الحقيقة كلها
16: 12- 15
متى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كلّه.
الله سرّ، والانسان لا يستطيع أن يتحدّث عنه إلاّ ويتعلثم. إنه كالطفل في أول كلمات يتلفّظ بها. والذي يهتمّ بتاريخ الديانات يكتشف الوجوه المتعدّدة التي ألبسها البشر للاهوت. بصورة عامة، تمثّل الانسانُ الله انطلاقاً من نفسه. وهناك قول معروف: "خلق الله الانسان على صورته فرّد له الانسان "الجميل" (أي صوّره على شكله)،
إن اليهود والمسيحيين يفسرّون النصوص الكتابية على أنها كشف بطيء لله، الذي إختار أن يعرّف عن ذاته في سرّه. وخبرة سيناء تشكّل نقطة إنطلاق لهذا الكشف والتعريف. "أنا هو الذي هو". كشف الله لموسى أنه من العبث البحث عنه في السطر (عالم الميتولوجيا) والطبيعة، والقدسيات، والمعابد الوثنية. الله يعبرّ عن نفسه في تاريخ شعبه.
ويسوع هو الذروة في كشف الله عن نفسه. جاء من الله وهو "الكلمة الذي صار بشراً". وهو "الطريق الحق والحياة". يسوع هو صورة الله ويدلّ عليه في تعليمه وممارسته. في حياته وموته. قال: "من رآني رأى الآب".
قال يسوع عن الله كل ما استطاع التلاميذ أن يسمعوه. والموت والقيامة هما الصرخة الأخيرة التي يرسلها الله الى الانسان بواسطة يسوع. ومع ذلك فالتلاميذ لا يستطيعون أن يفهموا سرّ إله يسوع فهماً تاماً، لأنهم من لحم ودم، لأنهم ضعفاء أمام هجمة الله على الأرض في شخص يسوع. لهذا، حين ذهب يسوع، ترك الروح يكمّل المسيرة، تركه يُفهم المؤمنين معنى ما حدث. فالروح يفعل ما كان يفعله الله في الميثاق القديم: "يقود المؤمن إلى الحقيقة" (مز 25: 5).
وهذا التوجّه إلى الحقيقة ليس مجرّد معرفة. إنه فهم وجودي وحياتي للإنجيل. وهذه المهمة تفتح طرق المغامرة أمام المسيحيين الذين يفسرّون هذه الحقيقة في حياتهم وفي تعليمهم. هنا نتذكّر فيلبس، أحد السبعة، الذي قاده الروح، فعلّم وزير ملكة الحبشة كيف يقرأ أش 53: 7- 8 ويطبّقه على يسوع.
ويعلّمنا الروح بما يأتي، لا حين ينبىء بالمستقبل أو يحمل وحياً جديداً لا يفيد الكنيسة بعد ذهاب يسوع. بل هو ينير الوحي الجديد بواسطة سرّ يسوع. وفي النهاية، يتابع الروح ما بدأه يسوع: يكشف للبشر سرّ الله. بما أن يسوع هو الكلمة الأخيرة التي أرسلها الله إلى البشر، فهو يحتاج إلى الروح "ليترجم" له كلامه، وليقود تلاميذه إلى الحقيقة كلها، الى حقيقة الله الكاملة.
تعلّم المسيحيون الأولون من يسوع وساروا حسب إرادته، فتوجّهوا في صلاتهم إلى الله على أنه أب. هو أب يسوع وأبوهم أيضاً. أرادوا أن يمشوا كل يوم مع يسوع الذي هو حيّ دائماً وينفحهم بحياته. وأحسّوا أن الروح القدس، نسمة الله المحرتة، قد حوّلهم وساندهم. هذا ما قاله بولس الرسول: "أفيضت محبة الله في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا".
وهكذا أخذوا شيثاً فشيئاً يتحدّثون عن الله الواحد المثلّث القداسة، عن الثالوث الأقدس. لم يستسلموا إلى نظريات مجرّدة عن اللاهوت، بل ساروا في خطى المسيح فاكتشفوا حنان الرب ورحمته، الحبّ الأخوي في قلب الابن الوحيد يسوع المسيح، القوة والنور في روح الآب والابن، في الروح القدس.
وهكذا توصّلوا بشكل من الأشكال إلى رؤية الله، كما طلب الرسول فيلبس من يسوع (أرنا الآب وحسبنا). رأوه لا بعين الجسد، بل رأوا قلبه في قلب المسيح، وتعرّفوا إليه في وجوه إخوتهم وقلوبهم. فرؤية الله تعني في النهاية اكتشافه كإله المحبة. والحب ليس وحيداً. ليس منعزلاً. إنه يحتاج إلى تبادل وعطاء. ففي الله، يعيش الآب والابن والروح تبادل حبّ متواصلاً. يحبّ الواحد الآخر، ويحبوننا حبًّا واحداً. "أنظرا أن حبٍّ أحبّنا به الآب". هذا ما أعلن يوحنا في رسالته، وقلبه مفعم بالفرح والدهشة أمام هذا السرّ العظيم.
حين نعيّد الثالوث الأقدس، نعلن أن الله يحبّنا. قال القديس بولس: "إفتخارنا هو أننا نرجو أن نرى مجد إلهنا". أي نرجو أن نشارك الثالوث الاقدس في حياة المحبة. ويزيد الرسول بشكل مفارقة: "والضيق أيضاً يشكّل افتخارنا". الضيق هو ضعفنا (عدم إمكانية)، هو وجهة الفشل عندنا، هو الألم الذي نجده في حياتنا والذي يحوّله الإيمان إلى مشاركة في صليب المسيح. "فالضيق ينتج الصبر، والصبر يلد الاختبار، والاختبار يلد الرجاء".
الحب والإيمان والرجاء. هذا هو "الثالوث" اليومي الذي يجب أن يعيشه كل واحد منّا. لنفرح أننا تقبّلنا حبّ الآب، والإيمان بيسوع ابن الله الوحيد ومخلصنا، والرجاء الذي يحيينا بقوة الروح القدس. هكذا نسير نحو الحقيقة كلها.
ما نحن أحببنا الله، بل هو أحبّنا أولاً. تجاه حبّك السابق لحبنا، نكتشف أيها الآب رفضنا وتراخينا. أحبّ يسوع خاصته، أحبّهم منتهى الحبّ (حتى الموت). أيها الرب يسوع، أمام حبّك الجنوني نكتشف أنانيتنا ولامبالاتنا. عندما يأتي روح الحق يقودكم إلى الحق كله. تجاه حبك المنتثر في كل إنسان، نكتشف، أيها الروح القدس، أننا لا نعرف التسامح وقبول الآخر. فيا أيها الإله الذي لا حدّ لحبّه، إغفر خطايانا ووجّه مسيرتنا إلى الحياة الأبدية.