مع جماعة رومة:القسم العشرون: محبّة الله في المسيح

محبّة الله في المسيح
8: 31- 34

بعد أن تحدّث بولس عن المراحل الجوهريّة في مخطّط الخلاص (8: 28- 30)، بيّن لنا حنان الله الذي يصل إلى هدفه مهما كانت الصعوبات، لأن لا شيء، من جهة الله، يقدر أن يُفشل الحبّ الذي به يحبّنا (آ 31- 34). وإن كان هناك من فشل، فمن جهتنا.
(31) وبعد هذا كله، فماذا نقول؟ إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟ (32) الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهب لنا معه كل شيء؟ (33) فمن يتّهم الذين اختارهم الله، والله هو الذي برّرهم؟ (34) ومن يقدر أن يحكم عليهم، والمسيح يسوع هو الذي مات، بل قام، وهو الذي عن يمين الله يشفع لنا؟

1- تحليل النصّ
يبدو النصّ في قول يُسنده برهانان اثنان. أما القول فنقرأ في آ 31: بما أن الله يحبّنا، لا شيء من قِبَله يمكن أن يكون ضدّنا. والبرهان الأول: إن كان أسلم ابنه لأجلنا، فهو مستعدّ لأن يغمرنا بعطاياه (آ 32). والبرهان الثاني: وإن كان اختارنا، فما اختارنا لكي يتّهمنا ويحكم علينا: هو الذي برّرنا، فكيف يتّهمنا! ويسوع الذي فعل كل ما فعل لكي يخلّصنا، لا يمكن أن يكون ذاك الذي يحكم علينا (آ 33).
برهان قد يبدو غير مفيد، للذي يؤمن. فكلنا يعرف أن الله يحبّنا. فلماذا نتعب لكي نشرح في الوقت عينه، أنه لا يريد هلاكنا؟ ولكن كلام بولس كان مناسبة لنحصل على موجز للوجهات الرئيسيّة في حبّ الله وسرّ الخلاص بالمسيح. ونحسّ أن بولس امتلأ إعجاباً وعرفان جميل، فأخذ يمتدح حبّ الله السامي من أجلنا.

2- محبّة الله
يرسم بولس أمامنا محكمة إلهيّة نُدعى للمثول أمامها، فنرافع فقط مع الله والمسيح. ولكن، في الواقع، في هذه المحكمة، الله الذي هو الديّان السامي، هو لنا. فمن يكون علينا، في هذه الظروف؟ الجواب: لا أحد. فلا حاجة إلى الجواب.
إن كان الله معنا، فهذا يعني أنه يحبّنا. ونتذكّر أن هذا الحبّ هو الأول إطلاقاً (هو أحبّنا أولاً)، وجذوره لا ترتبط بنا. فالله لا يحبّنا من أجل استحقاقاتنا، بل بمجرد رحمته وبمجانيّة تامّة. هو يحبّنا كما نحن وحيث نحن، أي كخطأة (روم 5: 8). وهو لا يحبّنا لكي يسجننا في شقائنا الروحيّ وخطيئتنا، بل لكي ينجّينا ويخلّصنا من حالنا. فلو لم يحبّنا كخطأة، لما استطاع أن يحبّنا لو كنّا في وضع آخر. فحبُّه وحده يقدر أن ينجّينا من الخطيئة.
ويجب أن لا نفكّر أن الله يحبّنا فقط لأن يسوع مات لأجلنا. فحبّ الله يسبق كل ما يمكن أن يحقّقه من قصده الخلاصيّ، بل إن هذا الحبّ هو في أصل مخطّط الخلاص هذا. حبّه ليس نتيجة العمل الذي قام به يسوع، بل هو سببه. بما أن الله أحبّنا قبل أي ظرف من الظروف، قرّر أن يجعلنا ننعم بخيرات حبّه، فتصوّرَ الوسائلَ الضروريّة لهذا الهدف، ونفَّذها. إذن، بما أنه يحبّنا، أرسل ابنه لكي يصنع هذا الابنُ خلاصَنا.
ولكن ينبغي أن نقول إن الله أحبّنا في ابنه. وبالنظر إلى هذا الحبّ الأبويّ، طلب أن يكون له أبناء عديدون. ذاك هو مخطّطه في الواقع: هو يرغب في حبّه من أجلنا، أن نكون أبناءه، وبالتالي وارثي ملكوته. وهو يحبّنا أيضاً في ابنه، في معنى آخر. فهذا الابن هو الصورة التي بحسبها يريدنا أن نكون أبناءه (8: 29). فبفضله يريد أن يُحدث فينا نتائج حبّه ويحقق أهدافه (أف 1: 3- 14).

3- أسلم ابنه من أجلنا
صوّر بولس الرسول مخطّط الخلاص كما أوحي إليه، أي كما تحقّق حسب مشيئة الله الأزليّة (روم 16: 25- 26؛ أف 3: 3). فالرسول لا يستسلم أبداً لاعتبارات مجرّدة، ولا يتوقّف عند فرضيّات حول وسائل أخرى كان بإمكان الله أن يتخيّلها لكي يخلّصنا. هو يعتبر أن حكمة الله متعالية ولا مدرَكة (11: 33- 36)، ويرى فيها سراً نعرفه بقدر ما يكشفه الله لنا. والحال أن الله تجلّى في يسوع المسيح. إذن، في حدث يسوع المسيح فقط، نتعلّم مشيئته والطريقة التي بها أراد أن يحقّق خلاصنا. لهذا، يرى بولس أن فهم مخطّط الله ليس تنظيراً حول فرضيّات (مثلاً، لو لم يخطأ آدم)، بل فهم سرّ المسيح (أف 3: 4). وهذا الفهم الذي نعم به بدرجة كبيرة، لا يعتبره محصوراً فيه. فالله يقدّمه، في درجات متفاوتة، لكل مؤمن، لأنه أحدُ أسسِ الحياة المسيحية والعيش البنويّ في الإيمان (أف 1: 17- 18؛ روم 10: 4؛ 16: 26).
وأحد عناصر أساس سرّ المسيح هو أن الله «لم يبخل بابنه الخاص، بل أسلمه من أجلنا جميعاً». فإذ أراد الله أن يجعل منّا أبناء مع الابن، أبناء على صورة ابنه الوحيد، أرسل ابنه في الجسد (1: 3)، في «لحم» شبيه بلحمنا، في بشريّة شبيهة ببشريّتنا، في جسد يشبه جسدنا الخاطئ (8: 3). لقد أخذ الابن على عاتقه الوضع البشري، كما هو في التاريخ، مع ضعفه ومواتيّته، وخضوعه للشريعة والحكم الممكن عليه من قِبَل الشريعة. وفي الواقع، عُومل بحسب هذا الوضع، عُومل مثل كل جسد خطيئة، فما وفّره الله، بل سمح أن يُحكم عليه بالموت كخاطئ. ولكن بما أنه لم يكن في الحقيقة خاطئاً، تحوّل الموت لخيره ولخيرنا، فأُسلم من أجلنا. نحن هنا أمام عبارة موجزة عن مدلول الصليب، بحسب بولس. وها نحن نقدّم شرحاً لذلك.
أسلم الله يسوع إلى الموت لأجلنا. فشكّل هذا الموتُ حدثاً روحياً عظيماً نعمنا به نحن. وقد أراد الله هذا الموت بالنظر إلى هذا الحدث والخير الذي يمكن أن ينتج عنه. فما هو هذا الحدث؟ هذا ما يشرحه بولس في 8: 3- 4. ففي يسوع، انتصر روح الله على الخطيئة في جسد الخطيئة. وهزيمة الخطيئة هذه يسمّيها بولس الحكم على الخطيئة في الجسد. نحن أمام عمل روحيّ. فيسوع المصلوب لا يموت لأنه خطئ إلى الله، فجدّف وثار وأبغض مضطهديه. بل مات في موقف البرّ والقداسة، في التواضع والصبر والثقة بالله والغفران لقاتليه. فآلام الموت وضيقه لم تقدر أن تحرّك فيه موقفاً يعرفه جسد الخطيئة، لأنه، بقدرة روح الله، أفشل قوى الشرّ.
أجل، فيسوع في موته هزم سلطان الخطيئة على البشريّة، فحرّرها من الخطيئة. حتّى ذلك الوقت، استعملت الخطيئة الألم والموت لتشحذ موقف البشرية من الخطيئة وتقوّيه. ولكن لم يكن الأمر كذلك مع يسوع، ولأول مرّة في تاريخ البشر: فيسوع لم يمت فقط دون أن يقترف خطيئة، بل وصل حبّه لله والقريب إلى ذروة الحبّ. ففيه لم يثمر جسدُ الخطيئة أعمالَ شرّ. فروح الله وحده هو الذي عمل فيه فأثمر ثمار حياة أبديّة. وشهدت القيامة شهادة مجيدة على قدرة هذا الروح الذي لا يستطيع الموت أن يقهره.
مات يسوع من أجلنا، أي بدلاً عنا ومن أجل خيرنا. بدلاً عنّا، لأنه، في الموت، قام بحرب انتصر فيها، وكان يجب على الانسان أن يقوم بها، ولكنها تعدّت إمكاناته. فبدون الروح، كنّا كلّنا وفي كل شخصنا تحت سلطة الخطيئة وما كان باستطاعتنا أن نتحرّر من سلطتها المستعبِدة.
ومات يسوع لأجلنا، من أجل خيرنا، لأنه انتصر على الخطيئة، حيث كان يجب أن ننتصر، لكي يشركنا في انتصاره. بفضل موته، أعطيَ لجميع البشر، الروحُ الذي عاش بحسبه. وفي القيامة، تدشّنت عطيّةُ الروح هذه. فمنذ قيامة يسوع، صار انتصارُه انتصارَنا حين تماهينا معه تماهياً روحياً بالروح في الإيمان. منذ الآن، بدأت ديناميّة الروح («شريعة الروح») تعمل فينا لتخلّصنا من استبداد الخطيئة والموت («شريعة الخطيئة والموت»، 8: 2). منذ الآن، يقودنا الروح، فتتمّ القداسةُ والبرّ فينا كما في يسوع المسيح.

4- مع الابن ننال كل نعمة ونتبرّر
أ- الله يمنحنا خيراته...
لا ينحصر عملُ الله، في موت يسوع، في تخليصنا من استبداد الخطيئة، ومصالحتنا معه. بل هو يريد أن يغمرنا بخيراته الروحيّة، ويُشركنا في ميراث السماء، وهكذا نكون في ملء الخلاص. والحال، حين أعطانا الله ابنه، دلّ دلالة واضحة أنه يريد أن يقود خلاصه إلى كماله.
حين كنّا بعدُ خطأة، وكنّا نتصرّف تجاهه كأعداء، أحبّنا وأعطانا ابنه ليعيدنا إليه ويصالحنا معه بهذا الموت. فكم بالأحرى الآن، ونحن نتصرّف كأصدقاء الله، نكون محبوبين لديه، فيقودنا بيسوع القائم من الموت، إلى المجد الأبديّ (روم 5 : 8- 10). إذن، لن نخاف بعد اليوم أن نكون موضوع غضب الله، بل نفرح فرح الثقة، بأن الله يُكمل، في حبّه، خلاصاً بدأه من أجلنا (5: 11).
ب- نحن مختاري الله
إن الله يريد أن يخلُص جميعُ البشر (1 تم 2: 4). ولكن، في الواقع، هم لا يخضعون كلهم لإرادته الخلاصيّة. وبولسُ الرسول يدعو «مختاري الله» أولئك الذين بالإيمان، دخلوا ويدخلون في مسيرة الخلاص، بالفعل لا بالكلام. فالاختيارُ فعل مجانيّ يقوم به حبّ الله. أمن أجل استحقاق أعمالنا؟ كلا. بل بنعمة مجانيّة من عند الله (11: 5- 6)، وهذه النعمة جزء لا يتجزّأ من مخطّط الله الأزليّ (8: 28)، قبل خلق العالم (أف 1: 4). أما مراحل تحقيق هذا الخلاص بشكل ملموس، في إطار الاختيار، فتعدّدها روم 8: 28- 30: عرف مسبقاً. أعدّ مسبقاً. دعا، برّر، مجّد.
ج- الله يبرّرنا
والذين اختارهم الله حقاً لكي يخلّصهم، لن يكونوا موضوع اتّهام وحكم من قِبَله. لهذا، فمسيرة تحقيق الاختيار تتضمّن التبرير: فالذين اختارهم الله، برّرهم وما اتّهمهم. نحن هنا أمام التبرير بالإيمان: فالله لم يجدنا منذ البدء أبراراً ببرّ حصلنا عليه بأنفسنا حين مارسنا الشريعة! إذن، هو لا يكتفي بأن «يعاين» برّنا ويعلن أننا أبرار، كشخص يراقب عند آخر فضيلة من الفضائل. بل هو الذي يبرّرنا. فنحن الذين لم نمارس الشريعة صرنا خطأة، فاستحققنا أن يتّهمنا الله. ولكن الله لم يفعل. فهو كليّ الصلاح ويريد أن يقدّم لنا غفراناً مجانياً. فهو الذي يبرّرنا حين يمنحنا الروح القدس، روح يسوع، بالإيمان بالمسيح، فيجعلنا هكذا قادرين أن نعمل الأعمال الصالحة التي هي ثمار الروح (8: 4؛ غل 5: 22- 25؛ أف 2: 10).

5- عمل المسيح
إذا كان الله لا يتّهمنا لكي يبيّن لنا أننا خطأة، بل يبرّرنا ويغفر لنا، فهل يبقى في عالم الله موضعٌ لاتّهام يصل إلينا وحكم يصيبنا؟ فهل يسوع هو هذا الديّان الالهيّ الذي يهمّه أن يحكم علينا؟ كلا ثم كلا. يقول التأكيد المركزي في كرازة الرسل: فالآب أقام يسوع، في قيامته وصعوده، ديّان الأحياء والأموات (أع 10: 42؛ 17: 31). وقد جعله الربّ والمسيح والمخلّص وابن الله في القدرة (أع 2: 36؛ 5: 31؛ روم 1: 4). ولكن وظيفة المسيح الجوهريّة تقوم في أن يمنح البشر الخلاص وغفران الخطايا، وأن يُفيض عليهم روح القداسة الذي يمتلكه في ملئه. إذن، ليس هو ذاك الذي يحكم على الذين يعمل فيهم، بل هو الذي يخلّصهم.
ويذكّرنا بولس هنا ما فعله يسوع من أجلنا. يصوّر المحطّات الأساسيّة في عمله: الموت، القيامة، الجلوس عن يمين الله. ويُبرز الوظيفة التي يقوم بها في الوقت الحاضر، وهي التشفّع من أجلنا. منذ البداية حتّى النهاية، يسوع هو لنا، لا علينا: مات كي ينجّينا من خطايانا. وقام ليُحيينا من حياته الخاصّة، الحياة الأبديّة، وإذ هو عن يمين الله يُرسل الروح القدس. لا شكّ في أن تشفّعه لا يتوقّف عند هذا الحدّ، ولكنه يقوم، بشكل جوهريّ، في إفاضة خيرات الروح الالهيّة من عند الله. في هذا المجال قال يوحنا إن الآب يرسل الروح بصلاة يسوع، بخدمة يسوع (14: 16، 26). والروح هو ملكوت الله والقداسة والسلام والفرح: وهكذا نكون بعيدين كل البعد عن غضب الله.
وإن أردنا أن ننعم بهذا الخير، وننجو من الدينونة والحكم، يكفي أن نؤمن بيسوع. فبالايمان نتّحد به، نتماهى معه. فيسكن فينا مع روحه (روم 8: 9- 11). والذين يتّحدون هكذا بيسوع المسيح، لا حُكم عليهم (8: 1).
وفي النهاية، وبقدر ما ترتبط الأمور بالله وبيسوع المسيح، خلاصنا أكبر، لأن الله يفعل كل شيء ليمنح خيراته للذين يؤمنون به ويثقون. أما الضعف والسقوط، فلا يمكن إلاّ أن يأتيا منّا. فإذا أردنا تجنّب الدينونة، يكفي أن لا تستند حياتنا الخُلقيّة والروحيّة إلى قوّة فينا نفتخر بها، إلى تبرير نفوسنا بنفوسنا، بل إلى رحمة الله وحنانه. ومجملُ الكلام، يُطلب منا أن نعيش في الإيمان والرجاء الواثق والمحبّة.

خاتمة
إن مخطّط الله الواسع، الذي تُنجزه أمانةُ الربّ، يُفهمنا هذا الثقة لدى المؤمن وهذه الدالة. وهكذا لا نستطيع أن نقول بعدُ شيئاً، والله فعل ما فعل. تصالحنا مع الله، نعمنا بسلامه، فلا نخاف بعد اليوم شيئاً. الله ليس القاضي الذي يتّهمنا، بل هو الأب الذي يقف بجانبنا. لا يكون ضدّنا كجلاّد يدلّ على غضبه، بل معنا ليغمرنا برحمته ومحبّته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM