الانجيل قوّة خلاص
1: 16- 17
الانجيل يعيش في قلب بولس الرسول، وهو لا يستحي به. بل هو يفتخر به، ويجعله فوق جميع القيم التي يمكن أن تحرّك قدرات الانسان. أمّا هذا الانجيل فيتضمّن الكرازة الرسوليّة، كما نجدها في الرسالة إلى رومة. وقبل أن يكلّم بولس الرومانيين عن هذا الانجيل الذي يدعوه إنجيلي (2: 16)، ها هو يكتب إليهم لكي يقوّيهم ويشجّعهم ويكمل ما يكون قد نقص من إيمانهم. هذا الانجيل هو قوّة الله لخلاص المؤمنين، ووحي برّ الله بالإيمان وللإيمان. إنه قوّة خلاص لأنه يكشف برّ الله. هذا ما نكتشفه في قراءة 11: 16- 17 من الرسالة إلى رومة.
(16) وأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كل من آمن، لليهوديّ أولاً ثمّ لليونانيّ، (17) لأن فيه أعلن الله كيف يبرّر الانسان: بالإيمان أولاً وأخيراً، (أو: من الإيمان إلى الإيمان) كما جاء في الآية: «البار بالإيمان يحيا».
1- موضوع الرسالة إلى رومة
تتضمّن هاتان الآيتان موضوع الرسالة، الذي يقدّم لنا كلمات هامة سنحاول أن نتبيّن معناها: الانجيل والقدرة، البرّ والإيمان والخلاص.
أ- الانجيل والقدرة
الانجيل، أو البشارة، هو الخبر الطيّب الذي كُلِّف بولس بحمْله، والذي يعبّر عنه بكلمة جُعلت في فم الرسول حين دعاه الله، فقرأناها في آ 3- 4. هو إنجيل يسوع المسيح (15: 17؛ 16: 25)، إنجيل يسوع، الابن (1: 9). هو كلمة تبشّر بالمسيح (10: 17). هذه الكلمة تُعلَن في الكرازة.
هناك ثلاثة ألفاظ متقاربة: الانجيل، الكلمة، الكرازة. الانجيل هو حدث الخلاص في حياة يسوع المسيح، وهذا الحدث هو هنا لكي يُعلَن، لكي يُعرَف. وبشكل دقيق، الانجيل هو كشْف هذا الحدث. والكلمة هي التعبير الملموس والشفهيّ عن الانجيل. والكرازة هي إعلان الكلمة. فبالكرازة يوصل بولس إلى العالم الكلمة التي تُعرّفنا بإنجيل يكشف حدث الخلاص.
والقدرة تدلّ على كثافة كيان الله، وسلطانه في العالم، وفعله الفاعل الذي لا يقف في وجهه عائق. القدرة تدلّ على الله بالذات، في ما هو يتجاوز كلَّ كائن، ويكون ينبوع كل نشاط. لا يقاومه شيء ولا يستحيل عليه شيء. وهو يُجري الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها مخلوق.
ب- البرّ والإيمان والخلاص
في هذه الألفاظ الثلاثة، ينطلق بولس ممّا يقوله العهد القديم. فالله بارّ حين يتوافق تصرّفُه مع الحقّ أو يقدّم الشرائع الصالحة (صف 3: 5؛ با 2: 9). أو حين يُصدر حكماً عادلاً (مز 9: 5)، أو يحفظ حبّه ورحمته للخاطئ (أش 30: 18). وبرُّ الله هو أمانته تجاه البشر في إطار العهد. وفي النهاية، هو قداسته التي تمارَس في التاريخ كنشاط يؤمّن الخلاص. والإيمان هو الاعتراف بحبّ أزليّ يكنّه الله للانسان، واستسلام تامّ لهذا الحبّ. هكذا يكون الانسان تجاه الله: ينفتح على حضوره المحبّ (خر 4: 31)، يثق بمواعيده (تك 15: 6)، يخضع لإرادته (خر 19: 8؛ تث 9: 23).
والخلاص هو عمل الله من أجل الانسان، بحيث يؤمّن له مناخاً من الحريّة والسعادة. حينئذ يحيا الانسان في مناخ العهد (إش 55: 3)، ويعرف السلام (إش 52: 7) والبرّ (إش 61: 3- 10) والمجد (إش 62: 2، 7). والخلاص الذي تتحدّث عنه الرسائل البولسيّة هو خلاص آتٍ. ولكن هناك نصوصاً تتحدّث عن خلاص تمّ في ما سبق، أو خلاص نعيشه في الحاضر (1 كور 1: 21؛ 2 كور 6: 2؛ أف 2: 5- 8؛ تي 3: 5). وهكذا يضمّ الخلاصُ الماضي والحاضر المستقبل، بحيث نكون في تدبير الخلاص.
2- قوّة خلاص لمن آمن (1: 16)
ونعود إلى قراءة آ 16 التي تتحدّث عن قدرة الله من أجل الخلاص. فالإنجيل يجعل قدرة الله تفعل وتخلّص. بل إن الانجيل لا يتميّز عن قدرة الله، تمييزاً ملموساً. إنه الطريقة التي تمارس هذه القدرة. هذه القدرة هي فيه، هذه القدرة هي الانجيل. مثلُ هذه النظرة لا تُدهشنا. فالصفة التي تلتصق بكلمة الله، هي أنها قديرة وفاعلة. فهي تُنتج ما تعنيه وليس من يقاوم، ولا تعود إلى الله قبل أن تُتمّ مهمّتها التي أرسلت من أجلها. كلمةُ الله هي أداة أعمال الله العظيمة في العالم. وهي تعبّر عن مشيئة الله وتجعل هذه المشيئة تتنفَّذ. رج إش 55: 10- 11 حيث نقرأ في ما نقرأ: «كلمتي.... تفعل ما شئتُ أن تعمله، وتنجح في ما أرسلتُها له».
وقدرة الله التي هي الانجيل، تعمل للخلاص، والخلاص هو دوماً عمل قدرة الله الملوكيّة. وهذا الخلاص يُنظر إليه من الوجهة الدينيّة المحضة: الله يحرّر الانسان من الخطيئة ومن الغضب المتأتّي عن الخطيئة.
هذا الخلاص معدٌّ للمؤمن. فالله لا يخلّص إلاّ الذين يتوجّهون إليه كالمخلّص. والإيمان هو موقف من يتطلّع إلى الله مخلصاً. وفي الإيمان، ينفتح الانسان على قدرة الله التي تُجري فيه حينذاك الخلاص.
والإيمان هو إيمان بحبّ الله الأزليّ الذي يجعل قدرته تفعل لكي يغمرنا بعطاياه. وعلى مدّ الإيام، هو إيمان بأمانة الله التي تعمل عبر الأحداث لكي تحقّق مقاصد حبِّه. وخاصيّة الإيمان هي أنها تكتشف في العالم الملموس، حضور الله المحبّ، وتستسلم له. هي أنها تقرأ في الأحداث علامات أمانة الله الفاعلة.
من جهة، الإيمان وحده يرينا الحدث كتعبير عن أمانة الله. هذا ما لا تُدركه الطبيعةُ البشريّة وحدها. فهو يتجلّى للمؤمن والمؤمن وحده. أمّا الآخرون، فيتوقّفون عند الأمور الخارجيّة ولا يُدركون معناها. ومن جهة ثانية، الإيمان وحده يتيح لنا أن نعيش الحدث في عمقه الدينيّ وننعم به. ففي الإيمان بالكلمة، يصبح هذا الحدث الديني حدثاً يتوجّه إليّ ويطلب مني الموقف الملائم.
هذا الإيمان يتوجّه إلى الجميع بدون استثناء: إلى اليهوديّ وإلى اليوناني. أي إلى البشريّة كلها. ويذكر بولسُ اليهوديَّ أولاً، لأن شعب الله هو الموضع الأول الذي فيه أجرى الله معجزاته. في هذا المعنى قال إش 45: 15: «أنت حقاً إله محتجب» في أرض خاصة، وفي شعب خاص. وقد قال يسوع للسامرية، على بئر يعقوب: «الخلاص يأتي من اليهود» (يو 4: 22).
غير أن هذا الخلاص لا ينحصر في أرض محدّدة، ولا في شعب معيّن. إنه من أجل جميع الأمم. والانجيل ينبغي أن يُكرز به إلى الخليقة كلها. وحين يؤمن البشر، يشاركون في هذا الخلاص الذي تحقّق في أرض فلسطين. فبالايمان، وبالايمان وحده، يصيرون أعضاء في شعب الله ووارثي المواعيد التي أعطيت لابراهيم ونسله. منذ الآن، صار نسلُ ابراهيم المؤمنين في جميع الأرض. هنا، يكون اليهوديّ على مستوى الوثنيّ، ولا تمنحه الشريعة أي امتياز، ولاختانُ اللحم. فالإيمان هو الشرط الضروريّ والكافي لكي ينعم الانسان بالخلاص الموعود به. كان اليهوديّ، بالنظر إلى ولادته، وارث الخلاص. ولكنه استبعد نفسه. أما الوثني الذي لم يكن نسل ابراهيم بحسب الجسد، فقد نعم بالخلاص وصار الابن الحقيقيّ لابراهيم.
3- الانسان يبرّر بالإيمان (1: 17)
وترد آ 17 فتعمِّق ما قيل في آ 16. هي تشرح كيف أن الانجيل هو قدرة الله الذي يمنح الخلاص للمؤمن: فيه يتجلّى برّ الله بالإيمان وللإيمان.
كيف نفهم عبارة «برّ الله»؟ هي صفة الله البار. هو يتصرّف بحسب ما قال. برّ الله هو أمانته للوعد أو للعهد. نحن هنا أمام أمانة ننظر إليها نظرة ملموسة، لا نظرة مجرّدة. ننظر إليها كيف تمارَسُ في أحداث تعبّر عنها. لسنا أمام صفة تشير إلى استعداد عاديّ قد يتمّ أو لا يتمّ، بل أمام فعل يُظهر نتائجه في التاريخ. سنفهم في ما يلي من الرسالة بما يقوم عمل أمانة الله. هذا العمل الذي أُعدّ منذ الأزل، ظلّ سراً مخفياً في الله إلى يوم تحقّق فيه: بقي مكتوماً وظهر الآن (16: 25- 26).
فجوهر الانجيل وحي. وهذا الوحي يكشف قدرة الله. هنا تتماهى قدرة الوحي مع قدرة الكلمة التي تعبّر عن هذا الوحي. فللوحي سلطان يخضع له الفكر. قدرته فيه، ولا يحتاج إلى وسيط. بقدرته يدخل إلى القلب البشريّ، وبالتالي يحوّل قلب الانسان.
ودور الانجيل يقوم بأن يعرّفنا ببرّ الله. هو لا يكتفي بأن يُعلن لنا هذا البرّ، بل يفعل، يحقّق. وهكذا يكون الانجيل محطّة فاعلة في عمل برّ الله. وبه يمارَسُ هذا البرّ ليحوّل المؤمنين وينقلهم من وضع إلى آخر.
«بالإيمان وللإيمان». أو: «من إيمان إلى إيمان». ما معنى هذه العبارة؟ إن برّ الله يتجلّى على أنه برّ بالإيمان. هذا يعني أن الإيمان هو الوسيلة التي بها يدرك برُّ الله الانسان ويؤثّر فيه. من جهة، في الإيمان يظهر برّ الله بشكل موضوعيّ في حياة الانسان. ومن جهة ثانية، في الإيمان يُنتج هذا البرّ في الانسان تحوّلاً هو موضوع الوعد الالهي والغاية التي تتوخّاها أمانةُ الله.
بالإيمان وللإيمان. هذا يعني أيضاً أن برّ الله يتجلّى في نظر الإيمان، فيتدخّل ويُنتج بالإيمان نعمة الإيمان التي هي في الانسان. ولا ينعم بثمار هذا البرّ سوى المؤمنين. وتكمن هذه الثمار في الخلاص. إذن، هناك تضامن وثيق بين ما تقوله آ 16 عن خلاص يُعطى لكل مؤمن، وما تقوله آ 17 عن برّ الله الذي هو للإيمان: فبرُّ الله يتجلّى في رؤية الإيمان كمعطي الخلاص للانسان المؤمن بواسطة الإيمان.
ويُنهي بولس شرح آ 16 فيورد نصّ النبيّ حبقوق: «البار بالإيمان يحيا». لا تتوخّى هذه العبارة أن تحدّد جوهر البار، بل أن تلفت الانتباه أولاً إلى العلاقة بين الحياة والإيمان، وهي علاقة تميّز حياة البار. فالإيمان هو الذي يمنح الحياة، كما يقول عا 5: 4- 6؛ إش 7: 4- 9؛ 26: 3. وهذا المبدأ يُنير التعليمَ البولسيّ حول الخلاص. فإن كانت قدرة الله في الوحي الانجيلي تمنح الخلاص (والحياة)، فلأنها تحرّك الإيمان بأمانة الله التي أعلنها الانجيل، ولأن عمل الإيمان الأول هو أن يُحيي الانسان.
أورد بولس قول حبقوق، فاعتبر أن الخلاص هو قلب الإيمان: فالإيمان هو ينبوع الحياة، وهو يجعل الانسان في وضع من الخلاص. وهكذا يعلن بولس انطلاقاً من هذا القول النبويّ: يتجلّى برّ الله في نظر الإيمان كعامل من أجل الإيمان وبواسطة الإيمان. أي هو يمنح بالإيمان الخلاص لمن يؤمن.
خاتمة
وفي النهاية، يمكن أن نحدّد العلاقة بين الإيمان وقدرة الله، كما تتمّ في الوحي الانجيلي، كما يلي: في الوحي قوّة تُخضع الانسانَ الذي يسمع. وحين يسمع الانجيل، يؤمن بالانجيل، ويعي أنه يخضع لسلطان هذا الوحي. عند ذاك يعي أن هذه السلطة تحرّك عنده الإيمان. وماذا عن مضمون الوحي؟ حين يعلن الانجيل أن الله حقّق وعده بيسوع المسيح، فالذي يؤمن، يؤمن أن الله يمارس قوّة حبّه في يسوع المسيح من أجل خلاص البشر. وهكذا تصبح قدرة الله موضوع إيمان. ويبقى المدلول. فحين يسمع الانسان الانجيل، بالإيمان، يعرف أن عمل الله يعنيه شخصياً ويعمل فيه بقدر ما يؤمن. في هذا المجال، يختبر الانسان تحوّلَ حياته بقدرة الله الفاعلة في الانجيل. وهكذا، فما يحسّ به المؤمن في فعل إيمانه، هو نتيجة قدرة الله التي يخضع لها.