الفصَل الثامِن وَالعِشرون: ذهَاب يعقوب إلى لاَبان في حَاوان

الفصَل الثامِن وَالعِشرون
ذهَاب يعقوب إلى لاَبان في حَاوان
(38: 1- 22)

أ- المقدّمة:
1- إنطلق يعقوب إلى حاران ليطيع أباه ويأخذ له امرأة من هناك، أمّا عيسو فأغاظ أباه مرّة أخرى يوم تزوّج من هذا البلد امرأة من بنات إسماعيل. وهكذا تبعد المسافة بين عيسو ويعقوب وتتّجه عقليّة كلّ واحد منهما إلى جهة: يسير يعقوب في خطّ إبراهيم وإسحق، وأمّا عيسو فيأخذ بعادات البريّة التي عرفتها قبائل إسماعيل.
2- بعد أن نرافق يعقوب إلى فدان آرام (28: 1- 5) نعرف أنّ عيسو تزوّج امرأة من بنات إسماعيل (28: 6- 9). ثمّ يورد لنا الراوي ظهور الربّ ليعقوب: سلّم منتصبة على الأرض ورأسها يلامس السماء (28: 10- 22). حينئذٍ نذر يعقوب نذراً بأن يكرّس حياته للربّ إن هو حفظه من كلّ شرّ وأعاده إلى بيت أبيه سالماً.
3- في حلم يعقوب هذا يجتمع خبران فيفسّران الطابع المقدّس لمعبد بيت إيل. هناك رؤيا السلم التي تربط هذا المكان بالسماء، كما يقول التقليد الألوهيميّ الذي يجعل الله بعيداً عن البشر (آ 11- 12، 17- 18، 20- 22). وهناك ظهور الربّ في المكان الذي أقام فيه يعقوب، واقترابه من يعقوب وحديثه معه (آ10، 13- 16، 19 أ). تلك هي طريقة اليهوهي.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- وأرسل إسحق يعقوب (28: 1- 5)
(آ 1) بارك إسحق يعقوب وأرسله... وكأنّ شيئاً لم يحدث ممّا رواه 27: 1 ي.
(آ 2) فدان آرام: منطقة حاران (27: 43) حيث يقيم الأهل والأقارب.
(آ 3- 4) باركه ببركة إبراهيم (17: 8): الله القدير ينميك ويكثّرك...
(آ 5) بتوئيل الآرامي يقابله إبراهيم العبريّ من خلال ولده يعقوب. وهكذا يلتقي الشعبان العبريّ والآرامي من خلال هذَين الشخصَين يعقوب وبتوئيل.
2- عيسو يتزوّج امرأة من بنات اسماعيل (28: 6- 9)
كنّا تساءلنا هل هرب يعقوب خوفاً من أخيه، أم أنّه انطلق إلى حاران بناءً على طلب أبيه، فلا يأخذ لنفسه امرأة من بنات كنعان؟ يبدو من خلال هذا المقطع أنّ يعقوب سار على بركة الله التي حصل عليها من أبيه: الله القدير يباركك ويحميك... يعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك من بعدك.
أمّا عيسو فسيفعل عكس أخيه: بعد أن أخذ من بنات كنعان الشرّيرات، تزوّج بمحلة ابنة إسماعيل. هل عمل ذلك نكاية بأبيه، أم إنّه أراد أن يرجع إلى نسل إبراهيم عبر إسماعيل؟ ما يهمّنا من هذا النصّ هو التشديد على زواج الرجل بامرأة من بني قومه ورفض المرأة الغريبة عن الدين والقبيلة. لا يحقّ لليهوديّ أن يتزوّج امرأة من غير دينه (تث 21: 10- 14 يسمح للرجل بأن يتزوّج سبيّة) بسبب الخطر الذي يهدّد إيمان الرجل وتربية الأولاد.
3- حلم يعقوب وظهور الربّ له (28: 10- 22)
إنطلق يعقوب من بئر سبع ووصل إلى مكان قفر (في 12: 8 نقرأ أنّ إبراهيم بنى مذبحاً لله في بيت إيل) فأقام فيه. وحلم حلماً، والحلم مهمّ في التقليد الألوهيميّ، لأنّه نقطة محايدة بين الله والإنسان. الله البعيد عن الإنسان يحدث الإنسان من السماء العالية أو عبر الأحلام. في هذا الحلم وحيان: سُلَّم نازلة من السماء، ظهور الرب على هذه السلّم.
أتكون هذه السلّم بدرجاتها صورة عمّا رآه يعقوب في هياكل بلاد الرافدَين؟ وسمىّ يعقوب المكان باب السماء وعلى السلّم ينزل الملائكة ليراقبوا البشر ويحملوا إلَيهم أوامر الله العليّ.
حلم هادئ صامت مهيب رآه يعقوب النائم فعرف أنّه على مدخل العالم السماوي. سمع كلام الربّ يعده بأن يملّكه هذه الأرض ويعطيه نسلاً كبيراً. إله العيلة، الإله الذي وعد إبراهيم وإسحق، هو يعد يعقوب بأن يحميه ويحرسه حيثما يتّجه.
الحدث الذي عاشه يعقوب في تلك الليلة عزّاه في وحدته وشجّعه خلال ضيقته. أمّا الخوف الذي أحسّ به فهو خوف المؤمن الذي يختبر نفسه في حضرة الله. ولقد أراد يعقوب أن يخلّد ذاك المكان الذي فيه رأى الربّ، فأقام نصباً يذكّره وأبناءَه من بعده بحضور الربّ في شعبه.
أخذ يعقّوب حجراً ورفعه بشكل نصب (مصبه في العبريّة، أي شيء منصوب كالتمثال) وصبّ عليه الزيت وكرّسه لله (خر 30: 36 ي ، لا 8: 10 ي) كما سيفعل بنو إسرائيل في ما بعد. يعقوب صلّى في بيت إيل وسيأتي أبناؤه من بعده ويصلّون ويقدّمون الذبائح في بيت إيل إلى أن يصبح هيكل أورشليم المكان الوحيد الذي فيه يقدّم اليهوديّ ذبيحته. وسيكون لبيت إيل تاريخ مجيد بعد الإصلاح الأوّل في بداية القرن العاشر ق. م. (1 مل 12: 26- 29)، وسيبقى معبداً مهمّاً حتى بعد جلاء أهل السامرة إلى بابل (2 مل 17: 28). ولن يُهدم المعبد إلاَّ في زمن الملك يوشيّا (2 مل 23: 15؛ رج ار 48: 13؛ هو 5: 4- 5).
بادر الربّ إلى يعقوب وعرض عليه كلّ مساعدة. مدّ الربّ يده إلى يعقوب، فمدّ يعقوب يده وأمسك بيد الله. قال: سيكون الربّ لي إلهاً. هذا هو فعل إيمانه وسيعبّر عن إيمانه بما سيقوم به من أعمال: سيعشّر كلّ ما سيقتنيه، فاتحاً الطريق لشعب إسرائيل الذي يقدّم العشور كلّ سنة (تث 14: 22 ي).
ج- ملاحظات:
نورد هنا الترجوم الذي يحدّثنا عن حلم يعقوب في بيت إيل.
(28: 15) أجرى (الله) لأبينا يعقوب خمس عجائب يوم خرج من بئر سبع لينطلق إلى حاران.
العجيبة الأولى: قصرت ساعات النهار وغابت الشمس قبل أوانها، لأنّ "الكلمة" كان متشوّقاً إلى أن يكلّمه.
العجيبة الثانية: أنّ الحجارة التي أخذها أبونا يعقوب وجعلها مخدّة لرأسه، وجدها عندما نهض في الصباح وكأنّها حجر واحد.
العجيبة الثالثة: عندما بدأ أبونا يعقوب مسيرته إلى حاران، تقلّصت الأرض أمامه، فوجد نفسه (حالا) في حاران.
العجيبة الرابعة: كان الحجر (كبيراً) فلم يقدر الرعاة مجتمعين أن يحرّكوه عن فم البئر. ولمّا وصل أبونا يعقوب حرّكه بيد واحدة، وسقى ماشية لابان خاله.
العجيبة الخامسة: لمّا دحرج أبونا يعقوب الحجر عن فم البئر فاضت البئسر وارتفعت المياه على سطح (الأرض) وما زالت تفيض مدة عشرين سنة، مدة إقامته في حاران. هذه العجائب الخمس قد أجراها (الله) لأبينا يعقوب يوم خرج من بئر سبع لينطلق إلى حاران.
(28: 11) وصلّى في ذلك المكان وبات هناك، لأنّ الشمس كانت قد غابت. وأخذ حجارة من الموضع، فجعلها مخدّة تحت رأسه ونام في ذلك المكان.
(28: 12) ورأى حلماً شاهد فيه سلَّماً (أساسها) مغروس في الأرض، وطرفها يصل إلى أعلى السماء. وكان الملائكة الذين رافقوه منذ (مغادرة) بيت أبيه يصعدون (على هذه السلّم) ليعلنوا على ملائكة العلاء فيقولون: "تعالوا انظروا رجلاً بارّاً، طبعت صورته على عرش مجد (الله) الذي تُقتم أن تروه". وكان الملائكة الواقفون أمام الربّ يصعدون وينزلون لينظروا إلَيه.
(28: 13) وقف الربّ قربه وقال له: أنا الربّ إله إبراهيم أبيك، وإله إسحق. الأرض التي تنام عليها، لك أعطيها ولنسلك.
(28: 14) يكون أبناؤك كتراب الأرض وتسيطر بأعمالك الصالحة على الغرب والشمال والجنوب والشرق، وتتبارك جميع عشائر الأرض في نسل أبنائك.
(28: 15) وها أنا معك بكلمتي: أحفظك حيثما تتّجه، وأردّك إلى هذه الأرض، لأنّ كلمتي لا تتركك إلى أن أتمّم ما وعدت به.
(28: 16) فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقّاً إن مجد الحضور (شكينه) الإلهيّ في هذا المكان وأنا لم أعلم.
(28: 17) فخاف وقال: "ما أهول هذا المكان. هذا المكان ليس مكاناً عاديّاً، بل مكان حدّده الله بحضوره، وهذا الباب هو باب الصلاة الذي يوصل إلى قِمّة السماء".

د- مواضيع عامّة:
1- المعنى اللاهوتيّ لحياة إسحق
إنّ نعمة الله وعنايته وهبت الحياة لإسحق مرّة أولى يوم الوعد، ومرّة ثانية يوم الذبيحة على الجبل. في المرّة الأولى كان بإمكان إسماعيل أن يكون وارث الوعد دون الحاجة إلى إسحق، وفي المرّة الثانية كان بإمكان والده أن يقتله لو لم يتدخّل الله بطريقة عجيبة. وهذه النعمة جعلت بركات الله تحلّ عليه وعلى عياله ومقتنياته فسمّاه ملك جرار "مبارك الرب" (26: 29).
عرف إسحق المحنة التي تعرّض لها والده إبراهيم، فوقف قربه خليقة طائعة خاضعة لا يطالب ولا يساوم. أليس الإيمان مخاطرة؟ أمَا يطلب إلينا أن نعيش بثقة تامّة مع الله متخلّين عن ذاتنا بين يدَيه؟ من يحبّ الله حبّاً لا حدود له يقدر وحده على أن يقدّم إلَيه ذبيحة كتلك التي قدّمها إبراهيم وإسحق.
وإذا كان إبراهيم رمزاً لله الأب في تقدمته، فإسحق رمز إلى المسيح الذبيحة. قال إبراهيم لابنه إسحق وهما صاعدان الجبل: "الله يرى ويهيّئ الحمل للمحرقة يا ابني" (22: 8)، فتردّد صدى كلمته عبر الكتاب المقدّس فقال أشعيا (53: 7) إنّ عبد يهوه يشبه الحمل المساق إلى الذبح، ورأت الكنيسة في هذا الكلام نبوءة في المسيح (اع 9: 32 ي)، ودلّ يوحنّا المعمدان على يسوع عندما مرّ أمامه فقال: "هذا هو حمل الله" (يو 1: 36)، وحدّثنا القدّيس بولس عن المسيح الذي ذبح (1 كور 5: 7) وسفر الرؤيا (14: 1 ي؛ 21: 9 ي) عن عرس الحمل الذي يحمل في مجده علامات آلامه.
إنّ تقاليد العهد القديم قد ربطت بين ذبيحة إسحق وذبائح هيكل أورشليم. وشدّد المرجع الكهنوتيّ على القول إنّ هيكل أورشليم بني على جبل الموريّا، حيث أخذ إسحق ليذبح. وكما شعّ الجبل بهاء بحضور الله على ذبيحة إسحق، كذلك سيمتلئ هيكل أورشليم بحضور الله ومجده يوم يدشّنه سليمان فلا يستطيع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب الغمام (1 مل 8: 11).
تعرّفنا إلى إبراهيم صاحب الإيمان القويّ، وسنتعرّف إلى يعقوب الذي قاتل بعناد من أجل قضيّة الله. وبين الاثنَين يقف إسحق الرجل التقيّ الذي حمل الأمانة وأوصلها إلى أبنائه من بعده. إنّه نموذج الشهيد الذي يحمل البركة في حياته وفي مماته، فيصوّر مسبقاً يسوع المسيح الشاهد الأمين. نقرأ في سفر التكوين أنّ نسل إبراهيم هو إسحق، وفي الرسالة إلى أهل غلاطية (3: 16) أنّ نسل إبراهيم هو المسيح. وانطلاقاً من هذا الكلام رأى آباء الكنيسة في ذبيحة إسحق نموذجاً لموت المسيح على الصليب ورمزاً قد تمَّ بنعمة الله. ونظموا المقابلة التالية بين حياة يسوع وحياة إسحق:
حياة إسحق حياة يسوع
حمل حطب الذبيحة حمل خشب الصليب
وسار إلى جبل الموريّا وسار إلى جبل الجلجلة
هو طائع حتى الموت هو طائع حتى موت الصليب
نجّاه ملاك من السماء قام من الموت
رفقة هي أمّ عيسو ويعقوب صورة رمزيّة عن الكنيسة التي ولدت
في المعموديّة اليهود والوثنيّين
2- وجه إسحق في التقاليد اليهوديّة
نقرأ الكتاب المقدّس فنرى وجه إسحق مسحوقاً بين إبراهيم ويعقوب. تتوقّف النصوص على شخصيّة إبراهيم ويعقوب وتترك في الخفاء شخصيّة إسحق، ودوره دور منفعل، لا فاعل. وقت ولادته وختانته تُهَيمن عليه شخصيّة والده. وقت زواجه، يخطّط الوالد مع كبير خدمه أليعازر دون أن يكون لإسحق أيّ دور إلاَّ القبول برفقة ليتعزّى بها عن فقد أمّه. وقت يبارك أولاده، يلعب يعقوب الدور الأكبر ويبدو وإسحق أداة يستعملها الله ليعطي بركته للأصغر لا للأكبر. وفي قِمّة حياته، أي وقت الذبيحة، يذكر الكتاب إبراهيم لأنّ مقدّم الذبيحة أكبر قيمة من الذبيحة، حيواناً كان أو إنساناً.
تناسى الكتاب المقدّس شخصيّة إسحق، أمّا التقليد اللاحق فسوف ينصفه. ولقد ذكرنا الترجوم وتشديده على دور إسحق الفاعل مع أبيه.
ونذكر أيضاً التقاليد الإخباريّة (الهجادة أي الاجتهادات في تفسير الكتاب المقدّس) التي تتوقّف على "عقد" إسحق أي ربطه على الحطب للذبيحة. وإذا كان بعض المراجع يصوِّر إبراهيم أمام التجربة، فيذكر حبّه لابنه الوحيد وكتمه السرّ عن امرأته لئلاّ تقف بوجهه أو تبكي فتليّن قلبه، وتستعيد ألمه الذي طال ما طالت الطريق إلى جبل الله، فهناك مراجع أخرى تبرز شخصيّة إسحق في أجلى مظاهرها: هو ذلك الشابّ ابن السبع والثلاثين سنة (نقرأ في بعض المراجع 23 أو 25 سنة) الذي يتصرّف بوعيٍ كامل ويرافق والده إلى الذبيحة بحريّة تامّة، فما قبل أن يقدّم في شبابه عضواً واحداً من أعضاء جسده كما فعل إسماعيل يوم اختتن، بل أراد أن يقدّم كلّ أعضاء جسمه إلى الرب. فكان أمر الله لإبراهيم جواباً إلى رغبة إسحق العميقة.
ينطلق إسحق وهو حامل حطب المحرقة، كمن يحمل الصليب، كما تقول بعض النصوص المتأثّرة بالمسيحيّة، فيرى من بعيد عمود الدخان الذي يدلّ على حضور الله وقبوله للمحرقة المقدّمة إليه. يصل إسحق إلى المكان، ثمّ يصعد المذبح فرحاً لأنّه استحقّ أن يكون الحمل الذي أعدّه الربّ له. قبل بحريّة تامّة أن يكون للربّ ذبيحة لا عيب فيها (يطلب أن يربط جيداً) فعبّر عن حبّه الكامل لله. ولهذا جازاه الله أحسن المجازاة، فانفتحت السماوات أمام عينَيه، وصار شفيعاً لشعبه يرافق صلواتهم إلى عرش الربّ طلباً للبركة، والتماساً لمغفرة الخطايا، وتضرّعاً للنجاة من كلّ شرّ.
وتقول التقاليد أيضاً إنّ موقع المذبح الذي كانت تذبح عليه الحِملان في الهيكل، كان في المكان الذي أعدّه إبراهيم ليذبح عليه ابنه إسحق، كما أنّها تربط ذبيحة الفصح بذبيحة إسحق: كلمة "شاة" في حديث إسحق مع أبيه (22: 8) تستعمل في سفر الخروج (12: 3- 4) لتدلّ على حمل الفصح. وكما سار إبراهيم ثلاثة أيّام ليقدّم ذبيحته إلى الربّ (22: 4) كذلك سيسير شعب الله ثلاثة أيّام ليقدّم ذبيحته في البرّية (خر 3: 18). وكما كان إسحق صورة مسبقة للحمل المذبوح على المذبح سيكون في زمن الاضطهادات مثال الشهيد الذي يموت في سبيل ربّه.
أمّا يوسيفوس المؤرّخ فيورد قصّة الآباء ويعدّد فضائلهم فيحدّثنا عن إسحق عندما يورد سيرة إبراهيم ويعقوب. وفيلون الإسكندريّ يكتب كتاباً عن إبراهيم وآخر عن إسحق فيبيّن بطريقته الرمزيّة المتأثّرة باليونانيّة (كان اليونان يقولون بوجود ثلاثة عناصر: الطبيعة الصالحة أو الطالحة، التعليم، التمرّس العلميّ) إنّ إسحق هو الطبيعة الصالحة، المولود كالفضيلة دون أن يحبل به، حامل الفرح إلى أهله (واسمه إسحق) والبركة إلى أبنائه بخلاف قايين الملعون.
3- إسحق في التقليد المسيحيّ
يذكر العهد الجديد اسم إسحق مراراً. يذكره متّى في نسب يسوع (1: 3؛ رج لو 3: 34) ويرفقه باسم إبراهيم (8: 11؛ 22: 32؛ رج 12: 26؛ لو 13: 28؛ 20: 37؛ اع 3: 13؛ 7: 32). ويورد اسمه القدّيس إسطفانوس (أع 7: 8) عندما يسرد تاريخ الخلاص، والقدّيس بولس عندما يحدّثنا عن اختيار الله له (روم 9: 7- 10) ليكون حامل العهد (غل 4: 28)، وصاحب الرسالة إلى العبرانيّين عندما يبرز دور الإيمان في حياة الآباء (11: 9- 20؛ رج يع 2: 21؛ 3: 9 ودور الأعمال في تبرير الإنسان).
ويلمّح الإنجيل إلى إسحق دون أن يذكر اسمه. فالقدّيس متّى (3: 9) يذكر اليهود بأنّ الله يقدر على اجتراح العجائب من نسل إبراهيم، والقدّيس يوحنا (8: 39- 44) يقابل بين إسحق ومن يشبهه وهم أبناء إبراهيم الحقيقيّون، ويهود عمره الذين لا يربطهم بإبراهيم أيّ رباط، لأنّهم أولاد إبليس، والقدّيس بطرس (اع 3: 25- 26) يلمّح إلى أنّ إسحق كان حلقة من حلقات الخلاص الموعود به في المسيح. أمّا القدّيس بولس (غل 3: 16- 22؛ 4: 21- 28) فيقابل مطوَّلاً الشريعة بالعهد، والعبوديّة بالحريّة، والجسد بالروح، وإسماعيل بإسحق، ويقول: "أمّا الذي من الجارية فوُلد بحسب الجسد، وأمّا الذي من الحرَّة فوُلد بفضل وعد الله. هاجر، من جبل سيناء، تلد للعبوديّة، أمّا أورشليم السماويّة فحرَّة، وهي أمّنا".
ولقد توقّف آباء الكنيسة الأوّلون على شخصيّة إسحق، فذكره كتاب برنابا كمثال واقعيّ لذبيحة المسيح الكاملة، كنموذج لما سيتمّه المسيح في ذبيحته على الصليب. وشبّهه "مليتون السرديسيّ" بيسوع، لمّا قاده أبوه ليذبحه، فحمل الحطب على كتفه كما حمل يسوع صليبه، وربط كالمسيح الذي حلَّنا من قيود الخطيئة. لم يمت إسحق بل حلّ حمَل محلّه، أمّا يسوع فمات ليخلّصنا وكان الحمل الحقيقيّ على مثال الحمل الذي افتدى إسحق. وقال إيريناوس: "نعيش في إيمان إبراهيم، ونحمل الصليب كما حمل إسحق الخشب"... إتّبع إبراهيم وصيّة كلمة الله فقدّم إلى الله ذبيحة ابنه الوحيد وحبيبه، فقدّم الله من أجل نسله ابنه الوحيد وحبيبه ذبيحة من أجل خلاصنا.
وتأمّلت مدرسة الإسكندريّة بما ترمز إلَيه حياة إسحق فطبّقة أحداثها على الحياة الروحيّة، فرأى أكليمنضوس في شخص إسحق فرح المؤمن الذي نجا من الموت وعاش برفقة الكنيسة العروس التي تبقى متّحدة به (كما مع المسيح) إلى جيل الأجيال. وفسّر أوريجانيس سفر التكوين فتحدّث عن ولادة إسحق وفطامه، وميَّز الابن بحسب الجسد من الابن بحسب الروح، والأمَة من المرأة الحرّة، والحليب من الطعام القويّ، تم توقّف عند ذبيحة إبراهيم والصراع بين عواطفه البشريّة والطاعة لربّه فذكر إسحق والحمل اللذَين يمثّلان يسوع الكلمة، حامل خطايا العالم.
أمّا المسيحيّون السريان فقرأوا الكتاب المقدّس متأثّرين بالمدرسة الإنطاكيّة المشدّدة على الحرف، لا على الرمز، وبالتقاليد اليهوديّة التي كانت في أوج إنتاجها الأدبيّ بعد أن تشتّت شعب الله خارج أورشليم واليهوديّة. فكتب أفراهاط بين سنة 337- 345 براهينه وحدّثنا عن الآباء الذين كانوا قدّيسين مسيحيّين قبل الشريعة، وأصدقاءَ لله بفضل إيمانهم ومحافظتهم على وصايا الله. إنّهم بالنسبة إلينا مثال الصوم الطاهر الذي يقدّس كيان الإنسان، ونموذج الصلاة المستجابة لأنّها مبنيّة على الثقة بالله. وحدّثنا عن إسحق فذكر إيمانه وطاعته وبيّن أنّه يمثّل الغنى الحقيقيّ بالنسبة إلى إبراهيم، فغنى الوعد غير غنى النسل. قال: ألمهمّ لا الغنى بل الوعد الإلهيّ، وإنّ بارّاً واحداً مثل إسحق يساوي في نظر الله ألف أموريّ يملكون الأراضي والمواشي.
وكتب أفرام أناشيده فذكر ذبائح العهد القديم حتى وصل إلى ذبيحة المسيح، قِمّة الذبائح كلها. قابل يفتاح الذي تسرّع في نذره لله بإبراهيم الذي سار ثلاثة أيّام قبل أن يقدّم ابنه. وتوقّف على شخص إسحق الذي قِيدَ ليُذبح: إسحق هو رمز العالم وقد جاء المسيح ليحلّه من قيده ويخلّصه بصليبه. هو ابن الله حفظ إسحق بن إبراهيم لمّا صار حملاً وحلَّ محلّه في الذبيحة. المائت نجا من الموت ومات الذي لا يموت.
وأنشد رومانوس المرنِّم إسحق في نشيدَين من أناشيده. وفي الثالث ذكر ذبيحة إسحق والحوار بين إبراهيم وامرأته التي اعتبرت إسحق ابن الله قبل أن يكون ابن إبراهيم "هذه الذبيحة النقيّة، هذه التقدمة التي لا عيب فيها قد قبلتها يا ربّ دون إراقة دماء إسحق البريء الذي قدّمه أبوه لأبناء يحبّونك" وفي الرابع ، ذكر بركة إسحق ليعقوب مشدّداً على انتقال البركة من إبراهيم عبر إسحق: تحت تأثير الحبّ بارك الشيخ ابنه ورسم في بركته صورة المسيح، خالق العالم... إسحق صورة اليهود، يعقوب صورة المسيحيّين، ورفقة صورة الكنيسة التي تأتي بأولادها إلى أبي الجميع. لنجتمع معها ونصرخ إلى الربّ: أعطِنا من العلاء بركاتك

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM