الفصل الخامس عشر: الكنيسة في إنجيلَيْ لوقا ومتّى

الفصل الخامس عشر
الكنيسة في إنجيلَيْ لوقا ومتّى

الكنيسة حاضرة في كل مكان من العهد الجديد، حتى حيث لا ندرك واقعَها بواسطة الصور والمفاهيم. فكتابات العهد الجديد وُلدت في قلب الكنيسة وشكّلت شهادة جماعيّة عن وجودها وحياتها. لاشكّ في أن كتّاب العهد الجديد دوّنوا ما دوّنوه في عزلة "بيتهم". ولكنهم دوّنوه على أنهم أعضاء في هذه الجماعة، ولخدمة هذه الجماعة التي ينتسبون إليها. هذا ما فعله الانجيليون، وهذا ما فعله بشكل خاص لوقا ومتى. ما هي نظرة لوقا إلى الكنيسة، ما هو مفهوم الكنيسة عند متى؟

1- نظرة لوقا إلى الكنيسة
قدّم لوقا في مؤلّفه (الانجيل وأعمال الرسل) لاهوتًا عميقًا عن الكنيسة، خصوصًا حين ربط "الكنيسة" بـ "التاريخ"، وحدّد زمن الكنيسة ومهمّاتها بين صعود يسوع إلى السماء (لو 9: 51؛ أع 1: 2- 11، 22) وعودته إلى الأرض (أع 1: 11؛ لو 21: 27-28). وفي هذا المجال، تبدو بداية سفر الأعمال غنيّة جدًا بالمعلومات. ففي الجملة الأولى يجول لوقا بنظره في "نشاط وتعليم" يسوع كما صوّرهما في "كتابه الأول"، فيميّز هكذا بين "زمن يسوع" و"زمن الكنيسة". إن هذه الحقبة التي تبدأ مع انفصال الرب عن تلاميذه، ترتبط بالمهمّة التي كلّف بها الرب القائم من الموت، تلاميذه الباقين على الأرض. وهذا ما يحدّده فم الملاك في أع 1: 11: "إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقًا إلى السماء". فالفداء قريب. غير أن مرحلة "تاريخ الكنيسة" تتميّز بالرسالة الموكلة إليها. لقد قال يسوع قبيل صعوده: "ستكونون لي شهودًا في أورشليم، في كل اليهودية والسامرة وحتى أقاصي الأرض" (أع 1 :8). فالسياق الذي تدخل فيه كلمات يسوع هذه، تدلّ على ارتباطها بنظرة كنسيّة. فقد كان التلاميذ سألوه: "أفي هذا الزمان تردّ الملك لاسرائيل" (أع 1: 6)؟ بدأ الرب يرفض سؤالاً يدلّ على الزمن والتاريخ. "ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي أقرّها الآب بسلطانه الخاص" (آ 7). هذه الجملة تترك المدى الزمني أمامهم غير محدّد، وتقطع الطريق على أسئلة أخرى حول الموضوع، فتذكّر بسلطة قرار الآب. هي لم تكن وليدة الصدف. ونحن نتذكّر أسئلة مماثلة طُرحت في إنجيل لوقا (17: 20؛ 19: 11؛ 7:21؛ 24: 21). فهي تمنع كل حساب يستبق نهاية الازمنة (لو 17: 20- 21) وتخفّف من حمّى مفرطة لانتظار قريب (لو 81: 24: إلى أن تتمّ أزمنة الأمم)، وتعطي الكنيسةَ الطمأنينةَ والثقة من أجل رسالتها. وهذا الجواب يصحّح أيضًا بطريقة ضمنيّة نظرة التلاميذ التي جعلها العالم اليهودي ضيّقة (19: 11؛ 24: 21). فمهمتّهم لا تنحصر في أورشليم بل تمتدّ إلى "أقاصي الأرض".
هنا نكتشف الاهتمامات الكبرى عند لوقا اللاهوتي: ما يهمّه هو وضع الكنيسة في إطار التاريخ، والأعمال التي تقوم بها حسب مشيئة الله. لا يمتلك لوقا نظرة محدّدة عن الكنيسة، ولكن المحور الذي ينطلق منه ليوسّع نظرته التاريخية هو الكنيسة التي تؤمن بيسوع المسيح. إرتبط ارتباطًا وجوديًا بالكنيسة وكتب واضعًا نصب عينيه الصورة الحيّة التي يحملها في ذاته عنها. ويُبرز هذه الصورةَ، فيرسم بداياتها وصيرورتها ونموّها، يرسم عمق تاريخها.
سنحاول هنا أن نتوسّع بعض الشيء في نظرته إلى تاريخ الخلاص، وفي طريقة فهمه للكنيسة على أنها الواقع العميق لتاريخ الخلاص.
أ- تاريخ الخلاص
زمن الكنيسة هو الحقبة الثالثة الكبرى في تاريخ الخلاص. الحقبة الأولى هي زمن اسرائيل: تتميّز "بالشريعة والانبياء" وتمتدّ إلى يوحنا المعمدان. "ومنذئذ يبشَّر بملكوت الله" (لو 16: 16). إن الذي يمنح في الأردن عماد التوبة يؤمّن الانتقال مع زمن الخلاص (رج أع 13: 24) الذي فيه يعمل يسوع المسيح الذي مسحه الروح (لو 18:4 ي). منتصفُ الوقت يُدخل زمن الكنيسة كحقبة ثالثة في تاريخ الخلاص. هذه الملاحظة هي مهمّة بالنسبة للاهوت الكنيسة، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: يحدَّد موقع الكنيسة في امتداد مقاصد الله والتهيئات الالهية للخلاص. فموقع اسرائيل القديم هو جماعة خلاص يحمله يسوع في زمانه. والكنيسة كانت محمولة في الوقت عينه على كتف اسرائيل. المواعيد التي أعطيت لاسرائيل برزت بشكل خاص في أخبار الطفولة (لو 1: 32-33، 54- 55، 68-75)، وانتظار الاسرائيليين الاتقياء الذين عاشوا في تلك الحقبة (لو 1: 76-77؛ 2: 25-35)، كل هذا وجد تتمته في يسوع وفي الكنيسة. موقف لوقا موقف إيجابي بالنسبة إلى شعب الله القديم (لو 1: 18-77؛ 2: 10-32؛ 16:7، 24: 14؛ أع 4: 10؛ 17:13:13). وهو لم يورد الكلمة حول تقسية القلوب إلاّ في نهاية مؤلّفه (أع 26:28-27) وبعد أن رفض القسم الأكبر من اسرائيل أن يؤمن بيسوع.
ثانيًا: إن الإطار الجغرافي لنشاط يسوع ورسله، يُبرز أولويّة اسرائيل في تاريخ الخلاص (أع 3: 26: لأجلكم أولاً..."؛ 13: 17). فالمدينة المقدسة أورشليم، تقع في قلب مسيرة التاريخِ وفيها يتمّ مصير المسيح كما تمّ مصير الانبياء، حسب تدبير الآب. حدثَ حدثٌ لا يصوّر: أن تقتل مدينة الله الأنبياء وترجم المرسلين إليها (لو 24:13). ولكن "لا يليق أن يهلك نبيّ خارج أورشليم" (لو 13: 33). لهذا شكّل صعودُ يسوع إلى أورشليم قلب الانجيل (9: 51؛ 19: 27). وقد قام يسوع بهذا الصعود بعزم وصلابة وهو واع لما ينتظره هناك (9: 51). أورشليم هي موضع الدراما الدموية. وهي أيضًا الموضع الذي فيه ظهر القائم من الموت على التلاميذ (لو 33:24-42). ومنها سينطلق الانجيل فيمتدّ إلى العالم كله. وعبارة "ابتداء من أورشليم" هي مهمّة في نظر لوقا أهميّةَ عبارة: "في جميع الأمم" (لو 47:24). يقوم مخطط الله الخلاصي بأن يقاسي المسيح الموت قبل أن يدخل في مجده (لو 24: 26- 46). ويقوم هذا المخطّط أيضًا بأن ينتقل فيه الخلاص نفسه إلى الأمم، بعد أن رفض اليهود أن يؤمنوا. هذا ما يعبّر عنه تقليد خاص بلوقا: في بداية ظهور يسوع رذله أهله في الناصرة (لو 4: 24-27). ولقد حاول لوقا أن يبرّر في مؤلَّفه (الانجيل والأعمال) هذه الفكرة انطلاقًا من الوقائع: تتأسّس شمولية الخلاص في مشروع الله على المهمّة التي أوكلت إلى يسوع، في مسيرة تاريخ الخلاص.
ثالثًا: لقد تمّت في يسوع النبوءات المسيحانية التي أعلنت في الحقبة الأولى من تاريخ الخلاص (لو 18:4- 21: "اليوم تمت"؛ 7: 21-23: "أعلما يوحنا بما سمعتما ورأيتما"). وكذلك شكّل زمنُ الكنيسة زمن التتمة: ففيض الروح في العنصرة هو من جهة، الحدثُ الاسكاتولوجي الذي أعلنه النبي يوئيل (أع 2: 16- 21). وهو من جهة ثانية الوفاء بوعد قام به الرب لتلاميذه ساعة كان ينفصل عنهم. قالت إنه سيرسل إليهم "قوّة من العلاء" (لو 24: 49؛ أع 1 :8). فعطيّة الروح التي وُهبت للجماعة في زمن العنصرة، توافق مع ما يليها مسحةَ المسيح بالروح لزمن نشاطه على الأرض (لو 4: 14-- 18؛ أع 10: 38). فزمن يسوع يجد امتداده في زمن الكنيسة. بل إن زمن الكنيسة يتوسّع في ما وعد به زمن يسوع، وكل هذا يتأسَّس على تمجيد يسوع وتثبيت قدرته (أع 2: 34-36) وموهبة روحه. فلا انقطاع بين زمن يسوع وحقبة الكنيسة: فالانجيل يُعلن هنا وهناك، بعد أن اغتنى بعد الفصح بتعليم يسوع المسيح المصلوب والقائم من الموت، والرب الممجَّد. فقوى السيادة الالهية (أي: الروح القدس) التي دخلت مع يسوع، صارت فاعلة بشكل واسع عبر الزمان والمكان. وهذا ما يجب أن نلاحظه أيضًا بالنسبة إلى لوقا: فالكنيسة هي في العالم مجال المسيح الممجّد إلى أن يأتي في المجد. وكل هذا يتمّ بشكل أكيد، لاسيّما وأن. مواعيد يسوع الأولى قد وصلت إلى كمالها.
ب- وجه الكنيسة
وإذا أردنا أن نتعرّف إلى وجه الكنيسة، نلاحظ أيضًا مدلول كلمات يسوع في تلاميذه في العلّيّة (لو 22: 21-38). فقد جمعها لوقا ولاشكّ، من أجل الجماعة المقبلة التي هي في نظره امتداد مباشر لمجموعة التلاميذ التي تحيط بيسوع. لن نعالج الموضوع كله، ولكننا نكتفي بابراز النقاط التالية:
أولاً: إن الاحتفال بالافخارستيا هو النظام الذي أعطاه يسوع قبل الدخول في آلامه إلى كل زمان الكنيسة. فبالافخارستيا يظلّ يسوع متحدًا بجماعة التلاميذ حتى "تتمة" المشاركة في هذه الوليمة في ملكوت الله. ويمنح الكنيسةَ بشكل دائم ثمارَ الخلاص التي يقدّمها موته الدموي (يُبذل لأجلكم، لو 22: 19). هذا هو أمره الواضح الذي تنفِّذه "لذكره". ولهذا يرى لوقا أن "كسر الخبز" الذي هو امتداد على مستوى آخر للمشاركة في الطعام مع يسوع يوم كان على الأرض (لو 24: 30- 31)، هو قلب الحياة الدينيّة في الكنيسة الأولى، وينبوع بهجتها الاسكاتولوجيّة (أع 2: 46). ولكن هذا "الكسر" يفرض علينا أيضًا الأمانة للرب (ولكن هناك الخائن الذي يسلم يسوع، لو 22: 21-22)، والثبات في التجارب، والمحافظة على المشاركة الاخوية التي تدلت عليها وليمةُ المحبّة (لو 22: 24-27؛ أع 2: 42).
ثانيًا: مع أن الفرح يُنعش الكنيسة في الداخل، ومع أن الروح القدس يُرسل عزاءه (أع 31:9؛ رج لو 13:11؛ 12:12)، فزمنُ الكنيسة يتميّز بالمحن والآلام والاضطهادات. فجماعة المسيح تعرف الجهاد والضيق. وحسب لو 22: 31، لقد طلب الشيطان أن يغربل التلاميذ كالحنطة. وفي الآلام عاد الشيطان. كان الرب قد أبعده في بداية ظهوره العلني (لو 4: 1- 13) وداسه حين طرد الأرواح النجسة (لو 10: 18). أجل، لقد عاد الشيطان من جديد على المسرح (لو 3:22-53). وقد أعطي الآن سلطانًا أن "يغربل" التلاميذ ليجعل ذنوبهم تمرّ في الغربال: لقد وصل حتى إلى "القديسين" في أورشليم، وهو يستطيع أن يملأ بخبثه قلب حنانيا (أع 3:5). فأقوال يسوع الخطيرة نفسها (لو 36:22-37) تعني الزمن المقبل. وهي تشير من خلال الصور إلى الضيق والجهاد. وهذا ما يتوافق مع كلمات قالها يسوع في الماضي حول الاضطهاد ومصير التلاميذ، وفهمها لوقا عن وضع الكنيسة في الازمنة اللاحقة (لو 22:6-23؛ 49:11 ي؛ 12:: 14-12؛ 25:14 ي؛ 21: 12-19). ففي زمن الكنيسة تسري شريعةٌ تفرض علينا أن نتبع يسوع بالصليب إلى المجد. "علينا أن نمرّ في مضايق عديدة لكي نبلغ إلى ملكوت الله" (أع 22:14؛ رج لو 26:24). فالكنيسة هي في زمن الضيق والاستشهاد (أع 7: 54-60) إلى أن يأتي ملكوت الله. وهي أيضًا في زمن المحنة التي تحتملها في صلاة متواصلة: "صلّوا كل حين لكي يتهيَّأ لكم أن تنجوا من جميع ما هو مزمع أن يكون، وأن تظهروا آمنين بين يدي ابن البشر" (لو 36:21). وسيقول يسوع لتلاميذه في جتسيماني: "صلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة" (لو 40:22، 46؛ رج أع 29:4-30؛ 12:12؛ 20: 36؛ 21: 5).
ثالثًا: والحديثُ خلاله العشاء السري يتيح لنا أن نتعرّف إلى التكوين "الرسولي" للكنيسة. فكلمة لو 28:22 ي (ثبتُّم معي في محنتي، أنا أعدّ لكم الملكوت) تتوجّه بشكل خاص إلى "الاثني عشر". وكلمة أ 31-32 تتوجّه إلى سمعان بطرس. إن كنا لا نجد ضوءًا كافيًا على وضع "الاثني عشر" في قلب الجماعة الاولى، إلاّ أنهم يتصدّرون الكنيسة. هم الذين ظلّوا دائمًا مع يسوع في تجاريبه، فمنحهم لذلك "السيادة" في الآخرة. سيجلسون على عروش ويدينون أسباط اسرائيل الاثني عشر. ولكن مهمّة سمعان الخاصّة تقوم بأن يشدّد إخوته في الايمان، لا بقدرته الخاصّة، بل بفضل صلاة يسوع. حين يورد لوقا لفظة "إخوة" فهو يتطلّع إلى الجماعة (أع 1: 15؛ 3:6؛ 17:9-30؛ 10: 23...). وفي الواقع، إن صورة بطرس في أع 1-12 هي صورة الرئيس والمتكلّم باسم الجماعة الاولى، وهذا ما يوافق الكلمة التي قيلت في العليّة. لاشكّ في أن وضعه في تراتبية الكنيسة لا يظهر بعدُ بوضوح، ولكن مكانته ظاهرة جدًا في داخل كنيسة أورشليم.
رابعًا: ونتساءل في النهاية كيف يفسّر لوقا الوظائف التراتبيّة في الجماعات من خلال مشهد وداع يسوع لتلاميذه. لقد لفت نظرنا دائمًا أن الانجيل الثالث، وهو وحده، يجعل في العلية "الجدال حول الاماكن الاولى" بين التلاميذ (22: 24-27). فإن قابلنا كلمة يسوع حول "الخدمة" (من زاوية خاصة جدًا) مع خدمة الموائد المذكورة في أع 6: 2، نجد المحيط الحياتي لمضمون التقليد كما يظنّه لوقا: لقد كتب لوقا أيضًا بالنظر إلى الظروف التي تعيش فيها الكنيسة الأولى، فدلّ في آ 26 (هيجومينوس، مدبّر، متقدّم، رج أع 15: 22) على الرؤساء الذين سيهتمّون بخدمة الموائد. وهو يعني بذلك مهمّة الذين لهم رتبة ومهمّة في الجماعة. ولا يذكر لوقا فقط "السبعة" وخدمة الموائد (6: 1-6)، بل الشيوخ الذين أقامهم بولس في الجماعات الرسولية (أع 14: 22؛ رج 20: 17) من أجل وظائف مماثلة. ونزيد على ذلك مقاطع انجيلية ترتبط برعاة الكنائس في الحقبة اللاحقة. "هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى؟ أوليس كلاهما يسقطان في حفرة؟ ليس تلميذ أعظم من معلّمه. كل تلميذ كامل يكون كمعلمّه" (39:6- 40). كلام يتوجّه إلى الفريسيين في الدرجة الأولى ثم إلى المسؤولين في الكنيسة. ونقرأ في لو 12: 39-40: "إعلموا جيّدًا لو عرف ربّ البيت في أيّة هجعة يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته ينقب. فكونوا أنتم أيضًا مستعدين...". كلام يتوجّه إلى المسؤولين، جعل بطرس يقول ليسوع: "ألنا تقول هذا المثل أم للجميع" (آ 41)؟ أجل، بطرس (ورفاقه) هو "الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيّده على خدمه ليعطيهم قسمتهم من الحنطة في حينها" (آ 42). إن لوقا يطلب من هؤلاء المسؤولين (حسب كلمات يسوع) استعدادًا للخدمة و "أمانة في الامور الصغيرة" (لو 16: 10؛ 19: 17). هو يشدّد على مسؤوليّتهم دون أن يتوقّف عند التنظيم الخارجي وتوزيع المهام.
ج- خاتمة
ويقدّم لنا لوقا صورة عرفتها المسيحية الاولى، هي صورة الرعيّة أو القطيع. ففي لو 12: 32، يسمّي يسوع جماعته: "القطيع الصغير". صورة عرفها العهد القديم وطبّقت فيما طبّقت على مجموعة التلاميذ (رج مت 26: 31. أضرب الراعي فتتبدّد الخراف). كما طبّقها بولس في سفر الأعمال على جماعة أفسس وغيرها من الجماعات. قال: "احذروا لأنفسكم، ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي افتداها بدمه. وإني لعالم أنه بعد فراقي، سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على القطيع" (أع 28:20- 29).
ومع هذه الصورة نكون اكتشفنا عند القديس لوقا زمن الكنيسة وبُعدها ورسالتها وسيرتها في الآتي من أيام.

2- مفهوم الكنيسة عند متى
وننتقل إلى متّى فنتعرّف إلى مفهوم الكنيسة عنده. الكنيسة هي شعب الله الجديد، ولها شريعة خاصة بها. الكنيسة مطبوعة بالشموليّة فلا تنحصر في جماعة واحدة أو شعب واحد، وإن خرجت في بدايتها من العالم اليهودي. وفي النهاية نتوقّف عند بنية الكنيسة الداخليّة التي هي اليوم على مثال ما كانت في عهد الرسل. هناك المؤسسة وهناك الأشخاص مع ضعفهم وعجزهم وخطيئتهم. ولكن الرب يبقى مع كنيسته إلى انقضاء الدهر.
أ- شعب الله الجديد
إن مسألة "اسرائيل" التي وجدت عند لوقا حلاً جوهريًا من الوجهة التاريخية (دمار أورشليم 70 ب. م)، ومن جهة تدبير الخلاص (أع 28: 25- 28: خلاص الله أرسل الى الأمم)، ما زالت موضوع جدال في إنجيل متى. فموقفه يرتبط بحلقة قارئيه الذين يبدون بأكثريتهم من المسيحيين الآتين من العالم اليهودي: لاشكِّ في أنهم تجاوزوا كل خاصانيّة وطنيّة عاطفيّة. ووجدوا طريقهم في أبعاد الجماعة الشاملة، في أبعاد الخلاص بيسوع المسيح. فإذا أخذنا بعين الاعتبار هاتين الوجهتين، أي الأصل اليهودي ونظرة الشمول، نستطيع أن نفهم المواضيع الكنسيّة في إنجيل متى. وهي: الجدالات مع العالم اليهودي اللامؤمن مع خاصانياته وعودته إلى الشريعة وتتمتها في إطار الناموس. وافتخاره بأنه كان الشعب الأمين. وبحثه عن استحقاقات تجعل الله له مدينًا. كل هذا كوّن "وعيًا كنسيًا" نكتشفه في الانجيل الاول. وهذا الوعي جعل الكنيسة تفضّل إنجيل متى وتسمّيه "إنجيل الكنيسة".
أفضل طريق نتّخذها هي أن ننطلق من مت 43:21 الذي هو آية لافتة في مثل الكرّامين القتلة (رج آ 41): "لهذا أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُدفع إلى شعب يستثمره". إن ضمير المخاطب الجمع (لكم) لا يقدر أن يتوجّه إلى اسرائيل القديم، حتى وإن هاجم المثل بشكل خاص رؤساء الشعب (الذين سلّم إليهم الكرم، رج أش 7:5). ففي نظر متّى، كل الشعب يشارك في مسؤولية رذل يسوع المسيح وصلبه (رج مت 27: 25: فأجاب الشعب كله). إن "ملكوت الله ينزع" من هذا الشعب اللامؤمن الذي حكم على نفسه حين عارض يسوع ورذله. هذا لا يعني شيئًا آخر سوى أنه سوف تُنزع منه الامتيازات والبركات التي اعتُرف لها به ووُعد بها لأنه حصّة الله الخاصّة وأرضه التي اختارها (خر 19: 5-6؛ تث 6:7؛ 14: 2؛ 18:26). لاشكّ في أن متّى رأى أن نعمة الله انتُزعت من الشعب الأول، بعد أن أدانته وعاقبته بدمار المدينة المقدسة وخسارة الاستقلال الوطني (مت 22: 7: أهلك أولئك القتلة، وأحرق مدينتهم). ولكن "الشعب" الذي احتلّ الآن موضع اسرائيل القديم، لم يعد مؤلفًا من واقع وطني لشعب من الشعوب، بل من وحدة روحية وتجمّع أناس يجعلون "ملكوت الله يعطي ثمرًا".
إن صورة الثمار تجعلنا نفهم أن متّى فكّر في الكنيسة. فهو يجعل مختلف خطب يسوع وأمثاله التي تستعمل هذه الصورة كإرشاد يوجّه إلى سامعين مسيحيين. في 7: 15-20 ضد الأنبياء الكذبة المسيحيين. "إحذروا من الأنبياء الكذبة... من ثمارهم تعرفونهم". وفي 13: 18-23 حول سامعي "كلمة الملكوت" الذين برهنوا على أنهم أرض جيّدة بالثمار التي حملوها. وفي 26:13-38 حول "أبناء الملكوت" ساعة تنزل على اسرائيل اللامؤمن لعنة العقم (21: 19: لا تكن فيك ثمرة إلى الأبد). فـ "الشعب" إذن هو شعب الله الحقيقي الذي يتكوّن حسب أوضاع جديدة: إنه يشمل الاعضاء المؤمئين بالمسيح: جاؤوا من اسرائيل أو انتموا إلى الأمم الوثنية فعادوا إلى الرب. ذكر متّى أش 42: 1-4 وأنهى الايراد بهذه العبارة: "وعلى اسمه تتكل الأمم" (مت 12: 21؛ رج آ 18: يعلن الحق للأمم الوثنية). ونقرأ في 24: 14: "سيبشّر بانجيل الملكوت هذا في المسكونة كلها، شهادة لجميع الأمم" (رج 25: 32؛ 19:28). إنها جماعة دينيّة محضة، ارتبطت بدم الله المراق من أجل كثيرين (26: 28)، والتأمت تلبية لنداء المرسلين، وتكوّنت بالمعمودية وسلوك التلاميذ (19:28: تلمذوا، عمّدوا). غير أنه يجب عليها أن تثمر بحياة أخلاقيّة وخصوصًا بمحبّة تجاه "الإخوة" والقريب، بل تجاه الاعداء (5: 43-48؛ 23:18-25؛ 25: 31-46).
وشعبُ الله الجديد هذا، هذه الجماعة الخاصة بيسوع (16: 19)، نفرّقها دومًا أبدًا تفريقًا واضحًا عن اسرائيل اللامؤمن الذي تشبَّث بشريعته القديمة و"ريائه" (5: 20-28: إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة الفريسيين؟ 8: 10 ي؛ 7:15 ي؛ 21: 31-32؛ 22: 1- 10 23: 1 ي). ففي خطبة الويلات الكبرى (23: 1 ي)، تطلّع الانجيلي أيضًا إلى ظروف عصره (آ 7- 11، 34-36). بحيث إن هجوم يسوع العنيف على معلّمي الشريعة والفريسيين، يتوجّه أيضًا (في نظر الانجيل) على مستوى آخر ضدّ العالم اليهودي اللامؤمن في عصره. ونحن لا نفهم نظراته الايجابية حول الكنيسة إلاّ في ضوء هذا الجدال. لهذا نلخّص الفكر الأساسي في الانجيل الاول بهذه العبارة: "اسرائيل الحقيقي"، وإن كانت تسمية "اسرائيل" لا تظهر بوضوح بعد أن انتقلت بشكل صريح إلى شعب الله الجديد (19: 28).
ب- مسألة الشريعة
لهذا السبب تتّخذ مسألة الشريعة في متّى مدى واسعًا: و"الشريعة" التي تربط جماعة المسيح، هي شريعة المسيح التي تتجاوز الشريعة القديمة. هي شريعة أعلنها يسوعُ رسول الله الاسكاتولوجي (5: 17؛ رج 12؛ 41-42) بسلطانه السامي (مت 5-7). هي "تتمة" تاريخ الخلاص (5: 17-18)، وتجاوز له في ما يتضمّنه (5: 20: إن لم يزد برّكم). هي اتّساع كامل للشريعة القديمة بعد أن تأخذ على محمل الجدّ مشيئة الله (19:5؛ 7: 21)، ودون أن تتعلّق بحرفيّة الممارسات كالسبت وفرائض الطهارة.
إن شريعة المسيح هذه التي تتلخّص في وصية المسيح السامية (22: 40) تتوجّه إلى جميع الذين ينتظرون ملكوت الله، مهما كان أصلهم ومهما كانت هويتهم. إنها تتوجّه إلى الكنيسة كلها التي تكوّنت من اليهود والوثنيين. وإن يكن الفكر اليهودي مألوفًا لدى متّى الذي أخذ بعين الاعتبار بعض الأسئلة والاجوبة المتعلّقة بالمسيحيين المتهوّدين (5: 19-22، 19: 3-9؛ 23: 3-23). وإن يكن متّى في التصوّرات التي استعملها قد تكيّف مع هذا الخط من الفكر (البرّ، الكمال، ابن داود)، فهو لا يمثّل أبدًا مسيحية ضيّقة تعود بالمسيحية إلى اليهودية. فالأساس المشترك هو يسوع المسيح وابن الله. فيه وبه وحده تُعرف إرادة الله، وتتم بالطاعة له.
ج- طابع شامل
هنا يظهر بوضوح الطابع الشامل الذي ينسبه متّى إلى الكنيسة. ولكننا نجد أيضًا مقاطع تدلّ دلالة ساطعة على هذا الطابع. فكلمة يسوع الهامة على الدخول الحاشد للوثنيين إلى ملكوت الله في نهاية الازمنة، يربط متّى بمشهد ضابط كفرناحوم. كما يربطه بالعبارة التي يبرزها بشكل خاص: "لم أجد مثل هذا الايمان عند أحد في اسرائيل" (8: 10-12). نجد عند لوقا تهديدًا لليهود المعاصرين ليسوع، يتبعه إعلان ارتداد الوثنيين (لو 13: 28-29). أما عند متّى فنحن أمام وعد عام ينطلق من التأمل في الضابط الوثنيّ فيتضمّن تصريحًا يقول: إن "أبناء الملكوت" يطرحون في الظلمة البرّانية. وهكذا بدا الضابط علامة مليئة بالرجاء لمتّى وللوثنيّين الذين ارتدّوا إلى المسيح في أيامه.
ونجد أيضًا اعتبارًا له معناه في إيراد أش 42: 1-4 الذي دخل في مت 17:12- 21 (هوذا فتاي الذي اخترته... لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الساحات). فمع أننا أمام وصيّة بالصمت في آ 16 (رج آ 19)، فالافق ينفتح أيضًا على الأمم الوثنية التي "تجعل رجاءها في اسم (عبد الله)". قال النص العبري (أش 42: 4): "ستنتظر الجزر البعيدة شريعته". أما في نص السبعينية فنقرأ: "على اسمه تتكّل الأمم (الوثنية)". أسند متّى تفسيره الشموليّ (رج 18:13: الحقل هو العالم: 24: 14؛ 25: 13) على أشعيا الثاني المنفتح على رسالة (أش 42: 6؛ جعلتك مهدًا للشعب ونورًا للأمم). ودلّ في عرضه لنشاط يسوع على شعلة الرجاء التي تجد تتمتها في المهمّة التي سلّمها الرب القائم من الموت إلى رسله.
فالعلاقة التي تربط رسالة يسوع (وتلاميذه) باسرائيل، في زمن وجوده الأرضي، يوردها متّى ولا يغفلها (10: 5-6: إنطلقوا إلى الخراف الضالة في اسرائيل؛ 15: 24). وخطبة ارسال التلاميذ (ق 10) لا تتعارض مع كلام القائم من الموت حين أرسل التلاميذ إلى "جميع الأمم" (28: 19). فهذه الخطبة لا تشكّل "تعليمًا عن الرسالة". بل هي بالاحرى (ولا سيّما بعد آ 17: احذروا الناس. سيسلمونكم) خطبة حول "مصير التلاميذ"، وهذا ما يفترض بشكل غير مباشر (في آ 18: إلى الوثنيين) نشاطًا في المناطق الوثنية. فعمل الارسال الاحتفالي الذي قام به الرب الذي نال كل سلطان على العالم (18:28، 20) لا يرد فجأة، بل هو الذروة التي يتوجّه إليها الكتاب كله. هذا المشهد النهائي يتوافق مع ما يتمثّله هذا الانجيلي عن المسيح (27:11: لا يعرف الآب إلاّ الابن؛ 14: 33: أنت حقًا ابن الله؛ 16: 16؛ 27: 54)، كما مع الأهميّة التي ينسبها إلى التلاميذ (5: 13-16: أنتم ملح الأرضي، أنتم نور العالم). ويكشف وعيًا لدى الكنيسة التي لا يحدّ شموليّتها حدودٌ جوهري أو مرتبط بوضع من الاوضاع أو زمن من الازمنة.
د- بنية الكنيسة الداخلية
وإذا عدنا إلى بنية الكنيسة الداخليّة، كما يتمثّلها متّى، اكتشفنا ما سُمّي "قاعدة الجماعة" كما جمع عناصرها (أو وجدها مجموعة) الانجيلي الأول في 18: 1-20. نجد هنا إضمامة من المفاهيم. "الكنيسة" في آ 17. "الصغار الذين يؤمنون بي" (آ 6، 10). "أخوك" (آ 15). كما نجد نظرات هامّة بالنسبة إلى هذه المسألة: قدرة الله التي تفعل بواسطة الرسل (آ 18). حضور يسوع في وسطنا (آ 20). وضع الرؤساء وواجباتهم (آ 1-4: يصيرون مثل الطفل، 12- 14 والخروف الضال). كرامة الجماعة (آ 17: قل للكنيسة). جماعة الصلاة (آ 19). وها نحن نشدّد على بعض السمات المميّزة:
أولاً: إن الصورة الاساسيّة للكنيسة التي تسلّمها متّى حسب الكلمة الواردة في 16: 18-19 (أنت صخرة. سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات)، قد بناها منطلقًا من تصوّره لشعب الله. لاشكّ في أن جماعة الله في الميثاق القديم، صارت حينذاك جماعة المسيح. غير أن الكرامة القديمة لشعب الله المختار تبقى مرتبطة بهذه الجماعة. وهذا واضح في النص الثاني الذي يذكر "الكنيسة" في 17:18: من لا يسمع للجماعة رُذل وبالتالي حُرم من شركة الخلاص. فإذا قابلنا مع هذا النص 24: 11-14 (وثوب العرس) الذي فيه يحضّ متّى البشر الذين تجاوبوا مع المرسلين ودخلوا أفواجًا في الكنيسة، على ألاّ يهملوا ثمار الحياة الاخلاقية، وعلى أن يكونوا "المختارين" الحقيقيين، إذا قابلناه قلنا إن الكنيسة هي في نظره الموضع الذي فيه يجتمع المختارون ويتكوّنون. الكنيسة هي وساطة الخلاص، وإن لم تكفل هذا الخلاص (إذا لم تثمر ثمار حياة أخلاقية). الكنيسة هي "موضع الخلاص". وهذا ما يثبته سلطان "الحل والربط" الذي أعطي على التوالي لسمعان بطرس (16: 19) وللاثني عشر (18: 18).
ثانيًا: كل هذا يتضمّن أن في الكنيسة سلطانًا منحه الله بالنسبة إلى الخلاص. وهذا السلطان الذي تحدّث عنه الانجيليون لا يُنسب إلى الجماعة في حدّ ذاتها بل يُعطى لأفراد محدّدين. وارتباطُ آ 18 مع آ 17، لا يفرض اطلاقًا أن تتوجّه الكلمة في آ 18 إلى الكنيسة في كليّتها. "قاعدة الجماعة" قد تكوّنت من عدّة أجزاء ارتبط بعضها ببعض حسب مبدأ "الكلمة المفتاح" (في آ 4 وآ 5 نجد كلمة "الطفل". في آ 7 وآ 8 نجد كلمة "الشكوك")، وانضمت بالنظر إلى المضمون (آ 10 وآ 12-13 مع آ 14 التي تكمّل). إن آ 15-17 تشكّل وحدة تامّة في ذاتها (الاصلاح الأخوي). وآ 18 مع "الحق أقول لكم" تبدأ توسّعًا جديدًا. فهي تتضمّن أيضًا تبدّلاً في الموضوع (من المخاطب المفرد "أنت" إلى المخاطب الجمع: ما تربطونه) واختلافًا على مستوى الفنّ الأدبي. إن آ 15-17 تشير إلى تصرّف محدّد. وتتضمّن آ 18 انتقال سلطة. لهذا فالأشخاص الذين تتوجّه إليهم الخطبة يُعرفون انطلاقًا من المضمون. وبما أننا أمام أشخاص كما في 18:16-19، نفهم أننا أمام حلقة من الأفراد المحدّدين. هم حسب الانجيلي (نجد السياق في 18: 1) التلاميذ الاثنا عشر (رج يو 23:20: من غفرتم خطاياه غفرت له). مقابل هذا، نتصوّر أن سلطة الكنيسة في 17:18 لا تكمن فقط في كرامتها كممثلّة لشعب الله، بل في القيادة التي يقدّمها أولئك الذين نالوا وكالة من الله.
ثالثًا: ولكن "وظيفة القيادة" ليست منوطة فقط بالذين تسلّموا سلطة من يسوع، بل برعاة الجماعة أيضًا. فمثَل "النعجة الضالّة" الذي يصوّر في لو 3:15-7 حبّ الله للخاطئ وفرحته بعودة الضال، قد طبّقه مت 18: 12-14 على الاهتمام الذي يوجّه الرعاة إلى "واحد من هؤلاء الصغار". من الواضح أنه يوجَّه إلى "قوّاد" الجماعة الذين يُفرض عليهم الاهتمام بأصغر عضو في الجماعة، بالضعفاء، بالخطأة (آ 15-17). ولكن يجب أن نفترض أيضًا أن الحضّ على الاتضاع (آ 4: من وضع نفسه مثل هذا الطفل) الذي يختتم الخصومة حول المقاعد الأولى، هو مبدأ يعني تنظيم الجماعة كلها. إذن، لا يعني فقط "الاثني عشر"، بل كل الذين تسلّموا مهمّة القيادة، مع رتبة مميّزة في الجماعة، ومتطلّبة الخدمة مع ما فيها من مقارنة (نصير مثل طفل) تصله في جميع الحالات التي فيها يريد الواحد أن يكون "عظيمًا" في الكنيسة (رج 26:20 ي). ففي السؤال "من هو الأعظم في ملكوت السماوات" (آ 1)، كانت عبارة "ملكوت السماوات" زيادة ضمّها متّى إلى مشهد الخصومة حول الرتبة والمركز كما ترد في مرقس (9: 34) ولوقا (9: 46؛ 24: 22). من يحقّ له أن يكون الأول، أن يكون له مركز الصدارة في الجماعة؟ وهذا ما يتوجّه إلينا نحن أيضًا. هذا لا يعني أن هناك تعادلاً بين الكنيسة و"ملكوت الله". لهذا نقول انطلاقًا من هذا المقطع إن الكنيسة هي المدخل وموضع الثمر وصورة عن الملكوت المقبل (5: 19). ومهما يكن من أمر، فإن متّى عرف بوجود وظائف القيادة والمهمّات التراتبية في الجماعة. أخذ بها، ولكنه أخضعها كلها لشريعة الخدمة والمسؤوليّة أمام الربّ (24: 45- 51؛ 25: 14- 30).
رابعًا: إن العيوب وإمكانية الخطأ الخاصّة بالانسان، تظهر حتى في قلب كنيسة المسيح، وهذا ما يعرفه متّى. ولهذا فهو يحذّر من "الشكوك" (والمعاثر) التي تحصل في الكنيسة. ونحن نفهم الكلمة الهائلة في آ 6-7 (يعلّق بعنقه رحى الحمار ويزّج في أعماق البحر) عن الشكوك داخل الجماعة في علاقة مع "قاعدة الجماعة". كما نفهم التحريض الموجّه إلى رعاة الكنيسة بأن يحموا المؤمنين البسطاء من هذه المخاطر، من أين أتت. وقول لو 17: 1ي (الويل لمن تقع على يده الشكوك) نفهمه أيضًا تحذيرًا إلى التلاميذ أنفسهم. هنا تنتهي المقطوعة عن الأخ الذي خطئ فوجب علينا أن نغفر له (آ 2). فهذا الأخ في مت 18: 15- 17 قد تحوّل: فمعاملة الأخ المخطئ (ضدّ روح الجماعة) تتضمّن ثلاث درجات (حسب الممارسة اليهودية. في المغارة الأولى في قمران): بينك وبينه. خد معك واحدًا أو اثنين. قل للكنيسة. ونذكر هنا أيضًا تطبيق القول الوارد في 7: 15- 19 (الأنبياء الكذبة هم مسيحيون يعلّمون تعليمًا ضالاً) على حياة الكنيسة الداخليّة. كما نذكر 7: 22-23 وصانعي المعجزات الذين كانت أعمالهم رديئة. كما نذكر مثَل الزؤان (13: 24-30، 36-42) ومثَل الشبكة (47:13-50) التي جمعت سمكًا من كل جنس، جمعت الجيّد والرديء.
خامسًا: وفي الوقت عينه، الكنيسة متأكّدة من حضور ربّها في شكلين اثنين (نضع جانبًا الحضور الافخارستي): هناك حضور سريّ للرب، نحصل عليه بواسطة الصلاة الجماعية (آ 19): "إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه، فهو في وسطهم" (آ 20). ثم إن الرب القائم من الموت يعد تلاميذه بأنه يكون "بقربهم" أو بالأحرى "معهم" كل الأيام وحتى "انقضاء الدهر" (28: 20). بهذه الصورة وعَدَهم بعون نعمته. هو يقودهم ويحميهم ويساعدهم بقدرته الفاعلة. فحضور الرب في سر الليتورجيا وفي نشاطه المتواصل يشكّل ينبوع قوّة وعزاء وشجاعة. والكنيسة متأكدة من ثباتها ونموّها (16: 19) إلى "أن يأتي ابن الانسان في مجد أبيه مع ملائكته" (16: 27).

خاتمة
تحدّثنا عن نظرة لوقا ومتّى إلى الكنيسة وتركنا يوحنا الذي يبدو في إنجيله ورسائله وكأنه لا يعرف الكنيسة كواقع لاهوتي. الذي يبدو مشدّدًا على الكرستولوجيا، على شخص يسوع المسيح وعلاقتنا الفردية معه. ولكن حياة الجماعة التي يمثّلها الكاتب هي حياة أبناء الله العائشين من حضور الروح، المقدّسين بالأسرار والممارسين المحبّة الاخوية التي هي علامة لحضور المسيح في العالم. وتركنا مرقس الذي يبدو انجيله انجيلاً كنسيًا وإن لم ترد لفظة "كنيسة" عنده كما عند متى. ولكن قراءة سريعة تجعلنا نقسمه ست قسمات. في الأولى: دعوة الكنيسة. وفي الثانية: تأسيس الكنيسة. والثالثة: رسالة الكنيسة. والرابعة: اعتراف الكنيسة. والخامسة: انتصار المسيح. والسادسة: آلام المسيح والكنيسة. لاشكّ في أن مرقس، شأنه شأن الرسل، حاول أن يعطي في انجيله شهادة عن حياة يسوع وأعماله وأقواله. ولكنه قرأ حياة المسيح في كنيسة عصره. وجعل مشاكل جماعته أمام هذا "المعلّم" الذي تكلّم كما لم يتكلّم أحدٌ من الناس، وسار على الأرض وهو يعمل الخير.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM