الفصل الثامن عشر: يوحنا والازائيون
 

الفصل الثامن عشر
يوحنا والازائيون
أنطوان أودو
مطران حلب وتوابعها على الكلدان

المؤتمر الذي يجمعنا اليوم حول الكتاب المقدّس يجعلنا نسلّط الأضواء على الأناجيل الإزائيّة التي اخترناها موضوعاً لدراساتنا هذه السنة. إلاّ أن من يقول "الأناجيل الإزائيّة" يسعى ولو بشكل غير مباشر إلى أن يقابلها بحقيقة إنجيلية أخرى ألا وهي الأنجيل الرابع، أو إنجيل القديس يوحنا. وكلّنا يعلم أهمية المقارنة في الدراسات الأدبية عامة ما بين مؤلَّفين أو نصَين أو رؤيتين مختلفتين لكي تظهر نقاطُ التشابه والتضاد، وهكذا نعود إلى خطوط عريضة تكشف عن هوية النص وأصالته.
هذا ما أقترحه عليكم اليوم في صدد دراستنا للأناجيل الإزائية والإنحيل الرابع: مقارنة بين الأناجيل الإزائية وإنجيل يوحنا. وتحتوي هذه الدراسة الوجيزة على أقسام ثلاثة. ففي القسم الأول نستعرض نقاط التشابه والإختلاف بين هذين التقليدين، أما في القسم الثاني فنتوقّف عند ظاهرة فريدة في إنجيل يوحنا وهي ما يسمى . باستعمال "الأنا" في كلام يسوع، فنحلِّل هذا الاستعمال أدبياً مقارنين إيّاه بالأناجيل الإزائية. وأخيراً يصل بنا المطاف إلى رؤية لاهوتية واحدة تحتوي على حركتين تكشفان عن سر الله في علاقته بالانسان.
من الأمور المتَّفق عليها في إيماننا المسيحي أن الكتاب المقدّس الذي يحتوي على كلام الله يدعو الانسان إلى أن يدخل في علاقة شخصية مع الله. وأرى أن كلمة حوار تلخص جيداً هذه العلاقة. فالله يخاطب الانسان ويدعوه إلى الخلاص، وعلى الانسان أن يجيب على الله من خلال تساؤلاته وخِبراته وقناعاته.
وباستطاعتنا في هذه الدراسة المقارنة أن ننطلق من الفرضية التالية. لكي يعرف الإنسان من هو الله، لا بُدّ دله من أن يوحي بنفسه لإنسان آخذاً المبادرة الأولى وكاشفاً عن أعماق جوهره. فالله هو الذي يخاطب آدم وقايين ونوحا وابراهيم والآباء والأنبياء. يتدخّل أوّلاً في التاريخ لكي يُعلن عن قصده الالهي في خلاص الناس.
ويقابل هذا القُطب الأول من السؤال قطبٌ ثان، نطرحه على الشكل التالي: ولكن لكي يعرف الإنسان من هو الله لا بُدَّ من أن يشهد له من خلال إنسانيته بكل ما تتضمن من خبرة يعبّر عنها بلغته، ومن حريةٍ تدفعه إلى مزيد من التساؤل والتطلب. لذلك فإن كلمة الله لا تخشى أن تظهر بمظهر الإنسانية العنيفة والخاطئة ولكنْ الساعية دوماً نحو قداسة هذا الإنسان. وعلى السؤال التقليدي: هل الكتاب المقدس هو كلام الله أم كلام إنسان يجيب الأب بول بوشون في إحدى تعليقاته "هو كتاب الله وكتاب الإنسان في آن واحد".
هذه الفرضية الكتابية، التي طرحناها في بدء دراستنا تُهيئ لنا أرضية تساعدنا على دراستنا المقارنة. فهناك حركتان متداخلتان ما بينْ الإزائيين ويوحنا، ولا بُدَّ لنا من أن نتعمق فيهما من خلال الأقسام الثلاثة التي طرحناها.

القسم الأول: نقاط التشابه والإختلاف
1- نقاط التشابه في البنية العامة
المقدّس عندما يتحدّث الإنجيل الرابع عن رسالة يسوع العلنية، فإنه لا يهمل الجليل، إنما يذكره في مواقف مختلفة كما هي الحال في الإزائيين:
1/ 43 "وأراد يسوع في الغد أن يذهب إلى الجليل"...
2/ 1 "وفي اليوم الثالث كان في قانا الجليل عُرسٌ".
4/3 "ولمّا علم يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه اتخذ من التلاميذ... ترك اليهودية ورجع إلى الجليل".
6/ 1 "وعبر يسوع بعد ذلك بحر الجليل...، فتبعه جمع كثير".
7/ 1 "وجعل يسوع يسير بعد ذلك في الجليل، ولم يشأ أن يسير في اليهودية، لأن اليهود كانوا يريدون قتله".
* ويذكر يوحنّا كذلك الصعود إلى أورشليم بمناسبة الأعياد المختلفة:
2/ 13 "واقترب فصح اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم"...
5/ 1 "وبعد ذلك كان أحد أعياد اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم"...
7/9 "ولمّا صعد إخوته إلى العيد، صعد هو أيضاً خفيةً لا علانية"...
* وفي الإشارة هذه إلى "الصعود إلى أورشليم بمناسبة الأعياد" فإن إنجيل يوحنّا لا يقول أمراً جديداً بالنسبة للأناجيل الإزائية. فلوقا قد ردّد مرات عديدة أن يسوع قد صعد إلى أورشليم:
9/ 51 "ولمّا حانت أيام إرتفاعه، عزم على الإتجاه إلى أورشليم"...
13/ 22 "وكان يمرُّ بالمدن والقرى، فيعلّمهم فيها، وهو سائر إلى أورشليم"...
17/ 11 "وبينما هو سائر إلى أورشليم"...
وكذلك متّى في 23/37، يشير إلى أن يسوع ذهب مرّات عديدة إلى أورشليم "أورشليم أورشليم... كم مرةٍ أردت أن أجمع أبناءك". ونستطيع أن نقول أخيراً: إن الأناجيل الإزائية تفترض هذه الزيارات العديدة لمدينة القدس، عندما تروي لنا دخول يسوع المنتصر إليها: فالناس يعرفون يسوع وهو ليس مجهولاً بينهم.

2- ليوحنا بعض المعلومات الدقيقة بشأن الرسالة والأمكنة والتواريخ
لا بد لنا من أن نذكر أيضاً ما هو خاص بيوحنّا: رسالة يسوع في اليهودية، في أول حياته العلنية، عندما كان يوحنّا المعمدان يعمّد في نهر الأردن 3/ 22- 23. وفي النهاية كذلك، وقبل أن يصعد إلى أورشليم للمرة الأخيرة فإن يوحنّا يذكر أيضاً إقامة يسوع في اليهودية في 10/ 40 و 11/ 54. فبين هاتين الرسالتين في اليهودية تقع الإقامة في الجليل. فإن يوحنّا وحدَه يعطينا سبب رحيل يسوع عن اليهودية، وإن هذا السبب لمقنع: حَسدُ الفريسيين وقلقُهم في 4/ 1- 3.
على الرغم من روحانية إنجيل يوحنّا، فإن له الفضل في أعطائنا معلومات دقيقة تتعلّق ببعض الأمكنة والتواريخ. فإننا نعلم بواسطة الإنجيل الرابع أن هناك قرية إسمها بيت عنيا 1/ 28 وهي في عبر الأردن، وأن يوحنّا المعمدان كان يعمّد في "عينون" 3/ 23، وأن يسوع ذهب إلى قانا الجليل 2/11 و 4/46، وأنه ذهب إلى مدينة إسمها "أفرام متاخمة للبرية" 11/ 54. أمّا بما يتعلّق بالتاريخ، فإن دقة يوحنّا مهمة للغاية: فهو يذكر الـ 46 سنة التي دام فيها بناء الهيكل 2/ 20، ويذكر أيضاً زمن موت يسوع وساعة الحكم عليه 28/18 و 19/ 31.

3- البيئة الإنجيلية هي هي في التقليدين
إن بيئة إنجيل يوحنا التي يعيش فيها يسوع ويتفاعل معها هي نفس بيئة الأناجيل الإزائية. فليس في نص يوحنّا أيّةُ قرابة مع ما انتجته المخيلة المجنّحة التي تبادرنا لدى مطالعتنا الأناجيل الإزائية المنحولة. فمدينة أورشليم هي قُبلة الحجاج واليها يصعد الوثنيون المتهوّدون 12/ 20، والهيكل لم ينتهِ بناؤه 2/ 20، فهو يأوي التجار 13/2- 14، وفي الجليل عامل للملك 46/4، وهي منطقة منبوذة 1/ 46 و 7/ 41 و 52 وتميل إلى المشيحية الثورية 6/ 14- 15، وهناك عداوة عميقة تفرّق بين اليهود والسامريين 4/ 9. والعادات الدينية هي هي كما في باقي الأناجيل: الطهارة 2/ 6 و 3/ 25 و 11/ 55 المأتم 11/38 و 44 و 12/ 7 و 19/ 31 و 40، المحرّمات 18/ 28 و 19/ 31. وإن جماعة الفريسيين تشُبه تماماً ما تذكره عنها الأناجيل الإزائية، فهم متعلّقون بالحرف 5/16- 18 و 7/37 و 9/ 16، يحتقرون الشعب المسكين 7/ 49 و 9/ 28- 29 و 34 ويبغضون يسوع 5/ 16 و 18 و 7/ 1 و 8/ 40 و 59 و 10/31.
فإذا كان الجو العام الذي عاش فيه يسوع في إنجيل يوحنّا، مطابقاً لجوِ الأناجيل الإزائية، فإننا نتساءل لماذا لا يسرد علينا يوحنّا قسماً كبيرا من أحداث الأناجيل الإزائية، ولماذا في المقابل لا نقرأ في الأناجيل الإزائية، ما يسرده علينا هو من الأحداث.
علينا أن نلاحظ أولاً أن الإنجيل الرابع يحتوي تحت شكل الإشارة والإيحاء إلى الأحداث التي تطالعنا بشكل واضح في الأناجيل الإزائية، ومثالاً على ذلك:
أصل يسوع الناصري في 1/45 و 6/42 و 7/41 و 52 و 19/19
عماده من يوحنا المعمدان في 1/ 31- 34
سجن المعمدان في 3/24
إختيار الإثني عشر في 6/70 و 13/18 و 15/16 و20/24
خيانة يهوذا في 6/64 و 12/44 و 13/2 و 27-29
إقامة الافخارستيا في 6/51
حكم اليهود والسنهدرين في 7- 8
النزاع في 12/27
إقامة المعمودية في 3/5
الصعود في 20/ 17
التجلي في 1/14 و 12/ 28-30
هو سر الفصح الذي يوجِّه حياة يسوع الأرضية كلّها ويسقط نور مجده على أصغر الأحداث في حياته السابقة لموته وقيامته.

4- أسلوب إنجيل يوحنّا
ونجيب في هذه الفقرة على السؤال الأخير الذي طرحناه سابقاً: "لماذا في المقابل لا نقرأ في الأناجيل الإزائية ما يسرده علينا الإنجيل الرابع من الأحداث؟" سوف نجيب على هذا السؤال إنطلاقاً من خصوصية يوحنا في أسلوبه: في الجوارات والأعاجيب والخُطب.
الحوارات: خلافاً للأناجيل الإزائية، فان الأحداث الدائرة بين يسوع والناس في يوحنّا ليست مقتضبة. هناك محاولات في التوسع في الحوار لدى الإزائيين. ولا سيّما لدى لوقا في حادثة ظهور يسوع لتلميذي عمّاوس لو 24/ 13- 035 إلاّ أنَّ إنجيل يوحنّا يطبق أسلوب الحوار بطريقة منهجية. إن محاوري يسوع يعرَضون علينا وكأنّهم "نماذج". فالرافض يدير ظهره ليسوع والتلميذ يسير بتدرج نحو النور.
الأعاجيب: يبدو أن يوحنا قد تعمّد إختيار سبع أعاجيب، إستناداً إلى الرقم سبعة الدال على الكمال. هذه الأعاجيب هي من نوعية أعاجيب الأناجيل الإزائية، إلا أنها لدى يوحنا "علامات" تكشف وتوحي عن شخصية المسيح إبن الله.
الخُطب: والخطبة في إنجيل يوحنّا هي التي توضّح معنى الأعجوبة (الفصل 5 و 6 و 9 و 11). إن الأناجيل الإزائية تشير إلى هذا النوع من التفسير، كما هي الحال في حادثة شفاء المخلع: ففيها مجادلة حول السلطة في مغفرة الخطايا متّى 9/1- 8، أو كما في مرقس: فهو يضع بين حادثتي شفاء أعميين مجموعة من الأحداث مر 8/22- 10/45.
لا يدور الجدال لدى يوحنّا حول مواضيع مختلفة مثل الصيام والزواج والطهارة إنما جعلت هذه المواضيع حتى تكشف عن هوية يسوع بالذات.

القسم الثاني: استعمال "الأنا" في التقليدين.
كُتبت الأناجيل حتى يعرف القارئ أن يسوع هو ابن الله. ولكن طريقة عرض هذا الوحي ليست هي هي لدى الطرفين. فعلى الرغم من إختلاف الطريقتين، فهما مكمّلتان لبعضهما البعض.

يسوع يستعمل "الأنا" كثيراً في إنجيل يوحنّا
إن طريقة وحي المسيح عن ذاته في إنجيل يوحنّا تجري على شكل واحد: هناك حديث متبادل يليه تعريج ليسوع في صيغة المتكلم:
الفصل 6 و 8 و 10 و11 و 15: "أنا نور العالم"، "أنا الباب"، "أنا الراعي"، "أنا الطريق"، "أنا الحقيقة والحياة"، "أنا الكرمة". علينا أيضاً ألاّ ننسى عبارة "أنا هو" في 8/ 24 و 28 و 58 و 18/ 5-6 و 8.
8/ 24 "فإذا لم تؤمنوا بأني أنا هو، تموتون في خطاياكم"
28 "متّى رفعتم إبن الإنسان، عرفتم أني أنا هو"
58 "قبل أن يكون إبراهيم، أنا هو"
18/ 5- 6 ترداد ثلاث مرّات "أنا هو" لدى إلقاء القبض على يسوع.
عبارة "أنا هو" هي صدى لسفر الخروج 3/14 عندما أوحى الربُ بنفسه إلى موسى.
إن يسوع يتكلّم دائماً مستعملاً "الأنا" في إنجيل يوحنّا، وهو يتكلّم دائماً عن ذاته، وهو لا يعمل إلاّ ليتكلّم بهذه الطريقة شارحاً معنى الآيات التي يقوم بها.
ويتماشى مع "الأنا هو" الجواب على ذلك وهو "أنت إبن الله".
1/ 49 "رابي أنت إبن الله، أنت ملك إسرائيل"
4/ 12 "هل أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر...؟"
4/19 "يا رب أرى أنك نبي"
6/ 69 "نحن آمنا وعرفنا أنك قدّوس الله"
8/ 25 "فقالوا له: ومن أنت؟"
فقال يسوع "أنا ما أقوله لكم منذ بدء الأمر".
8/ 53 "أأنت أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات؟"...
24/10 "إن كنت المسيح، فقل لنا صراحة".
11/ 27 "نَعَم يا رب، إني أؤمن بأنك المسيح، إبن الله الآتي إلى العالم"
18/33 "أأنت ملك اليهود"
37 "إذن فأنت ملك"
19/9 "فعاد (بيلاطس) إلى دار الحكومة وقال ليسوع: من أين أنت؟"
21/ 12 "ولم يجرؤ أحد من التلاميذ أن يسأله: من أنت؟ لعلمهم أنه الرب".

مقارنة مع مرقس
إذا قارّنا ما سبق مع مرقس وهو أقدم الإزائيين، بدا لنا الفرق شاسعاً.
ففي مرقس "الأنا" و"الأنت" تتكرران قليلاً. فالأنا هو في:
مر 6/ 50 "أنا هو، لا تخافوا" (يسوع يمشي على الماء)
13/6 "سوف يأتي كثير من الناس منتحلين إسمي فيقولون:
أنا هو" (الدينونة)
14/ 62 "أأنت المسيح إبن المبارك؟" فقال يسوع: "أنا هو"
أما "الأنت" الواردة لدى مرقس مرتين فهي لا تحتوي على الوضوح والقوة كما في يوحنّا:
8/ 29 "أنت المسيح" (إعتراف بطرس)
15/ 2 "أأنت ملك اليهود؟" (بيلاطس)
وقبل أن ننتقل إلى القسم الثالث من حديثنا، لا بُدَّ من أن نتحدّث عن ظاهرة الأمثال في التقليدين اللذين نحن في صدد دراستهما. للأمثال مكانة هامة لدى الإزائيين في تعليم يسوع، إلاّ أننا عندما نتتبع أثرها لدى القديس يوحنّا، فإننا نلاحظ أن المثل يصير يسوع نفسه. فبينما يستعمل يسوع الأمثال لدى الإزائيين لكي يتحدّث عن نفسه وعن الملكوت بشكل غير مباشر، نلاحظ أن هذه الأمثال تختفي لدى يوحنّا لكي يبقى عندنا ما يعبّر عنها في خطب يسوع: أنا الكرمة، أنا الراعي الصالح، أنا الطريق والحق والحياة... فظاهرة الأمثال في التقليدين تدعم هنا أيضاً ما ذكرناه سابقاً في مجال إستعمال التعبير "أنا هو" لدى الإزائيين ولدى يوحنّا.

القسم الثالث: طريقتان في الوحي متكاملتان
هناك إتفاق بين مرقس ويوحنا على أن الإنجيل هو وحي عن يسوع المسيح ومصدر الوحي لدى مرقس هو الله في 1/ 11 (المعمودية) وفي التجلي 9/ 7 وفي 15/ 39، عندما يعترف قائد المائة بأن يسوع هو حقاً إبن الله.
ولكن الفرق هو أننا نجد في يوحنّا 23 وحياً يقابله وحي واحد لدى مرقس. إن يسوع لدى يوحنّا يوحي بذاته مباشرة، أمّا لدى مرقس فتدريجياً. فالفرق هو في طريقة الوحي وطبيعته.
فلدى مرقس يقول الناس من هو يسوع: المؤمنون، الأعداء، المعذَّبون بروح نجس. فإن كلام يسوع حاضر ليجعل التلاميذ يتكلّمون. ففي الإزائيين يجعل يسوع الناس يتكلّمون ليقولوا من هو. أما في يوحنّا فإن يسوع يردد دائماً من هو. وهذا فرق مهم. فكيف نستطيع أن نختار بين الطريقتين؟ يبدو أن نزعة القارئ المنطقية تدفعه إلى أن يختار طريقة الأناجيل الإزائية.
كيف نستطيع أن نشرح هذا البناء المدروس في عرض شخصية يسوع في يوحنّا؟ فهو بناء طبيعي على الرغم من إستعماله طريقة معيّنة في عرض شخصية المسيح.
لننطلق من الإزائيين حتى نصل إلى يوحنّا.
إن الإزائيين يتّبعون طريقة طبيعية في وحي الله عن ذاته: فلكي يوحي الله عن ذاته لا بُدَّ للإنسان من أن يقوم باختبارِ حياةِ الله في حياته. وإن الله لا يستطيع أن يتكلَّم فيوحي بذاته بواسطة الكلمات. فإن كشف الله عن ذاته شارحاً من هو، فهو لا يكون في هذه الحال سوى أستاذٍ يُلَقِّنُ الدروس. فيسوع ليس أستاذاً في الأناجيل يقول من هو ويردد ذلك وراءه التلاميذ. فليس هو الذي يوحي كاشفاً عن ذاته مباشرة. فإن الوحي يتم عندما يرى الشاهد ويتكلّم. فإن قام الوحي على كلمات لبقي عملية ترداد. فإن يسوع يجعل الإنسان الذي يتكلّم معه، يقوم بتجربة حياتية، فإنه يجعله يسير في طريق إلى أن يطرح عليه السؤال في مهلة معينة، فيجيبه. فالناس يقولون ما يعيشون أمام المسيح. فليس قولهم تحديداً أو تعريفاً دقيقين، إنما هو عملية علاقة يعيشها طرفان في الوقت نفسه. ففي قيصرية فيليبس، قال بطرس: "أنت المسيح" وما يقوله بطرس له معنى بالنسبة له وقد اختبر ما يقول بشكل حقيقي. فيسوع في هذه الحال يثَبِّت ما يقوله عنه بطرس.
أمّا في إنجيل يوحنا، فالطريقة معكوسة ومبسّطة: "أنا هو" الجواب "أنا هو". هذه طريقة قد تبدو مصطنعة ولكنّها في الحقيقة تعبّر عن واقع المسيح. إن هذه الطريقة لا تتناسب تاريخياً مع الأحداث، إلاّ أنها طريقة تسعى إلى أن تُظهر شخصية يسوع المسيح في أعماقها. على المسيح أن يوحي بذاته حتى يستطيع بطرس أن يعترف به. فان بطرس وحده لا يستطيع أن يعرف المسيح: فإن إنجيل يوحنّا يريد أن يُظهر بوضوح أولوية المسيح الموحي عن ذاته. فإن الإنسان لا يستطيع أن يتكلّم إن لم يَطرح عليه السؤال يسوع، وإن لم يعطه في الوقت ذاته إمكانية الإجابة. فالطريقة ليست مصطنعة. طريقة يوحنّا هذه هي تعبير عن كلمة يسوع في متّى 16/16-17 "طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات".
باستطاعتنا أن نلخص هاتين الطريقتين في الوحي لدى يوحنّا ومرقس إنطلاقاً من إستشهادين للقديس بولس. ففي غل 4/ 9 يقول الرسول: "أما الآن، وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله" وفي فل 3/ 12: لأبل أسعى لعلي أستولي كما استولى عليّ يسوع المسيح".
فحركية "الإيمان" لدى مرقس الذي يمثل الإزائيين في هذا المجال تلتقي بالقسم الأول من الإستشهادين: "عرفتم الله"، "لعلّي أستولي". فالحركية تنطلق من الإنسان الذي يعرف الله محاولاً أن يلتقي به ويستوعبه في حياته وتعابيره، فيأتي يسوع ويثبت هذه المعرفة.
أمّا القسم الثاني في كلام القديس بولس، فهو يمثّل حركية الإنجيل الرابع: "بل عرفتم الله"، "كما استولى علي يسوع المسيح". فالفعلان يدلاّن على أن الله هو الفاعل والإنسان يقع عليه الفعل. فالله هو الذي يعرف الإنسان والذي يستولي عليه أولاً. فيسوع المسيح في إنجيل يوحنّا هو الذي يعرف أولاً ويستولي على الإنسان والمواقف، فهو الذي يعطي حياته بكامل حريته لكي يكشف لإنسان عن هويته.
أمامنا خبرتان عاشهما المؤمنون الأولون عندما التقوا بيسوع. خبرتان مختلفتان ولكنهما متكاملتان، لأن على هاتين الخبرتين تقوم كل العلاقات وأهمها العلاقة ما بين الله والإنسان.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM