الروح يشهد ليسوع
16: 1- 11
إن كنت لا أنطلق فلا يأتيكم المعزي. وإذا انطلقت أرسلته إليكم.
ويبدأ الحديث عن الاضطهاد (آ 1- 4). "قلت لكم هذا". هذه الردّة تتكرّر مراراً في خطب الوداع (15: 11؛ 16: 1، 6؛ 16: 25، 33)، فتعطي طابعاً إحتفالياً لكلمات وآية يسوع، وتستبق شكّ التلاميذ حين تتحقق الحالة التي أعلن عنها. فعبر خطبة يسوع، يمدّ يوحنا في زمن الكنيسة هذا الاضطهاد المرتبط بوضع التلميذ. ويجعل يوحنا نفسه في وقت اصطدم فيه المسيحيون بأقسى الصعوبات. إستبعدوا من المجامع، عذّبوا، قُتلوا... وجاءت هذه العقوبات على يد أناس مقتنعين بأنهم يكرّمون الله. وهكذا نجد من خلال هذا المقطع صورة عن الأحوال الملموسة في الجماعة المسيحية كما عرفها يوحنا في نهاية القرن الأول. فكانت هذه الخطبة في فم يسوع من أجل زمن الاضطهاد.
ويعود موضوع الانطلاق هنا كما في ف 14. ونستغرب سؤال يسوع للتلاميذ، وكأن سمعان بطرس وتوما لم يطرحا السؤال من قبل (13: 36؛ 14: 5). "لماذا أنتم حزانى فلا تسألوني إلى أين أنطلق"؟
ونصل إلى موضوع الروح الذي يُعطى للتلاميذ (آ 5- 7). في 14: 28 كان انطلاق يسوع خيراً لهم (لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بأني ذاهب إلى الآب). وهنا هو خير للتلاميذ: "إن في انطلاقي خيراً لكم". وهكذا لن يكون لهم فقط "مرافقاً"، بل "مفسرّاً" يساعدهم على فهم كلام يسوع. فالتلاميذ لا يستطيعون أن يفهموا يسوع من دون الروح. ولكن يجب أن يذهب يسوع لكي يأتي الروح. "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأن يسوع لم يكن بعد مجّد" (7: 39).
وفي مقطع ثالث نجد الروح يقف ضد العالم (آ 8- 11). إن الروح يتابع عمل يسوع، ويؤكّد للكنيسة أنها في الحق، ويتيح لها أن تواجه القوى المعادية أو اللامبالية في العالم. حين كان يسوع حاضراً على الأرض كشف عن خطيئة البشر بشكل دينونة (3: 19). أما الروح فعليه أن يتابع مهمة يسوع فيُلهم الجماعة. وتعطى له ثلاث وظائف. الأولى، يبرهن للتلاميذ أن العالم هو في الخطيئة. فالروح يبرز الخطيئة العظمى، خطيئة العالم حين قتل يسوع. الثانية، يحكم من أجل يسوع. يبيّن أن موته المذل في نظر البشر هو ارتفاع وتمجيد بيد الآب. هذه نقطة جوهرية، وإلاّ لماذا وجود الروح (الذي يواصل عمل يسوع وسط البشر) في العالم. الثالثة، يحكم على العالم الذي أخطأ حين حكم على يسوع. فالروح الحي في الكنيسة يشهد هكذا على أن الحكم على يسوع وموته وصلا به إلى تمجيده لدى الآب.
ونتوقّف عند محاكمة يسوع بحسب يوحنا.
نقرأ في 1 تم 6: 13: "أمام المسيح يسوع الذي أدّى لدى بنطيوس بيلاطس شهادة رائعة". وفي الأناجيل الإزائية، شهد يسوع بصمته. "وكان رؤساء الكهنة يرفعون عليه شكاوى كثيرة. فسأله بيلاطس أيضاً: أما تجيب؟ أنظر أي شكايات يوردون عليك" (مر 15: 3- 5).
ويصوّر الإنجيل الرابع مطوّلاً محاكمة يسوع أمام بيلاطس، فيميّز ما يتمّ في الخارج أمام اليهود (لا يقول يسوع شيئاً) وما يتمّ في الداخل: نحن هنا في جدال عميق حول أهداف رسالة يسوع. غير أن يسوع يبقى صامتاً بالنسبة إلى السؤال الأساسي: "من أين أنت" (19: 9)؟ إن عدداً من الناس طرحوا هذا السؤال في الإنجيل، بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن يسوع لا يستطيع أن يكشف هذا السرّ إلاّ للذين يقتربون منه في الإيمان.
ونعود إلى محاكمة يسوع أمام اليهود. فيوحنا لا يتحدّث عن مثول يسوع أمام المجلس الأعلى (سنهدرين). بل يشير بكلمة عابرة إلى مثول يسوع أمام عظيم الكهنة في تلك السنة، أمام قيافا (18: 24). لا شك في أنه ذكر مرتين الحكم الذي لفظه قيافا دون أن يسمع للمتّهم: "إنكم لا تعقلون ولا تفكّرون أن مصلحتكم تقضي بأن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلّها" (11: 50). فإن مصلحتكم تقتضي بأن يموت رجل واحد عن الشعب" (18: 14). تحدّث يوحنا مطوّلاً عن مثول يسوع حالاً بعد توقيفه أمام حنان، رئيس الكهنة القديم، فجعلنا نفكّر أن دور هذا الأخير كان كبيراً في الحكم على يسوع.
في الواقع، إن قسماً كبيراً من إنجيل يوحنا يتضمّن محاكمة يسوع أمام اليهود، لا سيما المجموعة التي تمتدّ من عيد المظال إلى عيد التجديد (ف 7- 10). ونهاية هذا النصّ تقابل محاكمة يسوع أمام قيافا كما يصوّرها لوقا. بدأ اليهود يسألونه: "إن كنت المسيح فقله لنا جهراً". وأنهوا كلامهم باتهامه بالتجديف حين أعلن يسوع: "أنا والآب واحد" (10: 24 ي).
غير أن محاكمة يسوع هي أوسع من ذلك. نحن أمام حرب الظلمة ضدّ النور. وهذه الحرب تتّخذ شكل محاكمة. يظهر يسوع أنه الشاهد الذي يأتي من السماء، الذي يشهد بما رأى وسمع (3: 32). ولكنهم لا يقبلون شهادته. وبعد هذا يبدو يسوع أنه المتهم (5: 18) الذي يستعين بشهادة يوحنا المعمدان، بشهادة الكتب المقدّسة، وخصوصاً بشهادة الآب (5: 36). وبعد قليل سيصبح المتّهِم ذاك المحكوم عليه. ولكن الأمور تنقلب هنا. فمقدمة الآلام تعبرّ أفضل تعبير عن اللاهوت اليوحناوي: على الصليب ظهرت بوضوح دينونة هذا العالم وانتصار المصلوب. فكل الشعوب وكل الألسنة يستطيعون أن يكتشفوا "برّ" يسوع. فيعيد الروح حقّ يسوع في ضمير المؤمن (16: 8). ويتّهم موسى والكتب أولئك الذين عارضوا يسوع (5: 46). وسلطان هذا العالم ينُزع عنه القناع ويُرمى إلى الأرض (12: 31).
وهكذا كان الصليب ساعة الحقيقة والنور. حينذاك "يمجّد" يسوع (13: 31). ذهب إلى النهاية في شهادته فصار النموذج للإنسان (19: 5: هذا الرجل). وهناك من يقرأ في 19: 13: "جاء بيلاطس بيسوع إلى الخارج وأجلسه على "الباما" (كرسي القاضي) "في الموصع المدعو ليتوستروتس وبالعبرية جباتا". إن هذا العمل الساخر مع ما فيه من التحدّي يدلّ أفضل دلالة على هوية يسوع الحقيقية.
والكنيسة، شأنها شأن معلّمها، لا تفلت من المحاكمة: هناك محاولة إسكات صوت يزعج. محاولة إطفاء النور الذي تحمله بواسطة الاضطهاد واللامبالاة. وقد تنتقد الكنيسة بسبب محدوديتها وخطيئتها. هنا لا بدّ من التمييز بين من يكتفي بذاته ولا يسمع للآحرين، وبين من يعيش دوماً عقدة الذنب فلا يرى إلاّ الخطيئة.
"إلى أين يذهب يسوع"؟ تساءل عدد من الناس في إنجيل يوحنا إلى أين يذهب يسوع. هل سيقتل نفسه؟ فقد قال: "حيث أذهب لا تستطيعون أن تأتوا". وما كان اليهود يستطيعون أن يفهموا هدف حياة يسوع (8: 22). فهذا الهدف يبقى لهم لغزاً. "إلى أين يذهب هذا حتى لا نجده؟ ألعلّه يذهب إلى المشتّتين وسط الوثنيين؟ ألعلّه يذهب ويعلّم اليونانيين" (7: 35)؟ ويقول توما بدوره: "يا رب، لا نعرف إلى أين تذهب فكيف نعرف الطريق" (14: 5)؟ فسرُّ العبور الذي يعيشه يسوع الآن هو عظيم كسرّ أصله ومولده. لقد سأل بيلاطس يسوع: "من أين أنت" (19: 9)؟
سمع التلاميذ يسوع يقول إنه ذاهب إلى الآب. ولكنهم لم يفهموا معنى مقاله. عرفوا أنه سيموت، أنه لن يكون هنا فيما بعد. وعبر حزن التلاميذ نجد تعبيراً عن ألم الجماعة اليوحناوية. فهذه الكنيسة هي فريسة الصعوبات، وليس لها يسوع لكي تحلّها. ما عاد التلاميذ يجرأون أن يتكلّموا، أن "يحاسبوا" يسوع: أين ذهبت، لماذا أنت بعيد؟
خاب أمل التلاميذ، فجاء إليهم يسوع في أعمق خيبتهم التي تخفي الخوف وتنفي الثقة بنفوسهم وبالروح القدس. "إذا كنت لا أنطلق لا يأتيكم البارقليط" (المدافع). كان حضور يسوع بالجسد مهماً وسط أخصّائه. فجسده (بشريته) يحدّثنا عن الله. ولكن علينا الآن أن نحيا بروحه وبفضل هذا الروح، نستطيع أن نواصل عمله. فيسوع لا يريد أن يعمل شيئاً عنا: "خير لكم أن أذهب".
وصوّر دور الروح الأول بشكل يصعب فهمه إذا نسينا أن إنجيل يوحنا يستعمل مراراً صورة المحاكمة. في الظاهر ربح متهمو يسوع الذين هم العالم وسلطان هذا العالم: إستطاعوا أن يتخلّصوا من يسوع حين نفّذوا فيه حكم الموت. إذن، إنتهت المحاكمة. ولكن الروح القدس يطلب إعادة النظر في المحاكمة، وهو سيتيح للمؤمنين أن يكتشفوا حق يسوع، "بر" يسوع العائد إلى الآب. لقد أفهمهم أن يسوع هو حقاً مرسل الله، أنه ظلّ أميناً حتى نهاية الإلتزام، أنه تجاوب كل التجاوب مع ما انتظره منه الله. ويردّد الروح في قلوب المؤمنين الشهادة التي أدّاها الآب ليسوع حين أقامه من بين الأموات (5: 25- 28). وهكذا انقلب الوضع: فالمتهمون الذين حسبوا نفوسهم بجانب الله وجدوا نفوسهم يعارضونه فيُحكم عليهم. لقد خسرت قوات الموت قدرتها، وانتصرت الحياة.
والروح يقودنا إلى يسوع الذي هو الحق (14: 6). يقول للتلميذ ما يأتي من يسوع، يقول له معنى كلمات يسوع. يتمنّى البعض أن يكون التلاميذ "كتبوا" (أو سجّلوا) أقوال يسوع لئلا يكون هناك خطأ، لئلا يكون تحريف بفعل النسيان! ولكن الأمور لم تكن هكذا. فالإنجيليون إستناروا بالروح فاستعادوا بطريقتهم كلام يسوع وبالنظر إلى حاجات الجماعة. فالروح القدس لا يكرّر أمام المؤمنين كلمات جامدة ميتة. بل يساعدهم على إدراك الواقع في أوضاع جديدة تتطلّب البحث والخلق. ويتيح لهم أن يكتشفوا اليوم بُعد كلمات قيلت في الأمس. فالروح وحده يستطيع هكذا أن "يمجّد" يسوع، يعني أن يبيّن لنا من هو وماذا ينتظر منا. والروح وحده قادر أن يعرّفنا بما يحدث، أن يجعلنا نستشفّ عالم الله الجديد الذي يُبنى والذي سيُعطى لنا مع ذاك الذي يأتي بمجد عظيم.
أما ترون أنه من الأفضل لكم أن أنطلق؟ هذا هو سؤال يسوع. والإنجيل يدعونا إلى أن نطلب الجواب على هذا السؤال. ذهاب يسوع خير لنا. فانطلاقه وعودته إلى الآب يدشّنان نمطاً جديداً من حضور الله وسط البشر: لقد أعطي الروح لنا. والروح ليس كلمة ولا صورة. إنه شخص حيّ. إنه نسمة الله، دينامية الله الذي يتدخّل حين نأخذ مسؤولياتنا بأيدينا. وعبر خياراتنا وما نخاطر به، يقودنا الروح إلى الحقيقة كلّها. يعطينا الصدق في ما نعيش، يعطينا أن نعرف يسوع وأن نلتقي حقاً مع الله الآب. الروح هو الله الذي يأتي إلينا بتحفّظ وخفر، هو الله القريب والبعيد معاً، الذي يحترم المدى الذي فيه تتحرّك حريتنا.
وبفضل الروح لسنا عبيداً لنموذج نكرّره ولا نحيد عنه. بل نحن مدعوون لكي نستنبط، لكي نخلق الجواب الجديد على الأوضاع المستجدة.
نصلّي إلى الروح ليقودنا إلى الحق كله، ولا نخاف بأن نخاطر.