إنجيل يوحنا: كتاب الالآم والمجد: المجتمع الذي ولد فيه إنجيل يوحنا
 

 


المجتمع الذي ولد فيه إنجيل يوحنا
6: 15

وإذ علم يسوع أنهم عازمون أن يأتوا ويختطفوه ليقيموه ملكاً، اعتزل في الجبل وحده.
نحن نعرف يسوع من خلال شهوده. والذي يحدّثنا في هذا الإنجيل هو قال عن نفسه إنه كان تريباً جداً من يسوع. وإنه كان يحمل في ذاته سنوات عديدة من الحياة في الكنيسة. تُنسب إليه ثلاثُ رسائل توجّهت الى كنائس "مزعزعة". ويُنسب اليه سفر الرؤيا حيث تنعكس الصعوبات الداخلية والخارجية في الكنيسة بسبب الاضطهاد الذي تقاسيه.
لهذا نريد أن نعيش مع هذا الشاهد للمسيح، نريد أن نتعرّف الى جماعته. هنا نعود إلى المحيط الذي وُلد فيه إنجيل يوحنا. فنتحدّث عن المجتمع البشري، عن الكنيسة، عن الجماعة الخاصة بيوحنا. ونبدأ بالمجتمع الذي وُلد فيه إنجيل يوحنا.
أين دوّن إنجيل يوحنا؟ تحدّثنا أقدم التقاليد عن أفسد. هي مدينة خربة. نستطيع اليوم أن نزور آثارها في تركيا، قرب كوساداسي على شواطئ بحر ايجه. وقد يكون دوّن في مكان آخر، كما يقول بعض الشرّاح. ومهما يكن من أمر، فموطن الإنجيل الرابع هو مدينة تسيطر عليها سلطة رومة التي تحكم حوض البحر الابيض المتوسط في القرن الأول المسيحي.
نبدأ فنلقي نظرة على هذه الإمبراطورية الرومانية. ثم نركّز انتباهنا على أفسس والمناخ الديني الذي تعيشه.

1- السلام الروماني
قال بلينوس الاكبر: "يظنّ الجميع أن الإمبراطورية الرومانية وحّدت الكون، فجعلت الحضارة تتطور بفضل التبادل التجاري ووحدة الشعوب في سلام ناجح".
سيطرت رومة منذ القرن الأول ق. م. على غالية (فرنسا الحالية) وسورية ومصر وآسية الصغرى. وبقي لها عدو كبير هو الشعوب الفراتيون. فمملكة السلالة الارساقية تعيش في إيران وفي قسم من العراق. ولكن مع هذه السيطرة، فإن رومة تركت استقلالية كبيرة للمدن والحواضر، شرط أن تدفع الجزية والضرائب.
أ- ثورات وطنية
هناك ثورة وطنية معروفة: الحرب اليهودية. بدأت سنة 66 وامتدت حتى سنة 70 ب. م. فاليهود يتمتّعون بوضع خاص في الإمبراطورية: ديانتهم محترمة حتى في التفاصيل. هم يُعفون من الخدمة العسكرية. هم يُعفون من تقديم شعائر العبادة للامبراطور... ولكنهم لا يقبلون بسيّد إلا بالله. ثم إن الضرائب الرومانية تثقل كاهل الشعب.
منذ احتلّ بومبيوس أورشليم سنة 63 ق. م. بدأت القلاقل. وتنامت بشكل جدّي حين عزم كاليغولا (37- 41 ب. م.) على وضع تمثاله (الإمبراطور المؤلّه) في هيكل أورشليم. واندلعت الثورة سنة 66 فكانت حرباً أهلية ضد رومة. وانتهت سنة 70 بدمار الهيكل وخراب المدينة و"تمجيد" تيطس في رومة.
كيف عاش اليهود المشتّتون في مدن الإمبراطورية هذا الحدث؟ يبدو أن الفطنة والهدوء هما اللذان سيطرا. واختفت بعض الوقت التطلّعات المسيحانية والوطنية. ولكن عادت التحركات في الجماعات اليهودية في الشتات منذ سنة 115. وفي سنة 125، إندلعت الثورة في فلسطين وحمل لواءها ابن الكوكب الذي سماه رابي عقيبة "المسيح". وسيقتل جنود الإمبراطور ادريانس ابن الكوكب ورابي عقيبة.
ب- ثورات اجتماعية
سنة 73- 71 ق م تجمع العبيد الرومان حول سبارتاكوس وهاجموا الدولة الرومانية التي عجزت عن قمعهم. في النهاية قتلهم جيش ليسنيوس كراسوس. بعد ذلك الوقت، لم يكن بالامكان تجاوز الحواجز الاجتماعية: أنت عبد أو مولى أو انسان فقير، فأنت خاضع خضوعاً مباشراً لسيّد من الأسياد، ولا سبيل للتحرّر اطلاقاً. فالعبد "شيء" يُشرى ويُباع. والموالي لا يتحركون إلا بأمر من حررّهم من العبودية.
حين تحدّث سفر الرؤيا عن "سقوط رومة" دلّ على الصورة التي تركتها هذه الحاضرة في الوعي الشعبي. "الويل! الويل! أيتها المدينة العظيمة، يا بابل الجبّارة، في ساعة واحدة جاءت دينونتك وسيبكي عليها تجّار الارض ويندبونها، لأن بضاعتهم لن تجد من يشتريها. بضاعة من ذهب وفضة وحجر كريم ولؤلؤ وكتان وأرجوان وحرير وقرمز وأنواع الطيوب... وبقر وغنم وخيل وعربات وعبيد وأسرى" (18: 10- 13). العبيد هم "الاجساد" (حرفياً). هي البضاعة الاخيرة في مدينة عظيمة يدّل سفر الرؤيا على ضعفها وسرعة عطبها.

2- المناخ الديني في أفسس
كانت أفسس في ذلك الوقت أكثر المدن سكاناً في آسية الصغرى (تركيا). وكانت على ملتقى طرق المواصلات الهامة. هي أكبر مرفأ في بحر ايجه، ومنها تنطلق الطريق إلى إيران عبر سورية وبابلونية. وهكذا كانت تشرف على جزء كبير من تجارة رومة مع الشرق.
أ- العالم الوثني.
يقدّم لنا أع 19 لوحة صحيحة عن المناخ الديني في المدينة. اصطدم بولس بالصاغة الذين يصنعون هياكل فضية لأرطاميس. وساندهم الجمع فهتف بلا انقطاع: "عظيمة ارطاميس الافسسيين". فمن هي أرطاميس هذه التي ظنّ الناس أن تمثالها سقط من السماء (19: 35)؟ هي إلاهة الصيد عند اليونان، وقد دخلت في العبادات الشرقية فكان لها تأثير شعبي كبير. إلاهة متوحشة تطلب ذبائح بشرية، وهي في الوقت عينه إلاهة الخصب التي وصلت عبادتها حتى مرسيليا في فرنسا. ويصوّر المؤرخ سترابون هيكل ارطاميس في أفسس على أنه إحدى العجائب السبع في العالم.
غير أن هذا الحماس لأرطاميس لم يمنع أهل أفسس من أن يطلبوا هيكلاً مكرّسا لرومة وليوليوس قيصر. سمح لهم الإمبراطور أوغسطس ببناء هذا الهيكل سنة 29 ق. م. وسوف تتوسّع عبادة الإمبراطور. وقد وُجد على إحدى النقود الإمبراطور نيرون المسمى "إلها" وأمه المسماة "إلاهة". وسيكون هيكل الإمبراطور بجانب هيكل أرطاميس.
ووُجدت عبادات أخرى ارتبطت بالديانات السرّانية الآتية من الشرق. وكان من ماثل بين نيرون وميترا (إله فارسي انتشرت عبادته في آسية الصغرى). فالناس يفضّلون هذه العبادات بما فيها من حرارة وأخوّة على الديانة الرسمية الجافة. فالناشىء يعيش من جديد مع إلهه. إنه واحد مع إلهه. وهذه الطقوس توافق الاسئلة الانسانية التي يطرحها الناس حول الحياة والموت.
ب- الجماعة اليهودية
تتفّق المدّونات مع المؤرخ يوسيفوس لتشهد على وجود الجماعة اليهودية في هذه المدينة الهامة والقديمة. فانطيوخس الثاني ملك انطاكية (261- 264) قد منحها الامتيازات الخاصة بالمواطنين. وكتب مرقس أغريبا (13 ق. م.) صهر الإمبراطور أوغسطس إلى المدينة يطلب منها أن تراعي هذه الامتيازات. مثلاً، لا يدفع اليهود ضرائب للهياكل الوثنية، ولا يتقدمون إلى المحاكم يوم السبت.
كان اليهود يتوافدون إلى المجمع كل سبت. هناك يعلنون إيمانهم بالله الواحد. ويتذكّرون العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم، والحرية التي استعادوها في زمن الخروج. يقرأون من اسفار الشريعة الخمسة، كما يقرأون من أسفار الانبياء.
غير أن هذه النصوص تقرأ في اليونانية في الترجمة السبعينية. وهكذا انطبع التقارب من الكتب المقدسة بالحضارة اليونانية. ونحن نستطيع أن نعرف كم كان تأثير هذه الحضارة عميقاً حين نقرأ أعمال فيلون هذا الاسكندراني الذي عاصر يسوع (13 ق. م.- 50 ب. م.). وعملُ يوحنا كان هو ايضًا على ملتقى العالم اليهودي والعالم الهليني (أي: المتأثر بالحضارة اليونانية كما حملها الاسكندر إلى الشرق).


3- مدن باحثة عن العلم والمعرفة
إن أفسس، شأنها شأن سائر مدن آسية الصغرى، هي مطبوعة بطابع الحضارة اليونانية. لقد مضى زمن بعيد كان فيه أفلاطون (427- 348) يدعو تلاميذه إلى التأمل في الجمال والخير والحق، ويعتبر عالم المثل أكثر واقعية من العالم الحاضر. أما في القرن الاول، فالرواقية هي التي تسيطر. وهي تدعو إلى حياة متناغمة مع الطبيعة الشاملة (طبيعة الكون)، مع هذا الجسم الحي والكبير الذي هو الحالم، مع هذا الجسم الذي يوحّده العقل الالهي أو اللوغوس. نستطيع أن نرى هنا نوعاً من حتمية تفهم وجودها في مجتمع منغلق على ذاته. غير أن سينيكا أو إبكتات (عابرا يوحنا) توجّها إلى الله سيد الكون على انه "أب محب لكل الناس الصالحين".
وبحثت أفسد كما بحث غيرها من المعرفة الحقة. فقد برزت تيارات مختلفة تقول إن الانسان يخفي في أعماق ذاته شرارة إلهية سقطت من الكون العلوي واختفت في المادة وخضعت للشر والموت. إن هذه الشرارة الالهية سوف تستيقظ بفضل مخلّص وتعود إلى وضعها الأصلي بفضل المعرفة التي هي في الوقت عينه معرفة الذات ومعرفة الكلّ.
أين وُلدت تيارات "المعرفة" هذه، التيارات الغنوصية؟ لا شكّ في أن الديانات والفلسفات الفارسية لعبت دورها حين فصلت فصلاً جذرياً بين عالم الخير وعالم الشرّ. وهكذا تكون الغنوصية محاولة لإبراز الفرد الذي يسحقه الكون والمجتمع.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM