الفصل الثالث والثلاثون :الاختيار والدعوة إلى الخلاص

 

الفصل الثالث والثلاثون
الاختيار والدعوة إلى الخلاص
في 1 و 2 تس

1- المقدّمة
بين المواضيع اللاهوتيّة التي تظهر في 1 و 2 تس، يحتلّ مدلول الاختيار والدعوة إلى الخلاص مكانة هامة. والموضوع مهمّ بسبب الموقع المركزيّ الذي يحتلّه في هاتين الرسالتين. هناك ثمانية استعمالات للألفاظ حول الاختيار والدعوة في الرسالتين. تلك هي أرفع نسبة في المجموعة البولسيّة.
والسبب الآخر الذي لأجله اخترنا هذا الموضوع ينبثق من الطريق التي بها يُفهم الاختيار لدى عدد من الكتّاب. فحسب عدد من العلماء، حين يتحدّث بولس عن الاختيار، فهو يعود إلى الطريقة التي بها اختار الله قبل خلق العالم شعبًا خاصًا وعددًا محدّدًا لكي يشاركه في الخلاص. وبدأ بتحقيق قصده أولاً حين دعا هذا الشعب عبر الانجيل بحيث يتجاوب مع ندائه. وثانيًا حين حفظهم في الايمان بحيث يدركون حقًا الخلاص النهائيّ. ومع أن إمكانيّة الجحود تقف أمامهم وقد نُبِّهوا من السقوط أو ضعف الايمان، إلاّ أن الله استعمل هذه التنبيهات كجزء من الوسائل التي بها يحفظهم من السقوط شي هذه المخاطر.
وهكذا فالانسان الذي يعرف أنه واحد من المختارين، يتأكّد أنه سيدرك بلا شكّ الخلاص النهائيّ حتى وإن واجهته تجارب لا يمكن تجاوزها ومضايق هائلة. إن فَهم تعليم بولس في هذا الشكل، قد جاء من يدافع عنه بتفاصيل واسعة عبر دراسة في جامعة توبنغن في المانيا.
نحاول أن نفهم تعليم بولس في 1 و2 تس، ونفصل بين رسالة ورسالة.
كتب بولس 1 تس إلى جماعة من القرّاء احتاجوا إلى التشجيع في إيمانهم المسيحي. يبدو أنهم كانوا خائفين لأسباب عديدة. أسّس بولس الكنيسة خلال. زيارة قصيرة، وانقطع فجأة عن العمل. لهذا لم يكن الوقت كافيًا لإعطاء التعليم الاساسيّ والتشجيع اللذين احتاج إليهما هؤلاء المؤمنون.
- فالمسيحيون الذين من أصل يهوديّ، مالوا إلى الشكّ، لأنهم شعروا أنهم صاروا جاحدين بالنسبة إلى شعب اسرائيل.
- والمسيحيّون الذين من أصل وثنيّ أحسّوا أنهم كوثنيّين قد استُبعدوا من الخلاص لأنهم ما أصبحوا جزءًا من شعب اسرائيل التاريخيّ.
- وأحسِّ الاعضاء بضغط لكي يتركوا إيمانهم كنتيجة مثل هذه المضايقات. ولقد فسّر بولس هذا الوضع على أنه مقاومة من الشيطان. وهكذا كانت نتيجة الرسالة في خطر. لهذا كان بولس قلقًا. هل ترى يسقطون؟
- قلقَ الاعضاء على مصير الذين ماتوا قبل المجيء (باروسيا) القريب. كما قلقوا بالنسبة إلى نفوسهم. فطابع المجيء الفجائي والدينونة غير المتوقّعة تجاه اللامؤمنين، ملأ قلوبهم همًا من أجل هؤلاء.
في مثل هذا الوضع كتب بولس 1 تس. ولم يكن هدفها فقط التعليم والتحريض، بل التشجيع أيضًا لجماعة محاصرة. وتجاه هذه الخلفيّة، جاءت العودة إلى الاختيار والدعوة والثبات. سندرس كل هذا في ارتباط مع اعتبار يقول إن عمل بولس كان باطلاً، وكذلك مختلف التحريضات من أجل الثبات الروحي، والرجوع إلى صلوات بولس التي نجدها في هذه الرسالة.

2- خطر السقوط
نجد هدف بولس في كتابة هذه الرسالة إلى الكنيسة في 1 تس 3: 5 حيث يعبر عن خوفه بأنه قد يكون تعب باطلاً. وينبثق خوفه من المضايقات التي واجهت الكنيسة. وهي مواجهات رأى فيئها شكلاً من تجربة شيطانيّة تقود إلى فقدان الايمان. هو خطر حقيقي بالنسبة إلى المرتدّين. غير أن هدف بولس ليس أن يعرف إن كان هؤلاء المرتّدون سوف يسقطون، بل إن كانت رسالته تجذّرت حقًا في قدرة الله الخلاصيّة. مثل هذا الموقف غير ثابت. فبولس يهتمّ بقرّائه لا بسمعته في المجيء. فاللغة التي استعملها تبيّن أن هدف إرساله تيموتاوس إليهم لم يكن ليرى إن كانوا حقًا قد ارتدّوا، بل ليشجّع هؤلاء المرتّدين ليثبتوا في وسط الاضطهاد، وليعرف ما هو وضع إيمانهم. ترتبط لغة بولس بالثبات رغم المضايق (3: 3، 8: لئلاّ يتزعزع أحد في هذه المضايق. أنتم ثابتون في الربّ)، وبتتميم النقص في الايمان (3: 10، أو الضعف)، ولا ترتبط بسؤال يُطرح حول امتلاك القراء للإيمان.
وحمل تيموتاوس في عودته الأخبار الطيّبة، فدلّ على أن ما خاف منه بولس لم يحدث. غير أن هذا الخوف كان حقيقيًا. لم يقل بولس: "لا شكّ في أن هذا الخوف الذي خفته لأجلكم لم يكن مبرّرًا، لأني أعلم أن الله يحفظكم رغم كل ما يحدث". بل قال: ما زالوا يظهرون إيمانهم ومحبّتهم. وهو يصلّي إلى الله لكي يحفظهم. ومع أن بولس دلّ على ثقته بهؤلاء المرتدّين، إلاّ أنه قلق حقًا في شأنهم. فخطر الوقوع بيد الشيطان كان حقيقيًا رغم إيمانهم ورغم صلاته لأجلهم. لهذا لا نعجب إن كرّس بولس مساحة كبيرة في رسالته للتعليم والتشجيع، وهذا ما يهيّئهم للثبات في وجه التجربة التي تبعدهم عن الايمان.


3- ما ينطوي عليه الاختيار
أ- كيف كان اختياركم (1 تس 1: 4- 5)
نقطة الانطلاق في هذه الرسالة هي تعبير عن شكر بولس على نموّ القرّاء الروحي. وهي تنضمّ إلى قول بأنهم محبوبون من الله وأعضاء شعبه المختار.
إن عبارة "أحبّاء الله" (أو: محبوبون من الله) هي واحدة من عدة عبارات انطبقت على شعب اسرائيل (تث 32: 15؛ 33: 12؛ أش 44: 2)، وهي تنطبق الآن على كنيسة المسيح. نستطيع أن نرى عمليّة إعادة التطبيق للعبارة الواحدة أيضًا في روم 9: 13 حيث يورد بولس ملا 1: 2 الذي يعود إلى اسرائيل. ويورد هو 25:2 (في آ 25) حيث يعد الله بأن يحبّ شعبه الذي لم يعد أهلاً للحبّ. هذا يعود في السياق الاصليّ إلى اسرائيل الخاطئ (روم 9: 28)، ولكن بولس يطبّقه من جديد على الكنيسة المؤلّفة من اليهود ومن الأمم الوثنيّة.
هنا فسمع أن نرى عمليّة امتداد هذه اللفظة. فما طُبّق في الماضي على اسرائيل، يطبّق الآن على الكنيسة. وما طبّق في الماضي على شعب اسرائيل يصل الآن إلى الأمم أيضًا. أما مدلول 1 تس 1: 4 فهو أن بولس قام بعمليّة الامتداد هذه دون أن يحسّ بالحاجة إلى تبرير ما فعل تجاه قرّائه. وهكذا يكون واضحًا في المرحلة الأولى من تفكير بولس، أنه توسّع في مفهوم الكنيسة على أنها اسرائيل الله. والاعتقاد بأن محبّة الله قد امتدّت الآن إلى الكنيسة المؤلّفة من يهود ووثنيين، هي حاضرة ولا يحتاج إلى من يدافع عنه. فالكنيسة قد ورثت موقع شعب اسرائيل.
والارتباط بين الحب والاختيار، الذي نجده هنا، نقرأه أيضًا في كو 3: 12، روم 9: 11-13؛ 2 تس 2: 13. ولفظة "اختياركم" تعني "اختيار الله لكم". قد استعمل بولس هذا الاسم المجرّد بدل الجملة الفعليّة (الله قد اختاركم). ومع أن الفكرة تتفرّع من العهد القديم، فالاستعمال اللاهوتيّ للاسم لا يمكن أن يُرسم بالعودة إلى العهد القديم.
حين استعمل بولس هذه اللغة في 1 تس، لم يكن هدفه أن يقول بأن الله اختار القرّاء مسبقًا، بل بالحري أن يؤكّد أنهم ينتمون الآن إلى شعب الله، وأنهم موضوع حبّه في الزمن الحاضر. نحن هنا أمام عمل ملموس فيه عبّر الله عن اختياره لهؤلاء المؤمنين.
هناك نقطة تحتاج إلى توضيح: هل تعود اللفظة بكل بساطة إلى الاختيار الالهي للقرّاء وإلى الوسائل الالهيّة ليصبح هذا الاختيار حقيقة وواقعًا؟ أو هل هي تتضمّن بشكل أو بآخر جواب القرّاء كما حدّده الله؟ هل تعود هذه الجملة إلى شعب اختاره الله، أو إلى شعب اختاره الله فتجاوب مع هذا الاختيار؟
إذا أردنا جوابًا على هذا السؤال، نأخذ بعين الاعتبار استعمال الصيغة "اكلاكتوس". إذا عدنا إلى العهد القديم والعالم اليهوديّ، نفهم أن "الاختيار" يُستعمل عن الذين صاروا أعضاء في شعب الله، لا عن أفراد ما صاروا بعدُ أعضاء في شعب الله.
لهذا نحن ننتظر في العهد الجديد أن يشير الاختيار إلى الذين ينتمون إلى شعب الله، لا إلى الذين أعدّوا لينتموا إليه فيما بعد. لاشكّ في أنه لو كان الفعل يدلّ على عمل الله الخلاصيّ من أجل الافراد، لكان من الطبيعي أن يمتدّ إلى الشعب في استباق لدخولهم الحالي في الشعب المختار. ولكن في الواقع، ليس هذا بواضح في العهد الجديد كما هو الحال هنا. فالصفة تعود بنا دومًا إلى الشعب الذي صار الآن جزءًا من شعب الله، لا إلى الذين خُتموا ليقدّموا جوابهم إلى نداء الله.
وهتا في 1 تس 1: 4، تدلّ اللغة على أن القرّاء ينتمون إلى الشعب الذي اختاره الله. أجابوا بالايمان على ندائه. وفي 1 تس 16:2، قال عن اليهود بأنهم منعوا بولس أن يكلّم الأمم لكي يخلصوا. ومع ذلك، عرف بولس وعرف القرّاء معه، بأنهم يخصّون شعب الله وأنهم موضوع حبّه.
وترتبط معرفة اختيارهم بمعرفة ارتدادهم في نظر بولس. فالواقع الذي يقول إن الله اختارهم، قد كُشف في قوّة عرض الانجيل، وفي قبول التعليم بفرح لدى القرّاء. وهكذا كانوا مثالاً لسائر المؤمنين. وتكلّم الناس عنهم في كل مكان، لأنهم اقتبلوا بفرح التعليمَ الذي حمله المرسلون (ترتبط الرسالة والمرسل ارتباطًا وثيقًا)، ولأنهم ارتدّوا عن عبادة الأصنام. وهكذا صار الخيار ملموسًا في قوّة عرض الانجيل وفي الجواب الذي حصل عليه (في درجة ثانية).
ما أراد أن يشدّد بولس على أن الله قد اختارهم في الماضي، بل على أن جوابهم للانجيل صار واضحًا لأنهم الآن في عداد المختارين. وهكذا أبرز أنهم يخصّون الله الآن. أراد أن يقول أولاً إن اختيار الله لهم لكي يخلّصهم، قد عبّر عنه بأن الانجيل وصل إليهم بقوّة. وثانيًا إن جواب الايمان يدلّ على أنهم الآن ينتمون إلى المختارين.
وما لم يُرد بولس أن يقوله، هو أنهم تجاوبوا لأن الله اختارهم لكي يصنعوا ذلك، فدفعهم إلى أن يؤمنوا. هناك نقطتان تجعلاننا نفكّر في شكل آخر.
الاولى: أظهر بولس تعارضًا ضمنيًا بين انجيل وصل بالكلام وآخر وصل مع أعمال قوّة. في 2: 13، اقتبل التسالونيكيون الانجيل لا على أنه كلمة إنسان، يل ككلمة الله التي تعمل بقوّة في المؤمنين. هذا يعني أن الانجيل يمكن أن يُختبر فقط ككلام بشريّ أو كقدرة الله. غير أن هذا يرتبط بالطريقة البشريّة التي بها نأخذه. فالانسان يستطيع أن يسمع ذلك ككلام بشريّ فلا يقتنع به. أو يرى أصله الالهي وسلطته فيتجاوب معه. فبولس لا يعني أن الله يستفيد من المناسبة لكي يجعل الكرازة بالانجيل كلامًا بشريًا وخاليًا من القوّة، ويحمِّله في مناسبة أخرى قوّة تستطيع أن تردّ السامعين.
الثانية: أعلن بولس أن قبول التسالونيكيّين للانجيل رافقه الفرح الذي جاء إليهم من الروح. نحن قريبون من روم 5: 5 حيث محبّة الله أفيضت في قلب الشعب عبر عطيّة الروح، فبدت بركة للمخلّصين. والسؤال المطروح: هل عملَ الروحُ قبل ذلك في تكوين الايمان؟ هل آمن الشعب لأن الروح دفعهم إلى أن يؤمنوا؟ مع أن بولس يشدّد منذ البداية حتى النهاية على أن الخلاص هو عطيّة من الله، إلاّ أنه لا يتّخذ خطوة تقول إن قبول الخلاص مستقلّ عن إرادة الانسان بأن تؤمن، أو إن إرادة الخلاص قد حدّدها الله سابقًا فصارت واقعًا وحقيقة.
وبمختصر الكلام، ما يقوله بولس هو أن الله اختار القرّاء وأنهم موضوع حبّه. لهذا يستطيع القرّاء أن يقولوا أيضًا: "نعرف أن الله أحبّنا واختارنا". وآمن بولس أن الشعب يستطيع أن يعرف اختياره، وهذه المعرفة تكون مصدر ثقة له. وإذ شدّد بولس على الاختيار أراد أن يشجّع قرّاءه. فواقع ارتدادهم تشهد عليه آيات تدلّ على رضى الله، وطريقة عيش جديد. وعلى هذا الأساس، لا يحتاجون أن يسقطوا أمام هجمات الشيطان.
ب- ما جعلنا للسخط، بل لاقتناء الخلاص (1 تس 5: 9)
ونجد استعمالاً آخر للغة التهيئة المسبقة في 1 تس 9:5: "لأن الله لم يجعلنا للسخط الكي نتحمّل السخط والغضب)، بل لاقتناء (لتقبّل) الخلاص بربنا يسوع المسيح". إن السياق يوضح أن بولس يفكّر في مصير البشريّة الأخير، مع خيار بين الغضب والخلاص في اليوم الأخير (روم 5: 9- 10).
قيل أن هذا يعني أن الله اختار شعبًا خاصًا (هم قرّاء الرسالة، ثم سائر المؤمنين) ليصل إلى الخلاص النهائي لا إلى الغضب. ذلك هو قصد الله، فيتمّ ولا يخطئ، بحيث يتأكّد القرّاء من خلاصهم النهائي. ولكننا نرفض مثل هذا التفسير.
أولاً: نحتاج إلى تمييز في مشروع الله. ما يتمنّى أن يراه محقّقًا وما قد تمّ الآن بالفعل. مثلاً، حين يقال: "لا يريد الله أن يهلك أحد، بل يأتي الجميع إلى التوبة" (2 بط 3: 9)، فالسياق (2 بط 7:3) يدلّ على أن هذا المشروع لا يتم (فهناك من لا يتوبون). هناك غاية يرغب فيها الله فيأخذ الخطوات اللازمة لتحقيقها. هذا شيء. وهناك شيء آخر حين نقول إن هذا يتمّ حتمًا.
ثانيًا: إن مشروع الله يتمّ جزئيًا عبر مشاركة البشر. وقد دُعي المؤمنون هنا لأن يكونوا صالحين، لأن يبنوا بعضهم بعضًا (5: 10- 11). عليهم أن يعملوا شيئًا لأنهم في الجهة "الرابحة". ولكن هذا لا يعني أن يبقوا فيها إن هم لم يلعبوا دورهم. نودّ أن يُقال لنا أنهم سيلعبون دورهم حتمًا. ولكنه لا يُقال.
ثالثًا: لا شك في أن القبول لا يتضمّن المجهود البشريّ. رج أف 1: 14 الذي يتحدّث عن ميراث نتقبّله. ولكننا لسنا هنا أمام ميراث نأخذه. بل إن الله تصرّف بحيث إن المؤمنين يتقبّلون الخلاص (وقد يرفضون).
رابعًا: إذا كان كلام بولس يعني التهيئة المسبقة التي لا تحسب حساب جواب الانسان، فهو يتضمّن أيضًا أن هناك شعبًا معدًا للغضب مسبقًا بمعزل عمّا يعملون، لأنهم أعدّوا مسبقًا للخطيئة ولاختبار الغضب. هنا يخاف بولس أن يأتي يوم الرب ولا يكون قرّاؤه مستعدّين إزاء الله. فيؤكّد لهم أنهم لا يحتاجون أن يعرفوا تاريخ المجيء ليتهيّأوا له. فإن كانوا مسيحيين، وجب عليهم أن يكونوا في حالة استعداد لئلاّ يصبح ذلك اليوم يوم الحكم على الخطيئة. هناك خطر أن "ينام" المسيحيون بحيث يأخذهم ذاك اليوم غفلة مثل اللامؤمنين. فليحذروا. إن الله يريد خلاصهم، وقد أعطاهم عددًا من الوسائل التي تكفل هذا الخلاص. فيبقى عليهم أن يعيشوا في الثقة والايمان والسهر.

4- النداء إلى الخلاص
ونصل الآن إلى الوسائل الأخرى التي استعملها بولس لكي يشجّع قرّاءه ويحرّضهم. فالفكرة التي تقول إن الشعب "مدعوّ" من الله، أمر معروف لدى بولس. فالفعل قد عنى باكرًا دعوة (نداء) إلى الخلاص ببشارة الانجيل. والخلاص يرتبط في نظر بولس بالله الذي يدعو، لا بالأعمال. هنا يُطرح السؤال: هل يعني هذا النداء، تأكيدًا على الخلاص النهائيّ، وكأنّنا لا نحتاج إلى جواب الانسان؟ إن نظرة سريعة إلى استعمال هذه اللفظة تكفي لكي نستبعد مثل هذه الامكانيّة.
أ- 1 تس 12:2
على القرّاء أن يعيشوا بطريق تليق بالله الذي دعاهم إلى ملكوته ومجده. فهدفُ هذا النداء هو اسكاتولوجيّ، ملكوت الله ومجده. ونحن أمام دعوة للمشاركة. إن اسم الفاعل (داعيًا إياكم) يدلّ على أن النداء هو مسيرة ديناميكيّة عبر حياة المؤمنين. فالله يجعل أمامهم هذا الرجاء بشكل متواصل. هي دعوة. ولكن من الواضح أن على القرّاء أن يعيشوا بطريقة تتيح لهم أن يبلغوا هذا الهدف.
ب- 1 تس 4: 7
قال بولس إن الله لم يدعنا إلى النجاسة، بل إلى القداسة. فصيغة الماضي تدلّ على نداء أوّل إلى شكل حياة جديدة قد بدأ في السابق لدى القرّاء، وهو يتواصل حتى الآن. هذا يعني أن الانسان يقدر أن يسير عكس هذا النداء. فالامكانيّة التي تقول بأن الله يدعونا إلى النجاسة، هي فقط طريقة بلاغيّة (هي مستحيلة). عاد بولس إلى نمط من العمل اللاأخلاقي الذي كان تجربة حقيقيّة بالنسبة إلى قرّائه. لهذا وجب عليه أن يقول لهم في الواقع: "قد يتخيّل بعضكم أن نداء الله يوجّههم إلى حياة من النجاسة. ولكن هذا بعيد كل البعد عزل الحقيقة. والوصيّة التي أوصاكم بها هي من أجل حياة في القداسة".
ج- 1 تس 5: 24
استُعملت هنا صيغة الحاضر (كما في 2: 12). فالله ما زال يدعو القرّاء الآن ويلحّ عليهم من أجل الهدف النهائيّ. هذا يعني أن الله يدعوهم إلى القداسة (7:4). يدعوهم ليشاركوا في الملكوت والمجد. لهذا فهو يريد أن يجعلهم قدّيسين ويحفظهم بغير لوم إلى ذلك اليوم.
وهكذا نرى أربعة عناصر في لغة الدعوة والنداء. (1) نداء أول عبر الانجيل ونداء متواصل إلى الايمان. (2) غاية الفداء هو الخلاص النهائيّ. (3) الحاجة إلى جواب في طريقة الحياة، يتناسب مع الله الذي يدعو. (4) الوعد بأن الله الذي يدعو هو أمين فيمنح لشعبه الوسائل لكي يتجاوب مع هذا النداء. هنا تبرز مسألة "النداء الفعلي"، ونحن ننظر إليه في سياق نصوص تتحدّث عن صلاة بولس.

5- نصوص حول الصلاة
تتضمّن 1 تس نصّين عن الصلاة. جعل بولس كلمات صلاته في الرسالة بحيث يعرف القرّاء لماذا يصلّي.
* وظيفة الصلاة الأولى واضحة: يتمنّى بولس أن يزور قرّاءه لكي يقوّيهم ويشجّعهم، وأن يكون له فرح اللقاء بهم. بعد ذلك يصلّي من أجل نموّهم في القداسة بحيث يكونون بلا لوم في المجيء. إن جزئي هذه الصلاة يرتبطان بالنموّ والثبات في الحياة المسيحيّة. وهما يعبّران عن حبّه لهم وعن يقينه بأن الله يستطيع أن يعمل في هذا الوضع لكي يتمّ مقصده. ويقدّمان أيضًا بعض الارشاد: كيف يجب على القرّاء أن يعيشوا.
ويتواصل عنصر الارشاد بتحريض أخلاقي. ألحّ الرسول على القرّاء بأن يجاهدوا لكي يعيشوا في الطريقة التي فيها يصلّي بقدر ما يتيح الله لهم أن يعيشوا. إن هذا المزج بين الصلاة والتحريض يميّز 1 و2 تس. وهو يبيّن أن بولس يمسك في يد واحدة الوجهة البشريّة والوجهة الالهيّة في الحياة المسيحيّة، مع طابع البناء بدون توتر ولا فظاظة.
* ونقول الملاحظات عينها في ما يخصّ الصلاة الثانية. يسبقها إرشاد، فيربطها مباشرة بالوصيّة في 22:5. وهي تلخّص تمنّيات بولس لقرّائه على ضوء الرسالة كلّها. فعلى القرّاء أن يمتنعوا عن كل أنواع الشرّ. وشجّعهم بولس لأن يفعلوا هذا، وهم عارفون أن الله يتوخّى تقديسهم كليًا، وحفظهم بلا لوم. وهكذا نكون أيضًا أمام صلاة فيها يشارك بولس قرّاءه بحيث يعرفون أنه يصلّي من أجلهم. وفي الوقت عينه، هذه الصلاة هي في جزء منها إرشاد يعلن بوضوح غاية الحياة المسيحيّة.
ما يشدِّد عليه الرسول هو حفظ القرّاء حتى المجيء. وهم يستطيعون أن يثقوا بأن الله يعمل "ما عليه". هكذا نتكل على إرادته من أجل المؤمنين. إن صورة الله الذي يدعو هي في محلّها، لأن نداء الله الأول توخّى مشاركتهم له في ملكوته ومجده (2: 12). لهذا، إن كان الله منطقيًا مع هذا النداء، فهو يعمل الضروريّ لكي يقدّس شعبه ويحميه حتى يصل إلى الغاية التي جعلها له.
6- تعليم 2 تس
تعليم 2 تس هو في جوهره تعليم 1 تس. وهو يُبرز الضغط الخارجيّ على القرّاء. ويقدّم عنصرًا جديدًا هو خطر تعليم خاطئ حول يوم الربّ.
أ- تكونون أهلاً لدعوتكم (2 تس 1: 11-12)
نحن في هاتين الايتين أمام نصّ فيه يصلّي بولس لأجل قرّائه المضطهَدين، لكي يجعلهم الله أهلاً لدعوتهم، ويكمّل رغباتهم الصالحة، وكلَّ عمل بدأ بالايمان في حياتهم. هذه الارادة (الالهيّة) تقود إلى تمجيدهم ولاسيّما في المجيء. إن عبارة "جعلكم أهلاً" تحتاج إلى بعض تفسير. فهناك جملة مشابهة نقرأها في 1: 5 (تؤهَّلون لملكوت الله)، وفيها يتحدّث بولس عن قرّائه الذين اعتبروا أهلاً للملكوت الذي لأجله يتألّمون. الفكرة هنا هي جزء مناسب للذين يتألمون. فالثبات في الاحتمال يؤكّد أن هؤلاء الناس هم مؤمنون، وبالتالي أهِّلوا لأن يُقبلوا في الملكوت.
في 1: 11، قد تعني الفكرة أن الله اعتبرهم أهلاً لهدف دعوتهم، فجاء بهم إليه. أو أنه سيجعلهم أهلاً لذلك. ويتبع هذا الطلبَ طلبٌ آخر يدعو فيه الله بأن يملأهم بالنوايا الصالحة والأعمال الحسنة. هذا ما يشير إلى أن الفكرة هي أن الله يؤهّلهم لملكوته فيملأهم بالصفات المناسبة.
ولكننا نجد هنا التوتّر الذي ميّز 1 تس. من جهة، صلّى بولس لكي يتمّ هذا. ففي معنى من المعاني، ترتبط النتيجة بصلاة بولس. ومن جهة ثانية، لا يمكن أن ترتبط النتيجة ارتباطًا كليًا بصلاة بولس. في هذا الإطار تكون الصلاة جزءًا من الإرشاد. فعلى القرّاء أنفسهم أن يعملوا ما هو ضروريّ لكي يصيروا أهلاً لنداء الله. نجد جوهر هذه الفكرة في 1 تس 2: 12، حيث يعلن بولس أنه حضَّ قرّاءه ليحيوا حياة تليق بالله الذي دعاهم. وتشير الفكرة هنا بوضوح إلى حياة تتجاوب مع النداء المجّاني والحياة بحسب ما يطلبه الله. إن العودة إلى الله الذي هو ذاك الذي يدعوهم إلى ملكوته ومجده، تعلن أن الذين تجاوبوا مع ندائه يُقبلون لديه.
وهكذا يكون لنا عمل الله في حياة القرّاء، وصلاة بولس من أجلهم، ومجهودهم لكي يحيوا حياة تليق بالله. نستطيع القول إن الله نفسه حثّ بولس المؤمنين على الصلاة، والقرّاء على حياة لائقة من أجل تنفيذ مقصده. غير أن بولس لم يقل إن الله حدّد مسبقًا كل ما سيحصل.
ب- اختاركم الله من البدء (2 تس 13:2-14)
أعلن بولس في 2 تس 13:2-14 أن عليه أن يشكر الله بلا انقطاع من أجل قرائه، أحبّاء الربّ. فالله اختارهم من البدء من أجل الخلاص بواسطة التقديس والايمان. وهكذا دعاهم بواسطة الانجيل الذي كرز به بولس للحصول على مجد ربّنا يسوع المسيح.
نجد ارتباطًا في الأفكار قد تعوّدنا عليه: محبّة الله. اجتمع الاختيار والدعوة بالانجيل، مع الخلاص والمجد الاسكاتولوجيّ. فالاختيار هو قرار إلهيّ. والدعوة هي تأوين للاختيار في خبرة القرّاء. نبّه بولس إلى فعل النداء، ليسند واقع الوضع المسيحيّ، ويشجّعهم لكي لا ينتموا إلى جماعة اللامؤمنين والمضلّلين. والخلاص يوجّهنا إلى التمجيد الأخير. وهكذا نكون أمام ثلاث محطّات في هذه المسيرة: الاختيار، الدعوة، الخلاص الأخير.
اللغة المستعملة هنا تشير إلى أدن القرّاء جاؤوا إلى اسرائيل الله. صوِّروا على أنهم أحبّاء الرب. هي العبارة التي قرأناها في 1 تس 1: 4، مع العلم أن لفظة الربّ تشير هنا إلى يسوع. إن فعل "ايريوماي" الذي استُعمل هنا للحديث عن اختيار الله، غير مستعمل عادة. ولكن الكاتب عاد إلى اختيار شعب اسرائيل في العهد القديم كما في تث 18:26؛ رج تث 7: 6-8؛ 10: 15.
الهدف من هذا الكلام هو تقوية إيمان القرّاء والتأكيد لهم بالخلاص النهائي، تجاه الذين أرسل إليهم الله روحَ ضلال. لمّد اختار الله القرّاء منذ البدء، ودعاهم بتبشير بولس بالانجيل. سينالون الخلاص حين ينالون المجد النهائيّ. وهكذا انتقلت الحياة المسيحيّة من الاختيار إلى الخلاص.
تطلّع بولس إلى الوضع الحاضر لقرّاء يدلّ على إيمانهم بأفعالهم، تجاه الذين عارضوا الله ورفضوا الانجيل والخلاص. كان مخطّطه لهم مختلفًا. وشدّد بولس أن عليهم أن يثبتوا في الايمان ويتمسّكوا بالانجيل. والخطأ الذي يقعون فيه يدلّ على أنهم ضلّوا. وصلّى بولس إلى الله لكي يقوّيهم في 2: 16-17. وهكذا نكون أمام المفارقة التي نجدها في 1 تس 23:5-24 حيث التحريض للقرّاء والصلاة إلى الله يقفان جنبًا إلى جنب. ما فعله بولس هنا هو التأكيد لقرّائه أن حياتهم المسيحيّة الحاضرة هي العلامة أنهم يخصّون الله وأنهم يستطيعون أن يثقوا به لكي يوصلهم إلى هدفهم الأخير. هناك تعارض كبير بين القرّاء والضالين. ويستحيل أن نتجنّب الشعور أن لبولس ملء الثقة بقرّائه، ولكنه يحتاج أن يقول لهم بعد أن يبقوا ثابتين.
ج- الرب يثبتكم ويحفظكم (2 تس 3:3)
إن هذه القطعة تتضمّن تأكيدًا يقوله "إن الرب أمين وهو يحفظكم من كل شر" هذا لا يعني أن الشرّ لن يهاجمهم، بل أن هجومه لا ينفع، يكون باطلاً. هذا يتوافق مع اعتقاد بولس بأنه ليس من تجربة تقوى على المؤمنين (1 كور 10: 13).
هذا الكلام يجد مكانه في سياق يقول (1) إن التهرّاء هم شعب يفعل ما يقوله بولس. (2) إن بولس يصلّي لأجلهم لكي يحيوا حياة مستقيمة. ففي السياق المباشر، جاء تمنّي بولس أن يصنعوا ما يقوله في الصلاة لأجلهم. فالرب يقوّيهم حتى يصلّوا من أجله.
وهكذا نكون مرّة أخرى مع تأكيد حول ما يريده الربّ والحاجة إلى الصلاة من أجل عيش بحسب الانجيل. هذا ما يُنتج ثقة للذين جعلوا رجاءهم في الرب ساعة التجربة.

خاتمة
وهكذا وصلنا إلى النقاط التالية
1. إن لغة الاختيار والدعوة مسيطرة في 1 و 2 تس. فهي تشكّل خطًا رئيسيًا في بنية لاهوتهما.
2. إن جوهر تعليم الرسالتين هو هو. ليس هناك من تبدّل في مفهومهما. وليس هناك ما يفرض وجود كاتبين اثنين.
3. إن لغة الاختيار تؤكّد للمرتدّين الوثنيين أنهم ينتمون إلى شعب الله المختار. هذا يعني أن وضعهم هو جزء من مخطّط الله الذي تضمّن دعوة اليهود ليكونوا شعب الله. لهذا، لا حاجة إلى تبديل مخطّط الله ليدخلهم في شعبه.
4. على هذا الأساس استعمل بولس لغة الاختيار ليشجّع قرّاءه أمام الاضطهادات والتجارب والمجيء الذي لا يعرفون متى يكون. بما أن الله اختارهم ودعاهم، فليعرفوا أنهم يحتاجون نعمة لكي يتحاشوا السقوط.
5. يرتبط الاختيار ارتباطًا خاصًا بالثبات. وقد توخّى بولس أن يشجّع قرّاءه لئلا يسقطوا. غير أن الثبات ليس أمرًا آليًا (فقد نسقط). وبولس يصلّي من أجل المرتّدين لكي يكمل ثباتُهم ويصل إلى المنتهى. وتلعب صلاته وظيفة إرشاد كوسيلة ترسم طريقة حياة يحاولون أن يعيشوها. ويقدّم أيضًا لقرّائه تعليمًا حول ضرورة إظهار إيمانهم وطاعتهم. ولا يرى بولس انشدادًا حين يتكلّم عن عمل الله الروحي في حياتهم ونشاطهم على مستوى الايمان والمحبّة. ويؤكّد لهم أن ما يعمله الله في حياتهم يرافقه نداؤه إليهم ليعيشوا حياة تليق بالدعوة التي دُعوا إليها.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM