الكتاب الأول: بداية الكون والإنسان

الكتاب الأول
بداية الكون والإنسان
( ف 1 – 11 )






1- قلنا في المقدّمة إن سفر التكوين كتّابان. كتاب أوّل يمتدّ على الفصول الأحد عشر الأولى، وكتاب ثانٍ يشتمل على الفصول 12- 50.
أمّا الكتاب الأوّل الذي سنقرأه الآن فيتكوّن من ثلاثة أقسام. قسم أوّل (ف 1- 5) ينقل القارئ من الخلق إلى الطوفان، وقسم ثاني (ف 6- 9) يجعلنا نعيش حدث الطوفان وتأثيره على البشريّة، وقسم ثالث (ف 10- 11) يوصلنا إلى إبراهيم خليل الله وحامل الوعد له ولأبنائه المؤمنين من بعده.
2- إن الكتاب الأوّل الذي اتّخذ موادّه من المرجعَين اليهوهيّ والكهنوتي يحدّثنا عن خلق الكون والسقطة الأولى وخطيئة قايين وانتشار البشريّة في الأرض، تم يخبرنا عن تكاثر الخطيئة في العالم ممّا أغضب الله فافنى جميع الناس في الطوفان ما عدا نوحاً وعائلته. ويتكاثر الناس من جديد ويعودون إلى الخطيئة المتمثلة ببرج بابل، فيشتّتهم الله ويختار منهم إبراهيم أساساً لشعبٍ سيولد منه المسيح الذي يجمع في الوحدة أبناء الله المشتّتين، (يو 11: 52) وحدة أساسها محبة الله والخضوع له.
3- تعوَّد النفاد أن يسموا الفصول الأولى من سفر التكوين "تاريخ البدايات" ولكن هذه التسمية لا تني بالمراد، لأن ما نقرأه في هذه الفصول ليس تاريخاً بالمعنى الحديث لكلمة تاريخ. فما ترويه الكتب المقدّسة ليس مجموعة من التقارير يبعث بها المراسلون ولا محاضر لجلسات الملوك ووزرائهم، بل أخبار تناقلها الناس من أقدم العصور، وربط الكاتب الملهم بين عناصرها. لهذا فمن يبحث في هذه النصوص عن معلومات تتعلّق ببداية الكون وظهور الإنسان على الأرض لن يجد فيها الجواب الشافي، لأن الكتاب المقدّس لا يتوخى إعطاءنا دروساّ في علم التاريخ. كل ما سنكتشفه هو طريقة المؤمن في تفهم الأحداث على ضوء كلمة الله وحضوره وسط شعبه.
4- "تاريخ البدايات" هو المدخل الضروريّ لتاريخ الآباء، بل للتوراة كلّها. أراد الكاتب أن يتحدّث عن دور إبراهيم في تاريخ الخلاص فأجبر على التساؤل عن حالة البشريّة ليصل إلى نداء الله لإبراهيم واختياره له. وأراد أن يكتب تاريخ شعبه منذ عبور البحر الأحمر إلى الإقامة في كنعان لكي يعبّر عن إيمانه، فجعل هذه المقدّمة مفتاحاً يدخل فيه إلى حرم إله العهد الذي لا يتخفى عن أحبّائه.
5- لم يكن في حوزة الكاتب أفي مرجع تاريخي. وما روايته إلاّ محاولة جريئة ليفسّر تفسيراّ لاهوتيّاً حالة البشريّة البعيدة عن الله. أجل، لم ينطلق الكاتب من الماضي ليفسّر الحاضر، بل انطلق من الحاضر ليفسّر الماضي على ضوء وحي الله إلى شعبه. إنطلق من عالم الشر الذي تتخبّط فيه البشريّة فحاول أن يجد حلاً لحالة كون خلقه الله صالحاً. ولهذا كتب ما كتب ففرض علينا أن نقرأ النصوص من وجهة نظر وجوديّة لا من وجهة تاريخيّة، فالله أحث شعبه رغم خطيئته وهو يحث جميع البشر رغم الخطيئة التي رافقتهم منذ ولادتهم. وكما جعل أرض كنعان مسكناً لأبناء شعبه يعيشون فيها برخاء وسلام، هكذا جعل المسكونة كلّها فردوساً للناس أجمعين يعيشون فيه برفقة الله خاضعين له.
6- وتساءل النقّاد: هل يستند تاريخ البدايات هذا إلى "وحي أوّلي" ابتداءً بآدم وتناقلته الأجيال حتى وصل إلى إبراهيم وشعب إسرائيل. هذا الافتراض مستبعد، لأن عمر البشريّة يزيد على نصف مليون سنة. كما أنّه من العبث أن نبحث عن مصدر لتاريخ البدايات في وحي أوّلي. إنّما يجب أن نتطلّع إلى المحيط الذي كتبت فيه هذه الكتابات. لقد واجه المفكرون اليهود حالة البشريّة الصعبة وفكروا في الشقاء الذي يتخبط فيه معاصروهم فشعروا بالقلق. لكن روح الرب أنارهم ووجههم فعادوا إلى الذكريات التي تناقلها الناس جيلا بعد جيل وانطلقوا منها، فصاغوا تعليماً يصلح أن يكون بداية لعلاقة الإنسان بالله بل بداية للكون والتاريخ.
7- ونتساءل عن علاقة الوحي الإلهيّ بالتاريخ البشري فنقول إن الفصول الأحد عشر الأولى كتبت في زمن متأخر. لا شك في أن هنالك تقاليد تكوّنت على عهد موسى وتناقلها الناس شفهيّا أو كتابة، ولكنّها وضعت نهائيّاً في الكتاب المقدّس بتأثير من تعليم الأنبياء والحكماء. إن اليهود اختبروا الله في بادئ الأمر مخلصاً قبل أن يكتشفوه خالقاً. إختبروا عمله في حياة الآباء وخلاصه لهم (الخروج) من العبودية قبل أن يختبروا عمله في العالم. وهذا يدلّنا على أن الوحي دخل في حياة الناس بطريقة تدريجية، وتكيّف مع الأفراد والجماعات بحسب مستواهم الروحي واستعدادهم الديني. إن الله أوحى بذاته إلى إبراهيم وموسى، لكن مضمون وحيه تنوّع بحسب إمكانيّات كل منهم وانفتاحه، وكشف عن حقيقته إلى الناس بطرق عديدة وأشكال متنوّعة، ولهذا تكلّمنا عن التقاليد التي يرتكز عليها سفر التكوين. أراد كل تقليد أن يجد جواباً لمشكلة الحياة في المحيط الذي تكوّن فيه، وعلى هَدْي الروح الذي ما برح يعمل في المؤمنين، فجعلنا أمام اختبارات دينيّة متنوّعة ظهرت بين القرن العاشر والقرن السادس ق. م. ونحن المسيحيّين إذ نقرأ هذه الاختبارات لن نجد تاريخاً حدث منذ نصف مليون سنة وانتقل إلينا من الإنسان الأوّل حتى إبراهيم وموسى واستقر في شعب الله، بل نختبر ما اختبره شعب الله فنفكر في مشكلة الحياة. نحن لا نرجع إلى الماضي السحيق فنبحث فيه عن أسباب الخطيئة، بل ننطلق من الحاضر لنعيش عهداً قطعه الربّ معنا في يسوع المسيح، فنتغلّب به ومعه على الشرّ والخطيئة والألم والموت

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM