مع جماعة رومة:القسم السابع والعشرون: زمن الخلاص

زمن الخلاص
13: 11- 14

مع هذه القطعة من الرسالة إلى رومة، نحن في النهاية. بعد أن رسم بولس لوحة الخلاص بالنسبة إلى الوثنيين وإلى اليهود. وبعد أن انطلق من هذا التعليم فخطّ الخطوط الكبرى لتصرّف مسيحيّ صحيح، قدّم هذه الإرشادات الرائعة (ف 12- 13) حول العبادة الروحيّة التي يقوم بها المسيحيّ، والتي تكمن، في جوهرها، في محبّة تستعيد كل وجهات الحياة الخلقيّة والمدنيّة، لأنها التمام المطلق لكل شريعة آتية من عند الله. «فالمحبّة هي الشريعة في تمامها» (روم 13: 10).
انطلق بولس من اهتمامه الرعائيّ، فحدّث قرّاءه عن حياة المحبّة هذه، وبيّن لهم أن ممارستها أمرٌ ملحّ. عند ذاك، إنطلق فكره من جديد فأدخل فكرة الزمن: «وأنتم تعرفون في أي وقت نحن» (آ 11 أ). هم يعرفون. ولكن من المفيد أن يذكّرهم الرسول بذلك: ذاك هو موضوع 13: 11- 14:
(11) وأنتم تعرفون في أي وقت نحن: حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم، فالخلاص الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا. (12) تناهى الليل واقترب النهار، فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور. (13) لنسلك كما يليق السلوك في النهار: لا عربدة ولا سكر، ولا فجور ولا فحش، ولا خصام ولا حسد. (14) بل تسلّحوا بالربّ يسوع المسيح، ولا تنشغلوا بالجسد لإشباع شهواته.

1- تباشير الخلاص (13: 11- 12)
نلاحظ منذ قراءتنا الأولى للنصّ أن الصور تتلاحق، الواحدة بعد الأخرى. فالكاتب يريد أن يقول لنا إن الوضع ملحّ. ويأتي حالاً الموقفُ المطلوب: ليس الوقت وقت النوم. والفكرة التي تقول إن زمننا يبدو منذ الآن، زمن اليقظة والسهر في الليل بانتظار الربّ، نقرأها في الانجيل (مر 13: 33- 37، الذي يختتم خطبة يسوع الأخيرة، قبل آلامه). كما نقرأها في 1 تس 5: 1 ي، الذي يوازي النصّ الذي نقرأه هنا: «لا نَنَم كسائر الناس، بل علينا أن نسهر ونصحو» (آ 6).
إن صورة النوم الذي يجب أن نتحرّر منه، يحمل إلينا بشكل طبيعيّ صورة الليل والنهار، في ارتباط بموضوع الخلاص. وبعد ذلك، ننتقل من ثنائي الليل والنهار لنصل إلى ثنائيّ النور والظلمة الذي يشبهه وإن اختلف عنه على المستوى الروحيّ.
يبدو الخلاصُ هنا، هدفاً نقترب منه انطلاقاً من نقطة محدّدة: الزمن الذي فيه آمنّا. أي زمن الاهتداء والمعموديّة. هنا نماهي بين هذا الخلاص الذي حان واقترب، واليوم الذي صار قريباً. فالخلاص واليوم يتحدّد موقعهما في المستقبل بالنسبة إلى حاضر هو ليل بدا في نهايته وصباح يدلّ عليه نورُ الإيمان (أف 5: 14)، وشعاع الخلاص الذي نستشفّه قبل الوقت، ولكنه ليس بعدُ ملء النور. إذن، صورة الليل والنهار التي جاءت بعد صورة النوم، في إطار إرشاد أخلاقيّ، تصوّر تدبير الزمن. بما أن الزمن يتقدّم نحو الملء الاسكاتولوجيّ، والهدف الذي يشبه بهاؤه نهاراً يطرد ظلمة الليل، فهو ينال من هذا الهدف بداية ضياء يزداد شيئاً فشيئاً مع الحياة التي تسير مسيرتها.
إذن، يتحدّد الزمن الحاضر كاستنارة متدرّجة فترنّ في أذن المسيحيّ كدعوة إلى العيش، منذ الآن، بالنظر إلى النور، إلى الدخول في لعبة الزمن والالتصاق بمسيرته نحو الضياء. وهكذا، فالخلاص النهائيّ الذي لم يُعطَ بعد، يعمل فينا منذ الآن بالرجاء الذي يحرّك، واليقظة التي يوقظنا بها، لا سيّما وأننا نمتلك الوسائل الروحيّة للاستعداد اللازم. هنا يجب أن نستعيد قلب الرسالة إلى رومة التعليميّ، ولا سيّما ف 5- 8، لنبيّن أن الليل الذي نحن فيه والذي شارف على الانتهاء، قد استنار بالإيمان والنعمة وعطيّة الروح القدس. وإذ نستند إلى ما أعطي لنا منذ الآن عطاء مجانياً، ننتظر بثقة وثيقة ما وُعدنا به: إن وجب أن ننتزع نفوسنا من النوم، فلأن المسيح سبق فأيقظنا بموته ومعموديّتنا.
وبمختصر الكلام، إذا كنّا نرجو خلاصنا، وان كنا ننتظره انتظاراً ناشطاً، فبالنظر إلى خبرة سبق واختبرناها لحبّ الله الذي يبرّرنا في دم المسيح. والأمانة للموهبة التي نلناها هي التي تحدّد المسألة الأخيرة: الخلاص أو الغضب. وهذا ما يدخلنا إلى النقيضة الثانية: النور والظلمة.

2- نحمل سلاح النور (13: 12- 13)
أ- الظلمة والنور
إن الليل الذي تحدّثنا عنه، لا يتماهى بكل بساطة مع الظلام، في المعنـى السيّئ الذي يأخذه في الكتاب المقدّس، لأنه يضمّ أيضاً زمن التبرير. وهنا نفهم فكر بولس: يُصبح الليل ظلمة حين لا ينيره حبّ الله الخلاصيّ، الذي يتقبّله الانسان من خلال تصرّفه الحرّ. يعود الرسول هنا إلى اللغة العسكريّة، التي يلجأ إليها عادة لكي يصوّر سلوكنا في توافق مع انتظار الخلاص. ففكرة السلام تتضمّن فكرة القتال، وتُبرز العنصر الشخصيّ الذي تتضمّنه صورةُ الظلمة: ففي الزمن الذي يفصل التبرير عن الخلاص، تعمل قوى الشرّ التي يجب على المسيحيّ أن يحاربها (أف 6: 12- 13). ويتكوّن السلاح من الإيمان والمحبّة. والخوذة التي هي قطعة أساسيّة تحمي الرأس، ترتبط هنا بالخلاص، وفي 1 تس 5: 8 برجاء الخلاص، وذلك في نصّ صريح.
فالرجاء هو المحرّك الملموس للحياة المسيحيّة، لأنه يدفعنا لكي نحيا بالنظر إلى ما ننتظر. ذاك هو الرجاء الذي نستشفّه في الصورة المستعملة هنا. «سلاح النور» يعني سلاحاً يتوافق مع اليوم الذي ننتظر، والذي سيشعّ قريباً في ملئه. وفي النهاية، يهتمّ بولس، برمز السلاح، بأن يترجم تعليماً يعود عنده باستمرار: إن حياة المسيحيّ تبدو منذ الآن كحياة انسان قام من بين الأموات. فالمسيحيّ الذي مات مع المسيح، قد قام معه وهو يشاركه في حياته الجديدة، حياته السماويّة (رج كو 3: 1).
هنا نقرأ روم 6: 8- 11: «فإذا كنّا مُتنا مع المسيح، فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعد ما أقامه الله من بين الأموات لن يموت ثانية ولن يكون للموت سلطان عليه، لأنه بموته مات عن الخطيئة مرّة واحدة، وفي حياته يحيا لله. فاحسبوا أنتم أيضاً أنكم أموات عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع ربّنا».
ب- الموت والحياة
إن نقيضة الموت والحياة توازي هنا نقيضة الخطيئة والقيامة،، وتعبّر تعبيراً وثيقاً عن نقيضة النور والظلمة التي نقرأها في 13: 11- 14. فالمسيحيّ، وإن كان بعدُ في الليل، فهو مع ذلك لا يعيش في الظلمة، لأن رجاء الخلاص في المسيح الذي قام من بين الأموات، يجعله يتصرّف في النور والنهار. من هذا القبيل، هو يتفلّت من الغضب الالهيّ (1 تس 5: 9).
نلاحظ مرّة أخرى كيف يجمع بولس الصور ليعبّر عن أفكاره. فموضوع النور والنهار يقودنا الآن إلى موضوع وضح النهار وملء الضوء، حيث لا نستطيع أن نسمح لنفوسنا ببعض أعمال نستحي بها، فلا تُعمل سوى في الليل. وهكذا ننتقل من عموميّات نقرأها في إرشاد خلقيّ، فنصل إلى فرائض ملموسة، تقدَّم بالنظر إلى أفعال بشريّة واقعيّة ومحدّدة. وفي خطّ النور هذا، نُدعى إلى سلوك لا عيب فيه. كما ينبّهنا النصّ من رذائل تتنافى والكرامة المسيحيّة.
ج- سلوك غير لائق
تساءل بعض الشرّاح: لماذا حذّر بولس مؤمني رومة، الذين سبق له وامتدحهم، من مثل هذه الخطايا الفظيعة، كالعربدة والسكر والفجور؟ في الواقع، نحن في عالم وثني عرفناه في كورنتوس من حيث انطلقت الرسالة إلى رومة. وسيقول بولس في 1 كور 5: 1: «زنى لا مثيل له حتّى عند الوثنيّين». فالتخلّص من مثل هذه العقليّة الوثنيّة ليس بالأمر السهل، وفيها ما فيها من جاذبيّة. فالمسيحيّ لا يصبح جديداً بين ليلة وضحاها، بل لا يزال يحارب بين الانسان العتيق والانسان الجديد حتّى نهاية حياته. هذا ما نكتشفه اليوم في محيط وثنيّ أو هو عاد إلى الوثنيّة. وهذا ما نقوله عن جماعة رومة التي ما زالت حديثة العهد. فهي بحاجة إلى من يحذّرها من رذائل لا يمكن أن تعطي شهادة حسنة للذين في الخارج.

3- إلبسوا يسوع المسيح (13: 14)
هذه العبارة «إلبسوا (أو تسلّحوا) يسوع المسيح» توجز تعليم المقطع الذي ندرس، وتدعونا إلى قراءته مرّة ثانية: فالإرشاد الذي يتوجّه إلينا يتحدّد موقعُه داخل نعمة معطاة: «تعرفون في أي وقت نحن». في هذا الوقت، مات المسيح عن خطايانا، وبرّرنا فرداً فرداً بالعماد، فصرنا قادرين على العمل من أجل خلاصنا. وعربون هذا الميراث المنتظر سيتيح لنا أن نتصرّف تصرّفاً مسيحياً.
إذن، عبارة «فليس يسوع المسيح» تعني أن ننمي فينا هذه الصورة المسيحيّة التي لا عيب فيها، التي هي منذ الآن كاملة في يسوع القائم من الموت، والتي يربطها بولس بفريضة واحدة هي فريضة المحبّة. والطابع الملحّ لهذا النموّ في المسيح، يصدر عن كوننا في زمن النعمة، أي الزمن الذي حدّدته مبادرة الله المجانيّة. فمنه نلنا التبرير وبه ننال الخلاص. لهذا، يجب أن نُوجد، في يوم خلاص الله، في حالة من السهر، ونلبس يسوع المسيح.

خاتمة
نطرح في هذا الخاتمة سؤالين:
الأول: هل آمن بولس باقتراب المجيء الثاني (باروسيا)؟ فهو حين يلحّ، أما يؤسّس إلحاحه على انتظار الخلاص في مستقبل قريب جداً؟ نحن لا نجد الجواب في هذا المقطع من الرسالة. فما أراد الرسول أن يقوله هو نظرة مسيحيّة إلى الزمن المسيحيّ الذي يقف بين التبرير والخلاص. وقد صوّر التصرُّف المسيحيّ الذي يليق بهذا الزمن، وهو تصرّفُ ينعشه الرجاء. مثل هذا السياق التعليمي يبقى هو هو مهما كان مخطّط الله حول قياس الزمن الذي يتوسّط المجيء الأول والمجيء الثاني.
ثانياً: ماذا يعني هذا الارشاد البولسيّ بالنسبة إلينا اليوم؟ سواء تأخّر مجيء المسيح أو عجّل، فالمطلوب منّا بالحاح هو أن نلبس المسيح، وهكذا نسير إلى ملء الخلاص، وكل لحظة تقرّبنا من هذا الخلاص. يبقى علينا أن نستفيد من الوقت المعطى لنا لنحيا حياة تليق بالمسيح ونعمل من أجل بناء المسيح الكامل. وحين يستنير وجدانُنا بهذا التعليم البولسيّ حول اقتراب الخلاص، وبهذا الواجب الذي يدعونا لكي نحيا كأبناء النور، نفهم أن الزمن لا يعود إلى الوراء. ففي داخل مخطّط الله الذي نجهل حدوده والذي نعرف أنه يتابع مسيرته، تعمل محبّتنا التي هي ملء الشريعة وتتمّة كل برّ، فتعطي صورة ملموسة ومحدّدة عن استعادة كل شيء في يسوع المسيح، ما في السماء وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM