مع كنيسة كورنتوس : تاريخ الشعب الأول عبرة لنا

تاريخ الشعب الأول عبرة لنا
10: 1- 13
حين يقرأ المؤمن أحد المزامير "التاريخيّة"، التي تروي تاريخ الشعب منذ الآباء حتّى موسى والحياة في البريّة والوصول إلى أرض كنعان، فهو لا يهتمّ أول ما يهتمّ بالتاريخ الدنيويّ على أنه دنيويّ، بل يقرأه على أنه تاريخ مقدّس ويعيشه من جديد كتاريخ يقدّسه: "أصغوا، يا شعبي، إلى شريعتي، أميلوا آذانكم إلى أقوالي" (مز 78: 1). "التمسوا الربّ وعزّته، واطلبوا وجهه كل حين" (105: 4). ذاك هو معنى التاريخ بالنسبة للرسالة إلى العبرانيّين. فحين أنشد عب 11 إيمان الآباء، حثَّ قرّاءه على الثبات: "علينا أن نُلقي عنّا كلَّ ثقل وكل خطيئة عالقة بنا، فنجري بعزم في ميدان الجهاد الممتدّ أمامنا" (عب 12: 1). إن هذه النظرة إلى التاريخ المقدّس الذي يعلّمنا إن شئنا ويقدّسنا، هي نظرة بولس في ف 10 هذا. قبل أن نضع النصّ في سياقه، نقرأ المقطع كاملاً في آ 1- 13:
(1) فلا أريد أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كانوا كلّهم تحت السحابة (الغمامة)، وكلّهم عبروا البحر، (2) وكلّهم تعمّدوا لموسى في السحابة وفي البحر، (3) وكلّهم أكلوا طعاماً روحياً واحداً، (14) وكلّهم كانوا يشربون شراباً روحياً واحداً من صخرة روحيّة ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح. (5) ومع ذلك، فما رضيَ الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتاً في الصحراء. (6) حدث هذا كلّه ليكون لنا مثلاً، فلا نشتهي الشرّ مثلما اشتهوه هم، (7) ولا تعبدوا الأوثان مثلما عبدها بعضهم، فالكتاب يقول: "جلس الشعب يأكل ويشرب، ثم قاموا يلهون". (8) ولا نستسلم إلى الزنى مثلما استسلم بعضهم، فمات منهم ثلاثة وعشرون ألفاً في يوم واحد، (9) ولا تجرّب المسيح مثلما جرّبه بعضُهم، فأهلكتهم الحيّات. (10) ولا تتذمّروا أنتم مثلما تذمّر بعضهم، فأهلكهم ملاكُ الموت. وحدث لهم هذا كله ليكون نذيراً، وهو مكتوب ليكون عبرة لنا نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة. (12) فليحذر السقوط من ظنّ أنه قائم. (13) ما أصابتكم تجربةٌ فوق طاقة الانسان، لأن الله صادق فلا يكلّفكم من التجارب غير ما تقدرون عليه، بل يهبكم مع التجربة وسيلة النجاة منها والقدرة على احتمالها.

1- سياق النصّ
الموضوع: حادث ضمير في كورنتوس. حصل شكّ كبير على مستوى الإيمان، فهدّد الجماعة الفتيّة. فقد اعتبر بعضُ المهتدين إلى المسيحيّة، أن الآلهة الوثنيّة ليست بشيء. وهكذا، كانوا يجلسون بكل حرّيةِ ضمير مع أبناء المدينة (الوثنيين) ويأكلون من اللحوم التي ذُبحت إكراماً للآلهة. فاعتبر آخرون، لم يبلغ بهم الإيمانُ بعدُ إلى النضوج، أن مثل هذه المشاركة في الطعام انتهاك للقدسيّات وتعلّقٌ بالأصنام. تَوافق بولسُ مع الفئة الأولى، ورأى أن المسألة نسبيّة: "نحن نعرف أن الوثن لا كيان له" (8: 4)، ليس بشيء في العالم. هو حجر وخشب. ولكنه رفض أن يستخفّ بالفئة الثانية. واعتبر أن الجوهر الذي نحافظ عليه، هو المحبّة التي تُشرف على موقف من «استنار» تجاه من لم يدخل بعدُ في ملء نور المسيح.
وبعد أن وضع بولس المبدأ الأساسيّ، وسّع تعليمه في ثلاث مراحل. الأولى، يُدعى المسيحيّ لأن يتخلّى عن بعض الحقوق من أجل خير أسمى. والرسول نفسه أعطى المثال حين تخلّى عن فوائدَ ماديّة مرتبطة بالوظيفة الرسوليّة، من أجل رسالة فاعلة ناجعة (ف 9). الثانية، قد يكون المسيحيّ مستنيراً في إيمانه دون أن يكون بمنأى عن التجربة. فخبرُ العبرانيين في الصحراء، أفصح مثال هلى ذلك (10: 1- 13). الثالثة، المشاركة في "مائدة الربّ" تستبعد كل أشكال عبادة الأصنام أو المشاركة في «مائدة الشياطين" (10: 14- 22).
من المهمّ أن نلاحظ الرباط الوثيق بين المرحلة الثانية (السقوط في التجربة) والمرحلة الثالثة (مائدة الشياطين) في البرهان الذي قدّمه بولس. وإن كان الرسول أعطى أحداث الصحراء مثلاً، فلأنها تحمل التعليم من أجل حياة المسيحيّ الأسراريّة، ولا سيّما الافخارستيا التي هي قلب الأسرار السبعة. وقدّم العبرة: "وحدث لهم هذا كله ليكون نذيراً، وهو مكتوب ليكون لنا عبرة" (آ 11، لكي ينبّهنا). واستخرج النتيجة: "فلذلك اهربوا، يا أحبّائي، من عبادة الأوثان" (آ 14).
دعانا بولس في برهانه هنا، إلى أن نتأمّل أولاً في تدخّلات الله في تاريخ الآباء (عبور البحر، حماية الغمامة، المن وماء الصخر)، وهي صورة مسبقة عن الأسرار المسيحيّة ولا سيّما العماد والافخارستيا. فبولس يقول إن بني اسرائيل "تعمّدوا" (غطسوا في الماء)، أنهم "أكلوا" طعاماً روحياً (كالمسيحيّين الذين أكلوا جسد المسيح)، و"شربوا" شراباً روحياً (يقابل دم المسيح). ولكن المسألة المطروحة أمام الرسول هي اللحوم المذبوحة للأصنام. لهذا استعاد رمزَ القربان المقدس الذي رأى صورته المسبقة في المن ومياه الصخر.

2- حسنات الربّ (10: 1- 4)
نبدأ فنلاحظ معنى التقليد الذي يحمله بولسُ إلى الكورنثيّين. فالتدبيرُ الجديد الذي أسّسه المسيح، لا يحلّ تدبيرَ العهد القديم بشكل جذريّ. وإذ أراد الرسول أن يصوّر وضعَ المسيحيّ، عاد إلى وضع الآباء في الإيمان. فبين العهد القديم والعهد الجديد، هناك انقطاع، بلا شكّ، لأن، مع المسيح، آدم الجديد (روم 5: 15)، تدشّنت خليقةٌ جديدة (2 كور 5: 17). ولكن كما أن آدم كان "صورة ذاك الذي سيأتي"، كذلك خبرُ الآباء هو "مَثلٌ لنا" (آ 6). وهكذا يُحافظ التقليدُ على بعض التواصل والاستمراريّة.
في آ 1- 4، يشدّد بولس على أن جميع (تتردّد لفظةُ "كل" خمس مرات) العبرانيين نعموا بعطايا الربّ: العماد (المرور في البحر)، الطعام الروحيّ (المنّ)، الشراب الروحي (ماء الصخر).
أ- العماد لموسى (آ 1- 2)
ندهش أن يكون بولس رأى المعمودية (المسيحيّة) في عبور البحر "كما على اليابسة". فالعماد هو غطس وانغماس في الماء. هنا نشير بصورة عابرة إلى الذين قرأوا النص البولسيّ في إطار أراميّ فقالوا: "كلّهم عبروا (ع م د، ع ب ر) البحر بفضل موسى". غير أن نصّ الرسالة يبقى واضحاً: "كلّهم تعمّدوا لموسى في السحابة وفي البحر". ما معنى "تعمّدوا لموسى"؟ هناك من توسّع في هذين اللفظين، فقال: "اتّحدوا بموسى كما بمعموديّة". ولكن العبارة تجد ما يقابلها في لفظين آخرين: "تعمّدوا للمسيح" (روم 6: 3؛ غل 3: 27). نحن هنا في الواقع أمام اختصار لعبارة كاملة: "تعمّد باسم الربّ يسوع" (أع 8: 16؛ رج 1 كور 11: 3، 15: تعمّدتم باسمي).
ماذا تعني هذه العبارة؟ يمكن أن نختصر كلامنا كما يلي: موتُ يسوع وقيامته هما الحدثُ المؤسِّس لشعب الله الجديد. فمن تعمّد في موت المسيح، اتّحد بالمسيح الذي هو رأس شعب الله. وعبورُ البحر، بفضل حماية السحابة، هو الحدثُ المؤسّس لشعب اسرائيل. فجميع الذين عبروا البحر، اتّحدوا بموسى، رئيس الشعب الأول، وكلُّ بني اسرائيل تكوّنوا "كشعب الله" حين نعموا بتدخّل الربّ. والسحابةُ التي كانت تقود الشعب عند خروجه من مصر وخلال عبور الصحراء (خر 13: 21؛ عد 9: 15- 23؛ تث 1: 33)، هي التي كانت حامية لبني اسرائيل خلال عبور البحر. قال سفر الخروج (14: 19- 20):
وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم. دخل بين جيش المصريين وجيش بني اسرائيل، فكان من جانب أولئك مظلماً، ومن جانب هؤلاء ينير الليل حتّى لا يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل.
في نظر بولس، لا تقوم القراءةُ النمطيّة لتاريخ بني اسرائيل، بتوقّف عند الواقع الجديد كأنه نسخة طبق الأصل عن حدث نمطيّ سابق. فنقطةُ الانطلاق هي دوماً الواقع الجديد: وهنا أراد الرسول أن يشرح العماد المسيحيّ الذي هو عماد بالماء والروح كما قال يوحنا (3: 5؛ رج تي 3: 5). فنستطيع القول إن السحابة والبحر هما بالنسبة إلى موسى، ما الروح والماء هما في العماد بيسوع المسيح.
ب- المنّ وماء الصخر (آ 3 -4)
يرى الشرّاح في المنّ الذي هو الطعام الروحيّ وهبة الله، صورة (أو: نمطاً) عن الافخارستيا. قال الربّ لموسى: "الآن أمطر لكم خبزاً من السماء، وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه كلَّ يوم في يومه"... ثم قال لهم موسى: "هو الخبز الذي أعطاكم الربّ لتأكلوا" (خر 16: 4، 15). تجاه هذا، نقرأ يو 6: 49- 51: "آباؤنا أكلوا المنّ في البريّة وماتوا، لكن من يأكل من هذا الخبز النازل من السماء لا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. من أكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد".
ذاك هو الطعام. والشراب؟ يبقى رمزاً بعيداً، وهو لا يشير إلى الافخارستيا إلاّ بالسخاء الذي أظهره الله حين أغدقه على شعبه. قال الربّ لموسى: "خذ العصا واجمع الجماعة، أنت وهرون أخوك، وكَلِّما الصخرة على مشهد منهم فتعطي مياهها، فيشربون هم وبهائمُهم" (عد 20: 7). ولكن يبقى أن الجمع بين المن والماء بشكل رمزيّ، هو في نظر بولس، صورة عن الوليمة الافخارستيّة التي سوف يتكلّم عنها بعد آ 14. ويُطرح سؤالان: لماذا يصفُ بولس بالروحيّ طعامَ الآباء وشرابهم؟ وما تعني هذه «الصخرة» التي كانت ترافقهم؟
الطعام والشراب والصخرة هي روحيّة، لا لأنها عطيّة الله وحسب (خبز السماء، طعام الملائكة، نح 9: 15؛ مز 78: 24؛ حك 16: 20؛ رج يو 6: 32- 33)، لا لأنها خلّصت بني اسرائيل من الموت جوعاً وعطشاً في الصحراء فقط (خر 16: 3؛ 17: 3)، بل بشكل خاص، لأن الصخر الذي تفجّر منه الماء هو روحيّ، بعد أن تماهى مع المسيح (الصخرة هي المسيح). فالعنصر الأخير (الصخرة) هو الذي يلقي بضوئه على الأمور السابقة ويُعطيها بُعداً روحياً. هنا ظهر كلُّ إيمان بولس في وحدة مخطّط الله الخلاصيّ، وهو مخطّط يبقى فيه حجرُ الغلقة يسوعَ المسيح. بهذا الإيمان تجرّأ فماهى بين الصخرة وشخص المسيح ذاته. وإذ فعل ما فعل، لم يبقَ على مستوى البلاغة والشعر، بل قدّم أساساً واقعياً وحقيقياً لحضور المسيح الروحي هذا، في الخروج الأول الذي أعدّ الخروج الثاني الذي هو الفداء النهائيّ. وهذا الصخر هو روحيّ، لأنه يصوّر مسبقاً المسيحَ، ينبوعَ الحياة. والمياه التي تجري منه لا يمكن إلاّ أن تكون روحيّة. وبما أن المن والماء واقعان يسيران معاً، فهما يكوّنان معاً الوليمة السرّية في الخروج، بعد الفصح (نح 9: 15؛ تث 8: 15- 16)، يكوّنان«وليمة البريّة» التي هي صورة سابقة للوليمة الافخارستيّة وفصح الربّ.
وإذا اردنا أن نفهم صورة "الصخرة التي ترافقهم"، لا بدّ من العودة إلى التقليد اليهوديّ الذي عرفه بولس، تلميذ غملائيل (أع 22: 3). فأصلُ هذا التقليد يعود إلى الترجوم الفلسطيني لسفر العدد 21: 17:
"البئر التي حفرها في السابق أمراء العالم، ابراهيم واسحق ويعقوب، قد أكملها رجال فطنون في الشعب، الحكماء السبعون الذين أفرزوا من الشعب. حفرها بعصيّهم، كاتبا اسرائيل، موسى وهرون. ومنذ البرية أعطيت لهما هديّة... وتحوّلت لهما سيلاً فائضاً. وصعدت معهما إلى الجبال، ونزلت معهما في الوديان العميقة" (ترجوم يورشليمي).
يروي خر 17: 1- 7 وعد 20: 1- 11 حدث مريبة: أمر الله موسى فضرب بعصاه الصخرة ليُخرج منها ماء يروي غليل الشعب. وضمّ الأدبُ اليهوديّ في تقليد واحد خبر مريبة وحكاية حول بئر (أو ينبوع) هي عطيّة الله نالتها استحقاقاتُ مريم، كما ارتبطت حمايةُ السحابة باستحقاقات هرون، والمنّ بصلاة موسى. وحسب الحكاية، رافقت هذه البئر، هذه الصخرة، الشعبَ طوال عبوره للصحراء. وها نحن نورد نصاً عن هذا التقليد الذي انتشر في أوساط عديدة:
"هكذا كان الينبوع الذي رافق بني اسرائيل في الصحراء: كان يشبه صخراً بشكل منخل... يصعد معهم في الجبال، وينزل معهم في الأودية. وحيث يُقيم بنو اسرائيل، كان يقيم قبالة باب خيمة الاجتماع".
وكما في نمطيّة المعموديّة، انطلق بولس من خبرته في العماد المسيحيّ، كذلك في نمطيّة المن والماء ، التي هي صورة الافخارستيا، أعاد قراءة أحداث البرّية على ضوء أحداث النهاية التي بدأت منذ الآن (آ 11). غير أن هذه القراءة الجديد ليست ممكنة، إلاّ لأن الأشخاص والأمور والأحداث السابقة تنتظر كمالَها بشكل سريّ، وهذا لا يتمّ إلاّ في المسيح وفي الكنيسة.

3- خطايا بني اسرائيل في البريّة (10: 5- 10)
هنا نقرأ مقطعاً عن خطايا بني اسرائيل، داخل منطق محدّد: رفضوا المنَّ الذي هو عطيّة الله (آ 6، 9)، شاركوا في ولائم ذبائحيّة مع الوثنيّين (آ 7- 8). وقراءةُ مقاطع العهد القديم التي يلمّح إليها بولسُ، تلقي الضوء على هذه الآيات. أجل، إن تاريخ الشعب في البريّة يقدّم لنا عبرة، نحن المسيحيين، وينبّهنا إلى ما يمكن أن نقع فيه من خطأ.
في القسم الأول (آ 1- 4) تحدّث بولس عن جميع العبرانيّين الذين نعموا بحسنات الله. وماذا نلاحظ الآن تجاه هذا؟ "ما رضي الله عن أكثرهم". أسخطوه (آ 5). حينئذ دعا الرسول المسيحيّين ألاّ يقتدوا بسلوك آبائهم الذين صوّر خياناتِهم المتعاقبة. بما أن الآباء خطئوا، ماتوا عقاباً على خطاياهم. ويعلن بولس في آ 6، 11 أن هذه الأحداث هي نمطيّة أيضاً، ولكن لا كما كان الأمر بالنسبة إلى العماد والافخارستيا. "فإن كان أكثرُهم سقط في البريّة" فلأنهم لم يتجاوبوا مع نعمة الربّ التي عمّدتهم لموسى وغذّتهم بطعام وشراب روحيّين. ويذكر بولس هذه العقابات التي أصابتهم من أجل هدف إرشادي: ليتجنّب الكورنثيّون أن يقتدوا بسلوك آبائهم، لئلاّ ينالوا ما نال هؤلاء الآباء من عقاب. فالمؤمن الذي تغذّى من مائدة الربّ، ويشارك، في الوقت عينه، في مائدة الشياطين، يحكم على نفسه بموت محتّم لأن "عاقبة الخطيئة هي الموت" (روم 6: 21).
ويتابع النصّ في آ 6: "فنحن لا نشتهي الشرّ مثلما اشتهوه هم" (أي آباؤنا). نجد هنا تلميحاً إلى ما اشتهاه العبرانيون حين كانوا عبيداً في مصر: اشتهوا اللحم والسمك والقثار والبطيخ والكراث والبصل والثوم (عد 11: 4- 5). تنكّروا لعطيّة الله، فأعلنوا، في شهوتهم: "والآن فنفوسنا يبست: لا شيء أمام عيوننا غير المنّ" (عد 11: 6).
"لا تعبدوا الأوثان". لا تكونوا عبّاد أوثان (آ 7) مثل آبائكم: ما اكتفوا بأن يركعوا أمام عجل ذهبيّ، بل عاشوا عمقَ عبادة الأوثان حين شاركوا في وليمة تشبه الولائم الذبائحيّة لدى الوثنيين (خر 32: 6). "ولا تستسلموا للزنى" (آ 8). توقّفوا عن الزنى الذي سبق ومارَسْتُموه. فآباؤكم زنوا مع بنات موآب، وقدّموا ذبائح لآلهتهنّ، وأكلوا من طعام تلك الذبائح (عد 25: 1- 9). "لا تجرِّبوا المسيح" (آ 9). توقّفوا. هكذا جرّبَ الآباء الله، حين تنكّروا للخروج من مصر (نسوا عمادهم). قالوا بوقاحة: "فلا خبز لنا ولا ماء، ونفوسنا قضت من هذا الطعام القليل" (عد 21: 4- 6). "ولا تتذمّروا على الله" (آ 10)، كما تذمّروا عند أبواب أرض الموعد، حين رفضوا أن يسمعوا لكالب ويشوع اللذين جسّا الأرض، وتبعوا أنبياء قادوهم إلى الهلاك (عد 13: 25- 14: 37).

4- خاتمة المقطع (10: 11- 13)
بعد هذه السلسلة من الخيانات التي ظهرت فيها مسيرةُ الخطيئة التي تقود إلى الموت، استعاد بولس هنا ما سبق وقاله في آ 6: "وحدثَ لهم هذا كلُّه... ليكون لنا عبرة نحن الذين وصلنا إلى نهاية الأزمنة". نحن الذي صرنا على أبواب أرض الموعد. هنا نتذكّر سياق المقطع الذي نقرأ (آ 1- 13) مع الخاتمة في آ 12: "من ظنّ أنه قائم فليحذر من السقوط". هو تنبيه مباشر يتوجّه إلى الذين يظنّون أنهم يمتلكون المعرفة، وفي الوقت عينه يقدّمون حلاّ "خفيفاً" لمسألة اللحوم المذبوحة للأوثان. "العلم ينفخ (يزهو بصاحبه)، والمحبّة تبني" (8: 1). وثق هؤلاء بعلمهم ثقةً مفرطة، واهتموا قليلاً بالمحبّة، فأثاروا غيرة الرب (10: 22) كما فعل آباؤهم من قبل، فدلّوا على خياناتهم.

خاتمة
حين كتب بولس هذه السطور، لم يُنكر ما سبق وكتبه في موضع آخر عن حريّة المسيحيّ السامية، هذا المسيحيّ الذي يُقيم فيه روحُ الربّ (2 كور 3: 17). غير أن هذه الحريّة لا تعني أني أسمح لنفسي بكل شيء بلا قيد ولا شرط (6: 12 نقرأه في سياق 10: 23). وقد قال لنا بولس في الرسالة إلى غلاطية: "فالمسيح حرّرنا لنكون (لنبقى) أحراراً... ولكن لا تجعلوا هذه الحريّة حجّة لارضاء الجسد (اللحم والدم وما فيهما من ضعف وميل إلى الخطيئة)، بل اخدموا بعضُكم بعضاً بالمحبّة" (5: 1، 13).
وها هو بولس يدعونا إلى أمانة لا مشروطة لله الذي دعانا بالمعموديّة، وغذّانا بالافخارستيّا. وفي خبر الآباء، نكتشف الحياة المسيحيّة، حيث نفهم أن الانتماء لشعب الله لا يشكّل ضمانة ضدّ كل المخاطر. والتعارضُ بين "كل" العبرانيين الذين شاركوا في الخروج، و"القليلين" الذين دخلوا إلى أرض الموعد، هو تعليمٌ للمسيحيّين. فبولس يعلن بشكل احتفاليّ: "يريد الله أن يخلّص جميع البشر" (1 تم 2: 4). ولكن لا يبلغ إلى هذا الخلاص إلاّ أولئك الذين يهربون من كل عبادة أصنام. يبقى علينا أن نسمع ما يقوله مز 95: 7- 8: "اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبَكم كما في مريبة، في البريّة".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM