الفصل الخامِسَ والعشرون: من إبراهيم إلى يعقوب عبر شخص إسحق

الفصل الخامِسَ والعشرون
من إبراهيم إلى يعقوب عبر شخص إسحق
(25: 1- 34)

أ- المقدّمة:
1- قلنا في ما سبق إنّ شخصيّة إسحق بدت ضعيفة بين إبراهيم الذي دعاه الله فصار أباً للمؤمنين، ويعقوب الذي صار بواسطة أبنائه الاثنَي عشر أباً لقبائل بني إسرائيل. هذا الفصل هو صورة مصغّرة عن هذا الواقع. نتحدّث فيه عن زواج إبراهيم من قطورة ثمّ موته ودفنه في مغارة المكفيلة، ونتحدّث فيه عن ولادة يعقوب واستيلائه على البكوريّة من يد أخيه. أمّا إسحق فيذكر اسمه لأنّه صلة الوصل بين إبراهيم ويعقوب.
2- لهذا سنقرأ هنا مقاطع متنوّعة: أبناء قطورة زوجة إبراهيم (25: 1- 6)، وفاة إبراهيم (25: 7- 11)، نسل اسماعيل (25: 12- 18)، مولد عيسو ويعقوب (25: 19- 28)، عيسو يتخلّى عن حقّه كبكر لإسحق لقاء بعض الطعام (25: 29- 34).
3- تعود هذه المقاطع إلى التقليد اليهوَهيّ في ما يخصّ الأخبار وإلى التقليد الكهنوتيّ الذي يورد لنا الأسماء ويذكّرنا بالأعمار ويقدّم لنا التفاصيل التي تساعدنا على ربط الأخبار المتعدّدة بعضها ببعض. مثلاً آ 12- 17 تعيد إلى الكهنوتيّ وهي تورد سلالة إسماعيل. وكذلك آ 19، 20، 26 تعيد إلى أذهاننا سلالة إسحق، أما نواة مولد عيسو ويعقوب (آ 21 ي) فتعود إلى اليهوهيّ.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- أبناء قطورة (25: 1- 6)
(آ 1) هذا المقطع اليهوَهيّ يذكّرنا بعلاقات تربط أجداد بني إسرائيل بالقبائل المقيمة شماليّ الجزيرة العربيّة. ولهذا يتحدّث عن زواج إبراهيم بقطورة ومعنى اسمها البخُور (تث 32: 10). أما 1 أخ 1: 32 فيعتبر قطورة لا زوجة إبراهيم بل سريّته.
(آ 2) مديان: جدّ المديانيّين الذين أقاموا شرقيّ خليج العقبة (36: 35؛ 37: 28، 36؛ خر 2: 15؛ 3: 1).
(آ 3) شبأ هو جدّ السبئيّين. أقام مع ددان شماليّ غربيّ الجزيرة العربيّة (رج 10: 27- 28). بنو ددان الثلاثة يمثّلون شعوباً من هذا الشرق (1 أخ 1: 32- 33).
الأشوريم: قبيلة عربيّة أقامت في أشور في البرّية جنوبيّ كنعان، وهم غير الأشوريّين.
اللؤميم أي الأمم، ولكن الكاتب لا يحدِّد أيها.
(آ 4) عيفة: يذكرها اش 60: 6 مع مديان وشبأ.
(آ 5- 6) إحتفظ إبراهيم لابنه إسحق بأرض كنعان وأعطى أبناء هاجر وقطورة البرّية المجاورة شرقاً.
2- موت إبراهيم (25: 7- 11)
(آ 7- 8) يعود هذا المقطع إلى التقليد الكهنوتيّ وهو امتداد لما نقرأه في 23: 20 كان عمر إبراهيم لمّا مات: 175 سنة أي ثلاثين سنة أقلّ من عمر أبيه تارح لمّا مات.
(آ 9- 10) يورد الكاتب الكهنوتيّ اسم إسماعيل مع اسم إسحق، وكأنّ إبراهيم لم يطرد إسماعيل مع أمّه هاجر بناءً لطلب سارة (رج 21: 9- 21؛ 23: 17 - 20).
(آ 11) وأقام إسحق عند بئر "لحي رئي" (24: 62).
3- سلالة إسماعيل (25: 12- 18)
(آ 12) هذا المقطع ينهي سيرة إسماعيل قبل أن يعود إلى إسحق. دوّخها الكهنوتيّ فذكر أبناء إسماعيل الذين كوّنوا اثنتَي عشرة قبيلة (عد 1: 5- 15؛ 10: 14- 16؛ 13: 14- 15؛ خر 22: 27) على مثال أبناء يعقوب الاثنَي عشر (رج 1 أخ 1: 29- 31). هذه القبائل سكنت شماليّ الجزيرة العربيّة، وكان مركزهم الدينيّ واحة تيمَاء (اش 21: 14؛ ار 25: 23؛ اي 6: 19)، أمّا تفرّعهم إلى اثنتَي عشرة قبيلة فيرتبط بأساس دينيّ إذ يتوجّب على كلّ قبيلة أن تخدم المعبد شهراً واحداً من أشهر السنة الاثنَي عشر.
(آ 13) بنايوت: ربما يكون جدّ الأنباط (28: 9؛ 36: 3) وهو المذكور مع قيدار في اش 60: 7.
(آ 14- 15) دومة وتيمَا: واحتان في الشمال من الجزيرة العربيّة.
مسّا: ميشا (10: 30): قبيلة في شمال الجزيرة العربيّة.
يطور: (يذكر مع نافيش في 1 أخ 5: 19) هو جدّ الإيطوريّين الذين أقاموا في أرض إيطورية على الأردنّ (لو 3: 1).
قدمة: ترتبط بالقدمونيّين (رج 15: 19)
(آ 16- 18) ومات إسماعيل وعمره فقط 137 سنة.
الحويلة: منطقة في الجزيرة العربيّة.
4- مولد عيسو ويعقوب (25: 19- 28)
(آ 19) هذا المقطع يرجع في آياته الأولى إلى التقليد الكهنوتيّ (وهذه مواليد إسحق) ثمّ إلى اليهوَهيّ المطعَّم بالألوهيميّ (آ 25، 27).
(آ 20) أربعون سنة. يجعل التقليد الكهنوتيّ زواج إسحق قبل موت إبراهيم بخمس وثلاثين سنة، ولا يذكر أنّ بتوئيل هو ابن ناحور أخي إبراهيم (قابل مع 20: 20- 22، تقليد يهوهي).
الآراميّ (28: 5) أي من نسل آرام ابن سام (10: 22- 23).
فدّان آرام (28: 2، 5، 6، 7، 31: 18): موضع في أعالي بلاد الرافدَين يسمّيه التقليد اليهوَهيّ آرام النهرَين (24: 10).
(آ 21) كانت رفقة عاقراً مثل سارة (11: 30). إسحق ويعقوب هما حقّاً عطيَّة من الله.
(آ 22) اصطدم الولدان. فأل سوء. وسألت الربّ، أي ذهبت إلى مكان مقدّس تراءى فيه الربّ، وسألت الكهنة القائمين على خدمة المعبد المتحدّثين باسم إله المعبد (26: 23- 24).
(آ 23) قول شعريّ عن المعارضة بين الولدَين منذ بطن أمّهما، بانتظار العداوة بين نسلَيهما. ولكنّ الأكبر (عيسو- ادوم) سيخدم الأصغر (يعقوب- إسرائيل). هذا هو موضوع الأخبار اللاحقة (27: 29؛ 40) وصورة مسبقة للحروب بين بني أدوم وبتي إسرائيل (2 صم 8: 13- 14؛ ملا 1: 2- 3؛ روم 9: 10- 13).
(آ 24) رد ما سنقوله في (38: 27- 30)
(آ 25) الأوّل كلّه شعر (27: 11 ي). لا تفسير لاسم عيسو. أمّا "أدوم" فيعني "الأسمر" وهو جدّ الأدوميّين. سعير (ترتبط بالشعر)، موطن الأدوميّين وهي أدوم (32: 4؛ عد 24: 18؛ قض 5: 4).
(آ 26) يعقوب هو من يتعقّب أخاه، يلاحقه فيمسكه بالعقب فلا يسبقه إلى البكوريّة. يعقوب اختصار ليعقوب إيل: الله يحفظ ويجازي.
(آ 27) نوعان من الناس: المستقرّون المقيمون في الخيام بعد أن أخذوا يتنقّلون من البداوة إلى الحضارة، والمغامرون الذين يقاتلون ليحصلوا على لقمة العيش بالسلب والنهب.
(آ 28) فأحب إسحق عيسو، وأمّا رفقة فأحبّت يعقوب. وهكذا نستعدّ لقراءة 27: 1 ي وما فعلته رفقة ليحصل يعقوب على بركة أبيه.
5- يعقوب يأخذ من أخيه حق البكوريّة (25: 29- 34)
(آ 29) ويتغلّب يعقوب على أخيه مرّة أولى، بانتظار أن يسلبه حقّ البكوريّة.
(آ 30) لم يكن عيسو يحصل على طعامه بسهولة.
الطعام أي الإدام كما نقول في العربيّة (آدم في العبرانيّة) أو الأحمر أو الأمر نسبة إلى أدوم.
(آ 31) واستفاد يعقوب من الظرف فخدع أخاه (27: 36).
(آ 32) وضحّى عيسو بمستقبله من أجل الزمن الحاضر، ضحّى بامتيازات البكوريّة لقاء صحن من الطبيخ. أكل وشرب وقام ومضى ولم يهتم بشيء بعد أن شبع. في هذا السبيل يشدّد آباء الكنيسة على هذه الحادثة ليبرّروا موقف الربّ الذي فضّل يعقوب على عيسو، لأنّ عيسو احتقر عطاياه.
(آ 33- 34) حلف عيسو فما عاد يستطيع أن يتراجع. واستفاد يعقوب من ساعة ضعف فاحتال على أخيه. لا يهتمّ الكاتب الملهم بيعقوب الذي احتال على أخيه، بل بعيسو الذي خسر كلّ شيء لأنّه لم يقدّر عطايا الله حقّ قدرها.

ج- ملاحظات:
1- زواج إبراهيم بقطورة
إنّ خبر زواج إبراهيم بقطورة لا ينسجم مع ما نعرفه من سيرة إبراهيم وما نقرأه من نصوص. ولهذا نتساءل: هل نحن أمام تقليد قديم يربط بإبراهيم، عبر شخص قطورة، شعوباً عاشوا في جوار العبرانيّين؟ ونجيب أنّنا أمام أمرَين: إمّا أن يكون إبراهيم تزوّج قطورة، قبل موت سارة، وكان له منها أولاد، فتنتني الحاجة الماسّة إلى إسحق كوارث الوعد. وإمّا أن يكون تزوّجها بعد موت سارة، فحينئذٍ يبدو من الصعب على من كان شيخاً يوم ولد له إسحق (17: 17) أن يولد له أولاد آخرون عديدون. هذا ما يقوله المنطق البشري. أمّا الكتاب المقدّس فيهتمّ بجمع كلّ التقاليد ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، وهو لا يكتفي بنقل تقاليد بني إسرائيل فحسب، بل يتعدّاها إلى تقاليد الشعوب المجاورة أيضاً، دون أن ينسى أنّ إسحق وحده هو ابن الموعد، وأنّ إبراهيم أبعد أبناء الجارية ليبقى ابن السيّدة والأميرة سيّد أرض كنعان بدون منازع.
2- موت إبراهيم
يورد الكتاب سريعاً موت إبراهيم ودفنه في مغارة المكفيلة. عاش إبراهيم مئة سنة في كنعان، وكان عمره لمّا مات 175 سنة. مات موتاً هادئاً بعد عمر طويل وخيرات وفيرة، مات شيخاً شبع من الأيّام. عرف أنّ الحياة قصيرة فملأ قلبه منها وعاش خاضعاً للربّ عاملاً بإرادته. (35: 29؛ أي 42: 17؛ 2 أخ 24: 15). يموت الرجل شيخاً فيرى الناس في هذه الميتة تتميماً لإرادة الربّ الذي حكم على الإنسان بالموت بعد الخطيئة، أمّا أن يموت الرجل شابّاً، فهذا ما يعتبره الناس قصاصاً لا يصيب إلاَّ الشرّير المنافق.
مات إبراهيم وانضم إلى آبائه. تعني هذه العبارة أنّه وُضع في القبر، وتعني أيضاً أنّه نزل إلى الجحيٍم، (الشول العبريّة) أي إلى مثوى الأموات، وهو مكان مظلم تحت الأرض يعتبر القبر بابا إليه. وإذ دُفن إبراهيم وامرأته سارة في مغارة المكفيلة صار المدفن مكاناً مقدّساً سيؤمّه نسله للتبرّك والصلاة، وصارت أرض عفرون باكورة الأرض المقدّسة التي ستعطى لشعب الله كما وعدهم الربّ بذلك.
3- العبرانيون والشعوب المجاورة
كان العبرانيّون يشعرون، برغم ميلهم إلى الانعزال، أنّهم أقرباء إلى الشعوب المجاورة بالعِرق واللغة والسكن والحضارة، فجسّموا هذه القرابة بوحدة النسب إلى إبراهيم. فبنو موآب وبنو عمون يتحدّرون من لوط ابن هاران أخي إبراهيم، وبنو شبأ ومديان وددان يتحدّرون من إبراهيم بواسطة امرأته قطورة، وكذلك بنو إسماعيل عبر أمّه هاجر.
يعقوب
ولد له من ليئة: رأوبين، لاوي، يهوذا، يسّاكر، زبولون، دينة.
ولد له من راحيل: يوسف، بنيامين.
ولد له من بلهة، أمَة راحيل: دان، نفتالي.
ولد له من زلفة، أمَة راحيل: جاد وأشير.
فإذا كان إبراهيم أباً للمؤمنين، فبه سيدخل في الإيمان لا بنو إسرائيل فحسب، بل أبناء الشعوب المجاورة أيضاً، وعبر هؤلاء كلّ شعوب الأرض. هذا التفكير عن الخلاص الشامل سوف نقرأه خاصّة في القسم الأخير من سفر أشعيا (56: 1- 8). بعد أن يهنّئ الإنسان أيّ إنسان يعيش بحسب شريعة الربّ، يقول إنّ الابن الغريب يُعطى بيتاً داخل أسوار أورشليم وموضعاً بين البنين والبنات، لأنّ الربّ جاء ليجمع كلّ الشعوب والأم فيأتون ويرون وجهه (1 ش 66: 18).
4- إسحق بن إبراهيم وأبو يعقوب
تبدو سيرة إسحق باهتة بين سيرة إبراهيم وسيرة يعقوب. إبراهيم جاء من أور وحاران إلى أرض كنعان ومصر قبل أن يعود إلى كنعان، وتنقّل بين مدن شكيم وبئر سبع وحبرون... وحياة يعقوب جرت بين بلاد آرام وأرض كنعان قبل أن يقيم بمصر مع عياله. أمّا إسحق فلم يتنقّل إلاَّ قليلاً وقضى حياته بين جرار وبئر سبع.
سيرة إسحق تتداخل في سيرة إبراهيم، من ولادته وهو ابن الموعد، إلى تقدمته ذاته على جبل الموريّا يوم الذبيحة، إلى زواجه. كما تتداخل في حياة ولديه عيسو ويعقوب منذ ولادتهما إلى زواجهما عبر الصراع الذي عاشاه طويلاً والعداوة التي كانت بينهما والتي ما انتهت قبل موت الوالد.
وعندما يورد الكتاب أنّ إسحق أقام بجرار، فهو يذكّرنا بإقامة إبراهيم في جرار، وعندما يروي ما حدث لإسحق في جرار مع أبيملك، فهو إنّمَا يستعيد ما حدث لإبراهيم والده مع الملك ذاته وفي المكان ذاته.
5- عيسو ويعقوب يتصارعان في حشا رفقة
أحسّت رفقة بالولدَين يتزاحمان في أحشائها، ومثل هذه الحال مصدر شؤم. من أجل هذا سألت رفقة الربّ إيضاحاً وجاءها الجواب كما لنوح (9: 26- 27) أو ليعقوب (49: 1 ي).
في جوفك أمّتان، ومن أحشائك يتفرّع شعبان:
شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد صغيراً.
هذان الوالدان يمثّلان شعبَين، شعب إسرائيل (يعقوب) وشعب أدوم (عيسو). شعبان يتزاحمان ويتقاتلان وسيفوز الأصغر على الأكبر، رغم أنّ الشرع اليهوديّ يعطي الأكبر ميراث أبيه ويجعله يتسلّط على إخوته، إلاَّ أنّ يعقوب سيفوز بحقّ البكوريّة وسيرث اسم أبيه. ويفسّر الكتاب هذا الخروج عن القاعدة فيلجأ إلى ثلاثة أسباب: الأوّل كلام الرب (25: 21- 23)، الثاني: ثراء يعقوب حقّ البكوريّة من أخيه عيسو بصحن من الطعام (25: 29- 34)، الثالث: بركة إسحق لابنه يعقوب يوم قدّم له الطعام بدل أخيه عيسو (27: 1 ي).
يذكر القدّيس بولس في رسالته إلى أهل روما (9: 11- 12) هذه الحادثة فيقول: وقبل أن يولد الصبيّان ويعملا خيراً أو شرّاً... قال الله لرفقة: "الأكبر يخدم الأصغر"، على ما ورد في الكتاب (ملا 1: 2- 3): "أحببت يعقوب وأبغضت عيسو". وهو يعني بذلك أنّ خلاص البشرّية ليس وليد أعمال بشريّة، بل وليد مخطّط الله. رفض الله عيسو بسبب احتقاره لعطيّة الله واختار يعقوب، كما سيرفض إسرائيل بسبب رفضه لله في شخص المسيح ويختار الكنيسة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM