مع كنيسة كورنتوس ضعف المؤمن وافتخاره في الربّ

ضعف المؤمن وافتخاره في الربّ
1: 26- 31

فئتان تعارضان صليب المسيح: اليهود يريدون الآيات، واليونانيون يريدون الحكمة أي ما يفسّر الكون والانسان عن طريق العقل. فئتان تطلبان براهين تُرضي حكمهما. ولكن الله يرفض ما يريد هؤلاء وأولئك، فيطلب الايمان. اعتبر اليهودُ أن الصليب كان فشلاً، واليونانيون رأوا فيه حكاية لا أساس لها. أما الذين أدركوا في الكرازة الرسوليّة نداء الله وتجاوبوا معه، فقد رأوا في صليب المسيح تدخّل الله السامي في التاريخ البشريّ. اعتبرت الفئتان أن حكمة الصليب جهالة، فانطلق الله من الجهالة ليُخزي الحكمة البشريّة التي رفض بولس أن يعظ بها (2: 1- 5). وانطلق من الضعف، ممّا يحتقره الناس، فأخزى الوجهاء والعظماء. فمن هم الذين اختارهم الله في كنيسة كورنتوس؟ ونقرأ النصّ:
(26) تذكّروا أيها الاخوة كيف كنتم حين دعاكم الله، فما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر، ولا من الأقوياء و الوجهاء. (27) إلاّ أن الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفاً ليُخزي الأقوياء. (28) واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنّه لا شيء، ليُزيل ما يظنّه العالم شيئاً، (29) حتّى لا يفتخر بشرٌ أمام الله. (30) وأمّا أنتم، فبفضله صرتم في المسيح يسوع الذي هو لنا من الله حكمة وبراً وقداسة وفداء، (31) كما جاء في الكتاب: "من أراد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ".
1- سياق النصّ
أ- المحيط الحياتيّ
في خلفيّة الانقسامات التي نجدها في جماعة كورنتوس، ومع حماس الكورنثيّين لحكمة نادى بها عالمُ اليونان، نكتشف بعضَ وجهات هذا العالم اليونانيّ. من جهة، مدارس فلسفيّة مع خطب حكميّة عن العالم ونشوء الآلهة والبشر، ووجود الانسان، والحياة البشريّة. كل هؤلاء المثقّفين والحكماء والمجادلين، يطرحون الأسئلة وينتظرون الأجوبة حول الأدب والفلسفة (1: 20، 22). ومن جهة ثانية، تفضيلُ المجموعات الصغيرة على المجموعات الكبيرة، مجموعات سياسيّة وثقافيّة ودينيّة، ونقابات و«أخويات» ورابطات، تتكوّن وتعيش في حريّة تامّة.
حين نرسم هذه الصورة، لا نعني أننا نجدها في جماعة كورنتوس. وحين نتكلّم عن الانقسامات في هذه الكنيسة، فهي بالأحرى تحزّبات يتعلّق فيها المؤمنون بهذا الرسول أو ذاك. ومع أن كنيسة كورنتوس عرفت عدداً قليلاً من الناس المثقّفين، إلاّ أن العقليّة السائدة أثّرت على المهتدين الذين جاءوا من العالم الوثنيّ، وعلى الذين جاءوا من العالم اليهوديّ وتأثّروا، في شتاتهم، بالحضارة اليونانيّة. هذا المناخ وجد موقعَه في الضعف البشريّ، فساعد على تكوين "تجمّعات" أو "ندوات" في هذه الكنيسة الفتيّة. اهتمّوا باللغة المنمَّقة، وبحثوا عن "الحكمة" التي ينادي بها المعلّمون اليونان، فمالوا إلى تقديم الانجيل وكأنه حكمة من حكمات هذا العالم. لهذا، شوّهوه، وحوّلوه إلى تعليم لا يبتعد كثيراً عمّا يعلّمه الحكماء المتجوّلون بين الناس في كورنتوس.
ب- حكمة البشر وحكمة الله
في هذا الإطار، كتب بولس الفصول الأولى من الرسالة إلى كورنتوس، فندّد بانقسامات بين مسيحيّين يرتبطون بمختلف المبشّرين بالانجيل، كما ندّد بميول تريد أن تُلبس الانجيل لباسَ الحكمة العالميّة، بل أن تجعله حكمةً بجانب سائر الحكمات، بحيث يصبح يسوع "فيلسوفاً" بين الفلاسفة العديدين.
تجاه هذه الانقسامات، ذكّر بولس المؤمنين بالوحدة فيما بينهم، وبوحدة شخص المسيح الذي يخدمه كلُّ حاملي البشارة. مثلُ هذا الموقف يتعارض كل التعارض والإيمان الذي التزموا به. وسوف يشرح الرسول فيما بعد دوْرَ المبشّرين ومعنى خدمتهم (3: 5- 17) قبل أن يُنهي بأمور عمليّة (3: 18- 4: 21): "لا أكتب لكم هذا لأجعلكم تخجلون، بل لأنصحكم نصيحتي لأبنائي الأحبّاء" (4: 14).
ولكن قبل ذلك، وبسبب تعلّق أعمى بمبشّرين، والميل إلى جعل الانجيل حكمة عالميّة، راح بولس إلى عمق الأشياء، فعارض بين حكمة "العالم" وحكمة الله (1: 17- 3: 4). ففي أجمل أسطر كتبها بولس، جعل الكورنثيين تجاه صليب المسيح: الله لا يخلّص المؤمنين بحكمة العالم، بل بحماقة البشارة، بالمسيح المصلوب (1: 17- 25). وسوف يعود بعد ذلك إلى حكمة الله التي تجلّت في يسوع المسيح (2: 6- 9)، وكشفَها روحُ الله بواسطة المبشّرين بالانجيل. ولكن الكورنثيين لم يدركوها كحكمة، لأن حياتهم لا تخضع للروح خضوعاً كافياً (3: 1- 5).
بين الوقت الذي جعل فيه بولس الكورنثيين أمام المسيح المصلوب، «حكمة الله»، والوقت الذي فيه بيّن في هذا المصلوب "ربّ المجد"، وحيَ حكمة الله، شدّد أن الله لا يخلّص بحكمة العالم. لهذا أورد واقعين يعرفهما الكورنثيون: كيف تكوّنت كنيستهم. هذا التكوين لم يتمّ حسب نواميس حكمة العالم. إذن، ليتعلّموا أن يفتخروا بالربّ وحده، ولا يفتخروا بسواه ولا بشيء آخر (1: 26- 31). وبولس نفسه لم يحمل إليهم الانجيل بنفوذ الفصاحة أو الحكمة، بل في الضعف. وهكذا يستند إيمانُهم إلى قدرة روح الله، لا إلى حكمة المبشر (2: 1- 5).
إذن، استند هذا النصّ الذي نقرأ (1: 26- 31) إلى ما لاحظه الرسول في شكل عمليّ: ممّا تألّفت جماعة كورنتوس. غير أن النصّ أراد أن يُبرز، بشكل تعارض، حكمة العالم مع حكمة الله التي تجلّت في المسيح المصلوب، وأن يدعو جماعة كورنتوس أن تستخرج من هذا الوضع، النتائجَ التي تُوجّه تصرّفاتها.

2- ضعف الانسان أمام الله (1: 26- 29)
وسّع بولس الدرس الذي أراد أن يعطيه في وجهتين متكاملتين: واحدة سلبيّة، وأخرى إيجابيّة. انطلق من الضعف البشريّ (أناس مساكين) في تكوين كنيسة كورنتوس، فجعلهم يُدركون، عبْرَ هذا الواقع، سلوكَ الله. هذا السلوكُ يجعلنا نعي مجانيّة مبادرة الله الذي يدعو: وهكذا تجاه مجانيّة موهبة الله، كلُّ اعتداد لدى الانسان لكي يفتخر بنفسه (قال بولس: أنا أفتخر بأوهاني، بضعفي، 1كور 11: 30)، باطلٌ وعدم (آ 26- 29). وأعلن الرسول إلى هؤلاء الكورنثيين الذين ليسوا بشيء في نظر حكمة هذا العالم، أنهم بالله يُعتبرون "كباراً" في المسيح الذي أرسِل لأجلنا كالحكمة وكالفادي. وهكذا، إن أراد أحد أن يفتخر، فهو لا يقدر أن يفتخر إلاّ في الربّ (آ 30- 31).
فقد وُجد في كورنتوس، بين أعضاء الكنيسة، يهودٌ مثل كريسبوس، رئيس المجمع (أع 18: 8). ويونانيون مثل أراستس، أمين صندوق المدينة (روم 16: 23)، ورومان مثل غايوس (1: 14) وفورتاناتوس (16: 17)، وأناس من أجناس مختلفة. ولكن، كما نفهم من بولس، تألّفت الكنيسةُ الكورنثية إجمالاً من قلّة من الأغنياء والوجهاء (آ 26- 27)، وكثرة من صغار القوم: أصحاب الصناعات الصغيرة، العاملون في المرفأ وناقلو البضائع.... وكان العبيد كثيرين فشكّلوا ثلثي السكّان في كورنتوس. وبمختصر الكلام، هي صورة دقيقة عن مؤمني الجماعات الأولى في الكنيسة، الذين جاءوا من بين الوضعاء والذين حرمتهم الحياةُ من خيراتها.
في هذه الكنيسة، هناك عدد قليل من الحكماء في نظر البشر، بعض الأشخاص المقتدرين والاقوياء وأصحاب النفوذ. هناك أقليّة من الوجهاء الذين ينتمون إلى بورجوازيّة المدينة، في القرن الأول المسيحيّ، والذين يشكّلون الطبقة الحاكمة التي تسوس المدينة مع كل الوهج السياسيّ الذي يتضمّن هذا العملُ في المدينة.
أراد بولس أن يحرّر هؤلاء الكورنثيين من فخاخ حكمة بشريّة، فذكّرهم، بدون مراعاة، بوضعهم البسيط حين سمعوا نداء الانجيل. وإذ فعل ما فعل، لم يكتفِ بأن يُخفض اعتداد الكورنثيين فيحكم عليهم كما يحكم سائر الناس. بل أراد أن ينطلق من هذا الواقع ومن الدرس الذي يتضمّنه نداءُ الله لهم، فيبيّن أن مثل هذا الاعتداد باطل ولا نفع منه. فالله حين يجمع شعبه، لا يأخذ بعين الاعتبار الأحكام التي تتوافق وقواعد الحكمة البشريّة.
وفي سلسلة من النقائض، قابل بولس "الحماقة" (أحمق، مجنون، لا حسّ عنده ولا إمكانية) مع الحكمة (الحكيم، العاقل، الفطن). قابل ما هو ضعيف مع ما هو قويّ. ما لا يُعرف أصله ويُحتقر، مع الوجهاء الذين يفتخرون بأصلهم وولادتهم. وفي النهاية، كانت نقيضة حاسمة: اختار الله ما ليس بشيء. ليزيل ما يظنّه الناس شيئاً... هذا السلوك الالهي الذي به يربّي المؤمنين، يدلّ على ما سبق لبولس وقاله: "جعل الله حكمة العالم حماقة... شاء الله أن يخلّص المؤمنين به بحماقة البشارة" (آ 20- 21). أما الهدفُ الالهي فمحدّد: "لئلا يفتخر أحدٌ أمام الله"، أي لكي لا يتكبّر، لا يتباهى ويدلّ على ثقته بنفسه. فالله اختار "ما ليس بشيء" لئلاّ يتذرّع أحدٌ بمواهبه الطبيعيّة (الحكمة، القوّة، المركز الاجتماعي) ليفتخر أمام الله. ومع ذلك، فموقف التواضع من قبل المؤمنين يستند أيضاً إلى أسباب إيجابيّة.
3- افتخار الانسان في الربّ (1: 30- 31)
هذا التواضع يستند بشكل خاص إلى ما فعله الله من أجل أخصّائه. "بفضله صرتم في المسيح يسوع"، أي وجدتُم نفوسَكم في المسيح. غير أن التعارض بين "شيء" و "لا شيء"، والتوازي بين ضعف الكورنثيّين البشريّ الذي يدلّ على عدم إمكانيّتهم بأن يفتخروا أمام الله، وحياتهم المسيحية التي تتيح لهم أن يفتخروا في الربّ، والاعلان بأن الله دعا المسيحَ ليكون منا (آ 30 ب)، كلُّ هذا يدعونا لنفهم الفعل في معنى: وُجد. فالذين احتقرهم العالم فاختارهم الله ليزيل كل اعتداد بشريّ، وجدوا نفوسهم أمام موهبة الله. هم موجودون. هم صاروا. صار لهم وجود في المسيح يسوع، وهذا الوجود هو هبة من الله.
"بالله صار لنا المسيح حكمة وبراً وقداسة وفداء" (آ 30 ب). هذه الألفاظ تدل على بعض ما هو المسيح، على رسالته، على ما فعلَه لأجلنا بحسب مشيئة الآب. فالمسيح يشخّص هذه الأمور، وقد أرسِل من لدن الله ليُشركنا فيها (آ 24). هو ذاك الذي وُهب للعالم فجعلنا نصل إلى عمق معرفة حكمة الله، هذا القصد الالهي بأن يخلّص العالم في المسيح المصلوب وفي مجد هذا المسيح. هو ذاك الذي يُتمّ الفداء بدمه الخاص، فيدلّ على "برّ الله" أي أمانة الله لمواعيد خلاصه، والذي يبرّرنا بالإيمان: فهو برّنا وهو الذي يقدّسنا.
وهو كل هذا لنا "بالنظر إلى الفداء الذي أتمّه" (روم 3: 24) والخلاص بدمه، الذي به ينجّينا من نير الخطيئة ليجعل منا شعبه، ليعطينا بأن نُوجَد ونحيا معه في الله. كل هذه الألقاب التي تعبّر عمّا هو المسيح وعمّا هي رسالته، يعيدنا إلى المناداة بالمسيح المصلوب "عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيين. وأمّا للذين دعاهم الله من اليهود والوثنيّين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله" (آ 23- 24). وفي الوقت عينه، تجعل الكورنثيين وتجعلنا معهم أمام مجانيّة الخلاص الذي يمنحنا الله في يسوع المسيح.
ويستخرج بولس النتيجة من منابعها: إن كان الله دعا الكورنثيين ليكونوا أعضاء في الكنيسة، دون الأخذ بعين الاعتبار معايير الحكمة البشريّة، إن كان جعلهم "يوجدون" (يكونون شيئاً، أحداً. هم لم يكونوا شيئاً) في المسيح الذي صار لأجلهم برّاً وقداسة وحكمة وفداء، فهم يستطيعون أن يجعلوا افتخارهم وثقتهم في الربّ، وفيه وحده (5: 11). وإن أردنا أن نعبّر عن تربية الخلاص هذه بالصليب، ونفهم موقف المؤمنين تجاه الله، نورد نصّ إرميا الذي أورد بولس بعضه القليل: "وقال الربّ: ''لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا الجبّار بجبروته، ولا الغنيّ بغناه، بل من يفتخر فليفتخر بمعرفتي ويفهم أني أنا الربّ مصدر الرحمة والحكم والعدل في الأرض. بمثل هؤلاء أرضي، يقول الربّ''" (إر 9: 22- 23).
طبّق بولس هذا الايراد الكتابيّ على الله، لا على المسيح، فاستنتج: «من اأراد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ» (آ 31). ذاك هو الموقف الذي وقفه بولس معارضاً كلَّ اعتداد بشريّ، حسب قصد الله، والذي طلبه من الكورنثيين. وسوف يقول في روم 5: 11: "بل نحن أيضاً نفتخر بالله، بربّنا يسوع المسيح الذي به نلنا الآن المصالحة".
خاتمة
وهكذا دلّ بولس أن الانجيل ليس حكمة بشريّة، ولا هو ثمرة مثلِ هذه الحكمة: فالايمان المسيحيّ يتحدّث عن حكمة الله المركّزة على سرّ المسيح، وفي قلب هذا السرّ نجد الصليب. ولكن إن لم يكن الانجيل حكمة بشريّة، فلا نظنّ أن بولس يحتقر هذه الحكمة. فنحن نلاحظ في كل هذه الرسالة كيف يلامس الرسول فكرَ عصره لكي يكلِّم الناس ويبشّرهم بالمسيح. لا يحارب بولس الحكمة البشريّة، بل الحكمة التي تريد أن تكفي ذاتها بذاتها ولا تنفتح على حكمة الله. هذا ما يقرّبنا من الانجيل وممّا يقوله يسوعُ عن الفريسي: ينغلق على أعماله وممارساته (لو 18: 9- 14). أو عن الغني: اكتفى بغناه فانغلق وما فتح قلبه على من حوله (لو 12: 16- 21). وهكذا يحارب بولس اكتفاء الحكيم بحكمته، وبالتالي رضى الكورنثيين عن نفوسهم وعن حكمتهم.
غير أن بولس لا يبقى على المستوى الأدبيّ. فالموقف الذي يطلبه، يتأسّس على الاعتراف بمجانيّة عمل الله: النداء الالهي، هبة الله التي تهب الحياة في المسيح، قصد الله الخلاصي الذي أرسل ابنه فادياً. وهكذا يدعو بولس المؤمنين إلى فقر إنجيلي يشبه فقر مريم في نشيد التعظيم، وإلى النظر إلى سرّ المسيح المصلوب وربّ المجد، نظراً يُبعدنا عن كل كبرياء وافتخار بنفوسنا. فكل ما فينا نعمةُ من المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM