الفصل السابع عشر
مجيء الرب
3: 1 – 9
إن وجه يوحنا المعمدان يشرق على زمن المجيء كلّه، لأنه آخر أنبياء العهد القديم. إنه ذلك الذي تفرّد بين الأنبياء فدلّ على الذي أنبأ به، دلّ على مخلّص العالم بيسوع المسيح ربّنا.
أمّا المقطوعة التي ندرس فتورد دعوته النبويّة وتحدّد موقعها في إطار التاريخ العاديّ والمقدّس. ولكننا نستشفّ ونحن نتعرّف إلى الطابع الاحتفاليّ لهذه البداية أنّ هذا النصّ يتجاوز يوحنّا المعمدان. فمن خلال السابق يعلن لوقا يسوع ويجعله في قلب تاريخ البشر.
1- يوحنا المعمدان في زمانه (آ 1- 2)
تحدّثنا الآيتان الأُولَيان عن نداء يوحنا النبويّ في ألفاظ تذكّرنا بمقدّمات المؤرّخين في اليونان، أمثالَ توسيديدس وبوليبس، وببداية كتاب إرميا: "كلام الرب إلى إرميا... في أيّام يوشيّا بن آمون، ملك يهوذا في السنة الثالثة عشرة من ملكه" (ار 1: 1- 2 حسب اليونانية). هذا يدلّنا على نيّة لوقا أن يكون مؤرّخًا، وعلى المعنى الدينيّ الذي يرى في الحدَث الذي يورده.
إنه يُكثر المراجع التي تربط هذا الحدَث بتاريخ زمانه: سمّى الإِمبراطورَ الروماني، ثم وَاليَه ورؤساءَ المقاطعات (تترارخس) الثلاثة، ورئيسَي الكَهنة، أبرزَ الطابع الاحتفاليّ والفريد للحدَث.
أولاً: في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيباريوس... (آ 1).
أوّل شخص يُذكر هو الإِمبراطور الرومانيّ وسيّدُ العالم في ذاك الزمان. لقد خلَف طيباريوس اوغسطس في 19 آب سنة 14 ب. م. أي سنة 767 لتقويم رومة.
وسنتُه الخامسةَ عشْرةَ تمتدّ إذن من 19 آب 28 حتى 18 آب سنة 29. ولكن معظم الشُرّاح الحاليّين يقولون إن لوقا يعد سنوات حكم الإِِمبراطور على طريقة السوريّين الذين يبدأون السنة في الأوّل من تشرين الأول. إذن، يجعلون السنة الأولى لطيباريوس تمتدّ من 19 آب حتى 30 أيلول سنة 14 والسنة الخامسة عشرة من 1 تشرين الأوّل سنة 27 حتى 30 أيلول سنة 28. هذه الكرونولوجيا تتوافق مع كرونولوجيا يو 2: 20 الذي يجعل أوّل فصح احتفل به يسوع خلال حياته العلنيّة يقع في ربيع سنة 28.
وإذ سمّى لوقا هنا سيّد العالم الوثنيّ، كما ذكر اوغسطس قيصر بمناسبة ولادة يسوع (2: 1)، جعل مملكة الأرض تواجه ملكوت الله الذي جاء في يسوع.
ثانيًا:... حين كان بنطيوس بيلاطس (بيلاطس البنطي) حاكمًا في اليهوديّة... (آ 1).
كان والي رومة في اليهوديّة من سنة 26 إلى سنة 36. عرف هذا الشخص بمدوّنة اكتشفت سنة 1961 في تنقيبات قيصريّة (على شاطئ البحر)، وبما أورده كتّاب يهود من أحداث جرت خلال إدارته فقالوا فيه إنه لا يلين ولا يرحم، وبما قالته الأناجيل التي ربطت اسمه بمحاكمة يسوع (وهذا ما يقول المؤرّخ تاقيتس في حولياته 3: 15- 44). ولهذا نعلن إلى اليوم في قانون الايمان: "وصلب على عهد بيلاطس البنطيّ".
كان واليًا على منطقة أورشليم (أي اليهوديّة بحصر المعنى) والسامرة الشماليّة وأدوميا الجنوبيّة.
ثالثًا:... هيرودس تترارخس على الجليل... (آ 1).
إنه ابن هيرودس الكبير واسمه أنتيباس. نال تترارخيّة (مقاطعة هي ربع مملكة) الجليل وبيريه عند موت أبيه، سنة 4 ق. م. واتّخذ اسم هيرودس ساعة عُزل أخوه أرخيلاوس سنة 6 ب. م. (تسمّيه النقود وبعض المدوّنات: هيرودس التترارخس لتميّزه عن أبيه: الملك هيرودس).
يرِدُ اسمه مرارًا في أعمال فلافيوس يوسيفوس التاريخيّة، كما يُذكَر في الأناجيل في مناسبات عدّة: هو قاتل يوحنا المعمدان (مت 3:14- 12؛ مر 17:6- 29؛ رج لو 19:3- 20). وهو خصم يسوع الذي يخضع لولايته بسبب إقامته في الناصرة (مر 6: 14- 16 وز؛ لو 13: 31- 32؛ 6:23- 12).
سيُنفى في النهاية إلى غاليا (فرنسا الحالية) على يد كاليغولا الإِمبراطور، سنة 39، بعد أن وشى به ابن أخيه هيرودس أغريبّا الأول.
رابعًا:... وأخوه فيلبّس تترارخس على إيطورية وتراخونيتس... (آ 1).
كان فيلبّس أيضًا ابن هيرودس الكبير، وكان أحكم أبناء ذاك الملك الرهيب. دام ملكه من سنة 4 ق. م. حتى موته سنة 34. تضمّنت حدوده حسب فلافيوس يوسيفوس: الجولان، باطانيا، تراخونيتس، حوران وإقليم بانياس: هذا يعني المنطقة الواقعة شمالي شرقيّ بحيرة طبريّة.
لا يذكر لوقا كل هذه الأقاليم كما لا يذكر بالنسبة إلى بيلاطس أراضي يهوديّة مثل السامرة وأدوميا، ولا بالنسبة إلى هيرودس بيريه التي لا شأن لا. يذكر تراخونيتس (أي النجاد) الواقعة بين جبل الدروز ودمشق والتي تشكل الحدود الشرقيّة لتترارخيّته. ويذكر أيضًا إيطورية التي لا يمكن ان تكون إيطورية بحصر المعنى والتي تقع بين خلقيس (عنجر في البقاع) وبيروت ودمشق، والتي لم يحكمها هو ولا أبوه. أمّا أرض العرب الإِِيطوريّين التي يملكها، فهي إقليم بانياس حيث بنى عاصمته قيصريّة فيلبّس (مت 16: 13؛ مر 27:8).
لم يذكر لوقا منطقة الجولان الواقعة على شاطئ بحيرة طبريّة ولا باطانيا الواقعة إلى الشرق منها. فقد أراد أن يتوقّف خصوصًا عند أراضٍ غير يهوديّة في هذه التترارخيّة ليدلّ على أننا هنا في عالم وثنيّ.
خامسًا:... وليسانيوس تترارخس على أبيلينة... (آ 1).
ما كنا نعرف حتى بداية القرن العشرين إلا ليسانيوس واحدًا، ملكَ الإِيطوريّين في خلقيس، وقد حكم عليه أنطونيوس بالموت حوالي سنة 34 ق. م. عقابًا له على تحالفه مع الفراتيّين. ولكن سنة 1912 نشرت مدوّنة وجدت في أبيلة (آبل السوق وادي بردى) في الشمال من دمشق قديمًا، وهي تذكر ليسانيوس الذي كان تترارخس على أيّام طيباريوس. وهكذا تأكّدت معطية لوقا وتحدّد موطن ذاك الأمير.
ولكن لماذا ذكر لوقا هذا الأمير المغمور مع أن أرضه غريبة عن فلسطين؛ هناك أسباب عديدة: أوّلها أدبيّ: إن لوقا يحب البُنيات التناظريّة، ولقب تترارخس دفعه إلى أن يقدّم هنا أربع مناطق متقاربة: ولاية لبيلاطس، وتترارخيّات هيرودس وفيليبس وليسانيوس.
وهناك أيضًا سبب تاريخيّ: ففي زمن كتابة إنجيل لوقا كانت تترارخيّة ليسانيوس تخصّ أميرًا يهوديًّا هو هيرودس أغريبّا الثاني الذي كان ملكًا منذ سنة 53 حتى نهاية القرن الأوّل، على خطى أبيه هيرودس أغريبّا الأوّل الذي امتلك تلك المنطقة من سنة 37 إلى سنة 44.
ولكن يبدو أن لوقا خضع خصوصًا لسبب لاهوتيّ: إن يهوديّة بيلاطس وجليل هيرودس هما أرض شعب الله، وتترارخيّة فيليبّس (كما يحدّدها) وتترارخيّة ليسانيوس هما أرضٌ وثنيّة. فحين أورد لوقا أسماء هذه المناطق الأربع، فقد أشار إلى أن إعلان الخلاص يعني اليهود والوثنيّين معًا. ونلاحظ النيّة عينها في التناظر بين بداية هذه اللائحة ونهايتها، بين الإِمبراطور الوثنيّ، وبين رئيس كهنة شعب الله.
سادسًا: يوم كان حنّان وقيافا رئيس للكهنة... (آ 2).
تدهشنا هذه العبارة مرتين: مرّةً أولى بصيغة المفرد للقب رئيس الكهنة المنسوب إلى شخصين؛ ومرّةً ثانية بذكر شخصين يحملان وظيفة لم يمارسها إلاّ شخص واحد.
افترض عدد من الشُرّاح أن لوقا لم يورد إلا اسم حنّان (كما في أع 6:4) وأنّ قيافا زِيد فيما بعد.
هذه الزيادة ليست مستحيلة. ولكن بما أن اسمي حنّان وقيافا موجودان في كل مخطوطات الإِِنجيل، فمن المعقول أنهما انتميا إلى النصّ الأوّلانيّ. فقبل أن نشهّر بخطإ تاريخيّ، نتفحّص هل كان لوقا يريد أن يعبّر عن وضع حقيقيّ بواسطة هذا البناء الغريب.
كان حنّان رئيس الكهنة سنة 6 ب. م. وقد عيّنه كيرينيوس. وبعد 9 سنوات عزله فالاريوس غراتوس، أي في سنة 15. ولكن بما أنّ الوُلاة الرومان جعلوا أبناءه وصهره قيافا خلفًا له، فقد دلّوا على أنه احتفظ بسلطة استثنائيّة لدى الكهنة والشعب. ويبدو أنه كان القائد الحقيقيّ للجماعة اليهوديّة في أيّام رؤساء الكهنة الذين خلفوه. وإنّ كتّاب العهد الجديد ينسبون إليه دورًا مهمُّا في محاكمة يسوع (يو 18: 13- 24) وفي الاضطهادات الأولى التي عصفت بكنيسة أورشليم (أع 4: 6 وربما 5: 17). ويوم بدأ يوحنا المعمدان رسالته، كان حنّان يستحقّ حقًّا لقب رئيس الكهنة.
وقيافا كان رئيس كهنة من سنة 18 إلى سنة 36. وقد أشار مت 3:26، 57 (رج آ 63- 65) ويو 11: 49؛ 24:18-28 إلى دوره في محاكمة يسوع. وهو يتصرّف في هذه المحاكمة كما في سائر نشاطه بتوافق تام مع حميّه ويتأثر بإرشاداته. لهذا السبب قدّم لوقا عبارة غير عاديّة: على أيّام رئيس الكهنة (وكأنّه واحد) حنان وقيافا.
سابعًا:... كانت كلمة الله إلى (حرفيًا: على) يوحنا بن زكريّا في البريّة (آ 2).
أسلوب عتيق جدًّا يستلهم فيه لوقا كعادته العهد القديم، وبصورة خاصّة دعوة إرميا (ار 1: 1 حسب النصّ اليونانيّ). وهكذا يبينّ في قيام يوحنا المعمدان ظهورَ نبيّ هو الأوّل بعد صمتٍ دام خمسةَ قرون. قال مز 9:74: "علامات حضورك لا نراها ولم يبقَ نبيّ، وليس عندنا من يعلم إلى متى تدوم هذه الحالة" (رج 1 مك 46:4؛ 27:9؛ 14: 41).
تتمّ هذه الدعوة في البريّة حيث قضى يوحنا المعمدان شبابه منتظرًا أن يظهر لبني إسرائيل (1: 80). وهناك إشارات عديدة تدلّ على أنه اتّصل بجماعة قمران الكهنوتيّة: إنه كاهن وابن كاهن، وهو يعيش في البريّة وسيكرز بمعموديّة التوبة. ويحدّد الإِنجيليّون الأربعة رسالته انطلاقًا من اش 3:40 الذي به تعبّر عن مثالها. ولكن مهما يكن من علاقات المعمدان مع هذه الشيعة اليهوديّة، فنداء الربّ منحه منذ الآن مهمّة شخصيّة سيمارسها دون الرجوع إلى أحد.
2- رسالة يوحنّا المعمدان (آ 3- 6)
وتجاوب يوحنّا المعمدان مع نداء الله، فقام بعمله كنبيّ. قدّم لوقا هنا العناصر عينها التي قدّمها متى (3: 1- 6) ومرقس (3:1- 5) ولكنه رتّبها بطريقته، فتحدّث على التوالي عن المكان الذي أقام فيه السابق، عن أسلوبه، عن مفهوم كرازته.
أولاً: جاء إلى منطقة الأردن كلّها... (آ 3).
حسب متى (3: 1- 6) ومرقس (1: 4- 5) اللذين اهتمّا باتّباع نص اش 3:40، كرز المعمدان في البريّة وعمّد في الأردنّ الذي يلامس البريّة. وأقبلت إليه الجموع من أورشليم وكلّ اليهوديّة (مر 1: 5، وزاد مت 3: 5: "ومن كل منطقة الأردنّ").
وحسب لوقا، ترك يوحنا البريّة ليكرز في منطقة الأردنّ التي تتميّز عن البريّة في نظره، وتشكّل مقاطعة خاصّة (إن لوقا لا يرينا يسوع يمارس رسالته عند شاطئ الأردنّ وهو بهذا يختلف عن مت 19: 1 ومر 1:10).
ثانيًا:... يكرز بمعمودية توبة لمغفرة الخطايا (آ 3).
إن موضوع مهمّة النبيّ الجديد هو الكرازة بمعموديّة توبة (رج أع 24:13؛ 4:19). وكلامه هو امتداد لوعظ الأنبياء في العهد القديم: كلّهم دعَوا الشعب ليعود إلى ربّه ويقطع كل علاقة له بالخطيئة.
أمّا أوّل جديد يقدّمه يوحنا المعمدان فهو أنه يختم هذه التوبة بالمعموديّة. أخذ هذا الطقس عن التوضّؤات التقليديّة في العالم اليهوديّ وعن ممارسات جماعة قمران. ولكنه زاد جديدًا ثانيًا: هو لا يعطي هذه المعموديّة إلاَّ مرّةً واحدة لأن الدينونة قريبة (3: 7- 9، 17). لا مكان إلاّ لتوبة واحدة تنال الخلاص عندما يغفر الربّ الخطايا كما وعد بفم إرميا (31: 34) وحزقيال (36: 25).
إن عماد يوحنا ليس العماد المسيحيّ الذي "يغفر" الخطايا (أع 38:2؛ 16:22). وهذا ما يشير إليه لوقا باعتناء: لا يعمّد يوحنّا إلاّ في الماء. أمّا "الأقوى" الذي يأتي فيعمّد "في الروح القدس والنار" (3: 16). إن الدور الخاصّ بيوحنّا هو أن "يمنح معرفة الخلاص (الذي سيتم) بغفران الخطايا" (77:1). وهذا الغفران سيكون عمل يسوع في سرّه الفصحيّ (47:24؛ أع 3: 19؛ 5: 31؛ 10: 43؛ 23: 28؛ 26: 18).
ثالثًا:... كما كتب في كتاب أقوال النبيّ أشعيا... (آ 4).
حدّد لوقا، شأنه شأنُ سائر الإِنجيليّين (مت 3:3؛ مر 1 :3؛ يو 1 :23)، مدلولَ رسالة يوحنا المعمدان منطلقًا من نبوءة أش 40. ولكنه جعل هذا القول النبويّ في نهاية حديثه عن المعمدان ليقود القارئ بصورة أفضل من الحدَث التاريخيّ إلى تفسيره في إطار تاريخ الخلاص. ويطيل استشهاد النبيّ ليبرز معطيات تبدو له رئيسيّة.
رابعًا: صوت صارخ في البريّة: هيّئوا طريق الربّ واجعلوا سبله مستقيمة (آ 4).
إستعاد لوقا مع متى ومرقس ويوحنا قول اش 3:40. يعودون إلى النصّ اليونانيّ الذي يُلغي التوازن: في الفيافي. وترتبط البريّة بالصارخ؛ وهكذا يتحدّد وضع يوحنا على ضوء كلام أشعيا. أمّا في النصّ العبريّ فعبارة "في البريّة" كما "في الفيافي" هما جزء لا يتجزّأ من مهمّة يوحنا. هذا النصّ نقرأه في قمران كنداء إلى العيش في البريّة.
الصورة هي صورة ملك يجب ان نهيّئ له الطريق. إنطلق منها النبيّ ليعلن مجيء الربّ ليعيد شعبه من بابل في خروج جديد عَبْرَ البريّة (أَش 41: 17- 20؛ 16:43- 21؛ 48: 20- 21؛ 51: 10- 11). واستخلص للشعب من هذا الوضع نداءً للاستعداد للخلاص القريب. كان هذا القول النبويِّ عزيزًا على قلب جماعة قمران التي رأت فيه أساس صوفيّتها وحياتها في البريّة.
أمّا التقليد الإِِنجيليّ فطبَّق هذا القول على يوحنا المعمدان الذي هو كالصارخ في البريّة. واهتمّ بصورة خاصّة بمجيء الربّ وبالاستعداد الذي يفرضه على المؤمنين.
خامسًا: كل وادٍ يمتلئ وكلّ جبل وتلّ ينخفض والطرق المعوّجة تستقيم والوعرة تصير سهلاً (آ 5).
وينفرد لوقا عن سائر الانجيليّين فيكمّل نص أشعيا ليوصله إلى الخاتمة التي تهمّه. أمّا الآن، فصور هذه الآية تدلّ على تهيئة طريق الربّ. كان أشعيا قد اتّخذ الكلمات بالمعنى المجازيّ ليطبّقها على خفض كل ارتفاع على مستوى "الجسد" (اش 2: 14؛ مز 68: 16- 17). وبما أنّ لوقا يهتمّ برفع الوضعاء وخفض المتكبّرين (52:1؛ 14: 11؛ 14:18) وجد في أشعيا ما يقوده إلى التفسير عينِه: "من يَرفَعْ نفسه ينخفض، ومن يخفِضْ نفسه يُرفَع".
سادسًا: فيرى كلّ بشر خلاص الله.
أهمل لوقا الإِِعلان الأوّل في اش 40: 5: "ويتجلّى مجد الرب". في نظره، لا يعود إلى يوحنا المعمدان أن يعلن المجد الذي سيتجلّى في الفصح وبواسطة يسوع. ويصل حالاً إلى نهاية القول النبويّ حيث يجد قمّةَ رسالة يوحنا: إعلانَ خلاص الله، وهذه هي مهمّته الخاصّة كما قال عنه أبوه: "تعلّم شعبه أن الخلاص هو في غفران خطاياهم" (77:1).
لقد أعلن سمعان الشيخ خلاص الله هذا حين رأى يسوع الطفل (2: 34)، وأعلنت آخر كلمات بولس في خاتمة سفر الأعمال الشيء عينه: "فليكن معلومًا أنّ الله أرسل خلاصه إلى الأمم الوثنيّة، وسيستمعون إليه" (يقبلونه) (أع 28: 28).
هذا موضوع عزيز على قلب لوقا، وقد انفرد عن الإِزائيّين فأعطى لقب المخلّص لله (47:1) ويسوع (2: 11)، وتحدّث عن الخلاص في يسوع (69:1، 71، 77؛ 19: 9: "إبن الإِنسان جاء يبحث عن الهالكين ويخلّصهم"). إنه يشدّد على هذا الموضوع الذي يفهمه قرّاؤه اليونانيّون.
في العبارة البيبليّة "كل بشر" يرى لوقا إعلانًا كتومًا للخلاص الذي يقدَّم لجميع الناس. هذه العبارة الخفيّة تتجاوب مع رغبته في الإِشارة إلى المراحل التي يقطعها الوحيُ ليدلّنا على شموليّة خلاص يحمله يسوع. ولكن ليس يوحنا هو الذي يعلن بوضوح خلاص الوثنيّين، بل يسوع.
3- يسوع هو موضوع الإِعلان.
أ- ما كان هدف لوقا حين أورد المقطع الذي درسناه؟ للوَهلة الأولى، هو يرفع نظره إِلى قيام يوحنا المعمدان بمهمّته النبوّية. ولكن الإِشارات عديدة، وهي تدل أنّ ما يهمّه من خلال هذا الحدث هو مجيء يسوع.
أولاً: من المدهش أن يكرّس لوقا كلّ هذه المراجع عن التاريخ المعاصر ليؤرّخ بداية رسالة يوحنا المعمدان، حين لا يقول كلمة عن بداية رسالة يسوع (3: 21) التي هي بالنسبة إليه الحدَث الرئيسيّ. هذا الوضع لن يعود يحيّرنا حين نلاحظ أنّ لوقا، منذ بداية إنجيله، تحدّث عن يسوع ويوحنا المعمدان في لوحة واحدة.
كما أن المُعطى الكرونولوجيّ في 1: 5 (في أيّام الملك هيرودس) يتعلّق ببشارة يوحنا المعمدان وببشارة يسوع (1: 5- 25، 26- 38) فالتزامنيّة التاريخيّة في 3: 1- 2 تتعلّق ببداية رسالة يسوع ورسالة يوحنا. فلو أراد لوقا أن يؤرِّخ فقط بداية مهمة يوحنا المعمدان، لما كان أعطى كلامه كلّ هذا الطابع الاحتفاليّ.
ثانيًا: إن ذكر الإِمبراطور الرومانيّ وواليه بيلاطس وسائر حكّام التترارخيّات، يوجّه أنظارنا لا إلى قيام يوحنا كنبيّ، بل إلى مجيء يسوع الملك. هذا ما لاحظناه فيما مضى: جعل لوقا في إنجيله وجنبًا إلى جنب مملكة يسوع ومملكة الحكّام في أيّامه. إذن، هو يفكّر هنا بيسوع لا بيوحنا المعمدان.
ثالثًا: يورد لوقا نبوءة أش 3:40، شأنُه شأنُ سائر الإِنجيليّين، ليفهمنا معنى رسالة المعمدان. ولكنه، إذا كان يطيل هذا الاستشهاد حتى يصل به إلى إعلان خلاص الله، فهو يبينّ أنه يفكّر أولاً بحدث يسوع.
إذن، نستطيع أن نستنتج أنّ لوقا اختلف عن متى ومرقس، فأعلن مجيء يسوع في قلب قيام يوحنا برسالته. هذه النظرة لا تدهشنا بعد أن قرأنا ف 1-2 (انجيل الطفولة)، فرأينا أنّ رسالة يوحنا تقوم كلُّها بأن تعلن يسوع ومجيئه وخلاصه (1: 14، 17- 19، 41- 44، 76- 77).
ب- كيف يرى لوقا حدثي المعمدان ويسوع؟
أوّلاً: حين تحدّث عنهما بالنسبة إلى حكّام وكهنة عصرهما، حدّد موقعهما كرونولوجيًّا في التاريخ الدنيويّ كما يفعل المؤرّخون اليونانيّون. وهذه الكرونولوجيا ليست دقيقة لأنها لا تذكر إلا سنة مُلك طيباريوس قيصر، ولأنه مرَّ بعض الوقت بين بداية عمل يوحنا المعمدان وبداية عمل يسوع العلنيّ. ولكن لوقا يستطيع أن يعرف أن يسوع لم يتأخّر كثيرًا عن يوحنا المعمدان. لهذا جعل عماد يسوع يقع ظاهرًا في السنة الخامسة عشرة لطيباريوس، وهذا يتوافق مع معطى يو 2: 20 (يسوع هو في أورشليم في عيد الفصح سنة 28).
ثائيًا: ما يهمّ لوقا لا العودة بحدث يوحنا وشموع إلى التاريخ الدنيويّ، بل تحديد موقع هذا المجيء في تاريخ الخلاص. وحين أورد مطوّلاً استشهاد اش 3:40- 5، فقد دخل على تتمّة نبوءة العهد القديم في هذين الحدثين، ودلّ على بُعدهما الصحيح: مهمّة يوحنا هي آخر إِعلان الخلاص، ومهمة يسوع هي مجيء الله وخلاص كلّ بشر.
ثالثًا: وبدأت رسالة المعمدان. إنها تشكّل حِقبة نبويّة، حقبةَ الاستعداد، وهو زمن ارتداد إسرائيل المدعوّ للعودة إلى الله في التوبة والاتّضاع. هذه هي آخر مراحل العهد القديم.
رابعًا: أمّا رسالة يسوع فقد أُعلنت الآن على أنّها نهاية مهمّة السابق. إنها مجيء الربّ وخلاص كلّ بشر. ومن خلال نبوءة أشعيا، يكتشف قارئ الإِِنجيل، الذي يعرف وحي الفصح الكامل، يكتشف أُلوهيّة المسيح والخلاص الذي يحمله إِلى جميع الناس.
ويساعدنا لوقا على إدراك البعد الشامل للحدث فنحدّد موقعه في التاريخ المقدّس لشعب الله، في اليهوديّة والجليل وفي أيّام رئيس الكهنة، وفي تاريخ العالم الوثنيّ، في أيّام طيباريوس قيصر، في إيطوريّة وأبيلينة. ولكن الإِعلان يبقى مكتومًا لأنّ لوقا يتتبّع هنا كما في كل مؤلّفه (لو+ ع) طريقة الوحي البطيئة في تربية المؤمنين.
4- الاستعمال الليتورجيّ للنصّ
لمذا تستعمل اللتورجيّا هذا النصّ الذي لا يرتبط بميلاد يسوع ولا يشير إلى رسالته إلاَّ عبرَ رسالة المعمدان؟ المهمّ هو تقديم نصّ يعلن مجيء يسوع القريب. وهذا المجيء لم يتمّ فقط في الميلاد، بل في سلسلة من الأحداث المتعاقبة، من البشارة إلى التقدمة في الهيكل، من العماد على يد يوحنا المعمدان إلى القيامة.
أخيرًا، كل من هذه الأحداث هو وعد وعربون للحدث الأخير في المجد وفي قدرة الربّ في مجيئه. والمسيحيّ الذي يقرأ اليوم في الإِِنجيل خبر أحداث يسوع الماضية، يُفرَض عليه دومًا أن يتطلّع إلى ذلك المجيَء الأخير الذي هو الخلاص بالنسبة إليه.
هذا الإِِنجيل يدعونا إلى الاستعداد لمجيء الله. فهو بندائه إلى التوبة، وبوعد الخلاص لكل البشر، يلقي الضوء على سرّ ولادة يسوع كما يوجِّه أنظارنا إلى مجيئه في المجد.