وجود مرجع أو مرجعين في أصل التقليد الإنجيلي، وفي النظرية بعض الصحة. وأشاروا إلى التقليد الشفهي وإلى نظام التبعية المتبادلة فأخذوا به أو نفوه. وتبقى طريقة ثالثة: نجعل وراء الإزائيين مصادر متعددة.
تكلم "شلايرماخر" (1817) عن تكوين الأناجيل في الجماعة الرسولية الأولى من خلال حياتها وتعليمها. وأُلفت في وقت مبكر مجموعة أحداث وأقوال فكوّنت "مذكرة" للوعاظ والكارزين. فكان كل واحد يستقي من هذه المذكرة ما يراه مناسباً وما يوِافق حاجات السامعين: هذا يأخذ المعجزات، وذاك الأقوال، والثالث آلام المسيح، والرابع الأخبار المتعلقة بيسوع. وهكذا تكوّنت مجموعات اتسعت تدريجياً قبل أن تنضّم إلى الأناجيل. لن نكتفي بدرس الوحدات الصغيرة، بل نتفحّص تسلسل هذه الوحدات لنكتشف أصل الإنجيل.
واستعاد البحاثة هذه النظرية فتحدث "سرفو" عن المراجع المتعددة. ولم ينسَ أن الإنجيليين ليسوا مقمشين جمعوا مقاطع ومتتاليات دوِّنت قبلهم دون أن يكون لهم يد في ترتيبها داخل إطار لاهوتي خاص بكنيستهم.
ربطوا متّى اليوناني ولوقا بمرقس. وجعلوا في أصل التقليد الإزائي تياراً آرامياً أول تبعته عدة تقاليد جزئية. تُرجم كل هذا إلى اليونانية فشكل متّى الأول الذي ترتبط به الأناجيل الإزائية.
هل نحن أمام مصدر واحد أم مراجع متعددة؟ لا نستطيع ان نسميه "إنجيلاً وحيداً". ومع ذلك فالمراجع التي تمثّل هذا التقليد قد طُبعت بطابع التعليم في أقسامه الأربعة (يوحنا، الرسالة في الجليل، الصعود إلى أورشليم، الموت والقيامة). لا حاجة إلى "مصدر ثانٍ" لأن متّى الآرامي يكفي في هذا المجال.

خاتمة
إلى ماذا وصلنا بعد هذا البحث الطويل؟ لم نصل إلى النهاية. ولكننا اكتشفنا من جهة ارتباط الإزائيين بعضهم ببعض وفي الوقت عينه استقلال الواحد عن الآخر. فارتباطهم يدل على مرجعهم الواحد الذي هو يسوع المسيح كما تأملت الكنيسة الأولى في حياته وأعماله وأقواله وجعلتها في محطات أربع. واستقلاليتهم تدعونا إلى التأمّل في كل إنجيل على حدة، لأن كلاًّ منها يحمل غنى خاصاً به. لن نحاول أن نطمس الفروقات كما فعل في السابق بحثٌ دفاعي (أبولوجيا) خاف على الإنجيل من التنوّع. ولكننا نضع نصّاً إنجيليّا بإزاء نص إنجيلي آخر، فنكتشف غنى هذا وذاك.
لا شك في أن متّى الآرامي نص قديم جداً، كما يقول التقليد، وإن كنا لا نستطيع أن نحدّد مضمونه. كما أن إنجيل مرقس يعود إلى ما قبل دمار أورشليم سنة 70، كما يقول معظم الشرّاح. ولهذا استقى منه كل من متّى ولوقا، أو ذهبوا إلى المراجع التي استقى منها.
ثم إننا لا ننسى التقليد الشفهي الذي حمل إلى الإنجيليين والكنائس عدداً من "النصوص" المتعلقة بيسوع. فالتقليد الكتابي لا يفسِّر كل شيء. ولا ننسى دور الكنيسة الملتئمة حول رسول من الرسل: إنطلقت من واقعها المحلي والحضاري، فدوّنت إنجيلاً هو في الوقت عينه صورة صادقة عن يسوع ومرآة عن حياتها. فحين تُحدثُنا كنيسةُ متّى عن التعليم والتلمذة في 16:28- 20، فهي تعود بنا إلى أعمال يسوع وأقواله، ولكنها تبلور في الوقت عينه ممارستها حين تعمّد المؤمنين لا باسم يسوع فقط، بل باسم الآب والابن والروح القدس.
هذه هي المسألة الإزائية التي حاولنا التوغل في طرحها على خطى العالم الأوروبي، بعد أن اكتفى الشرق حتى هذه السنوات الأخيرة بتقديم "حياة يسوع" مأخوذة من الأناجيل الأربعة. بحثنا عن مواضيع الائتلاف فاكتشفنا الأصل، وبحثنا عن مواضع الاختلاف فاكتشفنا غنى الكنيسة بأناجيلها الأربعة التي ترمز إلى الكون بأقطاره الأربعة، وهي تحاول أن توصل إليه الإنجيل. لا شك في أننا لم نزل على المستوى العلمي البحت الذي يتهرب منه منشِّط الحركات الرسولية ومنظم السهرات الإنجيلية. ولكننا نرجو أن يقودنا هذا البحث وكلّ بحث إلى اكتشاف غنى كل إنجيل على حدة، واكتشاف غنى الإنجيل الوحيد، إنجيل يسوع الذي هو قوة الله لكل من يؤمن.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM