يسوع الربّ والمخلّص مع القديس لوقا: تجارب يسوع

تجارب يسوع
4: 1- 13

إقتاده الروح في البرية، أربعين يوماً، وإبليس يجرّبه.
جعل لوقا سلسلة نسب يسوع بعد عماده. فالذي أعلنه الأب ابن الله هو أيضاً ابن الإنسان. يبدأ نسب يسوع بيوسف وينتهي بآدم. وهدفت التجربة إلى إيضاح هوية يسوع: إنه في الوقت عينه ابن الإنسان وابن الله.
فموضوع البرية، والرقم اربعين (أقام العبرانيون أربعين سنة في البرية، وموسى أربعين يوماً على الجبل) والمواجهة بين يسوع والشيطان. كل هذا قد وُضع في إطار يذكّرنا بسفر الخروج. والاستشهادات الكتابية الثلاثة التي أوردها يسوع قد أخذت من سفر التثنية الذي هو إعادة تفسير لسفر الخروج. إذن، نستطيع أن نعتبر أن يسوع يظهر هنا كإسرائيل الجديد، هذا الإبن الذي اختاره الله من بين كل الشعوب.
وأعلنه العماد ابنه الحبيب. إسرائيل فشل. ويسوع، كيف سيوصل العهد إلى كماله؟ ولكن عبر الإستشهادات البيبلية، فالتجربة تتوجّه إلى كل انسان. فيسوع قام بخيارات تتحدّى كل واحد منّا في حياته الملموسة تجاه الله، تجاه الذات، تجاه الآخرين. فالتجارب الثلاث تغطي عالم الإنسان بوجهاته المثلّثة: النظام الإقتصادي، النظام السياسي، النظام الديني. فكل تجربة تحدّثنا عن الخيار الذي قام به يسوع في بداية رسالته. وتتوضّح هذه التجارب بالوضع التاريخي الذي عرفه القرن الأول، كما أنها تلقي بضوئها على كل مراحل التاريخ.
أن يجوع الإنسان بعد أربعين يوماً من الصوم، ليس بالأمر المدهش. لقد أبرز لوقا هذا النقص الكبير الذي جعل فيه يسوع نفسه، وقدّمه لنا كرجل رغبات. وساعة بدت الحاجة الى الطعام ملحّة، أخّر اشباع هذه الحاجة. لماذا؟ لأنه رفض أن يحدّد موقعه خارج الوضع البشري: إنه هنا كانسان. إنه ككل كائن مائتٍ يخضع لمتطلّبات الطبيعة التي تريد أن يكون الخبز خبزاً والحجر حجراً. ولكنه في الوقت عينه شاهدٌ لجوع آخر: إنه انسان طعام اخر، إنسان رغبة (يختلف عن إسرائيل الذي عصى الرب في البرية) يريد أن يحيا من كلمة الله. أورد يسوع الكتب وسار بهديها. ضار ابن الله الطائع للآب والسامع له.
والنظر إلى ممالك الأرض كما تصوّره التجربة الثانية، يرمز الى انغماس كل رغبات الإنسان في السلطة السياسية. فالسجود أمام الشيطان يعني التخلّي عن العهد الذي قدّمه إله الخروج. هنا، يحلّ إله السلطة السياسية مع كل ما فيه من سحر وفتنة، محلّ الإله السامي. ويعود يسوع إلى سفر التثنية فيؤكّد على تسامي الله. فالكتاب المقدس هو في نظره المنارة التي تشير إلى الله وإلى حريته التي لا يتوقّعها إنسان.
والتجربة الثالثة تحمل تعبيراً مهماً لكل يهودي، وسحراً ليسوع نفسه. ما يعرض عليه هو حق من حقوقه. إنه الكلمة الأخيرة التي يرسلها الله إلى شعبه. وفي هذا المعنى، ظهوره على قمة الهيكل هو ذروة الوحي. فالله قد أسكن اسمه في أورشليم وفي الهيكل. وهناك ينتظر الإعتراف به. ويسوع هو في المكان الذي يحق له. ومع ذلك فهو يرفض التجربة.
هناك ثلاثة اسباب: هذا هو المكان المهيأ له. ولكن لا بهذه الطريقة، ولا بهذا الوسيط، ولا في تلك اللحظة. فالاعتراف بيسوع لا يتمّ إلا في حرية الانسان: فيسوع يحترم الانسان ولا يريد ان يفرض نفسه عليه بالاكراه. إذن، يفترض الاعتراف بيسوع الوقت الكافي مع ما يجرّه هذا الانتظار من تعثر وخطر. يريد يسوع ان يكون انساناً، ولهذا فهو يسجّل كرازته في الزمن. وأورشليم وهيكلها سيكونان موضع المواجهة الحاسمة: سيدخل يسوع إلى أورشليم دخولاً ظاهراً ويطرد الباعة من الهيكل. في النهاية، الآب وحده هو الذي يحدّد الزمن المؤاتي.
هذا المشهد يحدّد من هو الله، ومن هو يسوع ومن هو الانسان. الله هو موضوع الصراع بين المجرّب ويسوع. أراد الشيطان أن يجعله الله حاضراً بشكل مباشر وشفّاف، بناء على طلب الانسان. أما يسوع فأعلن أنه رجل الله، وامتنع أن "يستغل" الله، فأكّد على حضوره في السماع والطاعة له.
وهكذا بدا يسوع كالابن الحقيقي. ذلك الذي يصغي إلى الآب بكمال يجعله ذاك الذي يرضى عنه الله. والانسان مدعو لكي يرى في نفسه ذاك الكائن العظيم، كائن الرغبات، ذاك الذي يعمل في طاعة تامة. هذا ما يعّلمنا إياه الابن، ونحن مدعوون للسماع له.
"إن كنت ابن الله فمر هذا الحجر بأن يتحوّل إلى خبز". ويسوع عبرّ هو إيضاً عن هذه الحاجة الأولى لدى الانسان: حاجته الى الخبز ليعيش. جوع حيويّ سيصبح حالاً حاجة إلى الامتلاك، حاجة إلى تأمين المستقبل. وحينئذ تبرز التجربة والفخ: أن نكدّس الخيارت، والغنى، أن نكتفي باشباع جوعنا الأرضي، وطمأنيناتنا المباشرة. مثل هذه التجربة تخنق كل روح مجانية ومقاسمة. تخنق كل انفتاح على غنى القلب والعلاقات البشرية وعطايا الله.
فيسوع يعرف أن الله المتسامي وحده يستطيع ان يشبع جوعنا الى المطلق. "لا يحيا الانسان بالخبز وحده، بل بكلمة الحياة الاتية من عند الله".
"إن كنت ابن الله، ألق بنفسك من أعلى الهيكل، فيدهش الناس ويؤمنوا بك". هي رغبة (أو حاجة) شرعية بأن ننجح ويعرف الناس فضلنا. وحينئذ تبرز تجربة أخرى: ان نحسب نفوسنا المحور المطلق وقلب العالم. هذه هي عبادة الذات التي تحلّ محل الله المطلق.
كان باستطاعة يسوع أن يستعمل سلطته ومواهبه، لا من أجل نفسه، بل لينجح في رسالته فيسحر الناس بهالة المعلّم القدير. وقد تكون هذه التجربة لامسته في ساعات الفشل المرير!
ولكن يسوع الذي يحترم حرية الانسان قد رفض هذه التجربة "الشيطانية" التي تجعله "يستخدم" كلمة الله، ويحصر الديانة في الأمور المدهشة. مثل هذا التصّرف هو تحدّ لله: "لا تجرّب الرب الهك".
إن النجاح في الرسالة لا يكون نتيجة "دعاية" منظمة تستغلّ الحاجة الدينية عند الناس، ولا نتيجة كنيسة تتمتّع بقوة زمنية، بل ثمرة حبّ يعطي ذاته ولا يفرض نفسه على أحد.
هذه التجارب الشيطانية الثلاث تعبرّ عن صراع متواصل عرفه يسوع خلال حياته. دفعه الروح وهو الانسان الفقير وعابد الله، فرفض باسمنا كل الفخاخ التي تدّمرنا كأناس وكأبناء الله. إن فصحه حرّرنا من حتمية هذه التجارب التي تقود إلى الموت.
نشكرك ايها الله الآب من أجل ابنك يسوع. فيه وضعت حبك، فردّ بأمانته على الحبّ بالحبّ. كانت حياته على الارض أمانة لإرادتك المحبة. وكانت آلامه أمانة لغرامك بالبشر. وكانت قيامته جواباً على هذه الامانة.
نحن نؤمن أن الانسان لا يحيا بالخبز وحده. ونريد أن نعبدك ولا نعبد غيرك. ولكنك تعرف ضعفنا، فرافق مسيرتنا حتى نصل اليك يا ربنا والهنا لك المجد إلى الأبد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM