مع جماعة رومة:القسم الثاني عشر:التحرر من الشريعة


التحرّر من الشريعة
7: 1- 6

يبحث المؤمن عن التبرير والقداسة. يبحث عن الحريّة التي يجدها في خضوع للربّ. ولكنه يُستعبَد لاثنين: للخطيئة وللشريعة. تحدّثنا عن هذا التحرّر من الخطيئة، والعبور من عبوديّة إلى عبوديّة. من عبوديّة الخطيئة إلى عبوديّة البرّ التي تهبنا الحياة الأبديّة في المسيح يسوع ربّنا. وها نحن نبحث عن تحرّر من الشريعة. تلك هي نتيجة الفداء الذي ناله يسوع لنا. ونبدأ فندرس واقع الشريعة في حياة المؤمن، وواقع التحرّر، قبل أن نصل إلى معنى التحرّر هذا. ونقرأ 7: 1- 6:
(1) أنتم لا تجهلون أيها الإخوة، وأنا أكلّم جماعة يعرفون الشريعة، أن لا سلطة للشريعة على الانسان إلاّ وهو حيّ. (2) فالمرأة المتزوّجة تربطها الشريعة بالرجل ما دام حياً، فإذا مات تحرّرت من رباط الشريعة هذا. (3) وإن صارت إلى رجل آخر وزوجها حيّ، فهي زانية. ولكن إذا مات زوجها تحرّرت من الشريعة، فلا تكون زانية إن صارت لرجل آخر. (4) وهكذا أنتم أيّها الاخوة، مُتُّم عن الشريعة بجسد المسيح لتصيروا إلى آخر، إلى الذي قام من بين الأموات، فتُثمروا لله. (5) فحين كنّا نحيا حياة الجسد، كانت الأهواء الشرّيرة التي أثارتها الشريعة تعمل في أعضائنا لتُثمر للموت. (6) ولكننا الآن تحرّرنا من الشريعة، لأننا مُتنا عمّا كان يقيّدنا، حتّى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا نظام الحرف القديم.

1- بنية النصّ
بدأ بولس يصوّر الوضع الجديد للمسيحيّ المبرّر، فشرح كيف أن المسيح وضع حداً لسيادة الخطيئة والموت (5: 12- 21). وكيف أن «الحياة الجديدة في المسيح يسوع» تعني توجيه الذات بحيث لا نعود نفكّر في الخطيئة (6: 1- 23). في 6: 14- 15، أدخل علاقة الشريعة بالحرّية الجديدة التي ينعم بها المسيحيّ، وبيّن اهتمامه بما تطرحه الشريعة من سؤال في حياة الانسان. ما هو دورها، وهل لها من دور؟
تطرّق الرسول من قبلُ إلى هذه المسألة (3: 20، 31؛ 4: 15). ولكنه سيحاول الآن أن يواجهها مواجهة. ما هي علاقة الشريعة بالخطيئة؟ أو كيف تكون الشريعة خادمة للخطيئة والحكم (2 كور 3: 7، 9)؟ ما هي علاقة المسيحيّ بالشريعة؟ فبسبب الخطيئة وما نتج عنها من غربة عن الله، سقط الانسانُ تحت غضب الله. تسلّطت الخطيئة عليه، وظهرت الشريعة وكأنها تساعد على هذا الوضع فبدت قوّةً تقود إلى الموت. كيف يمكن أن يكون هذا؟ سبق بولس وكتب في 1 كور 15: 56: «شوكة الموت هي الخطيئة، وقوّة الخطيئة هي الشريعة». وهكذا يرى بولس أن الخطيئة تمارس عملَها في حياة الانسان بواسطة الشريعة. وحين يسود الحياةَ البشرية الموتُ والخطيئة والشريعة، يتعرّض الانسان للغضب ويصبح الفداء مستحيلاً. ولكن بولس سبق وقال: عبْرَ يسوع المسيح تحرّر الانسان من الخطيئة، من ذاته، من الموت. وها هو يتحرّر من الشريعة. وهكذا سوف يحدّثنا بولس بشكل خاص عن الشريعة في ف 7.
أما آ 1- 6، فهي مقدّمة جواب بولس على هذه السؤالات التي أثرناها. وكلام عن تحرّر المسيحيّ من الشريعة. وآ 7- 25 تعطي الجواب عن علاقة الشريعة بالخطيئة. في آ 1- 6، قدّم بولس برهانين. الأول، الشريعة «تربط» الأحياء، لا الأموات (آ 1، 4). والمسيحيّون الذين ماتوا في جسد المسيح لم يعودوا مربوطين بالشريعة ولا مجبَرين على ممارستها. الثاني، تتحرّر المرأة من زوجها على مستوى الفرائض التي تربطها به. والمسيحيون هم مثل المرأة اليهوديّة التي مات زوجها: هم أحرار بالنسبة إلى الشريعة (آ 2، 3، 4).
أراد بولس بهذين البرهانين أن يقدّم لنا المبدأ، ثم تطبيقه. بالموت تحرّرنا من الشريعة وصرنا خاصّةَ القائم من الموت. وهكذا نكون أمام رسمة توسّع فيها الرسول في 6: 2- 11. لهذا، يكتفي هنا بالجوهر دون أن يعرض البرهان بالتفصيل. ففي ما يتعلّق بوضعنا الدينيّ، الحدثُ الأساسي هو حدثُ موتنا وقيامتنا مع المسيح. مُتنا بواسطة جسد المسيح المصلوب، وحيينا مع القائم من الموت. فنتج عن ذلك أننا لا نحيا بعدُ للشريعة (بعد أن مُتنا عن الشريعة)، بل للمسيح الذي قام من بين الأموات.
ونتج أيضاً عن ذلك أننا نثمر ثمراً لله، لا للموت. في نظام الشريعة أثمرنا للموت، وقادتنا الأهواء نحو الأعمال الشرّيرة، لأننا بشر من لحم ودم. ولكن، ما إن أفلتنا من عبوديّة الخطيئة حتى تحرّرنا من الشريعة التي لم يعُد لها من معنى بالنسبة إلينا، والتي لا يمكن أن تكون بعدُ أداة الخطيئة. وهكذا تبدّل وضعُنا تبدّلاً تاماً: انتقلنا من نظام الشريعة إلى نظام الروح (آ 5- 6).

2- المبدأ وتطبيقه (7: 1- 4)
يبدأ السؤال المطروح بعبارة قرأناها في 6: 3 (ألا تعلمون) حول حقيقة يعرفها المؤمنون أو يُفترض فيهم ذلك. فما هو موضوع هذا السؤال، وإلى من توجّه؟ نقرأ أولاً لفظ «شريعة» بدون التعريف. هي شريعة من الشرائع. وقد اشتهر الرومان بعلم الشرائع. ولكن المسيحيين الذين يكلّمهم الرسول ليسوا من الأوساط المثقّفة، بل من الناس العاديين ومن العبيد، سواء تحرّروا أم لا. ثم إنه لا حاجة إلى معرفة خاصة بالشريعة لنعرف أنها موجّهة للأحياء فقط. هذا يعني أن الشريعة التي يتحدّث عنها بولس الآن هي الشريعة الموسويّة (رج 2: 13- 15؛ 5: 13- 20)، وأن الأشخاص الذين يتوجّه إليهم هم «إخوته حسب الجسد» (9: 3) الذين عاشوا مثله، في الماضي، وخضعوا للشريعة، قبل أن يصيروا للمسيح. لهذا السبب يسمّيهم «الاخوة» أو «إخوتي». أما المبدأ الذي طرحه الرسول، فهو صدى لأقوال الرابينيين الذين يقولون بأن الموتى لا يُطلب منهم أن يحفظوا الوصايا. ولهذا السبب، بعد أن مات المؤمن عن الشريعة (آ 4)، صار حراً بالنسبة إليها، واستطاع أن يكون للمسيح، ويكون له وحده.
ويطبّق بولس المثل: المرأة ترتبط بزوجها ما دام حياً. إن ارتبطت برجل آخر، وهو بعد حيّ، اعتُبرت زانية. ولكن بعد موته، تستطيع أن ترتبط بمن تشاء. أمّا وقد ماتت الشريعة بعد أن صُلبت في موت المسيح، فالمؤمنون قد تحرّروا منها.
ولكن ما يُدهشنا في هذا التطبيق هو أن المؤمن مات، لا الشريعة. وبما أنه مات، فهو يستطيع أن يكون لآخر. بما أن المسيحيّ مات عن الشريعة، فهو يقدر أن يكون خاصة المسيح. نحن هنا أمام مثَل، فلا نبحث فيه عن معنى كل تفصيل من التفاصيل. بدأ النصّ فتحدّث عن انسان دون أن يحدّد إن كان هذا الانسان رجلاً أو امرأة. ثم ذكر الرجل والمرأة المرتبطة به. كان بنو اسرائيل يعتبرون من يترك الله «زانياً» وخائناً لربّه. أتُرى اتّهم اليهود اخوتهم الذين قبلوا إنجيل المسيح وارتبطوا به، بمثل هذا الاتهام (جعلوهم زناة)؟ فإن فعل المسيحيون ما فعلوا، فلأنهم ماتوا عن الشريعة بجسد المسيح (آ 4). هم صُلبوا مع المسيح، وماتوا عن الشريعة ليحيوا الله (غل 2: 19). إذن، هم أحرار، وما عاد للشريعة من سلطة عليهم.
ونعود أيضاً إلى الرسالة إلى غلاطية. فالمسيح الذي وُلد من امرأة وخضع للشريعة (غل 4: 4)، صُلب في الضعف. ولكنه حيّ بقدرة الله (2 كور 13: 4). صُلب فصار موضوعَ لعنة من قبل الشريعة (غل 3: 10)، بحيث انقطعت كلُّ علاقة بينه وبينها. ونقول الشيء عينه عن الذين، بالإيمان والعماد، يقاسمونه موته الذي هو موت عن الخطيئة (6: 2) وموت عن الشريعة. وموت المسيح هيّأ قيامته. لهذا فالمؤمن الذي اتّحد بالمسيح المصلوب، قد اتّحد أيضاً بالمسيح القائم من الموت. لذلك فهو يستطيع منذ الآن أن يحيا لله (روم 6: 10- 11) مثل المسيح وفي المسيح، ويُثمر لله.
أجل، السؤال المطروح هو: هل يجب أن تدوم سلطة الشريعة إلى الأبد؟ والجواب: كلا. والشريعة نفسها تقول متى تُعلّق ولا تطبّق بعد. فالشريعة لها حدودها. والموت يضع حداً لسلطانها. وموت المؤمنين مع المسيح، أمات فيهم الانسانَ القديم وارتباطه بالشريعة. إذن، هم أحرار. والشريعة فقدت كلَّ سلطة بالنسبة إليهم. فلماذا يريدون العودة إليها؟

3- والنتيجة (7: 5- 6)
بعد أن متنا عن الشريعة، نستطيع أن نحيا لله فنبلغ الحياة الأبديّة. هذا كان مستحيلاً في حكم الشريعة. سنعود إلى هذا الموضوع في آ 7- 24. أما الآن فنقول: لم يكن باستطاعة الذين خضعوا لشريعة موسى إلاّ أن يُثمروا ثمراً للموت، لأنهم خضعوا للبشريّ فيهم، للحم والدم بما فيه من ضعف. هذا الانسان الذي خضع للخطيئة (رج 3: 9)، صار في وضع سيّئ، بحيث إن ما كان يمكن أن يكون لخيره، صار لهلاكه. «فالأهواء» التي يمكن أن تقود إلى الخير، صارت في خدمة الخطيئة. صارت «أهواء الخطيئة». ونقول الشيء عينه عن الشريعة التي كشفت شرّ الخطيئة فكانت خيراً للانسان. ولكنها كشفت في الوقت ذاته ما في الخطيئة من «سحر»، فمدّت سلطانها في البشريّة (5: 20). وهكذا صارت «أعضاء» الانسان في خدمة أهوائه، وبالتالي في خدمة الخطيئة، فانجذب نحو الموت.
ولكن حلّ وضعٌ جديد، بالنسبة إلى المؤمن، محلّ وضع يعيشه الانسان «في الجسد». نحن هنا أمام تحوّل جذريّ، أحدثه دخولُ الانسان، الآن، في وحي برّ الله. في الماضي، خضع اليهود للشريعة، فتحرّروا الآن منها، وتحرّر معهم جميعُ المؤمنين. وهكذا ماتوا عمّا كان يقيّدهم، يأسرهم ويجعلهم عبيداً. ما كان يمسك اليهود في ما مضى، هو الشريعة (آ 4). واليوم ماتت الشريعة وماتت معها الخطيئة بالنسبة إلى الجميع، سواء كانوا يهوداً أو يونانيين: فالمعمَّدون ماتوا عن كل هذا، ويجب أن يعتبروا نفوسهم كذلك (6: 2- 11). ولكن الموت عن الشريعة لا يعفينا من الخدمة، بل هو يدفعنا إلى الخدمة، وإلى «عبوديّة» من نوع آخر: عبوديّة للبرّ ولله (6: 18، 22). توخّت الشريعة أن تعمل للبرّ فلم تتوصّل (3: 9- 20). لهذا صارت مجموعة نصوص تجاوزها وحيُ برّ الله في يسوع المسيح. صارت «حرفاً عتيقاً». ظلّ عملُها في الخارج، فحلّت محلّها شريعةٌ أخرى مكتوبة في القلوب (إر 31: 31- 34). هذه هي الشريعة الجديدة التي تتيح للانسان أن يخدم في «نظام الروح الجديد»، في جدَّة الروح (رج 2 كو 3: 6). وهكذا صارت الطاعة لشريعة الله ممكنة، بدفع من الروح، بعد أن بان عجزُ الشريعة الموسويّة.

خاتمة
عرف بنو اسرائيل متطلّبات البرّ. ففي قلب التشريع الموسويّ، جاءت الفريضة الأساسيّة: «كونوا قدّيسين لأني أنا قدّوس» (لا 11: 44). هذا ما قاله بولس حين شرح للمؤمنين أن عليهم أن يمارسوا البرّ من أجل التقديس. فهل يمكن أن تكون الشريعة وسيلة إلى هذا التقديس؟ هذه الشريعة هي عطيّة الله لشعبه، فوجب عليها أن تلعب دوراً في تدبير الخلاص. ولكن سلطانها ألغي، فصارت في عتيق الحرف، وبانت أنها موقّتة. وحلّت محلها جدّة الروح. هي المربّي ما زال المؤمنُ قاصراً. ولكن دورها ينتهي حين يصبح المسيحيّ بالغاً، أي حين يشارك بالإيمان والمعموديّة، في موت المسيح وقيامته. فماذا ننتظر لنتخلّى عن شريعة قديمة من أجل شريعة أخرى، لننتقل من نظام إلى نظام، من نظام الحرف إلى نظام الروح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM