يسوع كلمة الله مع القديس يوحنا : الطعام الحقيقي
 

 

الطعام الحقيقي
6: 62- 58

جسدي هو القوت الحقيقي، ودمي هو الشراب الحقيقي.
أعلن يسوع قال: "أنا الخبز الحي... من يأكلني لا يموت". فاحتجّ الجمع مرّة ثانية: كيف يستطيع أن يعطينا جسده لنأكله؟ أجاب يسوع أنه يجب أن نفهم كلامه على حرفيته، في معنى واقعي. "إن لم تأكلوا جسد إبن الانسان وإن لم تشربوا دمه، فلا تكون فيكم الحياة". هذا واضح: إذا أردنا أن نحيا إلى الأبد لكي نقوم، علينا أن نأكل من هذا الخبز.
تكلّم يسوع عن خبز الكلمة. وها هو ينتقل الآن إلى الطعام "الحقيقي". يجب أن "نمضغ" هذا "اللحم". يجب أن "نقرشه"، نلتهمه. هي صورة واقعية لا نجدها إلاّ في هذا المقطع. لسنا أمام رمز، بل أمام طعام إفخارستي. يتحدّث يسوع عن لحمه ودمه. الجسد هو الانسان كلّه في كيانه المادي والروحي. أما "اللحم والدم" فهما الوجهة المائتة في الانسان. وحين نفصل الدم بوضوح، نلمّح إلى مقتل يسوع، إلى دمه المسفوك والمراق: حين نأكل اللحم ونشرب الدم، ندخل في موت المسيح.
وهكذا نصير بشكل من الأشكال قبر يسوع. وعند ذلك نتفرّد بالحكم عليه بالموت. هنا نفهم ردّة الفعل لدى سامعين عديدين انصدموا فابتعدوا عنه. ومنذ الآن هم يجادلون بعنف. لا نظن أنهم يخافون من أفكار "أكلة لحوم البشر"! ولكنهم دهشوا حين سمعوا أننا نستطيع أن نغتذي مما هو زائل ومائت. ومع ذلك، هذا هو الطعام الحقيقي: لا نتلذّذ في أفكار مريضة، بل نعطي حياتنا بشكل ملموس مع طبيعتنا الضعيفة. هذه هي الوسيلة، لكي "نثبت" في المسيح، ونسكن دوماً في حضرته. نحن نشابه المسيح في موته لنحيا في قيامته. وإلاّ، فلا نفع من جسده ودمه.
ويتابع النصّ: "الجسد لا يفيد سيئاً، أما الروح فيحيي" (آ 32). فاللحم والدم ليسا بشيء من دون قدرة الحياة هذه التي تربط المسيح بأصدقائه وتعطي جسده طعم الخبز وطعم الأبد. ولقد وعى يسوع عظمة ما يقول، ولكن عليه أن يقوله لئلا يكون بجانب الحياة الحقة لا في داخلها. منذ البداية اتهموه بأن أفكاره أرضية؛ ولكن كيف لا يكون ذلك وهو الذي يريد أن يرفع قيمة كل ما يصنع حياة البشر. فالافخارستيا، هذا الطعام الروحي، تتسجّل في منطق الخبز. يجب أن نعيش "عبر" المسيح. إن حياة الله تخترقنا من جهة إلى جهة. والافخارستيا هي بعثة وإرسال. لقد أرسل الآب ابنه ليكلّمنا عن الحياة، عن الوجود.
ويذكر يسوع مرّة أخرى أن الآباء ماتوا بعدما أكلوا المنّ. هذا لم يمنعهم من أن يموتوا. فالشهوة أغلقتهم على ذاتهم. والطعام الحقيقي هو هذا الفرح بأن ندعى إلى مائدة الحكمة وأن نتذوّق لذة الحياة معها. ولكن الكارثة تظهر حين نستسلم إلى ملذّات الجسد. يجب أن نكتشف فرح الروح. إن الطعام والشراب هما حقيقتان من الحياة اليومية بحيث لا يفلت منهما مجال من مجالات حياتنا. فالذي يدخل فينا هو الذي يقوّينا.
الحياة، عاش. كلمتان تملآن سطور الكتب وعناوين المجلات. ونجدهما في الأناجيل. فيسوع هو أيضاً يكلّمنا عن الحياة. بل يقدّم نفسه على أنه الحياة وملء الحياة. هذا التعليم وهذا الوحي يملآن إنجيل يوحنا.
الحياة سرّ. نستطيع أن ننميها أو نخنقها، ننقلها أو نلغيها. ولكننا لا نستطيع أن "نفبركها". هي تُعطى لنا عطاء. ومن هذا القبيل هي تتجاوزنا وتفلت من أيدينا إلى كل جهة.
الحياة فينا هي دينامية لا تُقاوم. ونحن نتمسّك بالحياة. ماذا نفعل لكي نحافظ عليها، لكي نحافظ على صحتنا! ومع ذلك، يجب علينا أن نموت، أن نترك هذه الحياة. كلا! فيسوع يخبرنا بقوة القيامة، وهو يبدّل مسيرة الموت بحيث نعلن في صلواتنا: "بالنسبة إلى المؤمنين بك، يا رب، الحياة لا تتدمّر بل تتحوّل".
وكشف لنا يسوع في تعليمه عن الخبز الحي شروط ووجهات سرّ الحياة هذا الذي لا يدمّر. وقدّم لنا البرهان التالي:
- إذا أردنا أن نبقى على قيد الحياة، يجب أن نأكل ونشرب. هذا ما نعرفه. ولكننا نعرف أيضاً أن الطعام لا يحفظنا من الموت.
- ويجيبنا يسوع: إنه يقدّم لنا بنفسه طعاماً وشراباً للحياة الأبدية. بل هو بنفسه ذاك الطعام وذاك الشراب.
- بعد هذا، حين نأكل جسده ونشرب دمه يثبت فينا ونحن فيه. وحضوره فينا هو منذ الآن حياة أبدية.
ويلجأ يسوع إلى عبارات تصدمنا وتثيرنا: هضم الطعام والشراب. نستطيع أن نستخرج النتائج. ولكن نلاحظ أن سرّ حضور المسيح الحقيقي فينا يتجاوز نواميس الطبيعة. لهذا نشير إلى هذا الاختلاف الكبير: إن الاطعمة التي نأكلها تتحوّل، تخسر واقعها الخاص. تهُضم فينا. تصبح خلايا ودماً فينا. أما الأسرار المقدسة (الخبز والخمر في الافخارستيا) فتحوّلنا إلى جسد المسيح الكنسي: إن يسوع الطعام يحوّلنا إليه وليس العكس.
وهناك استنتاج آخر: بهذا الاتحاد الحميم بين المسيح والمسيحيين، نكوّن كلّنا جسداً واحداً معه. هو الرأس ونحن الأعضاء. وهذا يظهر بصورة خاصّة حين نلتئم في جماعة: يربطنا يسوع به، وبعضنا ببعض، وهكذا يبني جسده السري، وينعشنا بروحه الذي يُعطى لنا في إعلان الكلمة والتأمّل فيها ونقلها إلى الشعب المسيحي. ولذا نسمع نداء الرسل في جماعاتنا وخارجاً عنها، لكي نشكر الله على الحياة التي فينا ونثبت لا ذاك الذي هو الحياة.
أيها الرب إلهنا. تدعونا الحكمة اليوم إلى أن نأكل من الخبز ونشرب من الخمر اللذين هيأتهما لنا. أفهمنا بروحك أن طعامنا الأول هو كلمة يسوع، الكلمة الذي تجسّد في بشريّتنا، الكلمة الذي أعطى ذاته لنا حتى النقطة الأخيرة من دمه. فنسألك أن تدخلنا في سر ابنك أنت الذي تحبنا الآن والى الأبد.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM