مع كنيسة كورنتوس : حكمة الله الفائقة

حكمة الله الفائقة
1: 22- 25

حكمةُ الحكماء ترفض الصليب. وذكاء الأذكياء يفتح طريقاً غير الطريق الذي اتّخذه المسيح من أجل خلاص البشريّة. فلليهود حكمتُهم التي تستند إلى الآيات. مثلُ هذه الحكمة جعلتهم خارج مخطّط الخلاص في المسيح يسوع. وللوثنيّين حكمتُهم التي تقوم على فلسفات وتنظيرات. دفعتهم في النهاية إلى أحضان الديانات السرانيّة وما فيها من مجون قادهم إلى فساد العقل والشائن من الأعمال (روم 1: 29). جميعُهم لم يفهموا حكمة الصليب واعتبروها حماقة، فأراد الله أن يخلّصهم بهذه "الحماقة" التي هي أحكم من حكمة الناس. ونقرأ النصّ:
(22) وإذا كان اليهود يطلبون المعجزات، واليونانيّون يبحثون عن الحكمة، (23) فنحن ننادي بالمسيح مصلوباً، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيين. (24) وأمّا للذين دعاهم الله من اليهود واليونانيّين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله. (25) فما يبدو أنه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس، وما يبدو أنه ضعف من الله هو أقوى من قوّة الناس.

1- سياق النصّ
كشفت الأخبارُ الواصلة من كورنتوس عن تكوين أحزاب وفرق في قلب جماعة تتعبّد للأشخاص: بعضهم يتشيّع لبولس، وآخرون لأبلوس، وآخرون أيضاً لكيفا (بطرس). بل إن بعضهم ينتمي إلى المسيح، والحمد لله. هذه المزاحمات كشفت للرسل أزمة أشدّ خطورة، لأنها بداية تغرّبٍ عن الانجيل الذي كُرز به في كورنتوس. فالتجربة التي يتعرّض لها أعضاء الكنيسة، هي التمسّك بسلطة وُضعت بين أيديهم ليكون لهم ما طالما تمنّوه: القدرة الروحيّة التي تقتلعهم من وضعهم الحاضر وتمنحهم تحقيق رغباتهم التي هي الدخول في العالم الآتي، الخلود، امتلاك الله، سلطة اجتراح المعجزات بحيثُ يُرفعون فوق العاديّين من البشر.
تجاه هذه الانقسامات، ذكّر بولس المؤمنين بالأساس الذي وضعه، وهو البشارة بالانجيل، وتجاه هذه الطموحات، عاد إلى هذا الانجيل الذي كرز به. هو انجيل الصليب، حماقة، جهالة، جنون، للذين يسيرون إلى هلاكهم (1: 18 أ). وهو أيضاً قدرة الله للذين ينعمون اليوم بالخلاص (آ 18 ب). فالخلاص قد بدأ يعملُ عملَه، ولن ينتهي، في نظر الرسول، إلاّ حين تدخله الخليقةُ كلها وأجسادُ القائمين من الموت.
إذن، التوسّع الذي نقرأه هنا ليس جدالاً «فلسفياً» حول الحكمة أو حول الوحي: فالقضيّة قضيّة موت أو حياة. يرى الغنوصيّون (يمتلكون معرفة سرّية) أن المعرفة الباطنيّة (العرفة) تكفي من أجل الخلاص. أما بولس فيرى أنه ينبغي أن نخلص لكي نعرف. ولا نعرف حقّ المعرفة إلاّ حين يتمّ كل شيء (13: 12). أما دور الرسول فلا يقوم بالاقناع، بل بإظهار عمل الروح وانتصاره.
إن آ 22- 25 التي ندرس ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل ما في ف 1. يصعب علينا أن نقتلعها من سياقها، ولكنها تشكّل مع ذلك وحدة أدبيّة صغيرة مكوّنة من جمل متعارضة مع آيات تبدو بشكل نقائض.
آ 22- اليهود يطلبون المعجزات
اليونانيون يبحثون عن الحكمة
آ 23 نحن ننادي
بالمسيح مصلوباً
عقبة لليهود
حماقة للوثنيين
آ 24 للمدعوّين
من اليهود واليونانيين
المسيح قدرة الله
وحكمة الله
آ 25 فحماقة الله أحكم من البشر
وضعف الله أقوى من البشر.
2- اليهود واليونانيّون (1: 22)
الأوّلون يطلبون الآيات والمعجزات. والآخرون يبحثون عن حكمة يسمعونها ويردّدونها فتبقى خارجة عنهم. استعمل الرسول اللفظَين (يهود، يونانيون)، كما اعتاد أن يفعل مراراً (1 كور 12: 13؛ غل 3: 28)، فدلّ باليونانيّين على الأمم الوثنية (آ 23 ب) تجاه بني اسرائيل. لهذا قلنا أكثر من مرة: اليهود وغير اليهود. فالتعارض يميّز روم 1 حيث لا يتحدّث بولس إلى «اليونانيين» فقط، بل إلى الوثنيّين. غير أن التعارض الذي يبرز هنا، لا يستند فقط إلى وضع كلتي الفئتين في تاريخ الخلاص، كما هو الوضع في روم (هناك من يخطأ وهو يعرف الناموس. وهناك من يخطأ ولا يعرف الناموس الموسويّ).
الاختلاف هنا يرتبط بكرازة الانجيل، التي تحرّك هنا وهناك متطلّبةً دينيّة عميقة تتعلّق بهذه الفئة أو بتلك. والنصّ سوف يبيّن لنا أن نرى في "المعجزات" (أو: الآيات) مظاهرَ قدرة يراها الناس (كأن تُظلم الشمس)، وفي الحكمة مجهود فلسفة تبحث عن العلل الأخيرة. وبمختصر الكلام، هنا وهناك، يحتاجون إلى براهين عن الحقيقة الالهيّة. وهكذا يسعى كلُّ واحد ليقف بحيث يستطيع أن يحكم على الله بحسب معاييره الخاصة. فالله ليس سوى فعل قدرة ساطع في المسيح أو قوّة الحكمة التي تستنتج ولا تنتهي من الاستنتاج، كما لا ينتهي اليهود من الطلب: نريد منك آية، وذلك بعد تكثير الأرغفة.
في أساس هذا الحكم، نكتشف بعض الكتّاب اليونان، كما نكتشف تلفيقاً يرتبط بالغنوصيّة (أو المعرفة الباطنيّة). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نقرأ في الأناجيل المقاطع التي فيها يطلبون من يسوع آية. في مر 8: 11- 13 وز: "أخذوا يجادلونه طالبين منه آية". الجواب: "لن يُعطى هذا الجيل آية". رج يو 8: 48؛ مت 4: 1- 11 (تجارب يسوع). وفي النهاية، طلبوا من يسوع علامة ساطعة: أن ينزل عن الصليب (مت 27: 39- 44).

3- نعلن مسيحاً مصلوباً (1: 23)
جاءت الآيةُ تقابل سابقتها وتردّ عليها: أما نحن... من جهتنا. "نحن" أي حاملو الكرازة والمنادون بالانجيل، بدءاً بالرسول بولس. وفي قلب الكرازة، نجد هنا "المسيح المصلوب". ركّز بولس قوّة الانجيل على الصليب، تجاه هؤلاء الكورنثيّين "الذين شبعوا منذ الآن، استغنوا منذ الآن، وجلسوا على العرش منذ الآن" (4: 8). صاروا إلى الأمام، وعلى بولس أن يردّهم إلى الوراء، إلى الواقع. فالانجيل هو المصلوب (2: 1). يحمله سفيرٌ ضعيف لا وهج له (2: 3)، وفي لغة بشريّة لا بلاغة فيها (2: 4). وهو يجمع «كنيسة» ليس فيها الكثير من المثقّفين والعظماء وأصحاب العلاقات المعروفة (1: 26). وحين يتحدّث بولس عن المسيح المصلوب، يفكّر بمصير المسيح، بوجه مرسله، بطبيعة اللغة التي تُقدّم هذا الكلامَ، بتأليف "الكنيسة" التي يجمعها. كل هذا يُطبع بطابع واحد: طابع الصليب والضعف والحكمة التي يعتبرها البشر حماقة.
حين نقرأ ما كتبه قلسيوس "ضد المسيحيين"، نفهم ما يعني كلُّ هذا في نظر فيلسوف يوناني: الحماقة، الجهالة، الجنون. أما الـ "عقبة" (أو: شك، عثار، ما يجعل الانسان يسقط) التي تمنع اليهود من المجيء إلى الصليب، فنفهمها ممّا نقرأه في الأناجيل. رج مت 11: 6 (هنيئاً لمن لا يشكّ فيّ؛ لو 7: 23)؛ 15: 12؛ يو 6: 16. مقابل هذا، حين رفض بطرس الصليب، تشكّك من يسوع (مت 16: 23؛ لا سمح الله. لن تلقى هذا المصير). وليلة الحاش والآلام هي ليلة الشكّ والعثار، التي لم يُفلت منها واحدٌ من التلاميذ (مت 26: 31- 33 وز). كما نستطيع أن نقرأ النصوص التي تذكر "حجر العثار" (لو 20: 17- 19؛ روم 9: 33؛ 1 بط 2: 6- 8).
هنا لا بدّ من أن نحذر الهزء من بحث الفيلسوف أو انتظار اليهود الذي لم ينتهِ بعد. فهذان الموقفان جديران بالاحترام. لسنا أمام أشخاص ماديّين لا يرتفعون إلى ما فوق الطعام والشراب والحياة اليوميّة. ولا أمام أشخاص غلاظ العقول لا يريدون أن يفهموا. لا ننسى أن حكمة اليونان ما زالت تُلهم دراسة الحكمة في أيامنا. والانتظار لدى اليهود ما زال حاضراً في أيامنا، على المستوى السياسي أو الديني، في عالم اليوم. فلو كان الأمر بسيطاً بهذه الغاية، لما كان الشكّ من الصليب.

4- المسيح قدرة الله وحكمة الله (1: 24)
جاء "المسيح" تجاه "المصلوب" في آ 23، كمفعول فعل "ننادي". في الواقع، هو يلعب دور الصفة: قدرة الله وحكمته هما المسيح!
ولفظ "المدعوين" (الذين دعاهم الله) يشكِّل مع "نحن" (في آ 23)، نقيضةً تجاه اليهود واليونانيين الذي تميّزوا في فئتين في الآية السابقة، حين عارضوا الكرازة: عقبة للبعض. حماقة للبعض الآخر. أما الآن فاجتمع اليهود واليونانيين في نداء واحد (المدعوين) وفي اعتراف واحد (المسيح المصلوب): هم ما عادوا يطالبون بشيء. والاختلافات السابقة زالت: فلهؤلاء ولأولئك، المسيح هو قدرة الله وحكمة الله. وكل واحد يكتشف فيه، لا ما كان ينتظره (المسيح المنتظر، الحكمة) وحسب، بل ما كان الآخر يبحث عنه أيضاً. فالاحزاب نمت في كورنتوس بقدر ما استغلّ كلُّ واحد الكرازة المعلنة، من أجل فلسفته أو نظرته الدينيّة، من أجل نظرة "مسيحيّة" خاصة بهذا أو ذاك (ديانة على قياسنا وبحسب تفكيرنا). فالكرازة تلغي (1: 19) "العقبة" و "الفلسفة"، ولكنها لا تترك اليهود واليونانيّين في ضياع وفراغ: فهي تُدخل الفئتين في حكمة أخرى، وتعطيهما هذه القدرة التي تظهر ساطعة في الرسالتين إلى أهل كورنتوس.
تجلّت قدرةُ الله في الخلق (روم 1: 10- 20)، وحكمتُه في أعماله (1: 21). فسيطر عليهما الانسان وجعلهما أداة افتخاره (أو: كبريائه. ما يعطينا قيمة في نظرنا وفي نظر الآخرين). أما الآن، ففي المسيح نجعل افتخارنا (1: 31). وفي نظر بولس، لسنا الآن بدون حكمة (رج 2: 6- 16)، لسنا بدون قدرة (رج 2 كور 12: 9- 10؛ 13: 4 -9 ). فامتداد هذه الجدليّة (القدرة، الضعف. ثم الغنى، الفقر. ثم الحكمة، الحماقة) سيكون أساسَ تعليم بولس عن الجماعة، عن العلاقة بين الرسول والكنيسة، عن التعليم الخلقيّ أو الرجاء.
ولكن إن صار المسيح هكذا حكمةَ الله وقدرته، فهذا لا يتعلّق بتبدّل في القيم وحسب: فان آ 26- 30 تدلّ بقوّة على أننا أمام اختيار إلهيّ رفيع. لا شيء يبرّره في ذاته، ولو كان تحليل الفقر والضعف والحماقة. هنا نحذر أن نصوغ نظرة مقلوبة إلى الله تقوم في أن نصنع صنماً آخر يجسّد أيضاً القيم البشريّة التي نرفعها إلى المطلق (لا القدرة، بل الفقر المدقع). لقد اختار الله، بحرّيته، ما هو ضعيف، ما هو أحمق في العالم. اختار شعبَ اسرائيل. اختار بولس، اختار كرازته وما فيها من تردّد وضعف، اختار جماعة كورنتوس. اختار صليب يسوع. اختار كل هذا ليُخزي الخصوم. أي ليبعد كل غموض ويدلّ أنه الحي (عكس الصنم)، أنه الآخر الذي لا يستطيع الانسان أن يُمسكه أو يتصوّره.
5- حماقة الله (1: 25)
وانطلق القولُ الأخير من الصليب، فعبّر بشكل عام عمّا أحسّ الرسول أنه يقدر أن يستنتجه، وذلك في شكل تصالب: القدرة والحكمة في آ 24. الحماقة والضعف في آ 25. صارت حماقةُ الله أحكم من حكمة الناس، وضعفُ الله أقوى من ضعف الناس.
ويُطرح السؤال: من سينتصر في هذه المواجهة؟ يرى الرسول أن إنجيل الصليب يشكّل وحي الله. وفي هذا الوحي، يتجلّى على أنه الإله الذي يحيّر العقول، الذي لا يسمح لأحد أن يعرف فكره، لأنه حرّ في مبادرته. فالذي ينتصر على قوة الانسان وحكمته هو ضعف الله وحماقته، وذلك بقدر ما يتغلّب نظامُ المحبّة على عالم الأجساد والأرواح.
خاتمة
نحن نحتفل مراراً بالصليب، ولا سيّما في زمن الصوم المقدّس. يا ليت احتفالاتنا تتحاشى استغلال الصليب لتحقيق طموحاتنا الروحيّة مهما كانت رفيعة. ففي هذا المقطع البولسيّ، كلُّ شيء مطبوع بطابع الصليب (التجرّد): الخدمة، الجماعة، الخطابة، الكرازة. هنا لا ينفصل المدلول عمّن يدلّ عليه.
ونطرح السؤال: أين هو الله؟ لا نملك مفتاحاً يدلّنا على وجوده بطريقة آلية. فالصليب يكشف لنا أن الله هو في قلب التاريخ، ولكنه لا "يذرب" في تيّار من التيّارات الدينية أو الفلسفية أو العلميّة، ولا في انتظارات مسيحانيّة (= انتظار مخلّص) تتطلّع إليها البشريّة. فهذا النص يلغي كلَّ غموض بين من نكرز به، المسيح المصلوب، وبين ما يبحث عنه الانسان مهما كان البحث سامياً. لا، ليس الصليب غريباً. هو معروض بيننا. ولكننا لا نستطيع أن نُلغي الشكّ الذي يمكنه أن يجعل «المؤمن» يعثر (المسيح ضعيف، لا يفعل شيئاً). كما لا يمكننا أن نتعامل مع الصليب كما نشاء. هذا الصليب هو قدرة الله وحكمته، لأنه هنا يحقّق وعده وبرّه، ويعطي ذاته بكلّيتها فيصير لنا دون أن يتخلّى إطلاقاً عن ذاته. الصليب قدرةٌ لا تحقّق قدرةً نودّ أن ننعم بها. وهو حكمة لا تجد مرماها في نهاية حكمتنا. الصليب هو الربّ، وهو القائم من الموت!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM