|
المسيح قام
15: 1- 11
تعرض الرسالة الأولى إلى كورنتوس، بشكل عام، الموقف الإيمانيّ لدى المسيحيّ، الذي يعترف ملء الاعتراف بحقوق الله، في قلبه وفي حياته العمليّة. والإيمان يطلب من المسيحيّ أن يفكّر بحسب المسيح، فيقبل حكمة الله التي كُشفت له في حدث المسيح الذي مات وقام. والرسول لا يمنع المؤمن من أن يطرح أسئلة حول المعطى الموحى. غير أن هذا لا يعني أننا نحتفظ بما نستطيع أن نفهم ونترك الباقي جانباً. هنا نكون في الهرطقة. وبولس عرض علينا الموقف الروحيّ الذي يدعونا لكي نفهم، بقدر إمكانيّاتنا، المعطى المسيحي الذي يفرض نفسه علينا، شئنا أم أبينا. فالإيمان لا يقتل شخصيّتنا، ولا يُذلّ كرامتنا البشريّة، بل يعرض علينا أن نقبل سرّ الخلاص الذي يتجاوز مفهومنا، كما يدعونا، في هذا المجال، لكي نثق بالله وبابنه يسوع المسيح الذي جاء يكشف مخطّط الآب الخلاصيّ ويحقّقه في العالم. ونقرأ النصّ:
(1) أذكركم، أيها الاخوة، بالبشارة التي حملتها إليكم وقبلتموها ولا تزالون ثابتين عليها، (2) وبها تخلصون إذا حفظتموها كما بشّرتكم بها، وإلاّ فأنتم آمنتم باطلاً.
(3) سلّمتُ إليكم قبل كل شيء ما تلقّيته، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، (4) وأنه دُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، (5) وأنه ظهر لبطرس ثم للرسل الاثني عشر، (6) ثم ظهر لأكثر من خمس مئة أخ معاً لا يزال معظمهم حياً وبعضهم ماتوا، (7) ثم ظهر ليعقوب، ثم لجميع الرسل، (8) حتّى ظهر لي آخراً أنا أيضاً كأني سِقط.
(9) فما أنا إلاّ أصغر الرسل، ولا أحسب نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً لأني اضطهدتُ كنيسة الله، (10) وبنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمتُه عليّ ما كانت باطلة، بل أني جاهدتُ أكثر من سائر الرسل كلهم، وما أنا الذي جاهدتُ، بل نعمة الله التي هي معي. (11) أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم.
إن القول حول قيامة المسيح، في 15: 1- 11، يَفترض أن بولس تلقّى اعتراضاً من قِبَل بعض المؤمنين في كورنتوس، وذلك في خطّ أفكارهم الفلسفيّة الرافضة لقيامة الأجساد (المادة شرّيرة. والنفس وحدها خالدة، كما كانوا يقولون). أما في نظر بولس، فلا نستطيع أن نرفض جزءاً من المعطى الموحى دون أن نشوّهه، وبالتالي نرفضه رفضاً تاماً. وإن ف 15 كله يُتيح لنا أن نستنتج أنه كان هناك بعض المسيحيين المرتبطين بغنوصيّة إباحيّة في كورنتوس، وقد أنكروا كل حياة بعد الموت (رج البراهين في 15: 29- 34). فمجمل الجدالات والتوضيحات، لم تتوقّف عند الحياة بعد الموت، وهذا أمرٌ يقبل به الفكر اليوناني، بل عند قيامة تامّة، لا تتوقّف عند النفس، بل تصل إلى الجسد، إلى الانسان كله: هل مثل هذه القيامة ممكنة، وكيف تتمّ؟
1- الانجيل والتقليد (15: 1-3 أ)
قدّم بولس تعليم الخلاص الذي يكرز به، على أنه المعطى المسيحيّ الذي نقله التقليدُ نقلاً أميناً. هنا نتذكّر أن التقليد، في ذلك الوقت، كان شفهياً بشكل رئيسيّ، وكان يقابله تقليدٌ خطيّ بدأ يتكوّن شيئاً فشيئاً. في هذا المعنى، لا نعارض جزءاً من كلام الله (الكتب المقدّسة) مع الكل (الكتاب المقدّس، العهد القديم، والتقليد الانجيليّ الذي كان بعدُ شفهياً)، بل علينا أن نقبله كلَّه في غناه وفي واقعه الحيّ.
اللفظ الأول: أذكّركم، أعرّفكم. أجعلكم تعرفون بعد أن بشّرتكم. هذا يعني أننا أمام موجَز ما يقوله الانجيل الذي كرز به الرسلُ جميعاً. اعتاد بولس أن يدلّ على صدق رسالته، فيلجأ إلى سلطة الخدمة الرسوليّة التي منحه إياها الربّ يسوع. ولكن هنا، وأمام تعليم مسيحيّ أساسيّ، هو تعليم حول موت يسوع وقيامته، نراه يعود، شأنه شأن سائر الرسل والانجيليّين، إلى التقليد الذي يورد موتَ المسيح الفصحيّ. وهكذا دخل بولس نفسُه في هذا التقليد، فبدا حلقةً شاهدة في سلسلة طويلة (15: 11).
ونلاحظ أهميّة الفعلين: حمل وقبل. أو: نقل وتقبّل. أو: سلّم وتسلّم. نحن أمام التقليد التعليميّ في المسيحيّة الأولى، مع قيمته كشهادة تعليميّة مميَّزة لدى آباء الكنيسة. ففي نظر بولس الرسول، قيمةُ التقاليد المسيحيّة تكمنُ في أنها تعود إلى شخص الربّ يسوع الالهيّ الذي سلّمنا وحي الآب. وهكذا يفهم الكورنثيون المحبّو الجدال، أن حفظ التقليد يشكّل الواجبَ العمليّ الأول لدى المؤمنين. في هذه الروح، يجب عليهم أن يتقبّلوا، بدون نقاش، «طرق المسيح» كما يعلّمها بولس في الكنيسة كلها (4: 17). وبالنسبة إلينا أيضاً، يبقى التقليدُ أساسَ الإيمان. لا شكّ في أن التفكير اللاهوتيّ قد يعمّقه ويترجمه إلى المؤمنين في عصرنا، ولكن هذه الترجمة ظلَّتّ أمينة.
2- اعتراف الايمان حول القيامة (15: 3 ب- 4)
"مات المسيح من أجل خطايانا، حسب الكتب، دُفن وقام في اليوم الثالث حسب الكتب". هذه العبارة التي كرّسها الايمان، تعود إلى الجماعة الأول حيث أخذها بولس. وهذا الايمان يعود إلى مُعطى تاريخيّ ملموس: موت يسوع وقيامته كما أنبأت بهما الكتبُ المقدّسة، وأكّدهما شهودٌ عيان.
أ- موت المسيح
قُدِّم موتُ المسيح في وجهتين: وجهة تاريخيّة ووجهة دينيّة. ما يُسند الواقع التاريخيّ هو الإشارة إلى أنه دُفن، وُضع في قبر، وهو تفصيل تورده الأناجيل الأربعة. هذا ما يؤكّد موتَ المسيح، ويُثبت قيامةَ الأجساد. غير أننا نشدّد بشكل خاص على المدلول الدينيّ لموت المسيح، وهو أمر رئيسيّ في سياق كلامنا، إذ يصل بنا إلى يقين القيامة للمؤمنين. حسب بولس، موت المسيح من أجل خطايانا، هو موت بسبب ذنوبنا (روم 4: 15) بحيث لا يعود الله يحسبها لنا (2 كور 5: 19). وهذا يدفعنا أن نموت عن نفوسنا وعن خطايانا (روم 6: 6) أمانة للمسيح. فموت المسيح على الصليب أزال (15: 24، 26) قدرة الخطيئة.
ب- قيامة المسيح
في عبارة الاعتراف الإيمانيّ التي أوردناها، نلاحظ الفرق في صيغة الفعل. "مات" في صيغة الاحتمال. هو واقع من الماضي. وهو الآن قد "قام" في صيغة الكامل. هي صيغة فعليّة تورد واقعاً مضى وما زالت نتيجتُه حاضرة. فهدفُ الرسول واضح. تبقى قيامة المسيح حقيقة إلهيّة يدوم عملُها إلى الأبد. وهي تتضمّن بالتالي قيامة جميع المؤمنين (15: 20؛ 2 كور 4: 14)، وتُشير إلى انتصار الله النهائيّ كما تحقّق بالمسيح (15: 24- 28).
ج- البرهان الكتابيّ
إن قراءة العهد القديم، كما قام بها بولس، ليست تفسيراً يشبه ما نفعل اليوم. فهدفُها لا يقوم في البحث عن المعنى الحرفيّ للعهد القديم، بل كشف معناه اللاهوتيّ حول موت المسيح. مثلُ هذه النظرة تنبع من وحدة مخطّط الله الخلاصيّ الذي أُعلن في البدء وهيّأ خلاصاً سوف يحقّقه المسيحُ فيما بعد. إذن، يقدّم هذا التفسير تأكيداً دينياً جديداً، بعد أن ينطلق من عبارات قديمة تدلّ بشكل أو بآخر على الحدث المسيحاني الآتي (أش 53: 8؛ هو 6: 2؛ يون 2: 1؛ 2 مل 20: 5؛ مز 16: 10- 11).
3- شهود القيامة (15: 5- 7)
أ- رؤية القائم من الموت
تكلّم بولس عن ظهور (رؤية)، بالعودة إلى الحدث المسيحيّ الاسكاتولوجيّ (1 تس 2: 3ي؛ 1كور 3: 13؛ روم 8: 18) أو إلى واقع تاريخيّ من السرّ المسيحيّ (1 كور 2: 10؛ روم 1: 17- 18؛ فل 3: 15). استعمل بولس هنا فعل "رأى" في معنى "رؤية تاريخيّة" (كو 2: 1؛ 1كور 9: 1)، على ما فعل العهد القديم، حيث أبرزَ هذه الفعلُ الظهورات الالهيّة التي صُوّرت بشكل محسوس. وهنا، رأى التلاميذ، من جديد، الربّ يسوع، فعرفوا أنه قام، وشهدوا لهذه القيامة. وهذا ما عرفه بولس أيضاً بعد أن رأى الربّ على طريق دمشق. لهذا قدّم نفسه كشاهد مميّز للقائم من الأموات، وأضاف خبرته الشخصيّة إلى شهادات اعتادت أورشليم أن نذكرها. وقد تضمّن تقليدُ أورشليم خمس مجموعات من الشهود، وهذا ما يدلّ إلى أي حدّ اهتمّ التقليد المسيحيّ الأول بأن يلتقي بالشخص التاريخيّ، شخص ابن الله الذي صار انساناً.
ب- شهود يتحدّث عنهم التقليد
قدّم العهدُ الجديد خمس لوائح لظهورات القائم من الموت، وذلك بالاضافة إلى تلك التي نستطيع أن نسمّيها «غير رسميّة» (مريم المجدليّة، تلميذا عماوس). نلاحظ أن هذه اللوائح تجعل، بشكل إجماليّ، الظهورَ الأول للنساء. إذا قابلنا 1 كور مع الأناجيل، فالرسالة تقدّم هنا لائحة ظهورات أكثر تفصيلاً دون أن تشير إلى ظهور الربّ للنسوة أو تلميذي عماوس. وهي تفعل ما تفعل في ترتيب مبنيّ بناء محكماً، حيث يحلّ بطرس في المقام الأول، ويتبعه "الاثنا عشر"، وهذا أمر طبيعيّ في تقليد الإيمان الرسميّ، في كنيسة أورشليم. فتعلّقُ بولس بهذه الكنيسة يدلّ على أمانته للتقليد الذي احتفظت الأناجيل عنه موجزاً يتحلّى بالأمانة. فبولس، حين يعظ أو يكتب، لا يستنبط شكلاً جديداً من المسيحيّة. فرسائلُه تقدّم لنا تفكيراً لاهوتياً حول المعطى المسيحيّ التقليديّ الذي يفترضه الرسولُ معروفاً. لهذا، فهو يستند إلى هذا التقليد ويتقبّله بأمانة.
إن الظهور لخمسمئة اخوة معاً، كما يُذكر هنا، يكوّن الشهادة الوحيدة التي حُفظت لنا عن ظهور المسيح للجماعة التي وُلدت في أورشليم. وأخيراً، لا نجد الظهور ليعقوب إلاّ في تقليد أورشليم، ونحن نفهم هذه الإشارة لأنها تعني أول رئيس للجماعة المسيحيّة في المدينة المقدّسة. ويُنهي بولس كلاماً تعمّده، بذكر الظهور لجميع الرسل: هذا ما يعدّ ضمّ إسمه إلى اللائحة، والكلام عن ظهور المسيح "لآخر الرسل".
4- بولس الرسول والشاهد للقيامة (15: 8- 10)
انضمّ اسم بولس هنا إلى لائحة الشهود، من أجل الكورنثيين. والشرح الذي يلي يشتمل نيّة هجوميّة تجاه جماعة تريّثت حول سلطة الرسول المؤسّس. في الواقع، تساءلت جماعةُ كورنتوس في شأنه. وحين قرّب بولس بين رؤية الربّ يسوع وصفته كرسول (هنا وفي 9: 1)، فقد توخّى أن يؤسّس سلطته في نظر الكورنثيّين. فالمعرفة التي نالها من الروح القدس، والحياة الجديدة التي أُعطيت له في المسيح، منحتاه الثقة بأنه يمارس خدمته كرسول، حين يبشّر المسيحيّين بمصالحة البشر مع الله بالإيمان الذي يبرّر (2 كور 5: 16- 21). فبولسُ يعرف كلَّ المعرفة، أن ينعم بالحقوق عينها التي ينعم بها سائرُ رسل المسيح (1 تس 2: 7؛ 1 كور 9: 5).
أكّد بولس، مرات عديدة، في مراسلته مع الكورنثيين، أن حياته جاءت حسب القاعدة التي تجعل من الانسان رسولاً: فقد قبلَ أن يعيش في الضعف والاضطهادات، لكي تظهر عبرها قدرةُ الله الفاعلة وحدها في ثمار أنتجتها رسالتُه. وهكذا يعود كل مجد إلى الله وحده. هذا الاله، بولس هو خادمه الأمين، شأنه شأن المسيح، وهو يعيش في السجود والشكر دون أن يأخذ شيئاً لنفسه.
5- خاتمة (15: 11)
أ- موت المسيح وقيامته جوهر الحياة المسيحيّة
تذكّرنا آ 11 مرّة أخيرة أن موت المسيح يسوع وقيامته تشكّلان قلب التعليم المسيحيّ حول الخلاص، والموضوع الرئيسيّ في إيماننا. فهذا ما يجب أن يُلهم ويكوّن حياتنا المسيحيّة كلها. فإيمان الكنيسة يتأسّس على تأكيد دينيّ يتجسّد في تأكيد تاريخيّ يُثبته بولسُ بلائحة طويلة من الشهود. وهكذا يتثبّت تثبّتاً واضحاً الطابع التاريخيّ للمعطى المسيحيّ، في ما يتعلّق بالحدث المركزيّ، بواسطة كاتب اعتاد أن يستخرج منه المدلول الروحيّ.
ب- معطى الوحي ومتطلّبات الحضارة
بسبب ما قالته الفلسفة اليونانيّة، استصعب بعضُ المسيحيّين في كورنتوس القول بقيامة الموتى، وأخذوا يناقشون هذا التعليم، فاتّخذ بولس تجاههَم موقفَه المعتاد حين يطرح سؤالاً حول المعطى المسيحيّ، وهو موقف مهمّ بالنسبة إلى عصرنا، حيث التبدّلات العميقة في ظروف الحياة والفكر، تدفع بعض المؤمنين إلى الشك بالقيم المسيحيّة أو أقلّه بالتعابير التي بها يصلنا الإيمان. ما يرفضه بولس في 1 كور، هو أن المناقشة حول المعطى الإيمانيّ، تتمّ في وجهة بشريّة. فإذا وجب على المسيحي أن يفهم المعطى الموحى، فلكي يقبله كله (و لا يكتفي بجزء منه) بإيمان واعٍ وسخيّ، لا ليأخذ منه ما يشاء، ويترك الباقي. فالكنيسة التي هي حارسة وديعة الوحي، تسهر لكي نفهم هذا المعطى فهما صحيحاً ونترجمه في حياتنا اليوميّة.
ج- الانجيل والتقليد
في النصّ الذي قرأنا، نخطئ إن عارضنا الانجيل ككلام روحي وإلهيّ، مع تقليد نحصره في موجز بشريّ للكرازة الانجيليّة. فكما أن الكتاب المقدّس لا يُفهم إلاّ بالروح (2 كو 3)، لا تتمّ كرازةُ التقليد بواسطة الرسول (أو الواعظ) إلاّ في الروح (12: 3). فهذا الروح هو المبدأ الوحيد للكتاب وللتقليد، وقد حاول بولسُ فنقل إليه معرفة روحيّة عميقة لسرّ المسيح وكنيسته (أف 3: 3ي). أما الكتاب فيبقى الأساس المفروض لكل تفسير للتقليد. ومعطى الوحي يبقى دوماً الكتابَ المقدّس وفهمهَ بواسطة التقليد. وفي هذا المقطع، يبقى الموت والقيامة جوهرَ الانجيل، والموضوعَ الأساسيّ في التقليد الذي هو صدى وتفسير حيّ للكتب المقدّسة: هذا ما يعظ به بولس بقوّة الروح.
الخاتمة
حين أراد بولس أن يحدّثنا عن القيامة ويردّ على المشكّكين بهذه الحقيقة التي هي أساس إيماننا، عاد إلى قيامة المسيح، كما يعلنها أول "نؤمن" في كنيسة كورنتوس، وذكر الشهود العديدين الذين تراءى لهم الربّ بعد موته. بعد هذا يستطيع في برهانه الذي ينطلق من المستحيل (وإن كان المسيح ما قام) أن يعلن بملء يقينه: "لكن الحقيقة هي أن المسيح قام من بين الأموات، وهو بكر من قام من رقاد الموت" (15: 20).
|