الفَصل التَاسع عَشر: تَدمِير سَدوم

الفَصل التَاسع عَشر
تَدمِير سَدوم
(19: 1- 38)

أ- المقدّمة:
1- يتابع التقليد اليهوهيّ رواية ما بدأ في الفصل السابق فيروي لنا دمار سدوم عقاباً لها على خطيئتها، تمّ يورد لنا مصير لوط وابنتَيه: نجَوا بأنفسهم، وهناك في مدينة صوعر كوّنوا شعبَين: بني موآب وبني عمون.
2- في هذا النصّ نتعرّف إلى سلطان الله الشامل. فهو لا يعاقب شعبه فقط بل يعاقب كلّ الشعوب الخاطئة كما فعل بسدوم وعمورة (1 ش 1: 9). يعاقب الكلدانيّين (1 ش 13: 19) والأدوميّين (ار 49: 18) والبابليّين (ار 50: 40). أمّا لماذا يعاقب؟ بسبب الخطيئة. فعلى شعوب الأرض قاطبةً أن تعمل بوصاياه فيجري القضاء كالماء والعدل كنهر لا ينقطع (عا 4: 24).
3- بعد أن نتعرّف إلى إثم أهل سدوم (19: 1- 24) الذين أرادوا التعرّض لملائكة الله، نرى لوطاً وعائلته يهربون من دمار سدوم (19: 15- 29)، وأخيراً يطالعنا مشهد لوط الذي سكر، كما سكر نوح، فضاجع ابنتَيه وكان له منهمَا ابنان هما جدّا الموآبيّين والعمونيّين (19: 30- 38).

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- إثم سدوم (19: 1- 14)
(آ 1- 3) "جاء الملاكان"... أي الرجلان اللذان تحدّثنا عنهمَا في الفصل السابق... والنصّ يذكر تارة الملاكَين وطوراً الرجلَين، والملاكان أخذا صورة رجلَين ليراهما لوط.
وصلا عند المساء. رآهما لوا عند باب المدينة حيث تتمّ معظم الاجتماعات. هذا البدويّ الذي انتقل إلى المدينة واقتنى بيتاً في داخلها، لم يغيّر طريقة حياته في ما يخص الضيافة، فاستقبل الرجلَين كما استقبلهمَا إبراهيم: إنحنى أمامهما إلى الأرض احتراماً و إكراماً (23: 7؛ 27: 29؛ 33: 7).
طلب إليهمَا أن يقبلا ضيافته. تظاهرا بالرفض، فألحّ عليهمَا وصنع لهمَا مأدبة كما فعل عمّه إبراهيم.
(آ 4- 5) يفترق موقف أهل سدوم كلّيّاً عن موقف لوط بالنسبة إلى هذَين الغريبَين وقد أرادوا بهما شرّاً. لا يريدون أن يقتلوهما بل أن يشبعوا غرائزهم معهما، وقد عرفت خطيئة سدوم بأنّها فعل الفاحشة بين الذكر والذكر. وهذا عيب انتشر في المدنيّات القديمة، فنعت الشريعة من مضاجعة الذكر لأنّ تلك رجاسة يعاقب فاعلها بالموت (18: 22؛ تث 33: 18- 19). ولكنّ شعب الله لم يعمل دوماً بشريعة موسى (قض 19: 1 ي) فدخلت هذه العادة الشنيعة الهيكل بشكل بغاء مكرَّس. وفي هذا السبيل كتب القدّيس بولس (روم 1: 24- 27): لذلك سلّمهم الله إلى النجاسة... فنالوا العقاب الذي استحقّوه.
(آ 6- 8) طلب أهل سدوم إلى لوط أن يقدّم إليهم ضيفَيه. رفض، لأنّ الضيف لا يمسّ، وعلى المضيف أن يدافع عنه مهما كلّفه ذلك الدفاع. سيضحّي لوط بشرف ابنتَيه، لا لأنّ شرف المرأة لم يكن بذي بال (سي 7: 26)، بل لأنّ واجب الضيافة أسمى الواجبات. يشدّد الكاتب على واجب الضيافة ليقابل فضيلة لوط بفساد أهل سدوم. أمّا قضيّة ابنتَي لوط فلا نحكم عليها انطلاقاً من تعليم الإنجيل ومبادئ الأخلاق كما نعرفها اليوم، بل بحسب عادات ذلك الزمان.
(آ 9- 11) لم يرضَ أهل سدوم عن تصرّف ذلك "الغريب" الذي "جاء إلينا ليتحكّم بنا"، فهجموا على الباب يريدون قتل لوط. غير أنّ الضيفَين أدخلا لوطاً البيت وضربا أهل سدوم بالعمى، فما عادوا يعرفون أن يجدوا الباب.
(آ 12- 14) أعلن الرجلان عن هويّتهمَا: إنّهما مرسلان جاءا من عند الله ليريا شرّ المدينة. أمّا وقد رأيا فساد سدوم ، فما عليهما الآن إلاَّ تنبيه لوط إلى الهرب مع عياله، فالبارّ ينجو بفضل تقواه وينجو معه أهل بيته. كلَّمَ لوط صهرَيه فلم يسمعا له بعد أن تعوّدا العيش في جوّ سدوم الموبوء. هكذا فعل نوح قبله مع معاصريه فرفضوا أن يسمعوا تنبيه الربّ (مت 24: 37- 38؛ 1 بط 3: 20).
2- دمار سدوم (19: 15- 29)
(آ 15- 16) تأخّر لوط وتوانى في الذهاب، لا لأنّه لم يؤمن بمقال الرجلَين، بل لأنّه استصعب التخلِّي عن أرضٍ تأمَّلَ في جمالها من على تلّة بيت إيل فحسبها جنّة الله. وظلّ يؤجّل انطلاقه حتى الصباح، فأجبره الرجلان على الخروج من المدينة قبل شروق الشمس.
(آ 17- 22) يصوّر لنا الكاتب لوطاً المتعلّق بالمدينة. هو لا يريد أن يتركها بسهولة. أمسكه الملاكان وأخرجاه منها بالقوّة. تطلعّ إلى ورائه فقالا له: إيّاك أن تلتفت إلى ورائك. وأخيراً طلب أن يلتجئ إلى إحدى المدن المجاورة، فأعطي له أن يختبئ في صوعر، وهي مدينة صغيرة.
(آ 23- 25) ما إن وصل لوط إلى صوعر حتى حلّت الكارثة بالمدينة: أمطر الربّ كبريتاً وناراً، فخربت المدينة والمنطقة بسكّانها ونباتها. ولقد ظلّت ذكرى سدوم عالقة في أذهان بني إسرائيل أجيالاً عديدة (تث 29: 22؛ 32: 32؛ حز 16: 46- 56؛ صف 2: 9؛ هو 11: 8) حتى صارت مثالاً للمدينة التي رفضت التوبة فعاقبها الله على تصلّبها (مت 11: 23- 24؛ لو 10: 12؛ رؤ 11: 8).
(آ 26) نجا لوط من الكارثة. أمّا امرأته فعصت أوامر الملاك وتطلّعت إلى ورائها فانقلبت نصب ملح. أتكون ماتت قصاصاً على عصيانها فغطّتها صفحة من ملح؟ أم أخذتها موجة مياه مالحة فظهرت عبر الزبد كأنّها من ملح؟ هل انطلق الكاتب من وجود نصب صخرية بيضاء فصدّق الأسطورة القائلة بأنّ أحد هذه النصب هو امرأة لوط؟ (حك 10: 7). حوّاء أخطأت فجرَّت زوجها إلى الخطيئة، إمرأة لوط تراجعت ولكنّ لوطاً وجّه قلبه بعيداً عن شرّ مدينة صارت خربة لا ينبت فيها شيء.
(آ 27- 28) في الصباح ذهب إبراهيم وحده ليرى المدينة التي حسبها لوط "جنّة الربّ" ودافع هو عنها، فلم يرَ إلاَّ الدخان. هذه هي نهاية المدينة التي احترقت في الأتّون. هذا الدخان يشبه الدخان المتصاعد من جبل سيناء (خر 19: 18) وهو علامة حضور الله وغضبه على الناس الخاطئين.
(آ 29) نجّى الله لوطاً ممّا حصل للمدينة بسبب برّه (2 بط 2: 7) ومكافأة له على استقباله لضيفه والتضحية بكلّ شيء للحفاظ على واجبات الضيافة. غير أنّ تقاليدَ يهوديّة تعتبر لوطاً رجلاً خاطئاً لم يتحلَّ بالقداسة التي عاشها إبراهيم.
3- بداية العمونيّين والموآبيّين (19: 30- 38)
(آ 30) نقرأ بداية شعب بني عمون وبني موآب، أنّهم من أصل زنى. بهذه الطريقة عبّر الكاتب عن احتقاره لشعبَين عدوَّين لإسرائيل (يو 8: 41- يرفض اليهود أن يكونوا أبناء زنى). وتبدأ القصّة بهرب لوط وابنتَيه إلى أحد المغاور حيث أقاموا.
(آ 31- 35) وتساءلت الفتاتان: كيف العمل ليكون بهما نسل للوط بعد أن فرغت المنطقة من سكّانها؟ شرب الوالد الخمر حتى سكر فضاجعت كلّ منهما والدها. نقرأ أوّلاً عن نتائج الخمر إذا أكثر الإنسان من شربها (نوح وما حدث له). فالمسؤولون ينسون واجباتهم نحو شعبهم لأنّهم ضلّوا بالخمر وتاهوا بالمسكر (اش 28: 7)، وطالب الحكة يعرف أنّ "الخمر مجون والسكر عربدة، ومن يترنّح بهما فلا حكمة له" (ام 20: 1). نقرأ ثانياً عن أهميّة النسل في شعب الله الذي يغضّ النظر عن حيلة المرأة ليكون لها ولد. عرفنا حيلة سارة لمّا قدّمت هاجر لزوجها رغم ما حصل من نتائج مؤلمة. ومثلها ستفعل ليئة وراحيل ليكون لهما أولاد كثيرون (30: 1 ي) أمّا تامار، كنّة يهوذا، فستجبر عمّها يهوذا على إعطائها نسلاً بعد أن مات ابنه الذي تزوّجته (38: 1 ي) وكذلك ستفعل راعوت (را 3: 1 ي). ولهذا اهتم الشرع بهذا الأمر فأوجب على الرجل أن يتزوّج أرملة أخيه ليجعل للأخ بها نسلاً (تث 25: 5 ي).
(آ 36- 38) وهكذا كان للكبرى ابن سمّته موآب، وللصغرى ابن سمّته "بنعمي". إنّ القرابة الإثنيّة بين العبرانيّين والموآبيّين والعمونيّين، كما يوردها الكتاب، يثبتها تقارب في اللغة وطرق الحياة المشتركة (عد 22: 1؛ 26: 3؛ تث 23: 3- 5).

ج- ملاحظات:
1- ماذا نستطيع أن نقول عن خراب سدوم؟ عندما نسير في الوادي القريب من بحر الميت، نجد آثار حمم البراكين وما فعلته المياه الكبريتيّة الساخنة في الأرض. ويبدو أنّ هزّات أرضيّة وقعت في ذلك الوادي (عا 1: 1). صوَّر إحداها الني زكريّا (14: 4- 5) فقال: "ينشقّ جبل الزيتون من نصفه نحو الشرق ونحو الغرب فيصير وادياً عظيماً جدّاً، وينفصل نصف الجبل إلى الشمال ونصفه إلى الجنوب... ويأتي الربّ إلهي"...
لا شكّ في أنّ الكاتب استوحى حادثة قديمة بقيت عالقة في أذهان الناس فرأى فيها منطلقاً يدلّ على عدالة الله التي تعاقب الخاطئ على خطيئته، ولا سيما تلك الخطيئة الشنيعة التي مارسها أهل سدوم وعرفها كثير من الشعوب القديمة ولا تزال تمارسها جماعات من أُممنا المتحضّرة.
أتكون الكارثة التي حصلت لسدوم والمدن المجاورة وليدة هزّة أرضيّة رافقها انفجار بركان أخرج الكبريت والماء الساخن؟ إذا كانت النار علامة غضب الله، فخراب سدوم هو أكبر شاهد على ذلك وهو يهدّد مدن إسرائيل التي ستهدم ويحرقها الأعداء إن لم ترجع إلى الرب عن خطاياها.
2- أمّا قصّة لوط فهي صورة عن الإنسان الذي يترك نداء الله بكامل حريّته. تخلّى لوط عن حياة البداوة القشفة واختار الأرض الخصبة ورخاء المدنيّة. فضّل العيش مع أهل سدوم على رفقة عمّه إبرهيم، فوصلت به الأمور إلى ذلك الشذوذ الجنسيّ الذي مارسه مع ابنتَيه بعد أن ترك الخمر تسيطر عليه. لم يرد أن يسلّم حياته إلى الله وعنايته، بل فضّل أن ينظّمها بحسب المفهوم البشريّ لتكون له أرض يعيش عليها مع الخاطئين، ونسل يحصل عليه لا من وعد الله، بل من قوة الجسد الكامنة فيه. فكان له نسل زنى لا يعترف به الكتاب المقدّس وأرض خراب ودمار أحرقها غضب الله ودمّرتها عدالته. رحم الله هاجر وابنها، ولكنّهما فضَّلا أن يبنيا حياتهما بنفسيهما، رحم الله لوطاً ولكنّه تملّص من يد الله التي توجّه التاريخ وأخذ طريقاً خاصّاً به، فكانت نهايته نهاية أبناء بابل. ولكنّ إبراهيم سلك مع الله وسلّم إليه كلّ أمور حياته، فكانت له البركة في نسل كبير يفوق رمل البحار عدداً وأرضٍ تفوق بجمالها جنّة عدن لأنّ الله حاضر فيها

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM