مع كنيسة كورنتوس : عمل الغرس والبناء في الكنيسة

عمل الغرس والبناء في الكنيسة
3: 5- 15

بدأت الرسالة الأولى إلى كورنتوس بكلام عن الوحدة التي يجب أن تكون سائدة في الكنيسة، وعن التحزّبات: بطرس، بولس، أبلوس. وفي النهاية، لم يبق أحد مع المسيح، مع أن هؤلاء الذين تعلّقت بهم الجماعةُ هم خدّام يسوع المسيح. وفي أي حال، لم يكن حزب بطرس "قويّاً"، لهذا لم تذكره الرسالة سوى مرّتين. أما أبلوس فأثّر تأثيراً كبيراً في كنيسة كورنتوس ولا سيّما بمعرفته العميقة للكتب المقدّسة، وببلاغته في عرض أسس الإيمان، هذا مع العلم أنه رفض أن "يغذّي" الحزب الذي يتعلّق به (16: 12). فهو يعمل مع بولس، والواحد يكمّل الآخر. بولس غرس وأبلوس سقى. بولس وضع الأساس في كنيسة كورنتوس، وأبلوس يتابع عمل البناء. وسيفعل بعده العديدون. يبقى أن نعرف نوعيّة "الحجارة" التي يضعها البنَّاء، ويعرف المرسَل أن لا أساس يبني عليه سوى يسوع المسيح. ونقرأ النصّ:
(5) فمن هو أبلوس؟ ومن هو بولس؟ هما خادمان بهما اهتديتم إلى الإيمان على قدر ما أعطاهما الربّ. (6) أنا غرستُ وأبلوس سقى، ولكن الله هو الذي كان يُنمي. (7) فلا الغارس له شأن ولا الساقي، بل الشأن لله الذي يُنمي. (8) فلا فرق بين الغارس والساقي، غير أن كلاً منهما ينال أجره على مقدار عمله. (9) فنحن شركاء في العمل مع الله، وانتم حقلُ الله والبناء الذي يبنيه الله. (10) وبقدر ما وهبني الله من النعمة، كبانٍ ماهر، وضعتُ الأساس وآخر يبني عليه. فلينتبه كلّ واحدٍ كيف يبني. (11) فما من أحد يقدر أن يضع أساساً غير الأساس الذي وضعه الله، أي يسوع المسيح. (12) فكل من بنى على هذا الأساس بناء من ذهب أو فضّة أو حجارة كريمة أو خشب أو قشّ أو تبن، (13) فسيظهر عملُه، ويومُ المسيح يُعلنه لأن النار في ذلك اليوم تكشفه وتمتحن قيمة عمل كل واحد. (14) فمن بقي عمله الذي بناه نال أجره. (15) ومن احترق عمله خسر أجره. وأما هو فيخلص، ولكن كمن ينجو من خلال النار.

1- سياق النصّ
إن إطار ف 3 كله، هو إطار الحكمة. فالرسول يحدّث الكورنثيّين عن الحكمة التي نقصَتْهم. فيكونون قد قالوا للرسول: لماذا لم تحمل إلينا هذه الحكمة السامية؟ أما كان باستطاعته أن يفعل؟ لا شكّ من جهته. ولكن من جهتهم، لم يقدر. هم بعد أطفال في المسيح، هم في بداية الطريق إلى المعرفة والحياة المسيحية. ما زالوا على مستوى "الحليب" (اللبن) وكأن لا أسنان لهم، ليأكلوا اللحم، ويغتذوا بطعام البالغين. ذاك هو وضعهم، وبولس لا يوبّخهم على ذلك، بل يكتفي بأن يعطيهم طعام "الأطفال" مثل أب يهتمّ بأولاده. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لم يقدر بولس أن يعطيهم هذه الحكمة، لأنهم رفضوا أن يتركوا حكمتهم "الخاصّة". ظلّوا بشريّين بالنسبة إلى العالم، ظلّوا أطفالاً بالنسبة إلى المسيح. من أجل هذا، وبّخهم بولس لأنهم ظنّوا نفوسَهم حكماء. فمتى يستعدّون لأن يأخذوا بحكمة الله التي هي "حماقة" في نظرهم؟ وأين تظهر حكمتُهم "المزعومة"؟ حين يتعلّقون بأشخاص حملوا إليهم البشارة، ولا يتعلّقون بالمسيح الذي هو الأساس الوحيد للكنيسة.
لا شكّ في أن المرسَلين عديدون، ولكنهم واحد في الخدمة. هم يعملون لسيّد واحد. ويعطي الرسول صورة أولى: الحقل الذي نعمل فيه. تتوزّع الأشغال بحسب ما يريد السيّد، فيرسل عمّالَه كما يرتئي. فأين حكمتُنا حين نرفع الخادمَ إلى درجة السيّد؟ وأين هو نضوجنا حين نقابل بين خادم وخادم. فالواعظ الذي يحسب لنفسه حساباً، والكنيسة التي "تتعبّد" له، لا يعرفان الاله الحقيقيّ. فالاهتمام بالمجد العالميّ وبالتأثير الشخصيّ الذي يمكن أن أؤثّره، دمارٌ للكنيسة، فنحسب أن الأمور ترتبط بنا وأنَّ البناء هو بناؤنا! أما العمل فهو عمل الله، الذي أراد أن يجعلنا شركاء له، كلّ واحد بحسب الموهبة التي نالها، وفي الموقع الذي يجعله فيه الله. نحن عمّال الانجيل "تحت يد الله" وبحسب المشروع الذي يعمله هو، لا بحسب مشروعنا الخاص.
وهكذا صوّر الرسولُ الكنيسة في صورتين. ذكر الحقل. وها هو يذكر البناء. وفي كلا الحالين، الله هو الذي يعمل. ونحن نعمل معه. وكل واحد مسؤول عن الحجر الذي يضعه. نال بولس نعمة، فأنهى عمله: أسّس الكنيسة على شهادة يسوع المسيح الذي هو الأساس الوحيد، حسب إرادة الله (أف 2: 20؛ 1 بط 2: 9- 8)، لا حسب رأي البشر.
غير أنّ الكنيسة لم تتوقّف مع بولس. فالبناء يتواصل حتى نهاية العالم. ولكنّ لا بدّ من المحافظة على نوعيّة البناء، وعلى المواد المستعملة. فالآن، بعد أن ابتعد بولس وابلوس، ماذا يعمل الذين جاءوا بعدهما؟ أهذه هي النتيجة؟ لن يحكم بولس عليهم، بل يترك «نارَ» الدينونة تقيّم كلَّ عمل في الكنيسة. فالباني الأمين يُجازى جزاء أوّل حين يرى ما بناه. هذا عدا ما يمنحه الله في حنانه المجانيّ في ملكوته. والباني الرديء يُحرم من أجره. كلُّ هذا يدلّ على جديّة المهمّة الموكولة إلى المرسلين، وعلى مسؤوليّتهم بالنسبة إلى الكنيسة. الله أشركهم في عمله وما أراد أن يستغني عنهم. فإن لم يكونوا على قدر ما ينتظره منهم الربّ يكونون الخاسرين، ويحلّ آخرون محلّهم، لأن بناء الله يجب أن يتواصل حتّى كماله.

2- الكنيسة حقل نعمل فيه (3: 9- 13)
«تحزب» الكورنثيّون لهذا أو لذاك، فدلّوا أنهم لم يبلغوا بعدُ مرحلةَ النضوج المسيحيّ. أخطأوا حول وظيفة الرسل وعلاقتهم بالجماعة. اهتموا بأبلوس! اهتمّوا ببولس! فما عادوا يرون المسيح! فضَّل هؤلاء هذا، وأولئك ذاك. وتعلّق كلُّ واحد "بزعيمه"! فجاء جوابُ بولس: نحن خدّام بالنسبة إلى الله وإلى المسيح. فإن كنّا مسؤولين في الكنيسة، فنحن لسنا بشيء في نفوسنا، بل ننفّذ مشيئة آخر، هو سيّدنا الذي يرسلنا في مهمّة معيّنة بشكل وسطاء وممثّلين له.
ولكن لهؤلاء الخدّام دوراً هاماً يقومون به. دوراً لا يمكن أن يُترَك فارغاً، وإلاّ فلا كرازة ولا إيمان. في هذا قالت الرسالة إلى رومة: من لا يؤمن بالربّ كيف يدعوه؟ ولكن كيف يؤمن إن لم تصل إليه البشارة، إن لم يُسمعه إياها رسولٌ من الرسل؟ "فما أجمل خطوات المبشّرين" (روم 10: 14- 15). ونقرأ في 2 كور 5: 20: "نحن سفراء المسيح، وكأن الله يَعظ بألسنتنا". غير أن الخادم لا يختار عملَه، ولا يخطّط كيف يقوم به. لهذا، لا مجال لمقابلة رسول مع رسول، وتفضيل الواحد على الآخر.
أما الخِدَم التي يُدعى إليها الرسلُ فهي متعدِّدة. والخدمةُ تكمّل الخدمةَ، وكلُّ خدمة ضروريّة مثل أختها. هنا نتذكّر مواهب الروح (12: 4 ي). كما نفهم أن التمييز بين بولس الذي غرس وأبلوس الذي سقى، هو تمييز بلاغي. فابلوس غرس أيضاً، وبولس سقى. المهمّ هو التكامل بين المرسلين من أجل خير الكنيسة العام. وإن يكن واحدٌ سبق الآخر، فهذا لا يبدّل شيئاً. ولكن مهما كانت قيمة العمل وضرورته، ومهما كان شكله، فهو دوماً يأتي في الدرجة الثانية، بالنسبة إلى عمل الله الذي يسبقه ويؤسّسه ويرافقه ويجعله يُثمر فتدوم ثمارُه.
نقرأ في آ 6: "ولكن". نحن أمام تعارض قويّ بين "الله" وبين "أنا وأبلوس". فالاختلاف واسع جداً بين "وظيفة" الله ووظيفة البشر، بحيث لن نبحث عن الفرق بين خدمة بشريّة وخدمة أخرى. لا شكّ في أن البشر يعملون مع الله، يشاركونه (آ 9)، ولكنهم ليسوا بشيء إن تُركوا ونفوسهم. المبادرة ليست منهم، بل من الله. وكل ما يقدرون عليه، هو أن يقولوا نعم لنداء الله. أما أن يعتبر "محازبوهم" أنهم هم أصحاب المبادرة والوساطة، فهذا تجديف، والويل للرسل إن قبلوا هذه التسمية. الشأن ليس لبولس ولا لأبلوس، بل لله وحده.
بما أن بولس وأبلوس ليسا شيئاً في ذاتهما، بل في ما جعل الله فيهما من نِعَم، وما سلّمهما من وظيفة. وبما أنهما أداةُ مشيئة الله التي ترسلهما، فالواحد لا يعارض الآخر، ولا يزاحم الآخر. بل يعمل كلُّ واحد في الموضع الذي عيِّن له لتحقيق مخطّط واحد. هما واحد، لا في شخصهما، والواحد يختلف عن الآخر، بل في مسؤوليّة مشتركة هي بناء الكنيسة.
ولكن إذا كان الله يعمل، فهل صار الرسول آلة تتحرّك ولا تعرف؟ كلا. لهذا، شدّدتْ آ 8 ب على مسؤوليّة كلِّ واحد أمام الله، في خدمة الجماعة. كلُّ واحد ينتظر الأجر بالنظر إلى المهمّة التي يُسأل عنها. نحن لا نتكلّم عن استحقاق بحيث يُصبح الله مديناً لنا. فالأجر يمنحه الله. والرسول لا ينتظر من البشر أن يقدّروه حقّ قدره، أو يقدّموا لها الأجر. فهو يرتبط بالله. وهو مسؤول أمام الله، وهو وحده يقدّر "أجر" أعمالنا. هذا يعني استقلاليّة الرسول بحيث لا يخضع عمله لأحكام البشر.
وتأتي آ 9 بشكل مِفصَل بين قطعة (آ 5- 9) وقطعة (آ 10- 15). في القطعة الأولى دار الكلام على الحقل الذي يعمل فيه الرسول. وفي آ 10- 15، يدور الكلام على صورة البناء الذي يعمل فيه كلُّ واحد منّا. ويعود الرسول فيشدّد على الوحدة بين خدّام الكلمة، على استقلاليّة كل واحد، عمّا يمكن أن يقوله الناس، على استبعاد كل مزاحمة. فالله، والله وحده، هو مُبدئ وسيّد كل ما يُعمل باسمه. ثلاث مرات يردُ اسم «الله» في هذه الآية. فلا وجود للرسل وللكنيسة إلاّ بالله الذي يحقّق مخطّطَه بهم وفيهم. هنا نتذكّر كلام النبيّ أشعيا: "هم كنقطة في دلو، وكغبار في ميزان" (40: 15). يعني، لا شيء تقريباً. لا شكّ في أنهم يشاركون الله، وهنا تكمن كرامتُهم وأهميّتهم، ولكنهم لا يقفون على مستوى الله. بل هم خدّام (آ 5). ونقول الشيء عينه عن الجماعة.

3- الكنيسة بناء (3: 10- 15)
أ- عمل الله (آ10- 11)
هذا البناء هو عمل الله وعمل البشر.
بدأ بولس فأوجز في آية واحدة (آ 10) ما سيتوسّع فيه، في آ 11- 15. لبث الرسولُ في الخط الذي بدأه حين تحدّث عن الحقل، ولكن اللهجة تتبدّل، فتهاجم، وفي النهاية تهدّد (آ 16- 17): نحن أمام تنبيه (وتحذير) يوجّهه الرسول إلى الذين جاءوا بعده إلى كورنتوس وهم يواصلون البناء. أتراهم يريدون أن يضعوا أساساً آخر، غير الذي وضعه الرسول؟ ربّما. ولكن بولس يعلن: الأساس الذي وُضع هو نهائيّ. وعليه ترتكز الكنيسة، ولا شيء (ولا انسان) يقدر أن يبدّله أو يقوى عليه (رج مت 16: 18). فالأساس هو يسوع المسيح.
ولكن بولس هو الذي وضع هذا الأساس. لا هو، بل نعمة الله التي جعلت منه رسولاً (15: 9- 10؛ رج غل 11: 5- 16). وهي منحَتْه السلطةَ، وجعلَته جديراً بأن يُتمّ حصّته من العمل، وبكل جدارة. نقرأ في آ 10 "وآخر". لا شكّ في أن بولس لا يشير إلى أبلوس وكأنه يتّهمه، بل يوجّه كلامه إلى العاملين الآن في الكنيسة، والذين يريدون أن يعتبروا نفوسهم رسلاً!
ويتراجع بولس. هو لم يضع الأساس، بل الله هو الذي وضعه، قبل أن يعمل الرسول. فكل مبادرة هي من الله، والرسول يشاركه فقط في العمل. وهكذا لا يستطيع الخصوم أن "يمسّوا" هذا الأساسَ ولا واضعَه، وإلاّ فليحذروا عقابَ الله لأن من يهدم عمل الله يهدمه الله (رج آ 17).
ب- عمل البشر (آ 12- 15)
أجل، من يتجاسر على "مهاجمة" عمل الله؟ لا أحد. من يتجاسر أن يهاجم الأساس الموضوع، الذي هو يسوع المسيح؟ لا أحد. ولكن عمل الانسان يمكن أن يكون عرضة للانتقاد. وقد يكون هناك بعضُ الخطأ. في آ 9، كان كلام عن كنيسة بَنتْها يدُ الله. والآن، تحوّلت الصورة إلى بناء يبنيه البشر على الأساس الذي وضعه الله. لا ننسى أننا نشارك الله في العمل. ولكن ما يهمّ بولس هو تعداد مواد البناء وقيمتها: هي سوف تمرّ في النار. فهل يمكنها أن تقاوم؟ فدينونة الله آتية، فماذا يبقى من "حجارة" وضعناها فوق الأساس؟ وهكذا نكون أمام تنبيه خطير يوجَّه إلى الذين يواصلون العمل.
غير أن الدينونة لا تتمّ إلاّ "في اليوم" (آ 13؛ رج عا 5: 18؛ ملا 3: 19). والديّان هو يسوع المسيح (1: 9؛ 5: 5؛ 2 كور 5: 10؛ فل 1: 6، 10). والنار ليست عقاب الأشرار، بل العنصر المطهّر، الذي يميّز مادّة عن مادة، يميّز الذهب عن القشّ والتبن. وهكذا يُعرف العامل الصالح والعامل الرديء.
في آ 14- 15، نقرأ جملتين متوازيتين حول نتيجة مرور هذه المواد في النار. هو العقاب لمن احترق عمله، ولكن لا العقاب الأخير، لأن النصّ يقول: "هو يخلُص" (آ 15). وهو الجزاء لمن بقي عملُه ولم "يحترق". هذا الجزاء هو نعمة من عند الله. غير أن النعمة التي ينالها الانسان لا تعفيه من العقاب إن هو لم يتجاوب معها. النعمة لا تعفينا من الطاعة لنداء الله، بل هي تجعل طاعتنا ممكنة. وهكذا ينبغي على المؤمن أن يؤدّي حساباً عمّا فعله بهذه الحريّة التي منحه الله. فهو يشبه رجل الوزنات: هل تاجر بها، أم أخفاها في الأرض وما استثمرها (مت 25: 14- 30)؟

خاتمة
انطلق بولس من وضع محدّد في الجماعة، فأعطانا تعليماً عن عمل الرسول في الكنيسة، وعن تصرّف المؤمنين تجاه "رسولهم". كما أفهم المرسَلين الذين جاءوا فيما بعد، أنهم يتابعون العمل الذي بدأ به السلَف، ولا سيّما إذا كان من طراز بولس الذي أعلن أنه نال نعمة خاصة فكان ذاك الباني الماهر. بدأ الكلام "درساً" راعوياً، فانتهى تنبيهاً وتحذيراً إلى الذين يعملون: ما هي الروح التي يضعونها في العمل، وما هي المواد التي يستعملونها؟ في أي حال، كل شيء سيمرّ في النار، في الدينونة، في يوم ربّنا يسوع المسيح. يبقى علينا منذ الآن أن ننتبه إلى المواد التي نجعلها في بناء كنيستنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM