الفصَل الرَابع عَشَر: حَمْلة الملوك الأرْبعَة

الفصَل الرَابع عَشَر
حَمْلة الملوك الأرْبعَة
(14: 1- 24)

أ- المقدّمة:
1- نذكر في هذا الفصل شجاعة إبراهيم وسرعته في نصرة ابن أخيه لوط، كما نتأمّل كبر نفسه وتجرّده عند اقتسام المغانم، ونلتقي بملكيصادق، ذلك الكاهن والملك الذي يأتي إلى لقائه حاملاً الخبز والخمر على عادة أهل ذلك الزمان.
أجل، يبدو إبراهيم، رغم كبر سنّه، فارساً من الفرسان المغاوير: أعطاه الله المال والغنى، أعطاه الشجاعة والإقدام وسوف يعطيه ابناً من امرأته سارة. وهكذا، وبفضل الله، اجتمعت فيه كلّ صفات الشيوخ في قبائل الشرق القديم.
2- هذا الخبر الذي نقرأه في هذا الفصل لا يرتبط بأيّ من المراجع اليهوهيّة والألوهيميّة والكهنوتيّة، بل بتقليد تناقلته الأجيال منذ القديم فأخذ به الكاتب الملهم وكيّفه وأدخله في سيرة إبراهيم الذي صار بطلاً من أبطال التاريخ بعد أن حارب ملك شنعار وملك عيلام...
3- قال بعضهم: لا قيمة تاريخيّة لمثل هذا الخبر، إنْ هو إلاَّ تقليد لقصّة قديمة، أو هو من صنع الخيال، فكيف ينتصر رئيس قبيلة صغيرة على أكبر ملوك الشرق الذين دمّروا الممالك العديدة في سرعة مذهلة؟ ولكن يبدو أنّ الخبر قديم جدّاً. فلا يمكن إنكاره. أيكون أنّ الأفواه تناقلته أجيالاً عديدة قبل أن يدوّن ويقحم في سفر التكوين؟ هذا ممكن. ويمكن أيضاً أن يكون مأخوذاً من شعب غريب، ثمّ أدخله الكتاب، كما أدخل غيره من النصوص، إلى تراث شعبه.
4- نقرأ أوّلاً حرب الملوك الأربعة المتحالفين على منطقة كنعان (14: 1- 12)، وثانياً، تدخّل إبراهيم من أجل ابن أخيه ومن معه من المقهورين (14: 13- 16)، وثالثاً، التقاء إبراهيم بملكيصادق (14: 17- 20) الذي باركه، ورابعاً حديثه مع الملك سدوم (14: 21- 24) وكرم أخلاقه في ما يخصّ غنائم الحرب.
5- نلاحظ هنا أنّ الكاتب الملهم يفرّق بين لوط وإبراهيم بعد أن كانا رفيقَين متساويَين وكلاهما من نسل تارح، مع أنّ لوطاً اختار أفضل أرض وأخذها له. فسيستعبده الأعداء، ولولا عمّه لبقي في الأسر أو ربّمَا أصابه سوء. أمّا إبراهيم فسينتصر وينقذ ابن أخيه. لوط سيهرب من مدينة خاطئة بعد أن تعلّق قلبه بها فما شاء أن يتخلّى عنها. أمّا إبراهيم فسينظر إلى سدوم من أعلى الجبل ويتشفعّ إلى الربّ من أجلها. لو بقي لوط مع إبراهيم لرافقته بركة إبراهيم، أمّا وقد شاء الافتراق عنه فكان مصيره أن يكون أبا لشعبَين ولدا من زنى: العمونيّون، والموآبيّون.
6- يذكر النصّ إبراهيم العبرانيّ، أو ابن عابر، وكأنّنا نتعرّف إليه للمرّة الأولى، ثمّ يعدّد الأمكنة فيذكر أسماءها ويفسّر معناها: بالع هي صوعر، غور السديم هو بحر الملح (14: 2- 3)، عين شافاط أو عين الحكم هي قادش (14: 7)، غور شوى هو غور الملك (14: 17). هذه الإشارات جعلت بعض الشرّاح يقولون إنّ الكهنة كتبوا النصّ بعد الجلاء ليبرّروا اجتماع السلطة الكهنوتيّة والسلطة السياسيّة في يد الكهنة (اليعازر هو اسم عبد إبراهيم واسم أحد رؤساء الكهنة خر 6: 23؛ نح 12: 42).
بعد حلّ الكتابات المسماريّة أراد بعض العلماء أن يقابلوا أسماء ملوك الشرق بالأسماء التي نقرأها في هذا الفصل، فقال بعضهم إنّ أمرافل هو حمورابي، وتوعال هو ملك الحثيّين... ولكنّهم لم يتوصّلوا إلى نتيجة تذكر على مستوى الفهم التاريخي.

ب- تفسير الآيات الكتابيّة:
1- حملة الملوك الأربعة (14: 1- 12)
(آ 1) أمرافل ليس حمورابي المعروف، بل أحد ملوك بلاد الرافدَين.
شنعار هي بلاد البابليّين (10: 10؛ 11: 2).
الاسار- إذا كانت لرسة فهي أرض السومريّين. ولكنّ الأصحّ أنّها واقعة بين كركميش وحاران (11: 31). الأم (جوئيم في العبرّية) أيّ الأم الوثنيّة التي لا تعرف ديانة شعب إسرائيل.
عيلام: مملكة شرقيّ بلاد بابل. عاصمتها شوشن (10: 22).
تدعال ملك حثي.
نلاحظ أنّ النصوص التاريخيّة القديمة لا تورد أسماء هؤلاء الملوك.
(آ 2) المدن الخمس (حك 10: 6) المذكورة هنا تؤلف البنتابولة (خمس مدن) الواقعة جنوبيّ البحر الميت (10: 19؛ 18: 22 ي؛ 19: 1 ي؛ تث 29: 22؛ هو 11: 8).
يذكر الكاتب اسم ملك كلّ مدينة ما عدا بالى أي صوعر (13: 10، 19: 22).
(آ 3) هؤلاء كلّهم أي ملوك المدن الخمس (البنتابولة).
بحر الملح هو البحر الميت (عد 34: 3، 12؛ يش 15: 2، 5) ويسمّى أيضاً بحر العربة (تث 3: 17 ي).
(آ 4) كدر لا عومر هو رئيس الملوك المتحالفين بدليل ذكر احمه في المقام الأوّل (آ 5). كيف تمرّدت المدن؟ رفضت أن تدفع الجزية.
(آ 5) الرفائيّون والزوزيّون والايميّون: شعوب من شرقيّ الأردنّ دخلوا في عالم الأسطورة (تث 2: 10- 21). عشتاروت هي عشتاروت قرناييم (عشتاروت صاحبة القرنَين) المذكورة في تث 1: 4، وهي اليوم تلّ عشتار الذي يقع شرقيّ الجليل في حوران. هام: قرب إربد في شرقيّ الأردن.
قريتاييم: جنويىّ الكرك في بلاد موآب.
(آ 6) الحوريّون: شعب غير ساميّ جاء من شماليّ بلاد الرافدَين (تث 2: 12- 22). سكنوا جبل سعير، موطن الأدوميّين، بين البحر الميت وخليج العقبة (36: 20- 30).
إيل الفاران: شجرة فران وهي إيلات على خليج العقبة، أمّا البريّة فهي بريّة فاران.
(آ 7) قادش أي المقدّسة: واحة في الصحراء جنوبيّ بئر سبع (عد 13: 26).
العماليقيون: قبائل بدو في جزيرة سيناء (36: 12- 16؛ خر 17: 8- 16).
الأموريّون (10: 16): الشعوب المقيمة غربيّ الفرات أي الكنعانيّون وغيرهم.
حصاصون تامار: أو عين جدي على الشاطئ الغربيّ للبحر الميت أو مدينة غيرها تقع جنوبيّ غربيّ البحر الميت.
(آ 8- 11) جاء الملوك لإخضاع أتباعهم واستفادوا من هذه المناسبة ليوسعوا سلطاتهم فنزلوا من الفرات إلى الشام ثمّ إلى شرقيّ الأردنّ. لم يستطع الملوك المتمرّدون أن يقفوا بوجه كدر لا عومر وحلفائه الذين انتصروا عليهم وسلبوهم وعادوا يحملون الأموال والغنائم.
هذا من الوجهة الإخباريّة، أمّا من الوجهة التاريخيّة فنحن أمام ملوك أقطار الدنيا الأربعة الذين سيتغلّب عليهم إبراهيم، لا بقوّة سيفه وترسه، بل بقوّة إيمانه فيجتذبهم إلى عبادة الله الحي.
(آ 12) أخذ الملوك، مع من أخذوا من الأسرى، لوطاً ورجاله. ولمّا جاء مَن أخبر إبراهيم بالأمر، عزم على التدخّل الإنقاذ ابن أخيه.
2- تدخّل إبراهيم من أجل لوط (14: 13- 16)
(آ 13) أبرام العبريّ أي ابن عابر. يحدّثنا عنه النصّ وكأنّنا لا نعرفه، كما يحدّثنا عن لوط وكأني به لم يقرأ شيئاً عنه. هذا برهان آخر على أنّنا أمام تقليد آخر غير التقاليد الكتابيّة التي نعرفها.
أشكول (أي العنقود) هو اسم وادٍ تريب من حبرون (عد 13: 23- 24).
عانر: هو أيضاً اسم مدينة (1 أخ 6: 55).
(آ 14) نقرأ في هذه الآية أنّ عدد رجال إبراهيم كانوا 318 رجلاً، وهذا العدد يقابل جمع أحرف اسم اليعازر بالعبرّية. أيكون ذلك مجرّد صدفة، أم أنّ ذكر اسمِ اليعازر يغني عن ذكر المقاتلين. يدلّ هذا العدد في التقليد الشرقيّ المسيحيّ على عدد آباء مجمع نيقيا.
(آ 15- 16) نقرأ هنا خبراً ملحميّاً عن إبراهيم البطل الذي توصّل مع جماعة قليلة وبعض المشايخ المحليّين إلى أن ينتصر على الملوك في دان عند ينابيع الأردنّ، ويتبعهم إلى حوبة، أي شمال الشام، فيخلّص الأسرى ويسترجع جميع المال، ويستعيد ابن أخيه. ونتساءَل: كيف يستطيع رئيس قبيلة صغيرة تتألف من بضعة رجال أن يهزم جيشاً قويّاً مدرَّباً كان قد انتصر على حلف مكوَّن من خمسة ملوك؟
هل استفاد إبراهيم من الليل والعتمة فهاجم بالحيلة مؤخّرة الجيش حيث كانت الأسلاب والمغانم، فاستعادها وخلَص ابن أخيه؟ أيكون الكاتب قد انطلق من عمليّة غزو صغيرة فصوّرها وكأنّها معركة كبيرة مع أعظم ملوك الشرق؟ لا شكّ في أنّ الكاتب يقرأ المستقبل على ضوء الحاضر، فيعلن أنّ الشعب الصغير يغلب الأمّة الكبيرة إن سار على خطى أبيه إبراهيم واتّكل على ربّه. لو عاش شعب الله بحسب شريعة ربّه لما قاسى ذلّ المنفى وعانى عذابات الأسر قي أرض شنعار، أي بابل.
3- إبراهيم وملكيصادق (14: 17- 20)
(آ 17) هنا يبدأ لقاء إبراهيم بالملوك فيمتزج خبران: خبر أوّل تصل فيه بركة ملكيصادق إلى إبراهيم، وخبر ثانٍ يروي لقاء إبراهيم بملك سدوم.
أنكون هنا أمام نائب ملك سدوم بعد أن أخذ الملك إلى الأسر مع سائر ملوك المنطقة؟
وادي الملوك تقع على مقربة صح أورشليم كما يقول المؤرّخ يوسيفوس.
(آ 18- 19) ملكيصادق: الله صادق هو ملك أو ملكي هو صادق (عب 7: 2).
كان ملكيصادق كاهناً وملكاً على مثال الملوك العديدين في الشرق القديم.
شليم أو أورشليم بحسب التقليد اليهوديّ (يش 10: 1؛ مز 76: 3).
الله العليّ: إيل عليون. إيل: اسم الله. عليون: اسم إله في الدين الآرامي والفينيقي. أمّا النصّ (آ 22) فيجعل إيل عليون هو ذاته يهوه، إله إبراهيم وإسرائيل (مز 78: 35). أمّا صفة "العليّ" (عد 24: 16؛ تث 32: 8) فهي تنسب إلى يهوه (مز 47: 3) وإلى الله (مز 57: 3؛ 78: 56).
(آ 20) بارك الملك الكاهن إبراهيم، فقدّم له إبرام العشر (28: 22) من كلّ مما يملك، أي من كلّ غنيمة الحرب، فكان عمله إقراراً بعظمة كهنوت ملكيصادق (عب 7: 4- 7) الذي رأى فيه مز 110: 4 النموذج والمِثال للملك الكاهن الذي اختاره الله على مملكة يهوذا.
جعل الكاتب الملهم إبراهيم يلتقي بملك أورشليم التي ستكون عاصمة داود فأعطى صفة شرعيّة للعلاقات القديمة بين أورشليم وبني إسرائيل. كان حقّ ملكيصادق على إبراهيم، أي إسرائيل، وهكذا سيكون لملك أورشليم ورئيس كهنتها الحقّ في أن يتسلّطوا على كل شعب إسرائيل.
نشير هنا إلى أنّ التقليد المسيحيّ رأى في الخبز والخمر اللذَين يحملهمَا ملكيصادق كذبيحة وتقدمة، صورة مسبقة للقربان المقدس.
4- إبراهيم وملك سدوم (14: 21- 24)
(آ 21) هنا نتابع ما قرأناه في آ 19.
طلب ملك سدوم قسماً من الغنائم، أمّا إبراهيم فأعطاه كلّ شيء سوى ما أكله الرجال المقاتلون.
(آ 22) أرفع يديَّ أي أحلف بالله. أساساً حلف إبراهيم بالله العليّ فقط ثمّ زيدت كلمة يهوه لتجمع بين "يهوه" و"عليون".
(آ 23- 24) هنا يُبان ترفع نفس إبراهيم. هو لم يذهب إلى الغزو ليكون له بعض الربح. فعل كلّ ما فعله من أجل ابن أخيه ومن معه. هنا نلاحظ كيف أنّ التاريخ الواسع صار قصّة عائلة إبراهيم.
ج- ملاحظات:
1- إيل عليون: نقرأ اسم إيل في النصوص الأوغاريتيّة، وهو إله شخصيّ يدخل في أسماء الأماكن (بيت إيل، باب إيل أي بابل) وفي أسماء الأشخاص (إسماعيل، إسرائيل، أليعازر) وعبادته منتشرة عند الآراميين والعرب والآشوريين والبابليّين... هو الأوّل في معابد فينيقيا ونصوص رأس شمرا، والثاني بعد هدد في ديانة الآراميين. كلمة إيل تدلّ على السلطان والقوّة والأولوّية، و بما أنّ هذا المعنى يليق بالإله الواحد الحقيقيّ، فقد أخذ العبرانيّون اسم إيل وجعلوه في أسماء أولادهم: اليعازر أي الله نصرتي وعوني، وإسماعيل أي الله بسمع، إسرائيل أي الله يقاتل، فنوئيل أي وجه الله. (15: 2؛ 16: 11؛ 22: 28؛ 32: 30) وقالوا ان ايل هو إله الآباء (46: 3) وسمَّوا إِلههم الوحيد ألوهيم، وهو جمع يدلّ على الغنى والعظمة.
2- أمّا كلمة عليون وقد ترجمها فيلون الجبيليّ والسبعينيّة اليونانيّة بكلمة "علي" فهي اسم إله فينيقيّ كان والد إيل تبل أن يأخذ إيل مكانه. وكما استعمل العبرانيّون كلمة "إيل" كذلك استعملوا كلمة "عليون" كاسم شخصيّ لله (عد 24: 16؛ تث 32: 8؛ اش 14: 14)، وكصفة تتعلّق باسم الله (مز 78: 34، ألوهيم عليون 47: 3، يهوه عليون). واليهود المتحدّثون باللّغة اليونانيّة سيفصلون كلمة "العليّ" للدّلالة على الله، لأنّها أقرب إلى آذان الوثنيّين من كلمة "يهوه".
إنّ عبارة "إيل عليون" أي الله العليّ، قد طبّقها سفر التكوين على الإله الحقيقيّ، فجعل إبراهيم يرفع يدَيه إلى الربّ العليّ ليتّخذه شاهداً على كلماته (14: 22). ذكر الكتاب اسم إيل وتحاشى ذكر اسم يهوه، لأنّ ملكيصادق ليس إسرائيليّاً. أمّا كلمة يهوه التي نقرأها في آ 22 فليست أصيلة في السفر وقد زيدت في ما بعد، والدليل على ذلك أنّنا لا نجدها لا في السبعينيّة اليونانيّة ولا في السريانيّة البسيطة ولا في النسخة السامريّة. أتكون قد زيدت لتعلن أنّ عليون هو اسم الإله الواحد؟
3- ملكيصادق: نتوقّف في هذه الآيات على شخصيّة ملكيصادق التي أخذت أهميّة كبرى في التقليد اليهوديّ والتقليد المسيحي. جاء ملك شليم إلى لقاء إبراهيم وهو يحمل الخبز والخمر. أتكون شليم قريبة من وادي الملك (2 صم 18: 18)؟ أليست شليم هي أورشليم ذاتها، كما يقول التقليد اليهوديّ؟ والمزمور 110، وهو قديم جدّاً، يشبّه ملكيصادق بالملك الجالس في صهيون، أي تلك الهضبة التي احتلّها داود فصارت مكان إقامته. في مز 76: 3 نقرأ أنّ شليم هي صهيون، وشليم هي تصغير أورشليم التي تذكرها نصوص تلّ العمارنة.
ملكيصادق اسم كنعانيّ (مثل أدونيصادق، أي سيدي عادل. يش 10: 1) ومعناه ملكي صادق وعادل. ولكنّ صادق هو اسم إله عند الفينيقيّين وأهل سبأ، وهكذا يصبح المعنى صادق ملكي. أمّا شليم فهو اسم إله فينيقيّ أيضاً. فنصوص رأس شمرا تتحدّث عن ولادة الإله شليم، والكتابات المسماريّة (القرن التاسع عشر والعشرون ق. م.) تذكر بعض الاسماء المركّبة من الإله شليم "أبو شليم" (الأب هو شليم)، إيلي شليم (إلهي هو شليم). ولا ننسَ سليمان (شلمه في العبريّة) الحكيم وأبشالوم ابن داود. هذا ما يقوله علم الاشتقاق، أمّا الكتاب المقدّس فلا يقول إنّ ملكيصادق هو كاهن "شليم" (الإله) بل كاهن "إيل عليون"، أي الله العليّ.
يعتبر البعض أنّ ملكيصادق عبد الله الواحد، ولكنّ الكتاب لا يذكر شيئاً من هذا. كلّ ما نعرفه هو أنّ ملكيصادق قدّم الخبز والخمر على عادة أهل فينيقيا وبابل، وسيشترك إبراهيم في هذه التقدمة أمام إيل، إله الكنعانيّين. هذا الانفتاح على الديانة الكنعانيّة لا نقرأه في نصّ آخر من نصوص الكتاب المقدّس، ولقد ذهب بعض التقاليد اليهوديّة إلى إغفال ذكر ملكيصادق وكهنوته. أمّا التقليد المسيحيّ فسيدخل في عمق النصّ ليرى في هذا الحدث لقاء بين الديانة اليهوديّة والديانة الكنعانيّة على مثال اللقاء الذي سيجمع في شخص المسيح، اليهود والأم الوثنيّة ليجعل من الاثنَين واحداً.
يبدو ملكيصادق ملكاً وكاهناً على عادة الملوك الأقدمين الذين جمعوا بين السلطة الدينيّة والسلطة المدنيّة (مثل داود 2صم 6: 13- 19). غير أنّ الكهنة لن يسمحوا للملوك بالقيام بالوظائف المقدّسة، ونجد صدىً لذلك في الكلام الذي قاله صموئيل لشاول الذي قرّب الذبيحة إلى الله: "إنّك بحماقة فعلت حيث لم تحفظ وصيّة الربّ إلهك" (1 صم 13: 13).
جاء ملكيصادق بالخبز والخمر ليستقبل إبراهيم وصحبه، ويعطيهم طعاماً يستعيدون به قواهم وشراباً يفرحون به، ولكنّه أظهر كرَماً وسخاءً فائقَين إذ لم يقدّم الماء على عادة أهل ذلك الزمان، بل الخمر بدل الماء. هذا ما فعله ملكيصادق الملك، أمّا ملكيصادق الكاهن فبارك إبراهيم وقدّم باسمه فعل شكر لله العليّ. إنّ في هذا المشهد لَعظةً لكلّ مؤمن في إسرائيل. يستقبل هذا الملك إبراهيم بكلّ إكرام فيعبّر إبراهيم عن تقواه وسخائه عندما يقدّم العُشر من كلّ شيء. وهكذا، عندما يحمل العبرانيّ عشوره إلى الهيكل كان يتذكّر أنَ أبا شعبه قام بواجب مماثل في مكان قريب من المدينة المقدّسة (تث 12: 11؛ 14: 22- 27).
أمّا التقليد المسيحيّ فقد توسعّ في كهنوت المسيح منطلقاً من كهنوت ملكيصادق فقالت عب 7: 15: قام كاهن آخر على رتبة ملكيصادق، قام لا بشريعة بشريّة بل بقوّة حياة لا تزول. ورأى اكلمنضوس الإسكندريّ في الخبز والخمر رمزاً إلى الافخارستيّا. أمّا القدّيس قبريانوس فاعتبر تقدمة ملكيصادق ذبيحة حقّة على مثال ذبيحة الافخارستيا. وقال أمبروسيوس الميلانيّ إنّ شخص ابن الله بالذات تراءى من خلال ملكيصادق

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM