مع كنيسة كورنتوس : المسيح الملك

المسيح الملك
15: 20- 28

هذا المقطع هو جزء من فقاهة كبيرة قدّمها بولسُ الرسول إلى الكورنثيّين عن قيامة الموتى (ف 15). في الآيات السابقة (آ 12- 19)، ردّ الرسول على أولئك الذين أنكروا قيامة الموتى (هم لا يقدرون أن يقوموا بعد أن صاروا تحت التراب). أما برهانه "البليغ" فجاء عن طريق المحال: إذا كان المسيح لم يقُم، فالكرازة باطلة، والإيمان باطل، والحياة المسيحيّة عبث. ولكن يواصل الرسول كلامه: كل هذا القول تنظير بعيدٌ كلّ البعد عن الواقع: فالمسيح قام من بين الأموات. وقيامته هي الأساس الوطيد بأن الموتى سيقومون. وفي النهاية، يسلّم المسيح المُلك إلى الله الآب... فلا بدّ له أن يملك. فهو حقاً المسيح الملك الذي سيضع أعداءه تحت قدميه، ويكون الموت آخر عدوّ يبيده. ونقرأ النصّ:
(20) لكن الحقيقة هي أن المسيح قام من بين الأموات، وهو بكر من قام من رقاد الموت. (21) فالموت كان على يد انسان، وعلى يد انسان تكون قيامة الأموات. (22) وكما يموت جميع الناس في آدم، فكذلك هم في المسيح سيحيون، (23) ولكن كل واحد حسب رتبته. فالمسيح أولاً لأنه البكر، ثم الذين هم للمسيح عند مجيئه. (24) ويكون المنتهى حين يسلّم المسيح المُلك إلى الله الآب بعد أن يُبيد كلَّ رئاسة وكل سلطة وقوّة. (25) فلا بدّ له أن يملك حتّى يضع جميع أعدائه تحت قدميه. (26) والموت آخر عدوّ يُبيده. (27) فالكتاب يقول إن الله "أخضع كل شيء تحت قدميه". وعندما يقول: "أخضع كلّ شيء"، فمن الواضح أنه يستثني الله الآب الذي أخضع كلّ شيء للمسيح. (28) ومتى خضع كلّ شيء للابن، يخضع هو نفسه لله الذي أخضع له كلَّ شيء، فيكون الله كلّ شيء في كل شيء.
1- هم في المسيح سيحيون
إنّ المسيح ما قام من أجل نفسه فقط، من دون ارتباط مع إخوته: بل أقيم كبكرٍ للذين رقدوا. حين قال بولس "باكورة" عاد إلى العهد القديم، فدل على القسم الأول من الغلة الذي يُحفظ لله ويكون صورة مسبقة عن تقدمة الغلّة كلها ويمثّلها. إذن، بدت قيامة المسيح، كفعل سامٍ من قبل الله، به جعل يسوع مُلكاً مقدّساً له. فحين يأخذ الله لنفسه بهذا الشكل انساناً ويجعله في "مستودعه"، فهذا يعني بالنسبة إلى هذا الانسان ملء الحياة ولو كان في الموت. ويسوع لم يَقُم لكي يبدأ حياة ثانية على الأرض. فقيامتُه هي امتلاك حياة لدى الله الحيّ. وبما أن القيامة هي كذلك، فهذا يعني أنها قيامة اخوته بشكل مسبق. فحين أقام الله يسوع، كان يفكّر منذ ذلك الوقت فينا كلنا.
أن يكون المسيح قام كباكورة لجميع الراقدين، فهذا يرتبط، في النهاية، بقرار الله السامي الذي أراد حقاً أن يضمّنا إلى ابنه. ولكن هذا يرتبط أيضاً بتضامن سريّ، ولكن حقيقي جداً، بين المسيح وجميع البشر، وهو تضامن عميقٌ بحيث لا يمكن أن يُقابَل إلاّ مع تضامن كل البشريّة مع أبيها، الانسان الأول. كما أن الموت دخل في تاريخ العالم بخطيئة آدم (تك 3: 19)، هكذا بالانسان يسوع، الذي قام من الموت، دخلت القيامةُ في تاريخ البشريّة. "فالموت كان على يد انسان، وعلى يد انسان تكون قيامة الأموات" (آ 21).
في المنظار البيبلي، ليس التاريخُ عودة أبديّة إلى نقطة الصفر كما في حلقة نرجع فيها إلى المكان الذي انطلقنا منه، وليس حلبة متواصلة ندخل فيه ونخرج ساعة نشاء. فالتاريخ هو تاريخ أناس أحرار يوجّهون، بقراراتهم، المستقبلَ، وحتّى مستقبلَ نسلهم. وفيه تظهر أحداثٌ تؤثّر على الماضي والحاضر، على مستوى الخير أو الشرّ. ومجيء يسوع، وحياته وموته، وقيامته بشكل خاص، كلُّ هذا كان حدثاً فريداً بدّل التاريخ. "وكما يموت جميع الناس في آدم، فكذلك هم في المسيح سيحيون" (آ 22).
"في آدم"، أي بما أنهم بشر ينتمون إلى هذا الجنس الذي بدأ في آدم. لا يتطلّع بولس إلى نسل على مستوى الجسد (هو يفترضه بلا شك)، بل على تضامن تاريخيّ ووجوديّ (روم 12: 12). كما أنّه لا يؤكّد على يقين "فيزيائي" بالنسبة إلى قيامة جميع البشر، بل على إمكانيّة المشاركة في حياة القائم من الموت، كإمكانيّة حقيقيّة وانفتاح على الحياة. فعبارة "يحيون في المسيح" (آ 22) لا تعارض العبارة الأخرى "الذين هم للمسيح" (آ 23).
وتواصل آ 23: "كل واحد حسب رتبته". هنا طُرح السؤال: أما يحمل التضامن مع المسيح خطراً بأن يُمحى كلُّ اختلاف بيننا وبينه، بحيث نصبح نحن هو كما في حلوليّة تذوب فيها شخصيّتُنا؟ الجواب هو كلا. والسؤال الثاني: أما تكون قيامته تطبيقاً لقاعدة عامّة تصل إلى الجميع. فأجاب بولس: كلا. كلهم سيحيون، "ولكن كل واحد حسب رتبته. فالمسيح أولاً لأنه البكر، ثم الذين هم في المسيح عند مجيئه" (آ 23). هذا ما يحدث في ذلك الوقت.
إن كان المسيح قام لأجلنا، وإن لم يكن لقيامته معنى إلاّ كاعلان وأساس لقيامة (ممكنة) للجميع، وإن كان مجدُ الابن يكمن في إشراك جميع إخوته في وضعه، فمع ذلك تكون مرتبته دوماً مختلفة عن مرتبتنا. فهو سيكون دائماً الرأس والأصل والأساس. والمساواةُ بين الجميع، في نهاية الأزمنة، في الملكوت، لا تدمّر وحدةَ شخصه ودوره. وإن كان وحده قام فينتظر الآخرون زمنَ مجيئه، فهذا ما يعبّر عن أولويّة المسيح الجوهريّة بالنسبة إلينا، دون أن يستنفدها. "كل واحد حسب رتبته". هذا يعني أكثر من اختلاف على مستوى التسلسل الزمني.

2- مجيء المسيح وتدمير الموت
في آ 23، ترك بولس الأسلوب البرهاني ليأخذ بالأسلوب النبوي أو الوصف الجلياني (من جلا، كشف زمنَ النهاية). وفي آ 25- 27، وإن عاد الرسول إلى براهينه الكتابيّة، فمجملُ النصّ يدلّ على "فنّ جليانيّ مسيحيّ". فهنا كما في رسائل أخرى حيث يصوّر بولسُ أحداثَ النهاية، فهو لا يقول كلَّ شيء: هو يذكر فقط الباروسيا، مجيء المسيح، وقيامة الذين هم للمسيح، والنهاية الأخيرة التي يُعدّها المسيح الملك في فعلة أخيرة بها يسلّم المُلك إلى يدي الله الآب. أمّا ما تبقّى من "المشهد"، كالدينونة الأخيرة مثلاً، فيفترضه الرسولُ معروفاً، ولا يتوقّف عنده. ونحن نقرأ هذه الآيات الجليانيّة كما هي دون أن نضيف إليها. وأول هذه الآيات دمار الموت.
في سياق ف 15، نجد الذروة في "النبوءة" مع كلام عن دمار الموت بيد المسيح، الملك المسيحانيّ في ملكوت الله. ففي الحرب التي ينتصر فيها هذا الملكُ، آخر عدوّ يتغلّب عليه ويزيله هو الموت. فمُلك المسيح التاريخيّ والكونيّ يتوخّى قيامَ نظام حيث يعيش فيه الانسان محرّراً من كل قوّة تضايقه أو تخدعه (آ 24)، ومن الموت الذي يدمّر حياته ويشهد على ابتعاده عن الله (آ 26). فحيث يُقيم مُلك الله حقاً ويسود، هناك يُعاد الانسان إلى ذاته، ولن يعود متغرّباً. ومقابل هذا، لن تعود البشريّةُ إلى إنسانيّتها الحقّة، إلاّ حين تتقبّل نعمة الله التي هي أساسها ونقطة انجذابها. فالمسيح كان وسيبقى، بنشاطه وحياته على الأرض، بموته وقيامته، أداةَ ملك الله، وذاك الذي يقوم مقام الله.
من أجل هذا، فالمسيح سيملك. إن مُلكَ الله الذي هو حدث ونظام ومجال، قد نال وجهاً خاصاً في شخص بشريّ، صار منظوراً في حياة محدّدة ومصير معيَّن. ففي أعماق كياننا وفي أرفع ما في كياننا، نعرف أن الخلاص والحياة والبر، والسعادة التي ننتظر، لا يمكن أن تكون فقط نظاماً، مهما كان عجيباً، بل هي شخص يجسّدها الربُّ ويملأها بحضوره.
أجل، الله يقدّم لنا كلَّ هذا في المسيح الملك، ذاك الانسان الذي قام وامتلأ من مجد الله. فالملكوت هو يسوع، كما قال أوغسطينس، ومملكة المسيح ليست تفصيلاً عرضياً في تاريخ الخلاص. فقلبُنا الذي يُلهمه الله الذي خلقه يقول: ملكوت الله يأتي في المسيح. وهذا ما تقوله أيضاً الكرازةُ الرسوليّة، عن قرار الله السامي، الذي أراد أن تكون الأمور هكذا، فشهدت له الكتب المقدّسة. "فلا بدّ له أن يملك حتّى يضع جميع أعدائه (= أعداء المسيح) تحت قدميه" (= قدمَي المسيح) (آ 25).
أورد بولس أولاً القول الالهي في مز 110: 1: "قال الربّ الاله لسيّدي الملك المسيح: إجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك". ثم لمّح إلى نصّ معروف في مز 8: 7: "كل شيء وضعه الله تحت قدمي الانسان. فالمسيح ما وضع يده بالقوّة على كرامة ملكيّة، شأنه شأن شخص مستبدّ أو متمرّد. لقد نال يسوع هذه الكرامة من الله. ففي إطار مشيئة الله، مملكةُ المسيح تتوّج وتختم خدمةَ الملوك الذين من بيت داود، ودعوةَ البشريّة كلها.
3- المُلك إلى الله الآب
يقول الرسول: "ويكون المنتهى حين يسلّم المسيحُ المُلكَ إلى الله الآب" (آ 24). ما يدهشنا في هذا الكلام، بل يقلقنا، هو أن بولس يتحدّث عن نهاية لملك المسيح هذا. وهناك المنتهى. وستقول آ 28: "ومتى خضع كل شيء للابن، يخضع الابن نفسه لذلك الذي أخضع له كلّ شيء، لكي يكون الله كلاً في الكلّ".
حين نقرأ هذا النصّ بطريقة حرفيّة، نكاد نستنتج أن وظيفة المسيح الملك ودوره المسيحاني هما، في النهاية، أمران موقتان لا بدّ أن ينتهيا. فيكون أن زمن المسيح هو زمن الكنيسة، زمن التاريخ. ولكن في المُلك النهائيّ، لن يكون يسوع ملكاً ولا مسيحاً. هناك، الله وحده يكفي فيحلّ محلّ المسيح الذي تنتهي مهمّتُه. ويمكننا القول حينذاك: حين يكون الله كلاً في الكلّ، لن يكون من مكان لوسيط بين الله والبشر، فينتفي دور المسيح!
مثل هذا التفسير الخاطئ، سقط في فخّ أسلوب بولس الخاص. فاللغة الجليانيّة التي يلجأ إليها الرسولُ، تتحدّث عن سر مجيء الله في النهاية، على أنه سلسلة من الأحداث التي تتوالى. لا شكّ في أن فكر بولس لا يتوافق كلَّ الموافقة مع هذه النظرة الجليانيّة، وإلاّ كدنا نظنّ، في مثل هذا المنطق، أن المسيح ليس خاضعاً الآن للآب. فبولس الذي يرى في المسيح "نَعَم" الله الأبدي والنهائي تجاه بشريّة خاطئة، لا يمكن أن يظنّ يوماً أن هذا المسيح سينحلّ، سيُنسى، ويصبح عمله "نافلاً"! تجسّدُ الابن ليس فعلاً موقتاً، وجلوسُه على عرشه يدوم إلى الأبد.
فمن خلال الصور الجليانيّة، نكتشف يقيناً يقول: اليوم كما في الأبد، ينبوع مُلك المسيح هو مُلك الله، ومرمى هذا المُلك أن يمثّل مُلك الله. فالمسيح هو حقاً الربّ الذي يهتف له الجميع، وسيبقى كذلك، إلهاً وانساناً، لمجد الآب دون سواه (فل 2: 9- 11). فكل شيء هو خاصة المسيح، وكل انسان، ولكنه هو نفسه سيكون لله الآب (1 كور 3: 23). فآدم، الانسان الأول، خطئ حين تكبّر فرفض أن يعيش كخادم لله، فصار عبداً للخطيئة وللموت، والمسيح، الإنسان الأخير، يملك بحريّة ملكيّة، ولكن في خضوع تام للآب.
ويصير الله في نهاية الأيام "كلاٌّ في الكلّ". هذا لا يعني أن الابن ينحلّ، يذوب في الآب، يُبتلع، وإلاّ فنحن أيضاً، وبأولى حجة، سوف نذوب في الآب. لا، ليست هذه نظرة بولس الذي اعتاد أن يرسم مصير الانسان الأخير كحياة شخصيّة قرب المسيح وأمام الله. فمع الابن نحن نعيش "لله" وننعم أمام الله، بحرية ملوكيّة، حرّية أبناء الله. ولكن كما أن المسيح الممجّد لم يخرج من وضعه كابن طائع وخادم، هكذا يكون بالنسبة إلينا جميعاً: فملء واقع الخلاص لن يكون سوى الوجه الآخر لجهوزيّة تامّة أمام الله.
وفعلُ خضوع الملك لله هو عملٌ جليانيّ، يعلن أن القبول الجذريّ لمشيئة الله، يقرّر حياةَ كل خليقة وخلاصَها. وفعلُ المسيح المَلك هذا، يبدو كعمله الأخير الذي يعلن عقبة مختلفة يتلاشى فيها عمله. هذا في الظاهر. أما في الحقيقة، فهو عمل يدوم إلى الأبد ويعبّر عن معنى الحدث وجوهره.
وهكذا نكون أمام تعليم ونداء. ونحن لا نفهم النصّ إن لم نشعر بأن هذا العمل الذي به صار الله كلاً في الكلّ، يؤسّس سعادتنا ويعبّر عنها أفضل تعبير. لسنا أمام الكائن المطلق الذي يستبدّ بنا، بل أمام حضور ناشط لقوّة تُحيينا بشكل جذريّ. إذن، يمثّل هذا المنظار الأخير تعليمَ خيرٍ لجميع الذين يريدون أن يسلّموا نفوسهم إلى هذا الإله. كما يمثّل نداء لكي نتبع منذ الآن الطريق الملوكيّة، طريق عبد الربّ المتألّم (فل 2: 5- 11).

الخاتمة
في مخطّط الله، يتضمّن تحقيقُ مُلك المسيح في ملئه، انتصاراً نهائياً على الموت، بالنسبة إلى الذين هم للمسيح. وتضامنُ الكلّ مع المسيح لا يُلغي دعوة كل واحد منا، بل هو يكمّلها. وحياتنا مع المسيح هي أساس وجودنا قرب المسيح القائم من الموت. "فكلنا نحيا في المسيح، وكل واحد حسب رتبته". وحيث يبدو بولس كأنه يميّز بين قيامة المسيح التي هي واقع منذ الآن، وقيامتنا التي تنتظر النهاية، يجب أن نتذكّر أن مرمى فكره لا يكمن في هذا التمييز على مستوى الزمن، الذي أمامه ألف سنة كيوم أمس الذي عبر. فالتمييزُ الأساسيّ يكون بين رتبة المسيح ورتبة الذين هم له. ولكن ما همّ! إن كان الله كلاً في الكلّ، فما الذي ينقصنا لنكون في موكب هذا الملك الذي سيضع جميع أعدائه تحت قدميه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM