الفصل الخامس عشر تقدمة يسوع إلى الهيكل

الفصل الخامس عشر
تقدمة يسوع على الهيكل
22:2- 40

إنّ تقدمة يسوع إلى الهيكل على يد والديه هي مناسبة إعلان نبويّ لرسالة يسوع المخلّص. وهي تدلّ أيضا على الدور الذي لعبه يوسف ومريم في بداية هذه الرسالة.
إستعمل لوقا في هذا الخبر الوسائل التي استعملها في سائر أخبار إنجيل الطفولة. قدَّم أيضا موازاة بين يوحنا المعمدان وشموع، وجعل أقوال سمعان النبيّ وحنّة النبيّة تقابل أقوال زكريّا عن مهمّة المعمدان (67:1- 79). كما أورد تعليقا على طفولة يسوع (آ 40، وكان الطفل ينمو ويتقوّى) يذكّرنا بالتعليق على طفولة يوحنّا (1: 80). ثَم تقديم الرّب في الهيكل فيبرز التعارض بين الشخصين: بُشِّرَ بيوحنّا في المعبد الذي لن يظهر فيه. وبُشّر بيسوع في الناصرة وها هو يقوم في الهيكل الذي هو بداية (2: 41- 52؛ 9:4- 13؛ 9: 31، 51؛ 22:13؛ 17: 11) ظهوره ونهايته (28:19- 53:24) حيث سنجد التلاميذ "يسبّحون الله ويباركونه " (53:24).
يستعمل لوقا العهد القديم استعمالاً واسعاً في تدوين الحدث، وهدفه أن يكشف سرّ يسوع. ومن خلال هذا العمل الأدبيّ الهامّ سنكتشف عناصر عدّة استقاها من التقاليد السابقة.
سنبدأ بتفسير مفصل، ثمَّ نحاول أن نكتشف الموادّ التي استعملها لوقا، وأخيراً نستخرج المعنى الذي أراد أن يعطيه لهذا الخبر.

أ- التفسير
1- الطاعة للشريعة (آ 22- 24).
مضى على ولادة يسوع أربعون يومًا. إنَّه إنسان حقّ، ووعيه وعي طفل في هذا الوقت من حياته. وهو يرتبط بوالديه ارتباطًا كليًّا كما يحدث لنا يوم نتقبّل سرّ العماد. فيوسف ومريم هما اللذان يُتمّان "ما تفرضه الشريعة بشأنه " (آ 27). في الواقع، يحدّد لوقا لعملهما هدفين اثنين: تطهير مريم وتقدمة يسوع.
في آ 22. يقول معظم الشهود: "طهورهما" أي بصيغة المثنّى. هذا هو النصّ الأصليّ وهو يتحدّث عن يسوع ومريم. وهناك شهود غربيّون " يتحدّثون عن "طهوره هو" أي يسوع. وقالت السُريانيّة السينائيّة وبعض المخطوطات الجرارة: "طهورها هي ". وحاول الشرّاح أن يفسّروا نصّ لوقا (في الواقع لا يعني الطهور إلاَّ الوالدة) فقال بعضهم: تطهير اليهود. وقال آخرون: تطهير يوسف ومريم. وقالت فئة ثالثة: تطهير يسوع ووالديه. وفئة رابعة: تطهير يسوع وأمّه. كل هذه الافتراضات لا توافق الشريعة اليهوديّة. والمعقول هو أنّ لوقا استعمل كلمة واحدة (الطهور) فتحدّث عن طقسين مختلفين: طهور مريم وتقدمة يسوع.
كل امرأة وضعت ولدًا ذكرًا تذهب إلى الهيكل أربعين يومًا بعد ولادته لتُتمّ طقس الطهور. تكون المرأة في حالة نجاسة حتّى إتمام هذا الطقس. هذا لا يعني أنّها في حالة الخطيئة. بل في حالة تمنعها فيها الشريعة من الاتّصال بالآخرين أو بالأمور المقدّسة لئلا تنجّسها.
في هذه الحالة تُقدّم المرأةُ حمَلاً ابن سنة وحمامة أو يمامة. إذن، هي تقدّم ذبيحتين. وإذا كانت المرأة فقيرة، كما كانت مريم، فهي تكتفي بتقدمة زوجَيْ يمام أو فرخَيْ حمام (آ 24).
لا تفرض الشريعة تقدمة الولد إلى الهيكل، كما فعل يوسف ومريم، ولكنّها تطلب "افتداءه " وتعلن أنّ كل ذكر فاتح رحم يخصّ الربّ (خر 2:13، يجب أن يُكرّس له، أن يُعتبر خاصّته). ولهذا يجب أن نفتديه (خر 13:13؛ 34: 30). وهذا "الافتداء" الذي لا يُفرَض للقيام به مكانِّ، يتمّ خلال الشهر الذي يلي الولادة بدفع خمسة مثاقيل فضّة (عد 18: 15- 16).
لا يقول لوقا شيئاً عن افتداء يسوع، ولكنّه يورد شريعة خر 2:13 في آ 23، ويشير في آ 38 إلى هذا الافتداء. غير أنّه يشدّد بالأحرى على تقدمة يسوع التي يشبّهها بتقدمة صَموئيل (1 صم 1: 20- 28). ويبدو أنّه يرى لدى والدَيْ يسوع النيّة بأن يُقرّا بأن الولد يخصّ الربّ، وبأنّ يقدّماه من أجل المهمّة التي تنتظره. ويلفت لوقا نظرنا إلى أمانة يوسف ومريم في تتميم الشريعة (رج أيضًا آ 27، 39). هو لم يهتمّ بدقة الممارسات الطقسيّة بقدر ما اهتمّ بالقيمة النبوّية للشريعة القديمة.

2- سمعان الشيخ (آ 25- 27).
في الواقع، لا يقول النصّ شيئا عن تتميم فرائض الشريعة: نحن لا نرى الّلاوّين ولا الكهنة. فالخبر يتركّز كلّه على تدخّل نبيّ هو سمعان ونبيّة هي حنة.
سمعان هو مُمارِس أمين للشريعة (كلمة "أولابس " اليونانية تظهر أيضًا في أع 12:22، تقال في حنانيا الذي عمّد بولس). يعيش حالة توق وانتظار للخلاص المسيحانيّ ("تعزية إسرائيل " هي عبارة تدلّ على هذا الخلاص، رج أش 40: 1؛ 12:51؛ 2:66). وهو بصورة خاصّة نبيّ لأنّ الروح كان عليه كما كان على الملهَمين الكبار في العهد القديم (2 مل 15:2؛ حز 2:2 ؛ 24:3، 11: 5؛ أش 42: 1؛ 59:: 21؛ 61: 1).
وكان سمعان أسعد من الأنبياء الذين سبقوه، فعرف بوحي من الروح أنّه سيرى المسيح قبل أن يموت. وتحقّق هذا الوعد الذي جاءه من الربّ يوم حمل والدا يسوع الطفلَ إلى الهيكل.
نلاحظ هنا أنّ لوقا الذي يورد الحبل البتوليّ بيسوع لا يتردّد في أن يتحدّث عن "والديه " (آ 27، 41، 43) وحتى عن "والده " (آ 33، 48). تشكّك النسّاخ وحاولوا أن يبدّلوا هاتين العبارتين، فلا تدُلّان الا على مريم أمّ يسوع. وافترض بعض الشرّاح خطأ فقالوا إنّ لوقا جهل الحبل البتوليّ. نحن لا ننسى أن يوسف هو والد بحسب الشريعة والعُرف البشري في ذلك الوقت، وهذا لا يمس علاقة يسوع بذلك الذي قال عنه: وأما تعرفان أنه يجب أن أكون لأبي" (آ 49)؟

3- "أَطلق الآن عبدَك " (آ 28- 33).
وأخذ سمعان يسوعَ الطفلَ بين يديه: بارك الطفلَ ورفع آيات الشكر لله كما فعل زكريّا قبله حين امتلأ من الروح القدس (67:1). والصلاة التي تلفّظ بها، تلعب في حياة يسوع الدور الذي لعبته مباركة زكريا ليوحنا: في النهاية أعلن سمعان رسالة يسوع (2: 32) كما حدّدت المباركةُ مهمّةَ يوحنا المعمدان (1: 76- 77: تتقدّم الرب وتهيئ الطريق له).
ولكنٍ نشيد سمعان يختلف كل الاختلاف عن نشيد زكريَّا. فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بسياقه الإِخباريّ (تتجاوب آ 29- 30 مع آ 26). أمّا نشيد زكريا فيأتي في غير محلّه (كان يجب أن يوضع بعد آ 64).ْ نشيد المباركة (زكريا) ونشيد التعظيم (مريم) منسوجان من عبارات مأخوذة من المزامير. أمّا نشيد سمعان فيتّخذ عناصره من سفر أشعيا: آ 30؛ رج أش 40: 5 (ترد أيضاً في لو 6:3)، آ 31؛ رج أش 10:52؛ آ 32 أ؛ رج أش 6:49 (يرد في أع 47:13) و 6:42، آ 32 ب؛ رج أش 13:46 أو 25:45. يرجع نشيد المباركة إلى مزمور مسيحيّ متهوّد طبّق على الوضع عبر 1: 76-077 أمّا لوقا فدوّن بنفسه نشيد سمعان الذي هو جزء لا يتجزّأ من خبره وقد كُتب بأسلوبه ولغته.
بدأ سمعان فلاحظ أنَّ الربَّ وفى بوعده (آ 29، رج آ 27). هو يستطيع أن يموت بسلام بعد أن رأى "الخلاص " (آ 30). في المباركة، حتىّ زكريا هذا الخلاصَ (سوتاريا) الذي تمّ في بيت داود (1: 69، 71، 77). ولكن الخلاص (سوتاريون) هنا هو اسمُ يسوعَ نفسَه. وسيستعيد لوقا اللفظة عينَها في التحدّث عن رسالة المعمدان (6:3: "يرى كلّ بشر خلاص الله "؛ رج اش 40: 5؛ أع 28: 28).
وضمَّ سمعانُ في نظرة واحدةٍ عملَ الله كلَّه: في الماضي هيّأ هذا الخلاصَ في شعبه المقدّس (ان آ 31 تستعمل مفردات من اش 52: 10). أمّا الآن فيشارك الوثنيّون أنفسُهم في هذا الخلاص (آ 12): صوّر سمعان مهمّةَ يسوع تجاههم كمهمّة عبد الله الذي هو "نور الامم" (اش 6:49؛ رج 6:42، تعود كلمة وحي" أو "هداية" إلى أشِ 52: 10 التي وردت في الآية السابقة). وسيطبَّق لوقا فيما بعد القولَ النبويَّ عينه على مهمّة رسل يسوع (أع 47:13). ولكن نداء الوثنيّين لا يلغي اختيار الشعب اليهوديّ: فكتاب التعزية يعلن أنّ الخلاص سيكون مجد إسرائيل (أش 46: 13؛ رج 45: 25؛ 61: 3؛ 62: 2). وسيكون إسرائيل والوثنيّون شعبَ الله الوحيد الذي سينعم برضى الربّ.
ولاحظ لوقا تعجّب "أبي الطفل وأمّه " أمام أقوال سمعان (آ 33)، وهكذا أبرز الضوءَ الجديد الذي ألقاه النبيُّ على رسالة يسوع. فالوحي الذي نالاه حتى الآن جعلهما يرَيان في الطفل مسيحَ إسرائيل (1: 31، 33، 43؛ 2: 11). أمّا الآن فهما يعرفان أنّه خلاص الوثنيّين. تحدَّث بعض الشُرّاح عن تعجّب والدي يسوع، فافترضوا أنهما لم يتلقّيا أيَّ وحي عن الطفل. هنا لا ننسى أنَّ التعجّب هو ردّة الفعل المعروفة أمام وحي يُرسله الله.
يهتمّ لوقا اهتمامًا خاصُّا بهذه الأمور التي هي إعلان يُبرِز تدرّج الوحي الذي يكشف يسوع ويبينّ إيمان والديه.

4- قول سمعان الثاني: آية خلاف (آ 34- 35).
وتكلّم سمعان مرّةً أخرى (آ 34). وكما باركت أليصابات مريم (42:1)، بارك سمعان والدَي يسوع وهنّأهما على الدور الذي أُعطي لهما أن يلعباه في عمل الله. وتلفّظ بقول نبويّ جديد وجّهه إلى مريم. هذا القول يعلن انقسام إسرائيل أمام يسوع ساعةَ يكون يوسف قد اختفى (كما يقول التقليد) وبدأ المخلّص رسالته.
يختلف قول سمعان الثاني (آ 34 ب- 35) عن النشيد الأوّل الذي أعلن فيه أنّه رأى خلاص الربّ (آ 29- 32). أسلوبٌ سامي، لا لوقاويّ. وتبدو بُنيته أقلَّ تماسكاً. يعود إلى العهد القديم ويتوجّه حصرًا إلى إسرائيل. لقد وصلت إلى لوقا موادٌ تعودُ إلى كنائس فلسطين، فأعاد صياغتها وجعلها في هذا الإِِطار.
يبدأ القول فيصوّر النتيجتين المتعارضتين اللتين ستحصل عليهما رسالةُ يسوع في إسرائيل: للبعض سقوط وللبعض الآخر قيام. إن هذا الإِعلان يستلهم قولين من أشعيا حول حجر العِثار (اش 8: 14- 15) وحجر أساس بناء الخلاص (اش 16:28)، وقد جمعهما بولس في روم 32:9- 33 وبطرس في 1 بط 6:2-8. أمّا لوقا فيكتفي هنا، كما سيفعل أيضًا في 17:20-18 بتلميح سريع. لا شكّ في أنه كان أمام نصّ حرفيّ وجده في مرجعه. ولكن مهما يكن من أمر ففكرته واضحة: إذا كان يسوع يقدّم الخلاص لكل شعبه، فعلى كلّ واحد أن يتّخذ قراره أمامه. نستطيع أن نرفضه فنجد هلاكنا، ونستطيع أن نتقبّله فندخل في بناء الهيكل المقدّس. الخلاص في يسوع هو خلاص بالإِيمان.
وبتوقّف سمعان عند الوجهة المأساوية لانقسام إسرائيل: سيكون يسوع علامة خلاف. سيعارضه الناس ويقاومونه. أخذ لوقا كلمة "انتيلاغومانون " من اش 2:65 الذي تحدّث عن الشعب المتمرد، كما سيستعملها بولس في روم 10: 20- 21 ليعارض إيمان الوثنيّين بكفر بني اسرائيل الذين لم يؤمنوا. ترك النبيّ نظرةً جسديّة إلى خلاص تامّ ناجز يُعطى لنا فنتقبّله بطريقة منفعلة لا فاعلة (أي لا دور لإرادتنا وحريّتنا وقرارنا)، وأعلن خلاصًا يقدَّم لنا كعلامة نستطيع أن نقبلها أو نرفضها. إن الله لا يجبر شعبه على قبول ما يعرضه عليه. إنه يقبل بان تُرذل العلامة التي أرسلها إليه: هو لا يريد أن تخدمه جماعة من العبيد، بل أَحرارٌ يقولون له: تركنا كلُّ شيء وتبعناك.
وانتقل سمعان فجأةَ من الطفل إلى أمّه (آ 35 أ): أعلن لها أنها ستُطعن بسيف. سيجوز سيفٌ في نفسِك، في قلبك، فيك. كيف نفسّر هذه الكلمات التي تحمل التهديد الى مريم؟ هنا اختلفت التفاسير. رأى معظم الشُرَّاح في هذه الأقوال محنة خاصّة تصيب مريم. قال أوريجانس (تبعه كثير من الأقدمين وعدد من المعاصرين): هي محنة الشكّ التي ستعرفها عند الصليب. وقال أغوسطينس (وتبعه عدد كبير من الشُرّاح المعاصرين): هو ألم الأم المؤمنة أمام صليب يسوع. لاحظ لاغرانج وغيرُه أنّ سمعان أعلن رفض إسرائيل ليسوع دون أن يحدّد شكل هذا الرفض. وضم فوييه هذا التفسير إلى ذلك الذي يرى في مريم ابنةَ صهيون. وقدّم نايرنك تَفسيرًا ثالثًا: هي مشاركة الأمّ في ألم ابنها أمام شعبها المنقسم. إن مريم تمثّل بنت صهيون أي شعبَ صهيون، والسيف الذي يجوزها هو تمزُق شعب إسرائيل أمام يسوع.
حين قدّم الشرّاح هذه التفاسير المختلفة عادوا إلى استعمال العهد القديم لصورة السيف. في مز 15:37، السيف يعاقب الخطأة. في إر 4: 10، يصوّر السيف ألم اسرائيل. في حز 17:14، "يجتاز" السيف البلاد فيضرب البشر والبهائم ولا يُبقي إلاَّ على ثلاثة أبرار: نوح، دانيل، ايّوب (رج الأقوال البيبلية التي تعلن لمصر: إنّ السيف سيجتازك "). في زك 7:13، ضرب السيف راعي قطيع الربّ... كل هذه النصوص لا تدلّ على اتّصال أدبيّ مع لو 35:2 (إن حز 17:14 لا يبدو بعيدًا). وإن المعاني التي تقدّمها لصور السيف هي جدُّ مختلفة، وبالتالي لا تلقي ضوءًا على النصّ الذي ندرس.
فإذا أردنا أن نفسّر نصّ لوقا، ننطلق من سِياقه. أعلنت الآيةُ السابقة نتيجتين متعارضتين ستنتجهما رسالة يسوع في إسرائيل، والمقاومة التي ستلاقيها. في هذا المنظار، يعني السيف انقسامَ إسرائيل لا آلامَ يسوع (التي لا تتكلّم عنها آ 34 بصورة واضحة). فإن أُعلن السيفُ لمريم، فلأنها ستمزَّق كابنها بانقسام شعبها.
وان التفسير الذي يعطي لمريم دور ابنة صهيون يجد عدّة إسنادات لدى لوقا: ففي البشارة أشارت أولى كلمات جبرائيل (28:1) إلى صف 3: 14، 17 ("ترنمي يا ابنة صهيون... إن في وسطك الربَّ إلهك ") وزك 9:9 ("ابتهجي جدّا يا بنت صهيون.. هوذا ملكك يأتيك"). وإن مريم ستتقبّل بشرِى المسيح من أجل الشعب كلّه وباسمه. ونشيد التعظيم (46:1- 49) هو أوَّلاً فعل شكر من قبل أمّ يسوع التي سوف تتكلّم باسم نسل إبراهيم كلّه (1: 50- 66). ولكن، إن رأى لوقا في مريم تلك التي تمثل إسرائيل، فهو لم يُلغِ أبدًا شخصيّتها الخاصّة: إنها المؤمنة. ستضطرب (29:1) وتتعجّب (33:2) وتتأثّر (48:2). هي تسأل (34:1) لأنها لا تفهم (2: 50). هي ستفكّر في السرّ وتتأمّل (1: 29، 2: 19، 51). إذا كان السيف سيمزق شعب الله، فهو سيصيب أمّ يسوع في الصميم.
لا يستطيع لوقا أن يظنّ أن هذا التمزّق هو الشكّ: إنه يعلنها "مؤمنة" في تحيّة أليصابات التي امتلأت من الروح القدس (آ 41، 45)، ويصوّر لنا إيمانها في إنجيل الطفولة كلّه. هل فكّر لوقا هنا بألم مريم أمام آلام ابنها؟ إن السياق الحاضر للنصّ لا يشير بصورة مباشرة إلى الصليب. كما أنّ لوقا لا يتحدّث عن تدخّل أمّ يسوع في مأساة الآلام. وهو بذلك يشبه متى ومرقس ويختلف عن يوحنا (يو 19: 25- 27). إن السبب الوحيد للألم الذي يشير إليه قول سمعان النبويّ هو انقسام إسرائيل ورفض علامة الخلاص بطريقة تشكّك المؤمنين. تمزّقت مريم لأنها اتّحدت بابنها في ألمه حين رأى شعبه يرفض الخلاص وينقسم بين الإِِيمان والكُفر: بعضهم سيقوم، سيؤمن. والآخرون سيرفضون الإِِيمان فيسقطون.
وتقدّم نهايةُ القول نتيجةَ رفض "الكثيرين في إسرائيل" (آ 35 ب). أن رذل رافضو يسوع العلامةَ التي قُدّمت لهم دلّوا على كفرهم العميق. إن كلمة "ديالوجسموس" تدلّ على النقص الذي يقود إلى العدم وتعني الكُفر وعدمَ الإِِيمان. رج 22:5 (ما هذه الافكار التي تدلّ على عدم الإِِيمان؟)؛ 8:6؛ 38:24: ظنّ هؤلاء الورِعون أنهم أبرار فكشف يسوع بحضوره وكلامه أن قلوبهم بعيدة عن الله: 16: 15 ("الله يعرف ما في قلوبكم").

5- نبوءة حنة (آ 36-38).
لا يختتم لوقا خبره بهذا الإِعلان المهدّد. فتدخُّل حنة سيُتيح له أن ينهي كلامه في إطار مُشرق. أورد ما قالته هذه النبيّة بشكل تعليق قصير بأسلوبه.
حنّة هي نبيّة (آ 36). وقد عرف العهد القديم عددًا من النبيّات: مريم (خر 15: 20) أخت هارون، ودبورة (قض 4: 4) التي رافقت باراق في خلاص شعبه، حلدة (2 مل 14:22) التي أرسل الملكُ يوشيا يسألها في شأن كتاب الشريعة الذي وُجد في الهيكل. دور حنّة بقرب سمعان ليس دورًا ثانويًّا؛ إنها تلعب دور الشاهد الثاني الذي تفرضه الشريعة (رج تث 19: 15) أمام المحكمة. إعتاد الأنبياء أن يكونوا وحدهم حين يتكلّمون، أمّا لوقا فجعل المرأة قرب الرجل. إن التلاميذ الاثني عشر يرافقون يسوع ويرافقه أيضًا بعض النساء (8: 1- 2). كان الرسل يواظبون على الصلاة وكان معهم بعضُ النساء ومريمُ أمّ يسوع (أع 1:13- 14؛ رج لو 11: 5 و3:18 حيث نجد الصديق والأرملة؛ 13: 19، 21 حيث الرجل يزرع حبّة الخردل والمرأةُ تضع الخمير في الدقيق؛ 15: 4، 8 حيث الرجل يُضيع خروفه والمرأة تُضيع درهمها.
حين يتحدّث لوقا عن حنّة فهو يذكر عائلتها وقبيلتها (أو عشيرتها) وعمرها المتقدّم وصفتها كأرملة. وما هو معقول حسب آ 37 هو أن عمرها (لا بقاؤها أرملة) كان 84 سنة. كانت متعبّدة لله لا تفارق الهيكل كما يقول المرنّم (مز 23: 6؛ 8:26؛ 27: 4؛ 84: 5، 11). أمّا الحديث عن بقائها "ليلاً نهارًا" في الهيكل، فطريقة تضخيميّة خاصّة بلوقا (رج 7:18؛ أع 20: 31؛ 7:26) لأنّ الهيكل يُغلَق في الليل، ولأن شرائع الطهارة تمنع النساء من الإِقامة في الحرَم المقدّس.
ويورد لوقا كلمات حنّة في أسلوب غير مباشر وفي لغة خاصّة به (آ 38). في تلك الساعة (خاص بلوقا، 33:24؛ أع 18:16؛ 13:22) "ابيستاسا" (حضرت أو قامت) هي خاصّة بلوقا (7 مرّات في الإِِنجيل و11 مرّة في أع) وكلمة "انتولوغايستاي" ترِد مرّةً واحدة في كلّ العهد الجديد وتعني يسبح الله وباركه"، وهو موضوع معروف لدى لوقا (64:1؛ 13:2، 20، 28؛ 43:18؛ 37:19؛ 53:24؛ أع 47:2؛ 8:3، 9). وفعل انتظر (بروسداخستاي) يرِدُ مرّة واحدة عند مرقس (43:15) و 5 مرّات عند لوقا (2: 25، 38؛ 12: 36؛ 15: 2؛ 23: 51؛ رج أع 23: 21؛ 24: 15).
تصرّفت حنة مثلَ زكريّا (1: 64، 68) وسمعان (28:2) فأنشدت الحمد للربّ لأنها رأت في يسوع حدثَ الخلاص. إنه هو من "يَفدي أورشليم". وكان زكريّا قد أنشد تحرير شعب الله (68:1). ولكن الكلمة المذكورة هنا (لوتراسيس) تدلّ في العهد القديم على "افتداء" الأَبكار (خر 13: 13، 15؛ 34: 20؛ عد 15:18- 16) كما فعل يوسف ومريم بالنسبة إلى يسوع. تكلّم لوقا عن الافتداء هنا وفي آ 22- 24، ولكنه لم يستعمل الكلمة عينَها. هل وجد لوقا كلمة "لوتراسيس" في مراجعه، فلم يشأ أن يغيّرها أو أراد أن ينوّع أسلوبه فاستعمل كلمتين مختلفتين؟

6- العودة إلى الناصرة (آ 39- 40).
وتعود نهاية الحدَث مرّةً أخرى إلى يوسف ومريم اللذين يمارسان الشريعة (رج آ 22- 24، 27). وترتبط هذه النهاية بخبر المشاهد السابقة فتشدّد على رجوع والدَي يسوع إلى الناصرة من حيث انطلقا (1: 26؛ 2: 4). وتتوافق هذه المعطية مع معطية مت 23:2 حول المكان الذي فيه وُلد يسوع، ولكنها تختلف عنها في أمرين اثنين. أولاً، لم يجعل متى من الناصرة نقطة انطلاق والدَي يسوع. ثانيًا، لا يشير لوقا أبدًا إلى الهرب من مصر. هذان الاختلافان يدلاّن على استقلاليّة التقاليد التي استقى منها كلٌّ من متى ولوقا، ويشدّدان في الوقت عينه على قيمة معطية التقى فيها الإِنجيليّان.
ويقدّم لوقا طفولة يسوع في تعليق قصير (آ 40) تتوازى بدايته مع ما يتعلّق بيوحنّا المعمدان (1: 85). تذكرنا هذه الطفولة بأخبار طفولة عديدة نقرأها في العهد القديم. يدلّ إسحق (تك 8:21) وصموئيل (1 صم 3: 19) على يسوع، وإسماعيل (تك 21: 20) وشمشون (قم 13: 24- 25) على يوحنا المعمدان. وللاختلافات بين التعليقين معناها: كان يوحنا "يتقوّى في الروح". أمّا يسوع فكان يتقوّى "ويمتلئ بالحكمة". قد يكون لوقا تحاشى ان يقول إن يسوع نما "في الروح"، لأَنه قال فيه إنه حبل من الروح (35:1). ومهما يكن من أمر، فالإِِنجيل يشدّد مرارًا على أن الحكمة هي خير خاصّ بيسوع (آ 52؛ 21: 15؛ رج 49:11). وهو يبيّنه لنا في الحدَث اللاحق عائشًا هذه الحكمة بذكاء أجوبته للمعلّمين (46:2- 47، رج آ 52). لا شكّ في أنه ينسب هذه الحكمة إلى عمل الروح (رج أع 6: 10 والتوازي بين لو 15:21 ومت 19:10- 20 ومر 13: 11). وهناك سِمَةٌ تميّز يسوع عن يوحنا المعمدان: إنه موضوع نعمة الله (رج 2: 52). وأخيرًا، إذ يذهب يوحنا منذ حداثته إلى البرية حيث سيقوم بمهمته (24:7)، سيكبر يسوع في الناصرة مع معاصريه الذين سيكون معهم طَوالَ حياته.

ب- لوقا والتقليد السابق
خلال التفسير الذي قدّمناه اكتشفنا إشارات عديدة حول الأصل الأَدبيّ لخبر تقدمة يسوع إلى الهيكل.
من الواضح أن لوقا لعب دورًا هامًَّا في تدوين هذا الخبر. وقد تعرفنا الى لغته ومفرداته وأسلوب الموازاة عنده بين يسوع ويوحنا المعمدان واستعمال نصوص السبعينيّة خصوصًا في نشيد زكريا.
ونكتشف من خلال عمله الأدبيّ عناصرَ عديدة نستطيع أن ننسبها إلى التقليد السابق. فإن هو قدّم بطريقته التقريبيّة تتميم شرائع طهور الأمّ وافتداء الطفل، فهو يفسّر في الظاهر معطية وُجدت قبله. ويبدو بصورة خاصّة أن ذكر "افتداء" أورشليم في النهاية يقابل في خبر فلسطينيّ قديم ذكر "افتداء" الطفل في البداية، وقد يكون لقول سمعان الثاني أساس ساميّ لأن إفادته من العهد القديم تبتعد عن التوراة اليونانيّة ولا تتوافق وأسلوبَ لوقا. إنه يترجم ولا شكّ اعتبارات الجماعة المسيحيّة المتهوّدة أمام رفض العالم اليهوديّ الرسمي ليسوع. وأخيرًا قد تأتي المعطية حول طفولة يسوع في الناصرة من تقليد قديم، لأننا نقرأها أيضًا في تقليد مستقلّ غرف منه مت 22:2-23.
وهكذا يستعمل لوقا موادّ فلسطينيّة قديمة. يفسّرها بطريقته وحسب هدفه على ضوء ظهور يسوع اللاحِق. لقد لاحظ في حياة الكنيسة أن يسوع هو نور لأمم وان إسرائيلَ وَجَدَ فيه السقوط أو القيام لأنه قبله أو رفضه، فجعل كلّ هذا في خبر تقدمة يسوع إلى الهيكل.

ج- الحدَث في نظر لوقا
يهدف هذا الحدَث، شأنُه شأنُ سائر أحداث الطفولة عند لوقا، أن يقدّم لنا قبل كل شيء سرّ يسوع.
إن هذا الطفل ابن الأَربعين يومًا يستسلم لقيادة والديه ويخضِع بهما للشريعة (آ 22، 24، 27، 39؛ رج غل 4:4). وسينمو فيما بعد مثلَ يوحنا المعمدان فيدلّ إلى أيّ حدًّ كانت نعمة الله عليه.
منذ هذا الحدث في الهيكل الذي هو الموضوع التقليديّ لوحي الله، أعلن سمعان النبيّ وحنّة النبيّة رسالته الفريدة: إنه خادم الربّ (عبد الله)، إنه الخلاص ونور الأمم ومجد إسرائيل ومحرِّر أورشليم. ولكن الخلاص الذي يحمله لا يفرض نفسه بالقوّة. نحن نستطيع أن نرفضه. وسوف ينقسم إسرائيل أمامه فيجد بعضهم الهلاك والآخرون الدخول في البناء المسيحانيّ. إن لوقا يهتمّ اهتمامًا واضحًا بهذا الخلاص بالإِيمان (رج 17:20- 18)، وهو يجد فيه مدخلاً إلى سرّ الخلاص.
إن قصد الله يَتمّ بمشاركة البشر. فسمعان وحنّة هما آخر من تنبّأ في العهد القديم. تعرّفا إلى المسيح وأعلنا رسالته. ولكن يوسف ومريم هما اللذان شاركا خصوصًا مشاركةً وضيعة في بداية هذه الرسالة. دلاّ على أمانة يسوع للعهد القديم حين أخضعاه للشريعة. ولكنهما أظهرا أيضًا هذه الرسالة: حين قدّما يسوع إلى الربّ الذي أوكلَه إليهما، فقد دلا أنّه كلَّه له ودشّنا المهمّة التي لأجلها جاء. تقبّلا لأجله ما قاله النبيّ والنبيّة واهتمّا بتربيته في الناصرة.
وظهرت مريم في الصفّ الأوّل كما في سائر مشاهد الطفولة. تقبّلت مع يوسف من فم سمعان الوحيَ عن رسالة ابنهما الشاملة. وتعجّبت لأن إيمانها ينمو ويتعمّق على مراحل (هكذا يتدرّج الوحي) في الأمانة والتفكير والتأمّل (شدّد لوقا مرارًا على هذا التعمّق في أخبار الطفولة، رج 1:28، 34، 38؛ 2: 19، 33، 50، 51). تسلّمت وحدَها في الألم إعلان انقسام إسرائيل أمامَ ابنها. فكُفرُ الذين لا يقبلونه أصابها في الصميم، لأنها تتّحد دومًا اتّحادًا حميمًا برسالة يسوع كأمةِ متواضعة وأمينة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM