الفصَل الثالِث وَالعشرُون: مَوتُ سارَة وَدَفنهَا

الفصَل الثالِث وَالعشرُون
مَوتُ سارَة وَدَفنهَا
(23: 1- 20)

أ- المقدّمة:
ماتت سارة فاشترى إبراهيم مغارة المكفيلة ليؤمّن فيها موضعاً يدفن فيه ميته.
يرجع النصّ إلى التقليد اليهوهيّ وهو يروي عمليّة شراء في شرقنا القديم حيث المساومات تلعب دورها قبل الاتفاق على السعر والدفع.
يهتمّ الكاتب الملهم نجبر هذا الشراء، لأنّه أوّل ملك لأبناء إبراهيم في أرض كنعان.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
(آ 1- 3) ماتت سارة في حبرون أو "قرية أرج" (المدن الأربع) كما سمّيت في القديم (يش 14: 15؛ 15: 13).
بكى البكّاؤون والبكّاءات (رج ار 9: 16) على سارة وبكى معهم إبراهيم، وبعد البكاء، بحث إبراهيم عن مكانٍ يدفن فيه ميته، وكلّم بني حثّ ني ذلك.
إنّ بني حثّ الذين يذكرهم الكاتب هم بعض الحثيّين الذين نزحوا من آسيا الصغرى (تركيّا الحاليّة) وأقاموا بين الكنعانيّين واختلطوا بهم.
(آ 4- 6) بدأت المفاوضات بوجهَيها القانونيّ والاقتصاديّ.
إبراهيم غريب بينهم، لا يملك قطعة أرض، لأنّه يعيش حياة البداوة متنقّلاً في المناطق المتاخمة للأرض المزروعة. وعندما يقصد أن يشتري أرضاً فسوف يتبدّل وضعه الاجتماعي، ولهذا اجتمعت المدينة كلّها لتوافق على قبول هذا الغريب في ما بينهم فيصبح واحداً مدنهم.
"أنت زعيم الله"، (نثيء في العبرّية)، هذه الكلمة تدلّ على منزلة إبراهيم وهي تقابل عبارة "خليل الله" التي نقرأها في اش 41: 8.
(آ 7- 16) لا يريد بنو حثّ أن يعطوا إبراهيم أرضاً بيانهم. "ادفن ميتك في قبورنا". غير أنّ إبراهيم يريد قبراً يكون ملكاً له. لا يريد عفرون بن صوحر أن يأخذ ثمن المغارة، ثم يطلب سعراً عالياً جدّاً، لعلّ إبراهيم يتراجع. فرضخ إبراهيم لشروطه ودفع الثمن كاملاً وأعطي صكّاً بذلك.
(آ 17- 20) يحدّد صك البيع مكان الحقل ويعدّد محتوياته.
في مغارة المكفيلة ستدفن سارة، ثم إبراهيم (25: 5) وإسحق (35: 29) ورفقة وليئة (49: 31) ويعقوب (50: 13)، وهي تقع اليوم تحت جامع حبرون الذي كان في ما مضى مجمعاً جهوديّاً ثم كنيسة.

ج- ملاحظات:
1- إستند الراوي الكهنوتيّ إلى خبر قديم فأعطانا صورة عن عمليّة بيع بين إبراهيم وبني حثّ. ما الذي دفعه إلى كتابة هذا الخبر؟ هل كان همّه اقتناء أرض (را 4؛ ار 1: 32)؟ ولكنّ علاقة الشعب بالله هي علاقة روحيّة. هل أراد أن يدلّ أبناء إبراهيم على قبر أبيهم ليؤمّوه مكاناً مقدّساً؟ ولكنّ طقوس الشعب العبرانيّ لا تجعل للميت ودفنته طابعاً مقدساً كما أنّ ديانة إسرائيل تمنع العادات التي تعبّر عن تكريم الموتى والتعبّد لهم. هل أراد أبناء إبراهيم أن ينطلقوا من هذا الصكّ ليطالبوا بحقّهم في أرض الميعاد؟ ولكن، عندما كتب هذا الفصل لم تكن حبرون في بلاد يهوذا، بل في بلاد موآب.
2- وعد الله الآباء بأن يمتلكوا أرض كنعان، ولكنّهم عاشوا على هذه الأرض دون أن تكون لهم ملكاً. عاشوا كغرباء ونزلاء (17: 8؛ 28: 4، 36: 7؛ 37: 1؛ 47: 9) وترجّوا أن يحقّق الله لهم ما وعدهم به. ولكنّ ما لم يتحقّق في حياتهم تحقّق في مماتهم، إذ عندما مات الآباء لم يعودوا غرباء بعد أن دفنوا في أرض يملكونها. وهكذا وجد الكاتب أساساً ملموساً لإيمان الآباء الذين ورثوا هذه المغارة منتظرين أن يرثوا خيرات أسمى. فلو لم يحصل الآباء على هذا الحقل لبقي الوعد ناقصاً، لأنّ اقتناء ذلك الحقل صار رمزاً لاقتناء الأرض كلّها ورجاء بالحصول على خيرات الخلاص.

د- مواضيع عامة:
1- المستوى التاريخيّ في حياة إبراهيم
لقد قلنا سابقاً إنّ جماعة إبراهيم كانت إحدى العِيَل صاحبة المواشي، المتنقّلة من مكان إلى آخر طلباً للماء والكلإ. وإن إبراهيم لم يكن ملكاً من الملوك أو قائد حرب ليكون لنا عن سيرته الوثائق التاريخيّة بل كان رئيس قبيلة انتقلت يم من انتقلوا من جنوب العراق إلى لعله، فوصلت أرض كنعان في القرن التاسع عشر أو السابع عشر ق. م.
وكما يرتبط إبرهيم تاريخيّاً بشيت وسام وتارح فهو يرتبط جغرافيّاً بآرام ما بين النهرَين وخاصّة بمدينتَين اشتهرتا في تاريخ بابل القديم على أنّهمَا مركز عبادة الإله القمر. الأولى أور قرب مصبّ نهر الفرات، والثانية حاران الواقعة على أحد روافد الفرات. ترتبط أور بتارح أبي إبراهيم، وحاران بمجمل تاريخ الآباء، إذ إنّ امرأة إسحق، رفقة، وامرأتَي يعقوب (ليئة وراحيل) أصلهنّ من قبيلة تارح، ومن مدينة حاران.
وسيرة إبراهيم في كنعان هي انتقال بطئ من حياة البدو إلى حياة الحضر، فيأخذ بأسماء آلهة الشعب الذي عاشره ويتعلّم عاداته، بانتظار أن يشتري له ولنسله أول موطئ قدم لهم، ألاَ وهو مغارة المكفيلة، قرب حبرون.
2- الوجهة الدينيّة لحياة إبراهيم
خلال حديثنا عن إبراهيم توقفنا على النواحي الدينيّة من حياة إبراهيم. سنذكر بعضاً منها لكي نربطها بالتقاليد اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة التي توسّعت فيها.
انقطع الحوار بين الله والإنسان (خطيئة آدم، الطوفان، بابل) وها هو يعود مع إبراهيم، وهو حوار يستطيع كلّ إنسان أن يعيشه إن هو قبل أن يسير مع الله دون شروط مسبقة.
لا شكّ في أنّ السير مع الله مغامرة صعبة ولكن عندما نرى أنّ أبا الآباء عاش هذه المغامرة في واقعه اليومي، نتشدّد ونتشجّع فنرى فيه مثالاً لنا يدعونا إلى الثقة بالله والانطلاق معه ولو كانت الطريق غير واضحة أمامنا.
بنى إبراهيم حياته الجديدة على نداء جاءه من الله، فدخل في تاريخ الخلاص. بادر الله وتنازل إليه فأجاب إلى النداء بحريّة تامّة: لبّيك، ها أنذا. وسار متّكلاً على قدرة الله. غير أنّه سيختبر ضعفه وعجزه عندما يعارض بمشاريعه مخطّط الله فينزل إلى مصر ليعتني بأمر عياله على حساب عناية الله. ولكن عندما يترك عناية الله توجّه الأمور، فهو يرى أن لا شيء يستحيل على الله الذي يهب الأرض الحلوة لإنسان غريب، و يمنح العاقر البنين العديدين.
على الإيمان أسّس إبراهيم حياته مع الله، فانطلق إلى حيث أشار إليه. ترك مدينته وقبيلته وبيته، وبدّل طريقة حياته الاجتماعيّة كما غيّر موقفه الدينيّ من الآلهة التي عبدها أجداده. ولكن هذا الإيمان ليس بالسهل، بل هو مزروع بالمحن، ويذكر الترجوم أنّه أبتُلي بعشر محن. يصل إبراهيم إلى الأرض التي ستعطى له فيجدها تعجّ بالسكان، فكيف سيحصل عليها؟ يعده الربّ بنسل يفوق رمل البحر كثرة ونجوم السماء عدداً، بينما الابن وارث الموعد لم يأتِ وامرأته سارة عاقرٌ هي.
وعندما يأتي ذلك الابن بعد انتظار طويل، ها هو الله يأخذ بيد ما أعطاه بأخرى. ويطلب من إبراهيم أن يضحّي بإسحق، بعد أن طرد إسماعيل، ويتخلّى عن كلّ أملٍ له في الدنيا. مع كلّ هذا وضع إبراهيم إيمانه في الله، فأجابه الربّ إلى إيمانه بالمعجزة مرة أولى لمّا جعل العاقر تلد، ومرة ثانية لمّا نجّى إسحق من الموت. آمن إبراهيم بالله فجازاه الله على إيمانه.
3- إبراهيم في الكتاب المقدّس
إذا تصفّحنا الكتاب المقدّس نجد أنّ اسم إبراهيم لا يرد البتّة لا في الكتب التاريخيّة ولا في القسم الكبير من الكتب النبويّة والحكميّة، وإن ورد فني النصوص المتأخّرة من الكتاب المقدّس، أي تلك التي كتبت في زمن الجلاء أو بعد الجلاء.
وهذا الأمر جعل بعض المؤرّخين، كما قلنا، يشكّ في شخصيّة إبراهيم ويعتبره رمزاً لشعب، لا إسماً حقيقيّاً لشخص عاش في عصر من العصور. غير أنّ الأبحاث التاريخيّة أعطتنا الإطار الذي عاش فيه إبراهيم، وإن لم يتوقّف الكاتب الملهم على سيرته ليعطيها ما لقّصّة يوسف بن يعقوب من تشويق، أو ليدرس نفسيته كما درس نفسيّة شاول أو داود. فالكتاب المقدّس لا يصوّر لنا إبراهيم بمظهره الخارجيّ أو بوجهه الأدبيّ، بل يتوقّف على ملامح شخصيّته العميقة ألاَ وهي دعوته ورسالته الخاصّة. وهنا تبدو عظمته التي تشبه إلى حدِّ بعيد عظمة يوحنّا المعمدان الذي لم يكن إلاَّ ذلك الصوت وحامل الرسالة التي حمّله الله إيّاها. ونحن نتعرّف إلى إبراهيم لا انطلاقاً من طبيعته ونفسيّته، بل من عمل الله فيه. إختاره الربّ فامتلكه، فتعرّت حركاته وتردّداته من طابعها الفرديّ الشخصيّ لتصبح تصرّفات إنسان سلّم ذاته كلّها إلى الله. وهكذا صار للأجيال الآتية المثال الكامل لقداسة حقيقيّة.
ينظر الكتاب إلى ملامح إبراهيم فيتوقّف على اثنَين: إنّه أبو شعب إسرائيل، إنّه رجل الله وخادمه (أو عابده. راجع فعل عبد في العبريّة).
نقرأ في الإنجيل أنّ "إبراهيم أب" (لو 1: 73؛ 3: 8؛ 13: 16...)، وهو أبٌ لشعب إسرائيل (خر 3: 15؛ يش 24: 3) الذي يفتخر بأن يكون من سلالة إبراهيم (خر 23: 13؛ تث 1: 18). فإبراهيم أبو كلّ الآباء وقد وعده الربّ بأن يكون أباً لنسل كبير، وهو ينتظر هذه الأبوّة من الله رغم أنّ امرأته كانت عاقراً.
سيكون إبراهيم أباً وبسبب أُبوّته تتبارك به جميع شعوب الأرض. وسيذكّر إرميا (4: 1) الشعب أنه إن كان أميناً لربّه ستتبارك به شعوب الأرض على مثال إبراهيم المؤمن، ويرى زكريّا (8: 13) الشعب التائب إلى ربّه بركة بين الشعوب، وهذا ما يجعل صاحب المزامير (46: 10) يرى أُمراء الشعوب يتجمّعون مع شعب إله إبراهيم لينشدوا ملك الرب. عندما يتأمّل شعب إسرائيل بدعوته في العالم وبالرسالة التي يحملها فتصل إلى أقاصي الأرض، يتذكّر أنّه يحمل اسم إبراهيم فلا يكتفي بأن يكون ابناً لإبراهيم بحسب الجسد، بل ينفتح إلى العالم على مثال أبيه. ولقد قال أشعيا (63: 16) في ذلك "قال الشعب: فإنّك أنت أبونا يا ربّ، لأنّ إبراهيم لا يعرفنا وإسرائيل (أي يعقوب) يجهلنا. أنت يا ربّ أبونا، واسمك فادينا إلى الدهر". ولكنّ إسرائيل سيقرأ سيرة إبراهيم ويعرف أنّ ما فعله الربّ لإبراهيم سيفعله لشعبه. وفي هذا يقول أشعيا (51: 2- 3) أيضاً: "أنظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم. كان واحداً لمّا دعوته، ولكنّي باركته وكثّرته. هكذا عزّى الربّ صهيون، عزّى كلّ أرضها الخربة".
وإبراهيم هو رجل الله وخادمه. بهذه الكلمات يورد الكتاب العلاقة الحميمة التي تشدّ إبراهيم إلى الله. فاسم إبراهيم ليس خادم الله (خر 31: 13؛ تث 9: 27؛ مز 103: 2؛ 24) فحسب، وهو اسم يخصّ به الله بعض من يثق بهم فيحمّلهم رسالته (موسى: خر 14: 31؛ عد 12: 7؛ يشوع: يش 24: 29؛ داود: 2 صم 3: 18؛ 7: 5، أشعيا: اش 20: 3، المسيح الملك: اش 42: 1؛ 49: 3). واسمه ليس خليل الله فحسب (اش 41: 8: إبراهيم الذي أحبّه. رج 1 أخ 20: 7؛ دا 3: 35) وهو اسم لا نقرأه مراراً. فالكتاب المقدّس لا يكتفي بالقول إنّ إبراهيم ارتبط بالله. بل إنّ الله ارتبط بإبراهيم عندما سمّى نفسه "إله إبراهيم" (26: 23؛ خر 3: 6، 15؛ 1 مل 8: 36) وأوحى بوجوده عبر شخص إبراهيم.
الربّ إله إبراهيم لأنّه أسمعه صوته، وهو إلهه الذي ارتبط به برباط الحلف المقدّس. وإن ذكر الكتاب معه إسحق ويعقوب فهو يذكرهما إكراماً لإبراهيم الذي سمع وعمل بأوامره ووصاياه. لمّا أراد الله أن يعرّف عن ذاته، قبل مجيء ابنه الوحيد، لجأ إلى عدد من الشهود، وحدّثنا بلسان الأنبياء (عب 1: 1) ولكن، لا شاهد ولا نبي تجاسر على أن يربط اله بالله. فإيليّا يسمّي يهوه ربّ الجنود الذي يخدمه أو يعبده (1 مل 18: 15)، وهو لا يسمّي يهوه "إله إيليّا" بل إله إبراهيم وإسحق ويعقوب (1 مل 18: 36). فإيمان أبي الآباء وإصغاؤه وخضوعه للربّ، وتواضعه وتجاسره، كلّ هذا جعله مثالاً لشعب الله.
4- إبراهيم والتقاليد اليهوديّة
إبراهيم هو أبو إسرائيل التقيّ وأساس وجود الشعب المختار. كانوا يقولون: "إبرهيم أبونا "، فيعبّرون عن العلاقة القائمة بين إبراهيم والشعب اليهوديّ. لا يتحدّثون عن الشعب دون أن يتحدّثوا عن إبراهيم، ولا يذكرون إبراهيم دون أن يذكروا الشعب. كانوا يضعون نصب عيونهم مجد إبراهيم وفضائله وأعماله العظيمة وحياته الكاملة التي لا عيب فيها، فيرون فيه المثال الذي به يتشبّهون.
إنّ الخلاص يصل عبر إبراهيم إلى أبنائه، لأنّ شفاعته تصل إلى نسله واستحقاقات أعماله تفيد شعبه جيلاً بعد جيل. ولهذا ينظر الشعب اليهوديّ بثقة إلى إله إبراهيم، لأنّه عالم بأنّ الله ارتبط بإبراهيم، وبفضل هذا الارتباط ينظر بعطف إلى أبناء إبراهيم.
في هذا السبيل قال يشوع بن سيراخ: "إبراهيم كان أباً عظيماً لأمم كثيرة ولم يوجد نظيره في المجد. وقد حفظ شريعة العليّ فعاهده عهداً وجعل العهد في جسده، وعند الامتحان وجد أميناً، فلذلك حلف الله بأنّ الأم سيباركون في نسله" (44: 19- 22).
وقالت وثيقة دمشق: صار إبراهيم خليل الله لأنّه حفظ وصايا ربّه ولم يختر أن يفعل بحسب رأيه ومشيئته الخاصة. أعطى لإسحق ويعقوب الوصايا فحفظاها، وصارا هما أيضاً خليلَيِ الله وشريكَيِ العهد إلى الأبد.
وكاتب سفر "التكوين المنتحل" يفسّر بطريقة خاصّة نزول إبراهيم إلى مصر ويبيّن دور الله في الأحداث فيقول: "أنا أبرام، حلمت حلماً ليلة دخلت أرض مصر، ورأيت في الحلم أرزة ونخلة". جاء أناس يقطعون الأرزة ويقلعونها. فصرخت النخلة: "لا تقطعوا الأرزة، ملعون كلّ من يرمي الأرزة أيضاً". وبقيت الأرزة على قيد الحياة بسبب حماية النخلة لها... ثم يفسّر إبراهيم حلمه لسارة ويبرّر تصرّفه...
يذكر كتاب "اليوبيلات" كلّ ما يتعلّق بإبراهيم وبمواعيد الله له، غير أنّه يترك جانباً الأحداث التي لا تشرّفه ولا تشرّف قومه، فيتورّع عن ذكر خطف سارة، وقصّة لوط مع بناته...
أمّا رؤيا إبراهيم فتروي في قسمها الأوّل خبر ارتداد إبراهيم إلى الديانة التوحيديّة: كان تارح، والد إبراهيم، يصنع الأصنام وكان ابنه إبراهيم يساعده إلى أن وجد يوماً في الهيكل صنماً وقع على الأرض بدون حراك... فخرج من البيت قبل أن تنزل الصاعقة فتدمّر البيت وتقتل تارح. وتنقلنا في القسم الثاني (9- 32) إلى بلاد كنعان فنقرأ مع إبراهيم تاريخ شعب الله وننتظر معه مجيء المختار.
ونقرأ في "وصيّة إبراهيم" أنّ إبراهيم كان ابن 95 سنة يوم جاء الملاك يعلن له نهاية أجله. غير أنّه لما رأى كيف أضافه إبراهيم، رجع إلى السماء ليقول لله: إنّه ليستحيل أن يموت شخص تقيّ مثل إبراهيم، فأجابه الربّ: الموت نصيب كلّ إنسان...
حينئذٍ رفي الملاك ميخائيل إبراهيم إلى السحاب، على مركبة الكاروبين، حتى وصل إلى السماء، ثم عاد معه إلى الأرض. ولمّا رفض إبراهيم أن يسلّم نفسه إلى الملاك، جاء الموت بذاته وأخذه.
إنّ التقليد اليهوديّ في فلسطين يجعل إبراهيم مثال المعلّم الذي عرف الشريعة وعلّمها وحفظها، فكان خادماً لها على مثال موسى.
أمّا التقليد اليهوديّ في مصر فبعضه يعتبر إبراهيم ذلك الإنسان الذي تحلّى بالحكمة والفضيلة. وبعضه الآخر يروي مغامرات إبراهيم: كان رئيس الكهنة في مصر، وأسّس في بابل علم الفلك.
وينظر فيلون الإسكندريّ إلى إبراهيم من منظاره الخاصّ (الطريقة الرمزيّة) فيشدّد على طاعته للتوراة المكتوبة في الكتاب وفي الطبيعة. ينطلق من تك 12 ويذكر هجرة إبراهيم من أور إلى حاران، ومن حاران إلى الصحراء، فيعتبر هذه الهجرة رجوعاً إلى البلاد الحقيقيّة، وانفصالاً عن العالم الحسيّ من أجل التعلّق بالأمور الإلهيّة.
5- إبراهيم في التقليد المسيحيّ
يذكر العهد الجديد اسم إبراهيم 72 مرّة. وأهميّة إبراهيم بالنسبة إلى العهد الجديد لا تُقاس بعدد المرّات التي فيها يرد اله فحسب، بل بالعلاقة التي تربط المسيحيين بإبراهيم أيضاً. إبراهيم هو أبو شعب الله الجديد كما كان أباً لشعب الله في العهد القديم. لأن الكنيسة تتّصل بالعهد العتيق وتؤكّد علاقتها بأبي الآباء وتعتبر ذاتها وارثة المواعيد التي جاءت إلى إبراهيم وزرعه (أي المسيح). إنّ الكنيسة تدخل تاريخ الخلاص الذي بدأه الله بإبراهيم وحقّقه في المسيح وهي تحمل هذا التاريخ لتكون شاهدة للربّ إلى نهاية الأزمنة.
النصوص التي تذكر إبراهيم تبيّن لنا أن الجماعة المسيحيّة هي ابنة إبراهيم (روم 4: 1، 12، 16، الله أبونا) وهي تعبد إله إبراهيم (أغ 3: 13) وتعترف بأنّ الله اختاره وأقام عهداً معه ومع نسله (روم 11: 1 ي). تاريخ الخلاص واحد، وشعب الله واحد في الإيمان بالله.
والنصوص على ثلاثة أنواع: بعضها (رسالة يعقوب، الرسالة إلى العبرانيّين) يشدّد على صفات إبراهيم الذي هو مثال المسيحيّين كما كان مثالاً لليهود. والبعض الثاني (الأناجيل الأربعة) يبرز أهميّة أبي الآباء، ولكنّه يدلّ على أنّ المسيح يفوق إبراهيم عظمة ومجداً (يو 8: 58: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن)، والبعض الثالث (الرسالة إلى العبرانيّين والرسالة إلى الغلاطيّين) ينطلق من نسل إبراهيم فيلقي ضوءاً على الدور الذي لعبه في تاريخ الخلاص بفضل مواعيد الله ونعمته.
أمّا آباء الكنيسة فيقرأون الكتاب المقدّس بعهدَيه القديم والجديد ويحدّثوننا عن إبراهيم.
إبراهيم خليل الله وصديقه. فالكنيسة تعيّد له في طقوسها كما تعيّد لقدّيسيها معترفة بقداسته وسموّ فضائله. فهو قد عبد الإله الحيّ الواحد بعد أن ارتدّ عن عبادة الأوثان، ثمّ دخل طريق الإيمان التي أوصلته إلى معرفة الله العميقة وعلّمته حموّ أفكار الله وقصده في البشر. إبراهيم رجل الإله الواحد، إبراهيم رجل الإيمان، إبراهيم رجل الزهد والنسك الذي ترك وطنه وعيلته وأطاع ربّه إلى آخر حدود الطاعة. وهكذا يكون إبراهيم مثالاً كاملاً للمؤمنين.
إبراهيم أبو المؤمنين. يشدّد الآباء على دور إبراهيم في تاريخ الخلاص. معه بدأ تاريخ جديد، تاريخ الله مع البشر، ومع نسله بالجسد سيتابع الله عمله في هذا التاريخ ليعدّ لمجيء المسيح إعداداً مباشراً. وسيتوقّف تقليد الآباء خاصة على تعليم القدّيس بولس فيبرز شخصيّة إبراهيم، ذلك الني الذي عرف مسبقاً أسرار المسيح، لأن الله أدخله فيها. وهو أيضاً أبو الكنيسة، لأنّه ليس أباً لإسرائيل بالجسد فحسب، بل أيضاً أباً لإسرائيل بالروح الذي يجمع في الإيمان كلّ الشعوب. في تاريخ الخلاص هذا يقف إبراهيم بين آدم والمسيح، فتنغرز أصوله في الوحي الأول، وكانت علامته قوس قزح في السماء مع نوح، ويعيش في حياته الوحي الثاني، وكان الختان علامته، ويتطلعّ بالإيمان إلى الوحي الثالث، إلى المسيح الذي سيولد من نسله.
وتبرز صورة إبراهيم في طقوس الكنيسة وليتورجيّتها، فيبدو إبراهيم أبا الإيمان الذي رأى ثلاثة (أقانيم) فعبد الإله الواحد في مشهد سنديانة ممرا فعلّمنا العبادة الحقّة للإله الواحد المثلّث الاقانيم. ونلتقي بإبراهيم في نهاية حياتنا، عندما نأتي من الشرق والغرب من الشمال والجنوب ونجلس في ملكوت السماوات (مت 8: 11) ونتّكئ نحن المختارين على قلب إبراهيم وفي حضنه (لو 16: 23)، فنذكر السعادة التي تنتظرنا ونصلّي لأجل موتانا. ونرافق إبراهيم في حياته ولا سيّمَا عندما قدّم ابنه ذبيحة لله. هذا الخبر تقرأه كل الطقوس في الشرق والغرب لأنّها ترى في ذبح إسحق صورة عن ذبيحة المسيح، فتصلّي إلى الربّ الذي قبل ذبيحة إسحق، وتطلب إلَيه أن يقبل بخورنا وذبيحتنا ويرضى عنّا.
6- إبراهيم عند المسلمين
دور إبراهيم في الإسلام لا يضاهيه دور في أيّة ديانة من الديانات الساميّة. فإذا كانت المسيحيّة ديانة "عيسى" (يسوع) واليهوديّة ديانة موسى، فالإسلام هو ملّة إبراهيم. وإذا شدّدنا على أنّ الإيمان هو ميزة إبراهيم الأولى فقد قال أحد المفكّرين: إذا كانت جذور إسرائيل تتأصّل في الرجاء، وإذا كانت المسيحيّة قد عاهدت الربّ على المحبّة، فالإسلام يرتكز على الإيمان، إكراماً لإبراهيم أبي المؤمنين ومثالهم.
يظهر اسم إبراهيم في 25 سورة، ويذكر اسمه 69 مرّة في 37 مقطعاً تؤلّف 250 آية. وهذه الآيات تعظّم إبراهيم في دوره كنبي التوحيد الذي يرفض مساومة في الشرك فيحطّم أصنام المعبد، وكشاهد يسير إلى الله الواحد، وكمبارك من الله بعد ذبيحة ابنه، فيسلّم إلى نسله إيمانه الحقيقيّ، أي الإسلام، ويعلّمهم العبادة الحقّة.
لإبراهيم وجهان في القرآن، وجه أوّل نجده في السوَر المكيّة، هو وجه نبيّ من الأنبياء. ووجه آخر نجده في السوَر المدنيّة، وبه يحارب محمّد اليهود الرافضين، هو أبو إسماعيل ومؤسسّ الكعبة ومنظّم الحج إليها. في السوَر المكيّة يبرز إبراهيم المؤمن بوجه العرب المشركين. هو المسلم والحنيف المستقيم ومؤسسّ ملّة إبراهيم وأبو المسلمين. والسوَر المدنيّة تبيّن دوره في تنظيم العبادة والتشريع. وهكذا بدا إبراهيم كالضوء الذي يساعدنا على فهم القرآن: به يبدأ تاريخ المسلمين وبه ينتهي، وقبلته الأخيرة هي أورشليم حيث قدّم أبو المؤمنين ذبيحته

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM