إنجيل يوحنا: كتاب الالآم والمجد : من الأزمة إلى النور والغلبة

     
من الأزمة إلى النور والغلبة
16: 25- 33

الآب يحبكم لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من الله خرجت.
جاءت الساعة مع زمن تمجيد يسوع الذي يتميّز بأنه زمن الروح. منذ الآن سينعم التلاميذ بامتياز خاص وهو بأن يستجيبهم الآب وأن يفهموا سرّ هوية يسوع. فمع الموت والقيامة، دخل التلاميذ في زمن الحياة الحميمة مع الله بفضل الروح (رج أف 2: 18: إلى أي رجاء دعاكم، وأي كنوز مجد جعلها لكم ميراثاً). فالإعلان الواضح من الآب لا يعني الإقامة النهائية في اليقين الذي لا يخامره شكّ والنور الذي لا يعتريه ظلام. فبالروح يدخل المؤمنون في خطّ التجسّد. وهذا الخط يجمله يسوع في ختام كلامه، في آ 28: جاء من الله وأقام علاقة مع البشر. وهو يعود إلى الله فيصحّح علاقة البشر مع الله. "خرجت من عند الآب وجئت إلى العالم. والآن أترك العالم وأذهب إلى الآب".
وأعلن التلاميذ إيمانهم بكلام شبيه بكلام القديس بطرس بعد خطبة خبز الحياة. قال بطرس في 6: 69: "نحن آمنا بك وعرفنا أنك أنت المسيح إبن الله الحي". وهنا دلّ يسوع على أنه حامل معرفة فائقة الطبيعة، ففال له التلاميذ: "لذلك نؤمن بأنك جئت من عند الله، (16: 30). ولكن يسوع لم يُؤخذ بهذا الحماس. فهو يعلن أن التلاميذ سوف يتشتّتون قريباً، سيتخلّون عن معلّمهم. هذا ما نجده أيضاً في الأناجيل الإزائية. ففي مر 14: 27 يقول يسوع لتلاميذه: "ستتركوني كلّكم في هذه الليلة". ولكن ما يعوّض عزلة يسوع هو حضور الآب المستمرّ، حضوره على ابنه في زمن الآلام كله.
وينتهي ف 16 بإعلان سيادة يسوع وسلطته التي لا تغلب. فنحن نقرأ في آ 33 عبارة موجزة تؤكّد على الضيقات التي تجابه الكنيسة، وعلى النصر الذي لا شكّ فيه. فيسوع قد غلب العالم. ولكن سنغلب به ومعه. وهذه الغلبة ليست قضية عابرة وموقتة. هذه الغلبة هي واقع دائم. وإن كان خفياً، فهي ستتجلّى ساعة يشاء الرب. ويستعمل يوحنا في اليونانية صيغة فعلية تدلّ على استمرار في الحاضر لعمل تمّ في الماضي. ونستطيع أن نتوسّع فنقول: "لأني غلبت (في الماضي) العالم، فأنا منتصر الآن على العالم وسأبقى منتصراً إلى الأبد".
هنا يبرز موضوع الخلاص.
حين نتحدّث عن الخلاص نفكّر بشخص يفلت من خطر كبير بعد أن يدخّل شخص آخر من أجله: رجل نجا من الغرق بفضل يد امتدت إليه. مريض أصيب بمرض خطير فتمّ له الشفاء. إنسان سقط فحطّمته المحنة، وبفضل حضور حبيب إستعاد الأمل بالحياة. وفي المجال الديني، نفهم الخلاص عادة بالطريقة عينها: كان الإنسان مهدّداً بالموت بسبب خطيئته. فجاء الخلاص الذي هو عمل به ينتزعه الله من خطيئته، يفتديه من عبودية الشرّ. هذا ما نجده في إنجيل يوحنا.
نقرأ في 4: 22: "الخلاص يأتي من اليهودي. فيسوع الذي وُلد في الشعب اليهودي يحمل الخلاص إلى السامرية والسامريين. ونقرأ في 4: 42 كلاماً قاله أهل السامرة بعد أن سمعوا البشارة: "نحن نعرف أنه حقاً مخلّص العالم" (4: 42). ويرد فعل خلّص ست مرات. الأولى في 3: 17: "والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم (المخلوق)". وفي 3: 16: "هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" نحن هنا أمام تكثيف لفكر القديس يوحنا حول الخلاص.
في البداية، لا نجد خطيئة البشر بل حبّ الله للعالم، وتقديمه أعزّ ما لديه وهو ابنه الوحيد. وفي نهاية هاتين الآيتين نجد توازياً بين الخلاص والحصول على الحياة الأبدية. فالخلاص هو الحياة التي تصل إلينا بوفرة. والخلاص هو مشاركة في حياة الابن في اتحاده مع الآب: "أنا هو الباب: من يدخل بي يخلص. يدخل ويخرج ويجد مرعى" (10: 9). والابن ما جاء لكي يدين. هذا الكلام يعود في نهاية القسم الأول: "من سمع أقوالي وما حفظها، لا أدينه. لأني ما جئت لأدين العالم، بل لأخلّص العالم" (12: 47). وتقوم الخطيئة برفض هذه العطية.
وهكذا شدّد يوحنا على مواضيع الحب والعطاء وتفجّر الحياة، ولم يشدّد على الفداء. هو لا يقول بأننا خلصنا بموت يسوع. بل يتحدّث عن هذا الموت على أنه الوقت الذي فيه يرفع عن الأرض فيجتذب إليه البشر أجمعين (12: 32). ويشدّد أيضاً على فاعليّة هذا الموت من أجل تجميع شعب الله الجديد.
إن تقديم الأمور بهذا الشكل يدلّ على نظرة يوحنا إلى الحياة المسيحية: فهي تقوم بأن نعي الموهبة التي أعطيت لنا، بأن نحب ونبذل حياتنا من أجل من نحبّ. الخلاص سابق للخطيئة. فالله يطلبنا، لا لأننا خطأة، بل لأنه اختارنا ليجعل منا أبناءه. الخلاص يقوم بأن نتيح لله أن يكون فينا ذاك الذي يحبّ كل المحبة، ذاك الذي يحقّق ملء الخلاص، ذاك الذي ينهضنا من كبوتنا ويقيمنا من الموت. أن يكون ذاك الذي يخلقنا وذاك الذي يخلّصنا. ذاك الذي نسميه "أبانا"، ذاك الذي يجد ملء الفرح حين يعطي الحياة.
ظنّ التلاميذ أنهم فهموا. فأكّدوا بشكل فيه بعض التردّد: "نعرف، نؤمن". "الآن تتكلّم كلاماً صريحاً" (آ 29- 30). فكأن الخبر وصل إلى نهايته: هذا هو الوقت الحاسم من أجل الضياء الكامل. ما الذي يسبّب هذا الحماس وهذه الأوهام لدى التلاميذ؟ لماذا يشدّد الإنجيل على سوء التفاهم الجديد هذا في نهاية خطبة الوداع؟ وكيف يتجاوزه؟ سنحاول أن نرد على هذه الأسئلة الثلاثة متتبّعين النص (آ 25- 33) خطوة خطوة.
الأول: ساعة الكلام الصريح (آ 25- 27).
أجمل يسوع نشاطه فقال: إنه كلّم التلاميذ "بأمثال، بكلام ملغز". ولكنه أكّد أنه ستأتي ساعة يتحدّث فيها صراحة عن الآب. نستطيع أن نفهم هذه الساعة على أنها ساعة الصليب التي بها يخبر يسوع عن الآب بشكل تامّ. ولكن هذه الساعة هي أيضاً ساعة الآلام، ساعة الولادة للمرأة (آ 21). لقد جعل يسوع الكنيسة المتألمة بآلام الولادة، جعلها تعرف الآب معرفة تامة. وكل هذا الزمن، زمن الألم، يقود روحُ يسوع الكنيسة نحو الحقيقة كلّها. "في ذلك اليوم". نلاحظ هنا الانتقال من "الساعة" إلى اليوم في آ 25- 26 كما في آ 21- 23. في ذلك اليوم يرفع التلاميذ صلاتهم إلى يسوع وهم متأكّدون من حبّ الله نفسه. لا شكّ في أن ما يدلّ عليه النصّ هو كل زمن حياة الكنيسة.
وامتدح يسوع التلاميذ. واستعمل في مدمجه فعلين يعبّر بهما عن عمل من الماضي ما زالت نتيجته حاضرة. "أنتم أحببتموني وآمنتم بأني من الله خرجت". الحب والإيمان. هذا أعظم ما في إنجيل يوحنا. نستطيع القول بأن ف 1- 12 هي تربية التلاميذ على الإيمان، وأن ف 13- 21 هي تربية على المحبّة. ففي نظر يسوع، يعيش التلاميذ في الحبّ والإيمان. وفي نظر الإنجيلي، هذا هو وضع المؤمنين الذين إليهم يوجّه كلامه. ولكنه لا يقول هذا الكلام لكي يعطيهم طمأنينة سريعة مهما كان ثمنها. فهو يتساءل: هل فهموا حقاً كلامه؟
الثاني: من أين جاء يسوع وإلى أين يذهب (آ 28)؟
ويتابع يسوع كلامه بجملة تبدو واضحة للتلاميذ، ولكنها في الواقع ليست واضحة كل الوضوح: "خرجت من الآب وأتيت إلى العالم. ثم أترك العالم وأذهب إلى الآب". تحمل هذه الجملة تفسيرات مختلفة:
- هناك تفسير الغنوصيين: قد تكون كلمة يسوع هذه أقرب ما يكون من إيمان الغنوصيين (أصحاب المعرفة). هم يؤمنون بمخلّص يأتي إلى لقاء النفس الضالّة في هذا العالم الشرير، ليجعلها تكتشف من جديد، بواسطة المعرفة، طريق العالم الإلهي. لقد عرف الشرق هذا الموضوع بأشكال متعدّدة، واعتبر بعض الشرّاح أن هذا التيار الفكري قد أثّر على تفكير يوحنا حول شخص المسيح. قد يكون يوحنا استعمل لغة الغنوصيين، ولكن الوحي الذي يحمله قد فجّر الكلمات القديمة وحمّلها معنى جديداً. وإذا كانت الكتب الغنوصية قد تدوّنت في القرن الثاني، أما تكون هي التي تأثرت بإنجيل يوحنا ولم تؤثّر عليه.
- وقدّم العهد القديم نصوصاً موازية وقريبة لهذا النصّ. ونتذكّر بشكل خاص نصّ أشعيا حول كلمة الله. "كما ينزل المطر والثلج ولا يرجعان ثانية إلى السماء، بل يرويان الأرض ويجعلانها تجود فتنبت نبتاً وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع فارغة إليّ بل تعمل ما شئت أن تعمله وتنجح في ما أرسلتها له" (أش 55: 10- 11).
إن هذه الجملة تجمع عناصر عديدة من إنجيل يوحنا. فاليهود تساءلوا مراراً من أين جاء يسوع وإلى أين يذهب. وطرح الإنجيلي السؤال مراراً وبشكل غير مباشر حول أصل يسوع. فبمناسبة خمر قانا، سأل رئيس المتكأ: من أين جاءت الخمرة الجيدة (2: 9)؟ وسألت السامرية ذاك الطالب إليها ليشرب: "من أين لك ماء الحياة" (4: 11)؟ وسأل التلاميذ: "من أين نشتري الخبز لنطعمهم" (6: 5)؟ والسؤال: "إلى أين أنت ذاهب"؟ قد عبّر عنه التلاميذ في 14: 5 ولمّح إليه يسوع في 16: 5 (لا أحد منكم يسألني: إلى أين أنت ذاهب). هذا السؤال حاضر في ذهن التلاميذ خلال كل خطبة الوداع (رج 11: 16: تعالوا نذهب). في نظر الإنجيلي، يبدو أنه حين نعرف من أين جاء يسوع، نفهم بشكل أسهل إلى أين يذهب. وحينئذٍ نكتشف الشيء الكثير حول شخصه. ظنّ التلاميذ أنهم وصلوا إلى هذا المستوى. ظنّوا أن يسوع يكلّمهم (وأخيراً!) بشكل واضح. ولكنه في الواقع ترك لهم لغزاً جديداً.
الثالث: فعل إيمان التلاميذ (أ 29- 32).
عرف التلاميذ أن يسوع جاء من عند الآب. وكما اعتدنا أن نقرأ في إنجيل يوحنا، تقبّل يسوع فعل الإيمان هذا ودفعه إلى الأمام (1: 50؛ 6: 70؛ 9: 39؛ 11: 27، 40؛ 20: 17؛ 20: 29). سيستصعب التلاميذ قبول الطريقة التي بها تتمّ العودة إلى الآب. ظنّوا أنهم يعرفون ويؤمنون. في الواقع، سوف يتركون يسوع وحده قريباً. والطريقة التي بها تجسّد يسوع حقاً، وعاش وحتى النهاية حياته كإنسان، عاش نزاعه ولم يتفلّت من الموت، كل هذا حيّرهم. ما استطاع التلاميذ أن يحيطوا بهذا البعد الذي سيحوّل حياتهم. كم نحن بعيدون عن مخلّص جاء "في رحلة إستجمامية" إلى العالم ليحمل تعليم الخلاص، ثم عاد بكل هدوء صاعداً إلى العالم العلوي!
في بداية الخطبة، حدّ يسوع من حماس بطرس الذي ظنّ أنه يستطيع أن يتبعه منذ الآن (13: 36، 38). فأعلن له أنه سينكره. وفي نهاية الخطبة خفّف يسوع من اندفاع التلاميذ الذين ظنوا أنهم يستطيعون أن يفهموا الآن (16؛ 30). فقال لهم بصريح العبارة: "ستتركوني وحدي. ولكنه استدرك: "لكن لا أكون وحدي، لأن الآب معي".
وكان نداء إلى الثقة بالله (آ 33).
لم يترك يسوع تلاميذه في هذا الجوّ المتشائم. كان قد أكّد لهم أن الآب هو دوماً معه في المحنة. وها هو يؤكد الآن أنه سيكون دوماً مع تلاميذه في الشدّة. "سيكون لكم بي سلام".
شجاعة وثقة! "ستعانون الشدة في العالم". ستكون اضطهادات، ستكون إنقسامات (1 يو 4: 1- 6). "تقووا. أنا غلبت العالم" وانتصرتم على بغضه بالمحبة حتى النهاية ومهما كلّفت هذه المحبة. وستقول 1 يو 4: 4: "أنتم من الله وقد غلبتم، لأن الله الذي فيكم أقوى من إبليس الذي في العالم". أجل، المسيح العائش وسط تلاميذه هو أعظم من روح العالم. هو أقوى من العالم.
     

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM