المجد لله القادر
16: 25- 27
المجدلة التي تنهي الرسالة إلى رومة، تبدو مستقلّة عن سياقها. ولكنها تتوافق كل الموافقة مع الفنّ الأدبيّ للمجدلات، وتعكس فكر رسول الأمم الذي اعتاد أن يتوقّف عن الكلام ليعلن إعجابه بحكمة الله وعلمه، «له المجد إلى الأبد» (11: 33- 36).
ونقرأ النصّ:
(25) المجد لله القادر أن يثبّتكم في الانجيل الذي أُعلنُه منادياً بيسوع المسيح وفقاً للسرّ المعلن الذي بقي مكتوماً مدى الأزل (26) وظهر الآن بما كتبه الأنبياء وعرفته جميع الشعوب، كما أمر الله الأزليّ، حتّى يُطيعوا ويُؤمنوا. (27) المجد لله الحكيم وحده، بيسوع المسيح إلى الأبد. آمين.
1- سياق النصّ
كانت نهاية الرسالة إلى رومة موضوع جدالات عديدة. في الماضي، تساءل الشرّاح عن انتماء الفصلين الأخيرين (ف 15- 16) إلى الرسالة الأصليّة. واليوم، أخذوا يقولون إن ف 16 هو بطاقة مستقلّة توجّهت إلى كنيسة أفسس، ثمّ ضُمّت إلى الرسالة إلى رومة. أما البراهين فعديدة ومتنوّعة، وأحدُ هذه البراهين نجده في البردية 46 التي تعود إلى بداية القرن الثالث، فتجعل المجدلة في نهاية ف 15، أي بعد آ 33: «وليكن إله السلام معكم أجمعين. آمين». ثم نقرأ: «المجد لله القادر». ولكن هذه المجدلة تحتفظ بقيمتها سواء جاءت في نهاية ف 16 أو نهاية ف 15.
غير أن شرّاحاً آخرين تحدّثوا عن مضمون هذه المجدلة، واعتبروها من يد غير يد بولس، لا سيّما وأن موقعها في المخطوطات جاء مختلفاً. غير أن هذا الجدال لا يهمّنا بشكل مباشر. ومهما يكن من أمر، فهذه المجدلة التي بدت مستقلّة عن سياقها المباشر، تتوافق كل الموافقة مع الوثيقة (أي روم) التي تختتمها، وسيبيّن التحليلُ أنها تشكّل نهاية قيّمة للرسالة إلى رومة.
حين نقرأ هذه الآيات في حدّ ذاتها، نرى فيها صلاة ليتورجيّة ومديحاً لمجد الله، وذكراً لله في البداية (آ 25) والنهاية (آ 27) يؤلّف إطاراً هاماً لهذا النشيد بعناصره المتوازية، حيث تتعارض النبرة الاحتفاليّة مع الفن الرسائليّ العاديّ. أما الأسلوب واللغة فنجدهما في مقاطع مشابهة من الرسائل البولسيّة (أف 3: 20- 21؛ 1 تم 1: 17؛ رج يهو 24- 25). ثم إننا نقرّب بين هذه النهاية وبداية الرسالة: فالظروف الملموسة التي دفعت بولس ليكتب هذه الرسالة، تُفهمنا اللهجة الاحتفاليّة في الآيات الأولى (1: 1- 7) كما في الآيات الأخيرة (16: 25- 27).
2- المجد لله بالمسيح
المجدلة هي في جوهرها فعلُ شكر ونشيدُ تسبيح. وهي صلاة تتوجّه إلى الله في بداية المديح وفي نهايته. يقدَّم الله أولاً كذلك الذي له القدرة والسلطان. ويحدَّد أمام الانسان، كذلك الذي يعمل ويفعل. رسم مخطّطه ونفّذه. حرّك الحياة المسيحيّة ودفعها. أمّن الثبات للتعليم، والمتانة للممارسة في الجماعات المسيحيّة الأولى التي وُجدت به وما زالت مستمرّة في الوجود. وهكذا بدا الربّ خالق شعبه ومخلّصه. يُذكر اسمه بشكل صريح في النهاية (في البداية، ذُكر بشكل ضمني: ذلك الذي يقدر)، فوُصف بالوحيد وبالحكيم. صفتان تقعان الواحدة بقرب الأخرى أو تُعطفا الواحدة إلى الأخرى. في الحالة الأولى، يبدو الله وحيداً (فريداً) وحكيماً معاً، وهذا ما يتوافق مع الفنّ الأدبيّ الذي يميّز المدائح. في الحالة الثانية، يبدو وحده حكيماً، وهذا ما يعود بنا إلى نهاية القسم العقائدي في الرسالة (11: 33- 36).
حسب التدبير المسيحيّ، لا تبلغ الصلاةُ الله إلاّ بواسطة يسوع المسيح. هذا ما تقول الرسالة بإيجاز. فالاهتمام كله ينصبُّ على الله نفسه. أما يسوع فهو الوسيط بين السماء والأرض، وحامل وحي الله إلى البشر، والمتشفّع للبشر لدى الله.
وتتجاوب نهاية المجدلة كل التجاوب مع الفن الأدبيّ الخاص بالمجدلات. فالمجد يعود إلى الله، إلى الأبد، وإلى أبد الأبد. هناك قراءتان مختلفتان، وهما تشيران إلى سيادة الله على الخليقة كلها. وجاءت الصلاة أمينة للتقليد اليهوديّ، فانتهت «بآمين» تثبّتها وتدعو القارئ لكي ينضمّ إليها.
3- الانجيل والوحي
أنشد 16: 25- 27 الله الذي كشف عن نفسه كالمخلّص. فالإشارة إلى عمل الله الخلاصيّ في بداية النشيد، دعت إلى وصف مفصّل لهذا الخلاص في قلب المجدلة.
فعمل الله الخلاصيّ يتجاوب مع مشروع الله الذي يعبّر عنه إنجيلٌ كرز به الرسل، ووحيٌ قدّمه الله. وهكذا تداخل الفنّ النبويّ بما فيه من تشديد على كلمة الله، والفن الجلياني بما فيه من كشف لحضور الله وعمله. ترد ثلاث مرات الاداة «حسب» (آ 25، حسب الانجيل، حسب الوحي، آ 26، حسب ترتيب الله الأزليّ)، مع ثلاثة ألفاظ تتنادى وتتجاوب ويُفهم الواحد بالنسبة إلى الآخر: يُعلن الانجيل في الكرازة، فيكوّن الوحيَ الآتي من الله.
الانجيل هو الخبر الطيب، وبشارة يسوع المسيح. هو بشارة الخلاص كما كرز بها يسوع (مر 1: 15؛ 13: 10؛ 14: 9؛ مت 11: 5؛ لو 4: 18 ي؛ 7: 22). هو خبر القيامة كما أعلنته الكنيسة (أع 5: 42؛ 8: 35؛ 11: 20؛ روم 1: 1 ي؛ 1 كور 15: 1 ي). الانجيل هو كرازة شفهيّة تقدّم الواقع المسيحيّ المركّز على قيامة يسوع.
وحين يكون الكلام عن إنجيل بولس، لسنا أمام بشارة تشير إليه، بل أمام بشارة كُلّف بأن ينادي بها لجميع البشر. فموضوع التعليم هو انتصار يسوع على الموت، وقيامته التي أقامته كابن الله والربّ (1: 4). كل هذا يوضحه لفظ «كرازة» الذي يأتي بعد «البشارة» والانجيل. الكرازة هي المناداة التي فيها يحثّ الرسول المؤمنين على التوبة (1 كور 2: 4؛ تي 1: 3؛ رج مت 12: 41؛ لو 11: 32). وهي مضمون ما ينادي به الرسول.
الكرازة هي إعلان البشارة. وموضوع هذا الاعلان محدّد تحديداً واضحاً: يجب أن نكرز بيسوع المسيح. وبهذه الكرازة تمتدّ البشارة.
أما عمل الله الخلاصيّ فيعود إلى وحي «سرّ». فالسرّ هو خلاص الانسان كما أقرّه الله وحقّقه. هو مشيئة الله الخلاصيّة التي تكمّل عملَ الخلق وتصل به إلى غايته. هو الله نفسه الذي يدعو الانسان إلى الوجود ويقوده إلى هدف حياته. هذا السرّ رسمه الله وأتمّه، قرّره ونفّذه، كشفه على عيوننا وجعله ملموساً في قلوبنا. وقلبُ السرّ هو يسوع المسيح، الذي فيه ينكشف السرّ. ويسوع هو وجه الله وملء نجاح الانسان، فيه يعبّر الله عن نفسه ويُتمّ خلاصنا.
ويتجسّد وحيُ سرّ الله في كرازة الانجيل. فيتجلَّى الله في عمق كيانه حين يقيم يسوع من بين الأموات. ويدلّ على نفسه أنه ذاك الذي لا يريد موت الخاطئ، بل حياة الانسان. ووحيُ سرّ الله هذا، هو الانجيل الذي يجب أن ننادي به. وبوحي هذا السرّ، نكتشف أن الله يقدر أن يثبّتنا، وأنه وحيد وحكيم معاً.
4- تاريخ الخلاص وجواب الإيمان
يحقّق الله مخطّطه الخلاصيّ في التاريخ البشريّ الذي يقوده حسب مشيئته الخلاّقة والخلاصيّة. وتاريخ الخلاص يتماهى مع حمل البشارة إلى العالم. كما يجد بُنيته حول الحدث الخلاصي الذي اسمه يسوع المسيح. فقبْلَ يسوع، ظلّ السرّ مخفياً ولم يعلن عنه. وبعد المسيح تجلّى وظهر إلى العلن. والتعارض بين حقبتين، يُبرز جديد عمل الوحي في يسوع وسموّه، ولكنه يخفّف حالاً: قبل يسوع هيّأت الكتب المقدّسة السرّ وأعلنته. وبعد يسوع، أعلن لجميع البشر. والتواصل بين العهد القديم والعهد الجديد يكشف وحدانيّة الله ومخطّطه الخلاصي، كما يدلّ على أن النظام الجديد يتجاوز تجاوزاً كبيراً النظام القديم: ما تهيّأ في التقليد اليهوديّ، تعدّى عالمه الأصليّ في يسوع فكان كلمة للبشريّة كلها.
وتجاه الله الذي يعطي ذاته، يتحدّد موقعُ الانسان الذي يتقبّل ذاته. وإيمان الانسان يقابل وحيَ الله. تكلّم الربّ كأبٍ، وانتظر الجواب من ابنه. فمخطّط الخلاص يبقى بدون فاعليّة إذا لم يشارك فيه الانسان مشاركة حرّة. والايمان هو جواب الانسان على انجيل الله، وموافقة العالم على وحي سرّه. وحين يتكلّم الكاتب عن طاعة الإيمان، فهو يُبرز الوجهة الجدليّة والوجوديّة في مسيرة الانسان. فالايمان لا يتحدّد فقط بقبول حقائق نظريّة. إنه قبل كل شيء جواب على نداء، والتزام حياة. فالمؤمنُ يَقبل إنجيل يسوع المسيح، ويخضع للوحي الالهيّ. يربط حياته بيسوع ويحاول أن يعيش بدوره سرّ موته وقيامته. وهكذا يتجاوب بكل كيانه وكل أعماله مع نداء الله الذي يدعوه أن يخاطر بحياته ليجدها حقاً. الايمان هو طاعة ناشطة يعيشها الانسان مع الله الذي صار منظوراً في يسوع المسيح.
خاتمة
أنشدت الرسالة إلى رومة مجانيّة الخلاص الذي يقدّمه الله لكل انسان، شرط أن ينفتح عليه ويتقبّله. فالانسان لا يفعل بذاته. ولا يستحقّ أجراً، ولا يصنع خلاصه. إنه يتقبّل التبرير بالايمان. وقد أسّس بولس طرحه لاجئاً إلى تاريخ الخلاص، وقدّمه بشكل احتفاليّ. والمجدلة التي قرأناها جاءت في خطّ هذه المعطيات. فشكّلت نهاية رائعة للرسالة إلى رومة، حين عبّرت عن مضمونها وأوجزت تعليمها. يبقى علينا أن نقرأها، ونتأمّل فيها، ونأخذها في قلبنا، لكي نفهم فهماً أفضل تعليم الرسول، ونحدّد موقعنا الصحيح في الصلاة تجاه الذي يصنع خلاصنا اليوم، كما صنعه في الماضي، ويصنعه حتّى نهاية الكون.