مع كنيسة كورنتوس : شكر لله على عطاياه
 

 

شكر لله على عطاياه
1كور 1: 4- 9

"أمين هو الله الذي دعاكم" (9 آ). تُقدّم هذه الآيةُ الموضوعَ الموحّد لكل التوسّعات المتعاقبة: الله يدعونا إلى اتّحاد حميم ومستمرّ مع ابنه يسوع المسيح، وهذا ما يؤسّس اتّحاداً متبادلاً بين جميع أعضاء المسيح الذين تربطهم رباطاتُ محبّة تفرض علينا وعياً لكي نحافظ عليها، كما تتطلّب حرباً يوميّة وروحيّة. وسيعود ف13 إلى امتداح المحبة (أغابي) التي بدونها لا حياة مسيحيّة حقيقيّة. ونقرأ النص:
(4) أشكر إلهي لأجلكم دوماً على النعمة التي وهبها لكم في المسيح يسوع. (5) فصرتم به أغنياء في كل شيء، في أساليب الكلام وأنواع المعرفة (6) على قدر ما رسخت فيكم شهادة المسيح، (7) حتّى إنه لا تعوزكم موهبة من المواهب، وأنتم تنتظرون ظهور ربّنا يسوع المسيح، (8) وهو الذي يحفظكم ثابتين إلى النهاية حتّى لا يكون عليكم لوم في يوم ربّنا يسوع المسيح. (9) أمينٌ هو الله الذي دعاكم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربّنا.
بعد أن ذكر بولس اسم المرسل وقرّاء الرسالة (آ1- 2)، وجّه تحيّة مسيحيّة (آ 3) تمنّى فيها لقرّائه خبرات مسيحانيّة، خيرات النعمة السلام، هي مواهب الآب بواسطة ابنه يسوع المسيح.

1- فعل الشكر
بدأت هذه الآيات (آ 4- 9) بفعل شكر، جعل بولس يعي وعياً تاماً نعمة الله التي نالها الكورنثيون. فمعظمُهم جاء من العالم الوثني، بعد أن انغمسوا في فساد عرفه مجتمعُ كورنتوس على مستوى الانحلال الخلقيّ. لهذا شكر بولس الله، وما زال يذكّرهم، في قلب الرسالة، بأنّهم نعموا بصلاح الله الذي لا ينفذ. فعليهم أن يحاربوا ميلاً فيهم إلى الاكتفاء بالذات وإلى الجهل والباطل. فإن استسلموا إلى هذا الميل، دلّوا على أنهم ما زالوا أطفالاً، لا خبرة لهم ولا ثبات. فلو نضجوا نضوجاً روحياً، واهتمّوا أن يعمّقوا حياتهم مع المسيح، لكانوا عرفوا التواضع والشكر المتواصل في «افخارستيا» يعيشونها أسبوعاً بعد أسبوع. شكر بولسُ باسمهم، وهو الذي نال النعمة والرسالة بمبادرة ساطعة من لدن الله، بعد أن التقى الربّ المسيح على طريق دمشق.
اختلفت هذه الرسالةُ عن غيرها، فما بدأت بتهنئة الجماعة على حياتها، ودعوتها إلى مواصلة ما بدأت به. لهذا كان فعلُ الشكر هنا تذكيراً بالتواضع والابتعاد عن المباهاة، من أجل مسيحيّين نسوا أنهم نالوا كلَّ شيء من لدنه تعالى. فإن كان لا بدّ من الافتخار، فليفتخروا بوفرة نعمة الله من أجلهم.
تعلّم بولس فعل الشكر هذا، منذ حياته في العالم اليهودي، وتلاوته للمزامير. والمسيحيّ يحتاج أيضاً إلى أن يتوسّع في فعل الشكر هذا، سواء في حياته الشخصيّة أو إشعاعه الرسوليّ. فبدون الله لسنا بشيء، وبدون معونته لا نقدر على شيء من أجل بناء ملكوته. كم تكون فقيرةً حياةُ الصلاة عندنا إن تركنا جانباً هذا الاهتمام الفِرح، بالشكر والمديح وإنشاد حبّ الله لنا. وإذا كانت حياتُنا الروحيّة ضعيفة، فلأننا لا نستطيع أن ننظر إلى الله دون أن ندعوه إلى معونتنا. حينئذ تُصبح العلاقات معه علاقات نفعيّة. ولكن حين نفرح لأن الله يحبّنا حباً مجانياً، ويخلّصنا، ويُغدق علينا الخيرات بعد أن صرنا أبناءه، ندلّ على حقيقة حياتنا مع الله. أما هذا التي تطلبه منا الافخارستيا؟ أن نرفع صلاة الشكر باسمنا وباسم الجماعة التي ننتمي إليها. أن نرفع مديحنا إلى الآب السماويّ.

2- نظرة حقّة إلى الله
إلى الله يرتفع شكرُنا. فهو يُذكَر في بداية القطعة على أنه ينبوع كل غنى روحيّ. ويُذكر في النهاية (9) على أنه "الأمين". هو ذاك الذي يمكن أن نستند إليه، لأن مواعيدَه ثابتة وكلمته أكيدة. دعا الكورنثيين إلى الخلاص، وهو يثبّتهم إلى المنتهى في تعلّقهم بالمسيح.
الله هو فاعل الأفعال: منه كل مبادرة، وأمانتُه لا تتبدّل. الله هو في قلب تاريخ الخلاص. هو أب حاضر، وحضوره فاعل. ملأ فكرَ الرسول وقلبه، فما عاد يستطيع إلاّ أن يتكلّم عنه. هو في انطلاقة مبادرة البشر العظمى، كما نجده في كل مواعيد الخلاص. حسب الكتب المقدّسة، أرسل ابنه، ووجّهه في سر موته لأجلنا، وأقامه من بين الأموات، وأقامه في القدرة، إبنَ الله ومخلّص المسكونة. هذا الاله هو ينبوع حياتنا الروحيّة في المسيح، وسوف يكون دوماً "كلاً في الكل" (15: 28). هذا، لايني يردّده التعليمُ المسيحيّ. لا، لم يمت الله، كما قالت بعض الفلسفات. فهو الحيُّ أبد الدهور. الله هو الاول والآخر، هو بداية كل شيء ونهايته. هو حاضر في التاريخ، وفي حياة كل واحد منا.
نحن أمام درس لأناس لا يريدون أن يتكلّموا عن الله، بل عن الانسان، أو يفصلون بين علاقتهم بالله وحياتهم اليوميّة، أو يتحدّثون عن يسوع كرفيق الدرب (وهذا صحيح) وينسون ربَّ المجد والابنَ الوحيد الذي يجتذبنا إلى الآب. فسرُّ التجسّد لم يُلغِ وعيَنا لمن هو المطلَق الفريد والضروريّ الوحيد. لهذا، يجب علينا دوماً أن نسعى إلى اكتشاف الله في التزاماتنا اليوميّة الملموسة. وإلاّ حرمنا نفوسنا ممّا يكوّن أصالة المسيحية، أي حضور الآخر الآخر في قلب الأمور الوضيعة، حضور الحب الازلي في هذا الزمن الذي هو إطار خلاصنا. فاذا كنا نعارض "الحضور لله" (الذي يفرض علينا اهتداء متواصلاً) مع «الحضور للعالم» (الذي نعيش فيه بل نكاد نغرق)، فلأننا لم نفهم ما فيه الكفاية، أن كلمة الله قوّة حاضرة في تاريخ البشر. فأولويّة البحث عن الله تفرض نفسها على كل حياة مسيحيّة، في الحالة التي وُجدنا فيها حين دعانا الله (1كور7: 17). أن يقول بولس مثلَ هذا الكلام في محيط صعب ومختلط مثل محيط كورنتوس، فهذا يدعونا لكي نشهد لحضور الله في زماننا. فمهما كان التصاقنا بأمور الأرض كبيراً، فلا يكون على حساب الخيانة للتعليم الانجيليّ.

3- نظرة حقّة إلى المسيح
"في المسيح يسوع" فاضت على الكورنيين نعمةُ الله. منذ آ1- 2، ذُكر المسيحُ يسوع (أو: يسوع المسيح، أو: ربّنا يسوع المسيح) ثلاث مرات. وذُكر ستَّ مرات في آ 6- 9. هذا يُفهمنا أن فكر بولس بلاهوته وتعليمه للكنائس، يتركّز على شخص المسيح. هنا ندرك أيضاً نقطة جوهريّة في تعليم الرسول. "في المسيح"، "فيه". لسنا أمام عبارات مقولبة لا معنى فيها. فمنذ الآن، يجد المسيحيّ نفسه مرتبطاً بالمسيح، في الماضي والحاضر والمستقبل، في الحياة كما في الممات. ولسنا فقط أمام عودة إلى يسوع الناصريّ الذي جاء إلى العالم وترك مثال حياته وتعليمه، الذي مات ثم تراءى حياً لتلاميذه. بل أمام يقينٍ متواصل بأننا فيه على الدوام، بأننا متحدّون معه في حياة جديدة. فيه نحيا (1كور 8: 6) ونُوجد (1: 30). به نبلغ إلى الحكمة الحقّة، إلى "أعماق الله" (2: 10). فالمسيحيون الذين وُلدوا فيه (4: 15) يكوّنون معه روحاً واحداً (6: 17)، بحيث لا يعودون لأنفسهم، بل لذلك الذي اشتراهم. به نصير جسداً واحداً (12: 27). لقد رأى بولسُ نفسُه، علاقاتِه مع جماعة كورنتوس «في المسيح»، وهو في المسيح يحبّهم (16: 24).
إذا قرأنا مجملَ الرسائل البولسيّة، نكتشف عبارات تتحدّث عن اكتشاف الحياة المسيحيّة على أنها علاقة شخصيّة بالمسيح. والاتحاد الأسراريّ يعبّر عن هذه العلاقة ويغذّيها، بواسطة علامة عابرة وواقع مستمر. فالمسيحيّ يغتذي يوماً بعد يوم من المسيح. وحياةُ المسيح بالنسبة إليه، هي أهمّ واقع أساسيّ. "حياتي هي المسيح" (فل 1: 21). "لست أنا من يحيا، بل المسيح يحيا فيّ" (غل2: 20). وإن آ 6- 7 (من النصّ الذي ندرس) تدلاّن على أن كل الغنى الانجيليّ يصل إلينا به، وكل القوى الروحيّة التي فينا. والشهادة المؤدّاة للمسيح (آ 6) تُفهمنا أن الواعظ وكيلٌ وخادم. اذن، هو، لن يحلّ محلَّ شخص المسيح وعمله، ولن يعرف وسط إخوته "سوى يسوع المسيح وإياه مصلوباً" (2: 2). وثباتُ الشهادة التي يُؤدّيها، تنبع من هذا الموقف، ولاسيّما إذا عاش الواعظ هذا التجذّر في الربّ.
في آ 5، تحدّث بولس عن الكورنثيين الذين نالوا "كل غنى الكلمة وكل غنى العلم"، أي أنهم تقبّلوا جوهر الكرازة المسيحيّة حول المسيح ومعرفة سرّه. فالعلمُ يدلّ هنا على معرفة كافية للربّ. وفي آ 7، يدلّ لفظ "موهبة"، لا على عطايا تصل إلى البعض من أجل خير الجميع وحسب، بل بشكل عام، على جميع العطايا التي تنبع من نعمة الله، أي تلك التي تتعلّق بتقديس كلِّ واحد من المؤمنين. وبما أن كل ما للمسيحيّ هو من المسيح، فلا يستطيع أن يفتخر، كما لا يستطيع أن يكتفي بنفسه! يبقى عليه أن يفرح من فيض الحنان الذي كشفه الله له في المسيح.
وأخيراً الأمانة (التي تجعلنا نثبت) التي نقرأها في آ 8، هي قبل كل شيء وعيٌ وخبرةٌ لهذه الحياة في المسيح. نحن أبعد ما نكون عن الرتابة والتكرار، بل أمام مشاركة هي ولوج يتجدّد في حياة القائم من الموت. هي نموّ النضوج وملء قامة أبناء الله. مثلُ هذه المسيرة الروحيّة ستكون حرباً حيث عدوُّنا الاول هو نحن أمام حريّتنا واستقلاليتنا كما نفهمهما في إطار ميلنا إلى الشرّ والخطيئة. إذن، على المسيحي أن يموت كلَّ يوم عن نفسه، وأن يترك المسيح يجتاحه.

4- الخبرة المسيحيّة
وأخيراً، يتوجّه إيمانُنا واتّحادُنا بالمسيح، نحو ملء وحي الرب ويومه ومجيئه (آ 8). هذا يعني أننا نعرف المسيح معرفة غامضة، فيها النور والظلمة. أننا نعيش معه في الايمان، لا في العيان. نحن نتوق إلى ملء تجلّيه، وفي ذلك اليوم نتجلّى عنه أيضاً معه، نكون على مستوى الرؤية وليس فقط على مستوى الايمان. نكون قد أنهينا نموَّنا الروحيّ وتحقّق ملءُ قامتنا كأبناء الله. ففي ابن الله الأزليّ، نكون أبناء على الدوام، في عهد أبديّ مع الآب السماويّ.
هذا الرجاء المسيحي أمر رئيسيّ في نظرة بولس. كان الأنبياء في العهد القديم يشدّدون على "يوم الربّ"، على تدخّل الله الأخير في الازمنة المسيحانيّة، على تتمّة التاريخ البشريّ. وفي المسيح تدشّنت الأزمنةُ الأخيرة. ونحن ننتظر مجيئه الأخير كالديّان السامي في الكون. حينئذ يسلّم المُلكَ إلى أبيه (1كور 25: 14) "لكي يكون الله كلاً في الكل" (15: 28).
وهذا الرجاء الحارّ يبقى جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا المسيحيّة. فحين نُحبّ المسيح، نتوق إلى تجلّيه الحاسم، ونرغب في أن يقود الكونَ الذي وُلد من جديد، إلى مصيره الأخير. فمسيحُ القيامة يعيش فينا، يُعطينا روحه. وهذا الروح، يجعلنا نتوق إلى "روحنة" كل كياننا، وإلى اتحاد تامّ مع أبينا. إذا كنا لا نفهم هذا الانتظار، فعدمُ فهمنا علامةٌ على خيانتنا للروح، ونسيانٌ لما في حياتنا على الأرض من طابع عابر. فالانتظار الفِرح لمجيء الربّ لا يدفعنا إلى الجمود والامتناع عن العمل والكسل، كما لا يدفعنا إلى القلق والاضطراب، بل يحثّنا على أن نستعمل، بجدّية، الزمنَ الذي أعطي لنا، وأن نقدّسه حين نتمّم مهامَنا اليوميّة. هذا ما نفهمه حين نقرأ الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، حول المسيحيّ الذي يعيش هذا الانتظار. كما نفهم أهميّة الرجاء في آخر رسائل دوّنها الرسول. فبموتنا ندخل، بشكل سري، في هذا العالم الجديد الذي سينكشف لنا في ملئه، في اليوم الأخير.
اعتاد بعضُ الشرّاح أن يقولوا إن بولس ترجّى أن يرى مجيء الربّ وهو بعد حيّ. فاستنتجوا أن هذه التعليمات ارتبطت بأمل لم يتحقّق. ومع ذلك، فهو لا يبدو يوماً وكأنه خاب أمله، ساعة ينتظر موته. بل هو يعطي جميع المسيحيين تعليماً عن الثبات والانتظار والسهر. ولا ننسى أن بولس يتحدّث عن الرب القريب جداً، وهو يؤمن إيماناً حياً بنهاية الأزمنة. فجميعُ المسيحيين يُشاركون بشكل من الاشكال، في الأزمنة الأخيرة، بل يلامسونها بحياتهم في ذلك الذي هو "آدم الآخر" (15: 45). ونحن لا نستطيع إلاّ أن "نحبّ هذا المجيء" (2تم 4: 8) ونشتاق إليه. عندئذ تصبح حياتُنا انتظاراً متواصلاً.

خاتمة
بعد أن دعانا الله أبونا، ودخَلْنا في حياة ابنه، ووجّهْنا أنظارَنا نحو التجلّي الأخير للمسيح، صرنا حجّاجاً يسيرون في الايمان، وهم يعرفون أهميّة الحياة الحاضرة. نحن في سهرة طويلة من أجل لقائنا الحاسم مع الله في المسيح.
لهذا، لا نستطيع إلاّ أن نشكر الرب، مع بولس، على صلاحه اللامتناهي. نشكره اليوم وغداً وإلى الأبد. كما لا نستطيع إلاّ أن نفرح في ذلك الذي هو أمين، في ذاك الثابت على كلامه، في ذاك الذي يريد أن يرتبط معنا بعهد أبديّ. من أجل كل هذا، يدعونا الرسول لأن نُنشد رحمةَ الله، وأمانته التي تجلّت في المسيح، وتجاوبَ الله مع رجاء قلوبنا المؤمنة.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM