مع كنيسة كورنتوس : الرسول خادم ووكيل

الرسول خادم ووكيل
4: 1- 5

أسّس بولسُ جماعة كورنتوس خلال رحلته الرسوليّة الثانية، سنة 50- 52. وقدّم لنا أع 18: 1- 18 نبذة قصيرة عن هذا التأسيس. وبما أن كورنتوس وقعت على ملتقى طرق البحر المتوسّط، نمت الجماعةُ نمواً سريعاً. فافتخر بها الرسول وبحقّ. ولكن لا لوحةَ بدون ظلال. فقد ظهر في هذه المسيحيّة الفتيّة بذارُ القلاقل، وعددٌ من الانقسامات، بسبب تنوّع العناصر التي أقامت في هذه المدينة الواسعة حيث تجاورَ العمّالُ وأصحابُ الصناعات الوضيعة والعبيد، مع بعض الأغنياء والوجهاء. فكيف يستطيع الرسول أن يكلّمهم فينقلهم من ماضٍ منحطٍ على المستوى الخلقيّ والاصناميّ، دون أن يُثير رفضَهم؟ وفي أي حال، ما هو إلاّ رسول المسيح ووكيل أسرار الله، وهو بهذه الصفة يعمل في كنيسة كورنتوس. وقبل أن ندخل في إطار الرسالة، نقرأ النصّ:
(1) فليعتبرنا الناس خدّاماً للمسيح ووكلاء أسرار الله. وكلّ ما يُطلب من الوكلاء أن يكون كلُّ واحد منهم أميناً. (3) وأنا لا يهمّني كثيراً أن تدينوني أنتم أو أي محكمة بشريّة، بل لا أدين نفسي، (4) فضميري لا يؤنّبني بشيء، إلاّ أن هذا لا يبرّرني، وإنّما ديّاني الربّ. فلا تحكموا على أحد قبل الأوان، حتّى يجيء الربّ الذي يُنير ما خفيَ في الظلام ويكشف نيّات القلوب، فينال كلُّ واحد من الله ما يستحقّه من المديح.

1- سياق النصّ
نبدأ فنتحدّث عن الانقسامات في كورنتوس، ثم نعود إلى تحذير الجماعة من خطر هذه الانقسامات على الرسالة وعلى الشهادة التي يجب على الكنيسة أن تؤدّيها.
أ- الانقسامات في كورنتوس
هذه المسألة الشائكة هي في أساس الرسالة الأولى إلى كورنتوس، وقد احتلّت ربع الرسالة. لقد دخل الخلافُ إلى الجماعة يوم دخل إليها مسيحيّون ووعّاظ جاءوا من أماكن أخرى (1: 11- 12). حين تكوّنت "أحزابٌ" ستكون بدايةَ أزمة بين الرسول والكنيسة التي أسّسها بحيث يقول لهم يوماً: "فلو كان لكم في المسيح عشرة آلاف مرشد، فما لكم آباء كثيرون، لأني أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتُها إليكم" (آ15).
وصل أولاً إلى كورنتوس، أبلوس ذاك المدافع عن الإيمان، الذي أثّر في الجماعة تأثيراً عميقاً. عرف الكتبَ المقدّسة وفسّرها عن طريق الاستعارة. وتميّز بالفصاحة، فتعلّق به الناس. أما هو فرفضَ أن يجاريهم في "تحزّبهم". ولما طلب منه بولس أن يمضي إلى كورنتوس في غيابه، "رفض بإصرار أن يجيئكم في الوقت الحاضر" (16: 12).
وتكوّن حزب آخر حول كيفا (بطرس). شدّد على أولويّة بطرس، رئيس الاثني عشر، وحطّ من قدر سلطة بولس الرسوليّة. كما اهتمّوا بالممارسات اليهوديّة، دون أن يشدّدوا عليها على مثال تبّاع يعقوب، أخي الربّ. لا يُذكر هذا الحزب سوى في 1: 12 و3: 22. هذا يعني أنه لم يكن مهماً، ولم يشكّل خطراً على الجماعة.
والحزب الثالث "تحلّق" حول بولس، الذي شدّد على حريّة المؤمن في المسيح. ولكن بولس سوف يُبعدهم عنه. إن كان العماد هو ما يربط المؤمن برسول من الرسل، فبولس لم يعمّد الكثيرين في كنيسة كورنتوس. وسوف يوجّههم إلى المسيح الذي صُلب لأجلهم، والذي باسمه تعمّدوا. قال لهم: "هل المسيح انقسم؟ هل بولس هو الذي صُلب لأجلكم؟ أو باسم بولس تعمّدتم" (1: 13)؟
وتبقى الفئة المرتبطة بالمسيح. هل اعتبرت نفسها في علاقة حميمة معه، فما عادت بحاجة إلى التقليد الرسوليّ ومؤسَّسة الكنيسة. رأوا أنهم لا يحتاجون إلى "معلّم" من عند البشر، فاستسلموا لايحاءات جاءتهم وحدهم دون غيرهم. لهذا كتب بولس في 2 كور 10: 7: "من اعتقد أنه للمسيح، فليتذكّر أنه بمقدار ما هو للمسيح، كذلك نحن أيضاً للمسيح". بل سيصفهم الرسول بأنهم يبحثون عن مسيح آخر (2 كور 11: 14).
ب- تحذير بولس
بعد أن أورد بولس هذه الانقسامات، ندَّد بروح التشيّع داخل هذه الجماعة التي تشكّل أقليّة في مدينة تعدّ نصف مليون نسمة على الأقلّ. وبدأ بالحزب الذي ينتمي إليه: هم لا يرتبطون بانسان من الناس مهما علا مقامُه. وما نالوا الخلاصَ بفضل رسول من الرسل. وإذ هم يفعلون ما يفعلون، يقسمون المسيح ويمزّقون جسم الكنيسة.
تعلّقوا تعلّقاً مغرَضاً أو أعمى ببعض الوعّاظ، فضاعت المحبّةُ، وتبلبل النظامُ في الاجتماعات الأسبوعيّة. فإن تجمّع المؤمنون حول "رسولهم" المفضّل، وتوقّفوا عند صفاته البشريّة، فالتعليم الانجيلي يتحوّل إلى جدالات بشريّة، ولا يمكن في حال من الأحوال أن يحمل شهادة للمسيح.
فالمسيحيّة ليست فلسفة، بل ديانة. هي جماعة إيمان وحياة تربط المسيحيّين بالله. لهذا، نحن لا نقدر أن نختار شيئاً ونترك أشياء أخرى فنلفّق ديانةً على قياسنا. فالله كلّمنا بابنه، وجاء كلامُه عبر حماقة الصليب. لهذا، على الوعّاظ أن لا يكونوا ببلاغتهم ودهائهم وشخصهم، حاجزاً يحجب عن الناس شخصَ المصلوب. إنهم المنادون بهذا المصلوب، لا بنفوسهم. هم سفراء يمثّلون هذا المصلوب، لا أفكارهم الخاصّة ونظرّياتهم. هذا ما يشرحه بولس مطوّلاً للكورنثيين (1: 18- 3: 4) عائداً إلى إر 9: 23: "من أراد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ".

2- الرسل خدّام وضعاء
في 3: 5- 4: 13، أبرز بولسُ بشكل خاص دورَ الخدمة الذي يقوم به الرسل. فعاد إلى استعارة العمل في الحقل ومشاريع البناء. هناك من يغرس وهناك من يسقي. هناك من يضع الأساس وهناك من يبني. وهكذا لا يتميّز رسولٌ عن رسول إلاّ بالموهبة التي نالها. ولكن الجميع يعملون في بناء الكنيسة. فليس للعامل أن يفتخر وكأن العملَ عمله. إن كان بولس غرس فما هو الذي أنمى الزرع. وإن كان أبلوس سقى، فالله "هو الذي كان يُنمي" (3: 7). أما البناء فلا يمكن إلاّ أن يكون على الأساس الذي وضعه الله. فالجميع يعملون في حقل الربّ وفي "ورشته" كعمّال وضعاء. فالروح الذي يُلهمهم واحد، والإيمان الذي ينادون به هو واحد. والمعموديّة واحدة سواء منحها بولس أو بطرس أو أبلوس.
فعلى الكورنثيين أن يعتبروا الأصل الالهيّ لهذه النِعَم التي نالها الرسل، ولا يتوقّفوا عند الشخص الذي ينقل البشارة. وعلى الوعّاظ أن يعملوا معاً في خدمة المسيح، من أجل انتشار البشارة. فهم لا يطلبون مصلحتَهم، بل يعملون من أجل يسوع المسيح (فل 2: 21). وفي أي حال، فالمواهب التي تميّزهم عن غيرهم، قد نالوها بنعمة مجانيّة (4: 7)، فلا يبقى لهم سوى ضعفهم (4: 10).

3- الرسل خدّام المصلوب
اختتم بولس ف 3 بكلام يُفهِم المسيحيّين أنهم في النهاية للمسيح، والمسيح لله. إذن، ليسوا لأيِّ انسان من البشر. وإن هم اقتدوا بهذا الرسول أو ذاك، فبقدر ما هو يقتدي بالمسيح (11: 1). فجاء ف 4 يوضح موقع الرسول بالنسبة إلى الجماعة، ويشدّد على شخص الرسول والمهمّة التي يقوم بها. هو لا يخدم البشر فيحاول إرضاءهم (غل 1: 10)، بل صليب المسيح. وإن أراد المؤمنون أن يحكموا على رسولهم، فلينطلقوا من الصليب.
أ- الأمانة قبل كل شيء (4: 1- 2)
أعطى بولس هنا تحديداً عن المهمّة الرسوليّة وخدمة الكلمة، وذلك في خطّ الانجيل (مت 20: 26- 28). الرسل هم خدّام المسيح ووكلاء أسراره الالهيّة. فدورهم يرتبط بدور المسيح. هم مدبّرون، موجِّهون، وكلاء. هم مسؤولون عن وكالتهم (لو 16: 2). والربّ سيدينهم بالنسبة إلى أمانتهم لجوهر الانجيل، لوديعة الإيمان، للمحافظة على الوحدة في الجماعة. هنا نتذكّر الأمثال الانجيليّة: رجل سافر وترك بيته وسلّمه إلى خدمه، كلُّ واحدٍ وعمله (مر 13: 34). كونوا على استعداد، أوساطكم مشدودة ومصابيحكم موقدة (لو 12: 35). رجل أراد السفر، فدعا خدَمه وسلّم إليهم أمواله (مت 25: 14).
فهل فهم الكورنثّيون وظيفة الرسل؟ هم خدّام. لا خدّام البشر، بل خدّام المسيح. هذا يعني أنهم لا يخضعون لحكم البشر وآرائهم. هم لا يؤدّون حساباً إلاّ للمسيح: هل أعطوا الكنيسة ما وجب عليهم أن يعطوها؟ هل أطاعوا المسيح وحده؟ أمّا "أسرار الله" التي أوكلوا بها، فهي قصده كما تجلّى في عمل المسيح ومن خلال الكرازة. وطبيعةُ العمل الذي يقوم به الرسول يمنع أحداً من الناس أن يتطاول عليه. من سلّمنا المهمّة؟ الربّ يسوع. فهو وحده يطلب. ووحده يحكم على العمل الذي قُمنا به.
أما الأمانةُ التي يطلبها يسوع من خدّامه، فهي أمانة منفتحة على متطلّبات الله، لا منغلقة على ذاتها. أمانة حيّة، لا أمانة ميتة تتعلّق بحرف الشريعة وبماديّة الطلب، وتنسى الروحَ الذي يُحيي ويعلّم الرسول أن يتجدّد يوماً بعد يوم.
ب- الربّ هو الديّان (4: 3- 5)
ولكن لا بدّ للرسول أن يُدان. فتعليمُه ودورُه في العالم، يعرّضانه لأقوال البشر فيوافقون أو يرفضون. فالعدالة اليهوديّة حكمت على بولس، وكذلك العدالة الرومانيّة. ولكنه لم يهتمّ لهذه ولا لتلك اللتين تبدوان شكلاً من أشكال المواجهة بين الانجيل والعالم. ودِين بولس أيضاً داخل الجماعة المسيحيّة، فأجبِر على الدفاع عن نفسه أكثر من مرّة، لا من أجل منفعته الخاصة، بل من أجل البشارة. ولكن كيف يتجرّأ المؤمنون ويحكمون على رسولهم، لا سيّما وأن حكمَهم يستند إلى معطيات بشريّة؟
مع آ 3، ننتقل من القاعدة العامة إلى التطبيق الشخصيّ. "أما أنا". قلقَ الرسولُ على الانجيل، من خلال الهجوم على شخصه، فجاء جوابُه قاسياً على من يريد أن يدينه. لا يقبل أن يقيّم أحدٌ رسالته، ولا يرضى لأحد أن ينتقد عملَه. فإن تراجع أمام متطلّبات الجماعة في ما يخصّ الخطابات أو النظريات الفلسفيّة، وإن ترك الانتقادات تؤثّر فيه، لا يعود أميناً للمسيح. بما أنه تسلّم مهمّته من المسيح، فلا تزعزعه الانتقادات، ولا يرضيه رضى الجماعة أو الناس. فقد أعلن في الرسالة إلى غلاطية: "أنا لا أستعطف الناس".
وما اكتفى بأن يرفض حكمَ الناس، بل رفض أيضاً حكمَ ضميره. فضميرُه هو أيضاً محكمة بشريّة بإمكانيّاتها المحدودة. فقد امتنع هو عن تقييم عمله. فالله وحده يقيّم عمل رسوله.
فلم يبقَ من ديّان للرسول سوى الله الذي يُمسك وحده بجميع العناصر، ويعلم خفايا الضمير، فيقدر أن يحكم الحكمَ العادل. يقول فيه المزمور: "أنت تمتحن الكلى والقلوب، أيها الاله العادل" (7: 10). ويدعوه مز 26: 2 ذاك الذي يختبر أعماق قلب الانسان. وتقول الرسالة إلى العبرانيين عن كلمة الله: "تنفذُ في الأعماق إلى ما بين النفس والروح والمفاصل ومخاخ العظام وتحكم على خواطر القلب وأفكاره" (4: 12).
لهذا، فالديّان الوحيد الذي يستعدّ الرسول للوقوف أمامه، هو الربّ. غير أن الربّ ينتظر، فيقبل أن يكون الزؤان والقمح معاً في حقله حتّى وقت الحصاد (مت 13: 30). فالربّ يلفظ الحكم النهائيّ في مجيئه، ويعيد النظر في ما حكم به البشر على إخوتهم. لهذا، حين يحكم الكورنثيون على بولس، فهم يستبقون دينونة الله الذي يمنعنا أن ندين أحداً (مت 7: 1). والله لا يدين الخارج فقط. بل تصل دينونته إلى نيّات القلوب. وهو يعرف كيف يوبّخ وكيف يمتدح، بحيث يحاسب كلَّ واحد بحسب أعماله.

خاتمة
انطلق بولس من انقسامات، داخل الكنيسة، مبنيّة على اعتبارات بشريّة، فوصل بنا إلى حقيقتين أساسيّتين. الأولى، الرسول هو وكيل الله. إذن يتكلّم باسم الله. وهو لا يُدان إلاّ بالنظر إلى أمانته لمرسله. الرسول هو خادم المسيح. ووحده الذي يخدمه يحقّ له أن يحاسبه على خدمته. فكيف نتجاسر بعد ذلك أن ندين الآخرين ونحن لا نعرف خفايا قلبهم؟ ثم إن الله لا يدين الآن، بل ينتظر يومَ مجيء الرب؟ فلماذا نعجّل نحن وندين قبل الوقت؟ أما نخاف من دينونة الله التي "لا ترحم من لا يرحم" (يع 2: 13)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM