الفصل السادس عشر وجود يسوع في الهيكل

الفصل السادس عشر
وجود يسوع في الهيكل
2: 41 – 52

يكوّن الفصلان الأولاّن مدخلاً احتفاليًّا إلى إنجيل لوقا، ويتبعان رسمةً متوازية: بشارة يوحنّا المعمدان (1: 5- 25) وبشارة يسوع (1: 26- 38)، مولد يوحنّا (57:1- 80) ومولد يسوع (2: 1- 40). ويمتدّ التوازي في مشهدَي الزيارة (1: 39- 56) ووجودِ المسيح في الهيكل (2: 41- 52). إن هذا المشهد الأخير يبدو لأولّ وهلة وكأنه مثَل ملموس عن حكمة يسوع كما قالت آ 40. ننطلق من هذه الوُجهة لنبدأ دراستنا. ولكن الخبر يذهب أبعدَ من هذا بكثير. فتصرُّف يسوع الغريب تجاه والدَيه يصل إلى إعلان سرّيّ لم يفهمه يوسف ومريم كما قال لنا الإِِنجيليّ. ينجذب انتباهنا إلى هذه الكلمةِ وهي الأولى التي تلفّظ بها يسوع في الإِِنجيل، هذه الكلمةِ التي بها ختم لوقا صفحاتٍ غنيّة بالتعليم اللاهوتيّ، صفحاتِ إنجيل الطفولة الذي يُعدّ الدَرب للخبر الإِنجيليّ. وسنحتفظ بالقسم الثاني من عرضنا لكلمة يسوع هذه.

آ- حكمة يسوع.
تتوزّع إنجيلَ الطفولة حسب لوقا تعاليقُ سمّاها الأب ليونيه: رَدّة الإِنطلاق، ردّة النموّ، ردّة التذكّر. وخاتمة هذا الإِِنجيل (2: 51- 52) تستعيد الردّات الثلاث. ولكنّ ردّتين اثنتين منها وردَتا في خاتمة تقدمة يسوع إلى الهيكل: ردّة الإِنطلاق (آ 39، رجعوا إلى الجليل)، وردّة النموّ (آ 40، وكان يسوع ينمو). إن هاتين الردّتين لا تشكّلان خاتمةَ حدَث وجود يسوع في الهيكل، بل أيضًا إطارَه. لهذا ننطلق من هنا لنلقي ضوءًا على الخبر. وسنعود إلى ردّة التذكّر (آ 51 ب. وحفظت أمّه هذا كلّه في قلبها) حين ندرس كلمة يسوع: "لماذا بحثتما عني؟ أما تعرفان أنه يجب أن أكون لأبي"؟

1- الرجوع إلى الناصرة
أوّلاً: في ستّ مرّات من هذين الفصلين، يُنهي لوقا خبره بردّة الإِنطلاق. بعد بشارة زكريّا نقرأ: "فلما إنتهت أيّام خدمته ذهب (رجع) إلى بيته" (23:1). وبعد بشارة مريم: "ومضى من عندها الملاك" (1: 38). وبعد الزيارة: "وأقامت مريم عند أليصابات نحو ثلاثة أشهر ثمّ رجعت إلى بيتها" (1: 56). وفي نهاية خبر الميلاد نقرأ: "ورجع الرُعاة وهم يمجّدون الله ويسبّحونه على كلّ ما سمعوا ورأوا" (2: 20). وبعد التقدمة في الهيكل: "ولمّا تمّموا كلّ ما تفرضه شريعة الربّ، رجعوا إلى الجليل، إلى مدينتهم الناصرة" (2: 39). وبعد وجود الربّ في الهيكل يقول لوقا: "ونزل معهما وأتى الناصرة وكان خاضعًا لهما" (2: 51 أ). الأسلوب الأدبيّ واضح: إن انطلاق الأشخاص يدلّ القارئ عام نهاية الحدث. وفي حالتين سيزيد لوقا ملاحظة لاحقة: في 2: 20، رجع الرعاة وهم "يمجّدون الله ويسبّحونه". وفي 2: 51 يحدّثنا لوقا عن طاعة يسوع لوالديه. يتعدّى هذان المُلْحقان الأسلوب الأدبيّ فيَلفتان انتباهنا. لهذا سنعود إليهما.
ثانيًا: إن ردّة الإِنطلاق تَعني عادةَ الشخص أو الأشخاص الذين أشارت بداية الخبر إلى حضورهم على المسرح. يتحلّى لوقا بما عُرف عنه من ترتيب في إنجيل الطفولة، بحيث نرى في مقطوعة وجود المسيح في الهيكل شيئًا غيرَ عاديّ. فالبداية تقدمّ لنا والدَيْ يسوع: "وكان والدا يسوع في الهيكل يذهبان كلّ سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولمّا بلغ (يسوع) الثانيةَ عشْرةَ من عمره، صعدوا إلى أورشليم كعادتهم في العيد" (آ 41- 42). في المَنْطِق الصحيح، عبارةُ "صعدوا" تنتظر في الخاتمة عبارةَ "نزلوا". ولكن لوقا كتب: "ونزل معهما". في الإِنطلاق رافق يسوع والديه ككلّ أبناء عمره. وفي العودة إنتقل إلى المركز الأوّل. ولكن لوقا زاد حالاً ليعيد الأمور إلى نصابها: "وكان خاضعًا لهما".
ثالثًا: حين أشار الإِِنجيليّ إلى خضوع يسوع لوالديه في آ 51 فقد توخّى هدفًا معيّنًا. إذا كان لوقا قد شدّد على هذا الخضوع فلكي يصحّح ما يكون قد تركه الخبر السابق من تأثير على القارئ. أكدّ يسوع أولوّية واجباته المطلقة تجاه أبيه السماويّ. فنتساءل: هل يحسب حساب واجباته تجاه والديه على الأرض؟ ولكن آ 52 تطمئننا: إذا وضعنا جانبًا هذا الظرف الشاذّ الذي أوردناه، فقد ظلّ يسوع ابنًا طائعًا لوالديه. أمّا تجاوز هذه الوصيّة فمردُّه تقوى بنويّة من درجة أسمى.
والتشديد على خضوع يسوع هذا قد يكون جوابًا على إهتمام أخلاقيّ. كانت الكرازة المسيحيّة تذكرّ الأبناء بواجب الخضوع والطاعة لوالديهم (أف 6: 1؛ كو 3: 20؛ 1 تم 3: 4). في هذا ألمنظار ذكر لوقا المثالَ الذي أعطاه يسوع نفسُه. وهناك إهتمام مماثل في 2: 20: إن لوقا يدعو قُرّاءه ليدخلوا في جوقَ الرعاة، فيشكروا الله ويمجّدوه (رج 13:2- 14؛ 5: 25- 26؛ 7: 16؛ 13: 13؛ 17: 15- 18؛ 18: 43؛ 19: 37، 38؛ 23: 47؛ 24: 53؛ أع 47:2؛ 8:3، 9؛ 4: 21؛ 11: 18؛ 21: 20).

2- وكان يسوع ينمو
أولاً: تظهر ردّة النموّ ثلاث مرّات في لو 1- 2 (رج أَع 7:6؛ 12: 24؛ 19: 20، كانت كلمة الله تنمو). وهي تتدرّج حتى تصل إلى عبارات تزداد توّسعًا. في 1 :80، ختم لوقا خبر طفولة يوحنا المعمدان قائلاً: "وكان الطفل ينمو ويتقوّى في الروح". إنه ينظر إلى النموّ من الوجهة الجسديّة ومن الوجهة الروحيّة. وفي 2: 40 يقدّم خاتمة أولى عن خبر طفولة يسوع: "وكان الطفل ينمو ويتقوّى. كان يمتلئ بالحكمة وكانت نعمة الله عليه". نجد هنا أيضًا فعل "نما" الذي ينطبق على نموّ الجسد، وفعل "تقوّى" الذي ينطبق على الطِباع (ألقلب في المعنى البيبليّ، رج 1 كور 13:16؛ ق مز 25:30 حسب السبعينيّة؛ أف 16:3). ولكن حين يتحدّث لوقا عن الوُجهة الروحيّة في نموّ الطفل، فهو يشير إلى الحكمة محدّدًا هكذا العبارة التي استُعملت في شأن يوحنّا. ثم تدخّلت مفردة جديدة فجعلت نعمة الله التي حلّت تواجه النموّ الجسديّ والروحيّ عند هذا الطفل. كان تعارضٌ أساسيّ بين ما هو خارجيّ وما هو باطنيّ، فجاء تعارض جديد بين الإِنسان والله.
وتصل بنا هذه التعارضات إلى عبارة 52:2: "وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة عند الله والناس". تبدّل ترتيب المفردتين الأولَيَين: النموّ الباطنيّ يمرّ أمام النموّ الخارجيّ. وهكذا نحصل على توازن أفضل مع الشقّ الثاني من الآية الذي يشير إلى رضى (نعمة) الله قبل رضى البشر. إذا يشكل النموّ في الحكمة والقامة الشقّ الأوّل من التعارض. ويعود الشقّ الثاني إلى نموّ في رضى الله ورضى الناس. إن هذه الخاتمة الجديدة هي صدى لنصّ 1 صم 2: 26: "أمّا صموئيل الصبيِّ فكان آخذًا في النموّ والصلاح أمام الربّ وأمام الناس" (رج أم 4:3). ويتحدّث عن النموّ تك 8:21؛ قض 24:13؛ 1 صم 2: 21؛ 19:3).
ثانيًا: نجد في آ 52 بعض المفردات الصعبة. فكلمة "هاليكيا" تعني "العمر" وتعني "القامة". المعنى العاديّ هو العمر كما نقرأ عند فلافيولس يوسيفوس عن الطفل موسى: "لم يكن عقله ينموّ بحسب عمره، ولكنه كان يتجاوزه بمقدار". نستطيع أن نقابل هذا النصّ مع نصّ لوقا: فحسب المؤرّخ اليهوديّ كان عقل موسى ينمو أسرَع من عمره. وقال لوقا: إن هناك توازنًا بين حكمة يسوع وعمره (أو قامته).
فنما يسوع، لا في الحكمة والقامة وحسب، بل قِ النعمة أيضًا. النعمة هي رضى الربّ ومسرّتُه، وشيوع هو موضوع هذا الرضى وهذه المسّرة. فبقدر ما ينمو جسدُه وعقله يصبح أكثر فأكثر مرضيًا لدى الله ولدى الناس.
ونتسائل عن طبيعة "الحكمة" التي ظهرت في الطفل يسوع. إذا عُدنا إلى المناخ البيبليّ للتعليقات التي ندرس، وإلى أسلوب لوقا العاديّ (رج 11: 31؛ 21: 15؛ اع 3:6، 10)، نفهم هذه المفردة بالنظر إلى تقليد إسرائيل (لا نجد هذه المفردة في التعاليق على الرجال العظام في اليونان). نحن أمام حكمة تتحدّد بالنسبة إلى مشيئة الله: هي في الوقت عينه معرفة لهذه المشيئة وخضوع وادعٌ لها. والهدف الأوّل لمشهد يسوع وسط العلماء هو أن يلقي ضوءًا على هذه الحكمة التي ذكرها الإِِنجيلي مرّتين، قبل المشهد (2: 40) وبعد المشهد (2: 52).

3- الولد وسطَ المعلّمين
بعد ثلاثة أيام وجد والدا يسوع ابنهماَ في الهيكل. كان "جالسًا وسْطً المعلّمين يستمع إليهم ويسألهم" (آ 46). كان من الأفضل أن نصل حالاً وبطريقة مباشرة الى آ 48: "ولما رآه والداه تعجّبا". ولكن آ 47 تقطع التسلسل الطبيعيّ للنصّ، وللإِنجيليّ أسبابه: "وكان جميع سامعيه في حَيرة من ذكائه وأجوبته" (ق 26:20، تعجّبوا من جوابه). في آ 46، كان يسوع يستمع إلى المعلّمين ويسألهم. وفي آ 47 كان يجيب فيستمع الناسُ إليه. تبدّلت النظرة فأبرزت ذكاء الولد. وهذا الذكاء يعني طبعًا في هذا السِياق معنى الكتب المقدسة التي فيها يكشف الله عن إرادته. إن يسوع يفهم الكتاب المقدس لأنه يعرف ما ينتظره الله من الإِنسان. بهذا تقوم حكمته، بهذا يقوم ذكاؤه الذي هو موضوعُ إعجاب لدى الحاضرين.
ونعود إلى عبارة آ 46: كان يسوع "جالسًا وسْطَ العلماء". يقول الشُرّاح: من الواضح أنْ لا مكانَ للولد بين العلماء، بل "عند أقدامهم" (رج أع 3:22: تعلّم بولس عند قدمَي جملائيل). ولكنّ هناك سابقة في التوراة. ففي خبر سوسِنة برهن دانيال وكان بعد "صبيًّا" (دا 13: 45) أنّ المتّهمة بريئة. وزاد الخبر حالاَ: "حينئذٍ قال الشيخان لدانيال: هلم اجلس بيننا وقدِّم لنا الشروح، لأن الله أعطاك كرامة الشيوخ" (دا 13: 50). التشابه بين العبارتين قريب، ولاسيما وإنّ تقليدًا نجده في الهكسبلة السريانية (وفي نصّ أغناطيوس الأنطاكيّ الطويل والذهبي يوحنّا المزعوم وسولبيسيوس ساويروس) يقول إن دانيال كان عُمره في ذلك الوقت 12 سنة.
وهناك تقليدٌ آخر سابق للإِِنجيل الثالث يقول إن سليمان اعتلى ألعرش هو ابن اثنتي عشرة سنة (مخطوطات عديدة في اليونانيّة، السبعينية في 3 مل 2: 12، يوحنّا فم الذهب، إيرونيموس عرف هذا التقليد)؛ وإنه في ذاك الوقت أعلن حُكمَه الشهير الذي دلّ على حكمته الخارقة (1 مل 16:3- 28). ولكنّنا نجد اتّصالاتٍ عدّة بين لو 1- 2 وخبر صموئيل الصغير. أشرنا أعلاه إلى العلاقة بين 1 صم 26:2 ولو 52:2. تركه والداه في معبد شيلو فنال صموئيل حالاً موهبةَ النبوءة. كم كان عمره في ذلك الوقت؟ لا جوابَ في التوراة. ولكن فلافيوس يوسيفوس، معاصرَ لوقا قال: "حين أتمّ صموئيل اثنتي عشرة سنة بدأ يتنبّأ".
إذن، تتسجلّ حكمة يسوع العجيبة وهو إبن 12 سنة في مجموعة من التقاليد اليهوديّة وتتلّون بلون دينيّ. فيسوع ليس ولدًا كسائر الأولاد الأذكياء. إن ذكاءه وفهمه لأمور الله يدلان على حكمة تأتيه من الله نفسِه.

ب- يسوع وأبوه
1- كلام يسوع
أوّلاً: يبدو كلام يسوع لأوّل وَهلة وكأنه جواب عن سؤال طرحته عليه أمّه. قالت له أمّه: "يا ابني لماذا فعلت بنا هكذا"؟ عبارة عتاب نجدها في التوراة مرارًا (تك 12: 18؛ 19: 25؛ 20: 9؛ 26: 10؛ خر 14: 11؛ عد 23: 11؛ قض 15: 11). إعتبرت مريم أنّ الولد أساء التصرّف تجاه والديه. وبرّرت عتابها فزادت: "فأنا وأبوك تعذّبنا كثيرًا ونحن نبحث عنك" (آ 48). وجاء الجواب بشكل سؤال، وهو عتاب أيضًا. قالت مريم: "كنّا نبحث عنك". فأجاب يسوع: "لماذا بحثتما عنّي"؟ وجاء سؤالٌ ثانٍ يبرّر العتاب. لم يكن لهما أن يبحثا إذا كانا قد عرفا ما يجب معرفته: "أما تعرفان أنه يجب أن أكون لأبي" (أو عند أبي) (آ 49)؟ يلفت هذا التفسير انتباهنا حالاً بالتعارض بين "أبي" وكلمة مريم "أبوك". تكلّمت مريم عن واجبات الولد تجاه والديه، فتكلّم يسوع عن واجباته تجاه الله.
ثانيًا: ونجد صعوبة أخرى متأتية عن تفسير حديث نسبيُّا. فالعبارة اليونانيّة "ان تويس تو باتروس مو" تعني "عند أبي" لا "لما هو لأبي". فالتقليد القديم يتّفق اتّفاقًا تامًّا في هذا المجال، وهو يستند إلى المعنى الدارج للعبارة في التوراة اليونانيّة (تك 41: 51؛ اس 7: 9) وفي النصوص اليوميّة. وحين أورد إيريناوس يو 14: 2: "في بيت أبي منازل عديدة" كتب: عند أبي هناك منازل عديدة. هذه هي الترجمة التي يفرضها سياق النصّ: فموقع الحوار هو في الهيكل. وعتاب يسوع ("أما تعرفان أنه يجب أن أكون في بيت أبي") هو صدى لملاحظة آ 44: "ظنّ والدا يسوع أنه في القافلة، أنه بين الأقارب والمعارف".
ثالثًا: سأل يسوع والديه: "أما تعرفان إذن"؟ هذا يفترض أنه كان عليهما أن يعرفا. ولكن، كيف لهما أن يعرفا؟ نجد حلّ المسألة في فعل "داي" (يجب). نلاحظ أوّلاً إستعمال الحاضر لا الماضي: "كان عليكما أن تعرفا أنه يجب". ولكن الضرورة التي يتكلّم عنها يسوع لا تعني فقط الظرف الحاضر. فيسوع يقولها بصورة عامّة وكأنها مبدأ صحيح دائمًا: يجب أن يكون عند أبيه. ونزيد أن فعل "يجب" يلعب دورًا هامًّا في فكر لوقا اللاهوتيّ. فالضرورة التي يعبّر عنها هي ضرورة تتميم مشيئة الله: "يجب" لأن هذا ما أقرّه الله. وهذه الضرورة تتحقّق خصوصًا في آلام المسيح: فمخطّط الله الذي كشفته النبوءات، يجب أن يتمّ بالضرورة (9: 22؛ 17: 25؛ 22: 37؛ 24: 7، 26، 44؛ أع 17: 3). ويعود الفعل أيضًا إلى واجب تفرضه وصيّة إلهيّة: "يجب" أن نخضع لها (رج 11: 32؛ 13: 14؛ 7:22؛ أع 15: 5). هذا هو المعنى الذي نجده في هذا النصّ. يتحدّث يسوع عن "واجب" تجاه أبيه، عن واجب يتفوّق على واجباته تجاه والديه. إذا كان هذا الأمر سهل الإِدراك، تبقى الصعوبة في أن نعرف كيف يكمن هذا الواجب "بأن يكون عند أبَيه" الذي يعني هنا بصورة طبيعيّة: بأن يقيم في الهيكل.
لن نَدهش إن لاحظنا أنّ هذه العبارة ظلّت سريّة. هذا ما يعرفه لوقا وهو ينبّه قرّاءه إلى هذا الواقع مُوردًا ردَّة فعل والدَي يسوع. وهو يقدّم لنا في هذه المناسبة إشارة تساعدنا على رؤيَة أوضح.
2- أمّ يسوع
أوّلاً: "لم يفهما الكلمة التي قالها لهما" (آ 50). نلاحظ أوّلاً أنّ هذه الملاحظة تبقى في خطّ ما قالته آ 48 عن دهشة والدَي يسوع حين وجداه وسط العلماء، وفي خطّ ما كتبه لوقا في آ 33: "تعجّب أبوه وأمّه ممّا يقال عنه". التعجّب والدهشة هما ردّة فعل الإِِنسان أمام سرّ لا يفهمه. هذا ما يقوله لوقا أيضًا عن الرسل خصوصًا في مناسبتين يفترق فيهما عن مرقس ليشدّد على عدم فهم عند الرسل. قال بمناسبة إنباءات الآلام: "ما فهِمَ التلاميذ هذا الكلام وكان مُغْلقًا. عليهم حتى لا يدركوا معناه، وخافوا أن يسألوه عن هذه الكلمة" (45:9؛ رج مر 32:9 الذي كتب: "فما فهموا هذا الكلام وخافوا أن يسألوه"). وقال لوقا أيضًا: "فما فهم التلاميذ شيئًا من ذلك. وكان هذا الكلام مُغلقًا عليهم، فما أدركوا ما كان يقال لهم" (18: 34، لا أساس لهذا الكلام في مر 34:10). ونقرأ الملاحظة عينَها في ف 24 حيث يعلن القائم من الموت لتلميذَي عمّاوس: "ما أغباكما وما أبطأكما عن الإِِيمان بكلّ ما قاله الأنبياء. أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام ليدخل في مجده" (25:24- 26)؟ ثم قال عن الأحد عشر: "حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب المقدّسة وقال لهم: هذا ما جاء فيها أنّ المسيح يتألّم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث" (45:24- 46). من الطبيعيّ أن يبقى السرّ مغلقًا وغيرَ مفهوم حتى الوحيِ التامّ يوم الفصح.
ثائيًا: "وحفظت أمّه هذا كلّه في قلبها" (آ 51). يشدّد هذا التعليق بشكل مختلف بعض الخلاف عمّا قرأنا في 2: 19، في خاتمة خبر الميلاد: "وحفظت مريم هذا كلّه وتأمّلته في قلبها". ونقرّب من هذا القول الإِعتبار الذي يختتم خبر مولد يوحنّا المعمدان: "وكان كلّ من يسمع بهذه الأمور يحفظها في قلبه قائلاً: ما عسى أن يكون هذا الطفل" (66:1)؟ إن هذه النصوص الثلاثة تشكّل في إنجيل الطفولة ما سمّاه الأب ليونيه: ردّة التذكّر.
وهناك ملاحظة أولى: لا تُربط آ 52 ب رباطًا وثيقًا مع كلمة يسوع (في آ 49) التي لم يفهمها والدا يسوع (كما قالت آ 50). فإن آ 51 اختتمت حدث الوجود في الهيكل متحدّثة عن العودة إلى الناصرة، بحيث إن آ51 ب تنتمي بالأحرى إلى الخاتمة العامّة لإِنجيل الطفولة. "فالأشياء" التي حفظتها مريم في قلبها هي مُجْمل الأحداث التَي تلَت الردّة في 19:2، ما حدَث وما قيل حين تقدمة يسوع في الهيكل، وحين وجدوه بعد أن أضاعه والداه ثلاثة أيام. إنّ هذين الحدثين متكاملان في نظرة لوقا: لم يظهر يوحنّا لإسرائيل إلاَّ في البريّة (80:1). أمّا يسوع فظهر في الهيكل وذلك منذ طفولتَه. ولكن هذه الملاحظة لا تخفي ما يربط آ 51 ب بما يسبقها مباشرة، وبالأخصّ التعليق في آ 50 حول عدم فهم والدَي يسوع. أ تفهم مريم كلمة يسوع، ولكنّها أدركت أنها أمام سرّ، وجعلت من هذا السرّ موضوع تأمّلاتها.
والملاحظة الثانية: نحن هنا أمام تعبير تقليديّ له معناه. إن تك 37: 11 يقول إن إخوة يوسف حين رأوه يَروي أحلامه التي تنبئ بالمستقبل، اغتاظوا منه. أمّا يعقوب "والده، فكان يحفظ هذا الكلام". ويقول الترجوم الفلسطينيّ: "كان والده يحفظ هذا الكلام في قلبه". ونقرأ في سفر دانيال أنّ نبوكد نصّر حلَمَ حُلمًا، ففسّره له دانيال: "وحين سمع نبوكد نصّر تفسير الرؤية التي رآها، حفظ هذه الأقوال في قلبه" (دا 28:4 حسب البسعينيّة). وحصل دانيال نفسُه على رؤية أعلمته بالأحداث الآتية، فاختتم خبره على الشكل التالي: "أنا دانيال، اضطربتُ جدًّا في أفكاري وتغيّر لونُ وجهي وحفظتُ هذا الكلام في قلبي" (7: 28). وأوردَت "وصية لاوي" (كتاب منحول يعود إلى القرن الثاني ق. م.) رؤية اعلمت أبّ الآباء بالمهمّة المحفوظة لنسله. واختتم لاوي كلامه: "فحفظتُ هذه الأمور في قلبي".
ليس من الضروريّ أنّ نورد أيضًا إستشهادات أخرى، فما أوردناه يكفينا لنفهم أن العبارة المستعملة "لردّة التذكّر" في 19:2 و51 تفترض ما أوضح في 1: 66: "جعل الناسُ كلّ هذه الأشياء في قلبهم قائلين: ما عسى أن يكون هذا الطفل"؟ فالعبارة "حفظ في قلبه" يميّز موقفًا موجَّها نحو المستقبل. فالوحي الذي تمّ يوجّه انتباه الذيِ تقبله إلى مستقبل فيه يكشف كمالُ الوحي بُعدَه الحقيقيّ الذي لا يزال غامضًا. وقد أدرك أوريجانس إدراكًا كبيرًا معنى ملاحظة لوقا حين صوّر موقف مريم على الشكل التالي: "كانت تعرف أنه سيأتي يومٌ يُصبح الخفيّ ظاهرًا فيه".
ثالثًا: لا يكفي أن نحدّد معنى العبارات التي استعملها لوقا. إنما يجب أن نعي ما يوافق لوقا الذي لا يعطينا فقط معلومات عن استعدادات مريم. إن لوقا يفكّر بقرّائه. وما يقوله عن موقف مريم يلقي ضوءًا على الموقف الذي يدعوهم إليه. هو يعرف خيرَ معرفة أن مدلول الأحداث والأقوال التي أوردها لا يمكن أن تُدرَك إدراكًا وافيًا. إذن، هو ينبّه قرّاءه بطريقة خفيّة أن كل هذا سيصبح واضحًا في ما يلي من أخبار، حين تصل إنباءات المستقبل الأولى إلى كمالها. نحن لم نزَل في بدايات الوحي، فلا نَدْهَش إن لم نفهمّ كلّ شيء: فالنور سيأتي فيما بعد.
يرى الإِِنجيليّ أنّ التعاليق حول تأمّلات أمّ يسوع تسِّبق على الخبر الإِِنجيليّ الآتي. ولكنَ أين نجد في الإِِنجيل النور الذي يضيء على هذه الصفحات الأولى؟ حين يُبرِز لوقا تعليمَ يسوع في الهيكل (19: 47؛ 20: 1؛ 21: 37- 38)، ستظهرُ الحكمة والذكاء اللذان تحلّى بهما الولد يوم كان "جالسًا بين العلماء". غير أن الأمور الجوهريّة ليست هنا. فهي في المُلْحَق الذي يقدّمه 2: 49 لوحي البنوة الالهيّة في يسوع في 1: 32، 35: لقد وعى يسوع واجباته تجاه أبيه. هنا لم يفهمه والداه، كما لن يفهمه رسله حين ينبئهم بسرّ آلامه. وهذا السرّ لن يُكشَف كشفًا كاملاً إلا يومَ القيامة وفي الشرح الذي قدّمه لوقا في ف 24. ونقدر أن نفكّر أن ف 24 هذا، سيقدّم لنا الضوء الذي بفضله يتّخذ وحي ف 1- 2 (وبالأخص خاتمة ف 2) كلّ مدلوله فنفهمه فهمًا تامًّا.
إنّ نقاط الإِتصال بين حدث وجود الربّ في الهيكل وف 24 هي عديدة وقد أشار إليها الشرّاح مرارًا. فموقف الوالدين اللذين لا "يجدان الولد" "فيبحثان" عنه لدى الأقارب والمعارف يُشبه إلى حدّ بعيد موقف النساء عند القبر. وعتاب يسوع في 49:2 (لماذا بحثتما عني؟) قريب من عتاب يسوع للنسوة: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات" (24: 5)؟ وألم الوالدين يشبه ألم التلميذين اللذين كانا حزينين (24: 17). والضرورة التي يعبّر عنها فعل "داي" (يجب) في 49:2، نجدها أيضَا ثلاث مرّات في ف 24 (آ 7، 26، 44). وذكر اليوم الثالث (46:2) لم يكن من قبيل الصُدَف (7:24، 21، 46). وبما أنّ ضرورة الإِقامة لدى أبيه (2: 49) لم تُجبر يسوع على البقاء في أورشليم، فنحن نتساءل: أما يكشف كمال الفصح أننا في الواقع أمام مجد الله الذي سيبلغ اليه يسوع بواسطة آلامه (24: 26)؟

خاتمة
إن حدث وجود الربّ في الهيكل، شأنُه شأنُ كلّ الفصلين الأولّين في لوقا، ليس مناسبة لإِثارة العاطفة. لا شكّ في أن هناك ملاحظات سيكولوجيّة أشرنا إليها. ولكن يجب أن لا تسترعي إهتمامنا إلى درجة تنسينا الهدف الكرستولوجيّ الذي يلهم هذا السرّ. المهمّ هو أن نكتشف شخص يسوع المسيح.
أوّلاً: إن الحكمة التي برهن عنها يسوع في هذه المناسبة هي تسبيق على دور المعلّم الذي سيلعبه فيما بعد. إنه المعلّم لأنه فهم إرادة الله فهمًا كاملاً.
ثانيًا: لا يكتفي يسوع بأن يعلّم الأخرين إرادة الله، بل هو يجعل منها قاعدة سلوكه. إنه يجعل واجباته تجاه أبيه في المكانة الأولى وكأنه ينسى واجباته تجاه والديه على الأرض. كان خاضعًا لهما، ولكنه عرف أنه كابن لله، عليه أن يخضع قبل كل شيء لأبيه السماويّ.
ثالثًا: وتبقى بنوّته الإِلهيّة سرًّا لن يُكشَف كشفًا كاملاً إلاّ يوم الفصح. فحدَث وجود الربّ في الهيكَل لن يتّخذ بُعدَه الكامل ومعناه التامّ إلا في علاقته بحدث الفصح. هذا ما أراد لوقا أن يبيّنه لقرّائه حين صوَّر لهم موقف مريم: توجّهت بكلّ قلبها إلى الوقت الذي فيه "يصبح الخفيّ ظاهرًا" في المسيح، كما يقول أوريجانس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM