الفصل الرابع عشر: يسوع إبن الله في الأناجيل الإزائية

الفصل الرابع عشر
يسوع ابن الله في الأناجيل الازائية

لاشكّ في أن الأناجيل الازائيّة الاولى آمنت بألوهية المسيح. فمتى ولوقا يتحدّثان عن ولادة يسوع العجائبية بعد تدخّل مباشر من الروح القدس. ثم إن الثلاثة يعطون يسوع لقب المسيح ولقب ابن الله. ظنّ بعض الشرّاح المحدثون وقد وصلت أصداؤهم إلى بعض منا أن مرقس يقدّم لنا الفكر الاولاني الذي لم تشوّهه "النظريات البولسية"، الذي لم يرَ في يسوع ابن الله، بل الحكيم والنبي والمسيح. ونسوا أن كل الرسائل البولسيّة دوّنت قبل أن يدوّن إنجيل مرقس. ونسوا أن كرستولوجيّة (دراسة عن شخص المسيح) مرقس هي عميقة شأنها شأن كل أسفار العهد الجديد، حتى إنجيل يوحنا. وظنّ آخرون أن الرسل قد أسقطوا على شخص يسوع البشري حالة من الايمان سوف تتوسّع فيما بعد، فحوّرت أو أقله "فسَّرت" معطيات تاريخية فحادت بها عن الأصل! فكأنهم يقولون: إن لم تكن القراءة حرفية، أصولية، لم تعد قراءة إنجيلية. نسوا هم أيضًا أن الرسل انطلقوا من وحي فعبّروا عنه بلغة البشر. فعلينا نحن أن ننطلق من كتاب دوّن بلغة البشر لنصل إلى هذا الوحي. وهذا يفرض علينا أن نصل إلى المعنى الروحي فيتمّ الحوار بيننا وبين الله. ولقد انطلق الانجيليون من واقع حياة يسوع وأعماله وأقواله، قرأوها على ضوء القيامة وحياتهم في الكنيسة وقدّموها لنا بكل هذا الغنى. يبقى علينا أن نحلّلها ونعرف أن الفكر الذي تعلنه الكنيسة هو نتيجة تأمّلها في النصوص الكتابية، ولاسيّما الانجيل. نسوق هذا القول إلى المسيحيين الذي يناقشون مع بعض الشيع من موقع الضعف وكأن عليهم أن يدافعوا عن إيمانهم الهزيل والمتزعزع تجاه "قوّة الاقناع" عند الآخرين! الحقيقة معنا ونحن نخاف! سيقوله لنا الرب حينذاك ما قاله لإرميا: أنا سأخيفك.
ونحن نعلن إيماننا انطلاقًا من الأناجيل الازائيّة الثلاثة، أي متى ومرقس ولوقا، نعلن أن يسوع المسيح هو ابن الله. نتوقّف أولاً عند المعجزات التي تهتمّ أولاً بإظهار حنان يسوع ومحبته ولا تريد أن تظهر قدرته، مع أنها ظاهرة لاسيّما عندما يشفي المرضى ويقيم الموتى ويغفر الخطايا. ونتعرّف ثانيًا إلى لقبين اثنين: يسوع المسيح، يسوع ابن الله.

1- المعجزات في الأناجيل
ما اكتفى يسوع بأن يتكلّم، بل فعل فثبّت كلامه بأفعاله. هو يقدّم نفسه كشخص عظيم، فما الذي يسند "إدعاءاته"؟ المعجزات. هو يطلب من الناس أن يتعلقّوا به تعلّقًا لا شرط فيه ولا قيد، أن يتركوا كل شيء ويتبعوه؛ تساءلت الناس: "ما هذا؟ أتعليم جديد يُلقى بسلطان" (مر 1 :27)؟ سلطانه أعظم من سلطان بشري وهو الذي يطرد الشياطين. وسوف يطرح التلاميذ سؤالاً آخر بعد سير يسوع على المياه: "من هذا"؟ من هذا الذي "تطيعه البحر والرياح" (مر 4: 41)؟ لقد قيل عن الرب في العهد القديم: "أنت تتسلّط على طغيان البحر، أنت تسكّن أمواجها حين ارتفاعها" (مز 89: 10). وها هو يسوع يفعل أمرًا محفوظًا لله. فمن هو إذن؟
إذا قرأنا نصوص الأناجيل نشعر بالأهمية الحاسمة التي ارتدتها أعمال يسوع العجيبة بالنسبة إلى الذين آمنوا به. دلّ على سلطان سام على الطبيعة، ولاسيّما على الاجساد المريضة والميتة. دلّ على قدرة تجاه الأرواح النجسة، فرأى فيه التلاميذ شخصًا فريدًا بفرادة مطلقة. قال إنه يغفر الخطايا وغفر. قال إنه يشفي المرضى وشفى. قاد إن الله أباه فدلّ على هذه الأبوّة التي أشركنا فيها حين علّمنا الصلاة الربية، أبانا الذي في السماوات.
قد لا تكون المعجزة في حدّ ذاتها "برهانًا" على لاهوت ذاك الذي يتمّها. ففي العهد القديم تحدّث الكتاب مثلاً عن معجزات إيليا وأليشاع. كانا يعملان بقدرة الله، وهذا ما تدلّ عليه صلاة إيليا حين أقام إبن أرملة صرفت صيدا (1 مل 17: 20-22). وفي زمن المسيح تحدّث الناس عن "شفّائين" في العالم اليهودي وفي العالم اليوناني.
إن معجزات يسوع تبدو طبيعية جدًا. وهي تتطلّب تدخّل سلطة فائقة الطبيعة لا يستطيع أن ينكرها ذوو الارادة الحسنة. وهذه السلطة يمارسها يسوع بقدرته الالهية. بواسطة فعلة أو حركة. بواسطة كلمة بسيطة. والنتيجة تأتي حالاً. مرضت حماة بطرس، "دنا منها يسوع وأمسك بيدها وأنهضها. فتركتها الحمى وأخذت تخدمهم" (مر 1: 31). جاء أبرص إلى يسوع. وما إن لمسه حتى "زال عنه البرص في الحال وطهر" (مر 1: 41-42). قال يسوع للرجل اليابس اليد: "مدّ يدك". فمدها. فعادت صحيحة كالأخرى (مر 3: 5).
كان الاقدمون يطلبون الأمور المذهلة، والتي تبهر العين. أما يسوع فيعمل في الخفية. كما قال النبي أشعيا عنه: "لا يماحك ولا يصيح، ولا يسمع أحد صوته في الشوارع". علّمنا أن لا تعرف شمالُنا ما تفعله يميننا، فعمل كذلك. قال للأبرص بعد أن شفاه: "إياك أن تخبر أحدًا بشيء" (مر 1: 44). وهل يستطيع من نال نعمة الشفاء أن يسكت؟
فما دفع يسوع إلى اجتراح المعجزات ليمس طلب الشهرة. قال له إخوته أن يذهب إلى أورشليم حتى يرى التلاميذ أعماله. "فلا أحد يعمل في الخفية إذا أراد أن يعرفه الناس" (يو 7: 3-4). ولكن ليس هذا منطق يسوع. بعد أن صعد إخوته إلى العيد، "صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية" (يو 7: 10). وحين كان يصنع يسوع المعجزات، كانت تدفعه إلى ذلك عاطفة إيمان الطالبين أو حنان يحرّكه في قلبه. جاءه الأبرص فأشفق عليه. رأى أرملة نائين وقد فقدت وحيدها، "رآها الرب فأشفق عليها وقال لها: لا تبكي" (لو 7: 13). وأقام لها وحيدها. وإن يسوع سوف يرفض اجتراح المعجزات حين لا يرى الاستعدادات المطلوبة. لم يصنع معجزة في الناصرة بسبب قلّة الايمان عند أهلها. رفض أن يردّ على هيرودس الذي انتظر منه "شيئًا عجيبًا". كما رفض طلب الفريسيين الذين طلبوا آية. وحين فرح التلاميذ بالسلطان المعطى لهم، قال: "إفرحوا بالأحرى لأن أسماءكم مكتوبة في السماء" (لو 10: 20).
فأهداف يسوع سامية حين يقبل بأن يعمل معجزة أو حين يتّخذ المبادرة إلى ذلك. فهو يريد أن يبيّن صدق رسالته أو يدلّ على قوّة كلمته. غفر الخطايا للمخلّع، فظنّ بعض الحاضرين أنه يجدّف، أنه يستحقُّ عقابَ الله، أن الله لن يسمع له. أما هو فأجاب: "لتعلموا أن لابن الانسان السلطان بأن يغفر الخطايا على الأرض"... قال للمخلّع: "إحمل فراشك واذهب إلى بيتك". فقام من ساعته. فالمعجزة الخارجيّة تدلّ عند يسوع على سلطان هو سلطان الله نفسه. فاليهود يعرفون أن الله وحده يقدر أن يغفر الخطايا. يسوع غفر، إذن هو الله وابن الله. وكما نقول: إنه يشارك الله الآب في الطبيعة الالهية. إنه مساو للآب في الجوهر. إنه والآب جوهر واحد.
والاستعداد الاساسي الذي يطلبه يسوع لصنع معجزة هو الايمان. وليس الايمان بالله الذي هو سيّد الطبيعة. فهذا أمر عادي في محيطه اليهودي حيث يصلّي الاتقياء إلى الله من أجل المرضى. بل الايمان بشخصه، الايمان برسالته. نذكر هنا تطهير البرص العشرة في لو 17: 11-19. أرسلهم إلى الكهنة، ولكنهم طهروا في الطريق وتابعوا الطريق. غير أن واحدًا منهم (كان غريبًا عن عالم اليهود) عاد يشكر يسوع. فقال يسوع: "أما كان فيهم من يرجع ليمّجد الله سوى هذا الغريب"؟ من أراد أن يمجّد الله عند اليهود يذهب إلى الهيكل. ولكن المسيح هو الهيكل الجديد، هو حضور الله على الأرض. وهذا الغريب كان أفضل من التسعة الباقين الذين لم يعرفوا أن يعودوا إلى يسوع.
حين يجترح يسوع معجزة، فهو لا يطلب أن يُعرف كذاك الذي يحمل الشفاء. ولهذا كان يختفي بعض المرات عن الناس. ولا أن يقدّم نفسه على أنه المسيح. على أنه ابن الله وابن الانسان. وهذا ما كان على يوحنا أن يفهمه حين أرسل وفدًا إلى يسوع. "العميان يبصرون والصمّ يسمعون... وطوبى لمن لا يشكّ فيَّ". أجل، المسيح هو هنا فكان على يوحنا وغيره من اليهود أن يعرفوه.

2- يسوع المسيح
ليس يسوع "رابي" بين الرابينيين، وليس معلّمًا يشبه سائر المعلّمين في أرض اسرائيل، وليس أولاً صانع معجزات تبهر السامعين فتجعلهم يتعجَّبون ثم لا يتحرّكون. إن علّم يسوع فهو لا يفعل مثل "المعلّمين" الذين يتمسكّون بتقاليد الشيوخ ولا يحيدون عنها قيد أنملة. إنه يعلّم كمن له سلطان، "لا مثل معلّمي الشريعة" (مت 7: 29).
فيسوع يتصرّف بسلطة سامية تجاه الشريعة والتقليد. يفسّرها، يتعمّق فيها، يصحّحها إذا اقتضت الحاجة. "قيل لكم... أما أنا فأقول لكم". قيل لا تقتل، أما أنا فأقول لكم من غضب على أخيه... قيل لا تزن. أما أنا فأقوله لكم من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه (مت 5: 21- 30). وقد سمح لنفسه أن يتعدّى شريعة السبت ليخدم أهداف الله في حبّه لأبنائه. وقال: "رب السبت هو ابن الانسان". أي: رب الشريعة هو يسوع ابن الانسان. الله وضع الشريعة، ولا يفسّرها إلاّ الله هذا التفسيرَ المطلق. كان موسى قد راعى الضعف البشري فسمح للرجال بأن يطلّقوا نساءهم، أما كلام يسوع فجاء قاطعًا: من طلّق امرأته جعلها تزني. ومن تزوّج مطلّقة زنى (مر 10: 11-12). لم يقبل التلاميذ بهذا الكلام القاسي فأجاب يسوع: "لا يقبل هذا الكلام إلاّ الذين أعطي (أي: أعطاهم الله) لهم أن يقبلوه" (مت 19: 11).
لا مساومة ممكنة. فيسوع يحمل الخمرة الجديدة. فلا حاجة بعد إلى الأوعية العتيقة (مر 2: 22). لقد جاء يدشّن عهدًا جديدًا، عهد ملكوت الله، كما أعلنه الأنبياء في القديم، وتحقّق الآن في شخص يسوع. هاجمه الفريسيون بأنه يطرد الشياطين برئيس الشياطين. فأجابهم: "أما إذا كنت بروح الله أطرد الشياطين، فملكوت الله حلّ بينكم". فالمعجزات التي يجترحها ترافق مجيء الملكوت المسيحاني وتدلّ عليه.
لقد سمّى يسوع نفسه المسيح. واعتبر أنه يدّشن المملكة المسيحانية في شخصه. هذا هو جوهر الانجيل. وحين يفهم الرسل، ولاسيّما في إنجيل مرقس، أن يسوع هو المسيح، أنه ذاك الذي يتألّم قبل أن يمجّد، يستطيع الانجيل أن ينتهي.
من هو المسيح في نظر العالم اليهودي؟ إنسان، ملكٌ من نسل داود، منحه الله سلطات استثنائية وغمره بالانتصارات. ولكنه ظلّ انسانًا، ولم يكن فيه "عنصر إلهي". أخذ يسوع الاسم ولكنه أعطاه بُعدًا جديدًا. المسيح هو الذي يختاره الله. فهذا الاختيار قد تمّ بشكل احتفالي في العماد. أنت ابني. أنا جعلتك الملك المسيح. والانسان الذي جاء يدشّن ملكوت الله، ويتصرّف بالشريعة بشكل متعال، ويجترح المعجزات العظيمة، ويطلب تعلقًا فيه لا مشروط، مثل هذا الانسان هو أكثر من "ابن داود" كما ناداه الناس (مر 47:10-48)، هو أكثر من مسيح منتصر يقود شعبه ضد الأمم الغريبة التي تحتلّ أرض فلسطين. هو المسيح بمعنى سنكتشفه بشكل خاص على ضوء القيامة: المسيح، ابن الله الحي.
وهكذا سيرتفع التلاميذ شيئًا فشيئًا إلى الايمان بألوهية معلّمهم. نحن لا نستطيع أن نقول إن القيامة أحدثت فيهم انقلابًا جذريًا. فقد كانت هناك استعدادات في كلمات يسوع وسلوكه جعلتهم يكتشفون هذا الشخص الذي نذروا حياتهم له.
هناك إشارات واضحة تدلّ على أن يسوع اعتبر نفسه أكثر من "مسيح عادي". عارض أولاً بين حلم مادي عن مسيحانية حربية وسياسية، وبين نظرة روحية وأدبية إلى ملكوت الله الذي سينمو على مهل في التواضع والوداعة (مثل حبة القمح في الأرض). ثم نسب إلى نفسه سلطات وألقابًا تتجاوز صلاحيات المسيح التقليدي.
طالب بسلطان غفران الخطايا، كما قلنا. فكيف يمكن للتلاميذ، الذين كانوا من أصل يهودي، أن يقبلوا بهذا الوضع؟ لقد فكّروا وفهموا أن يسوع يمتلك صلاحيات إلهية. ربما لم يفهموا على مستوى العقل والفهم، ولكنهم فهموا في قلوبهم أنهم أمام شخص يستطيع أن يطلب منهم أن يتركوا كل شيء ويتبعوه وحده.
لن ننتظر في الأناجيل الازائية تعليمًا مجرّدًا كذلك الذي تحدّده الكنيسة في مجامعها. ولن نجد تعابير واضحة كتلك التي نجدها عند القديس بولس أو عند القديس يوحنا. بل نستطيع أن نقول: لو لم يكن المسيح ابن الله بالذات لبدا "مجنونًا" حين يعتبر نفسه ما يعتبر، وحين يطلب من نفسه ما يطلب. لهذا لم يفهمه الناس، بل حسبوه آتيًا من عالم الشياطين، أو مجدّفًا، "فاستحق" الموت (في نظرهم) بسبب تجديفه. أما التلاميذ فقال لهم إن "ابن الانسان جاء ليخلّص الهالكين". ثم زاد: "لا يريد أبوكم أن يهلك واحد من هؤلاء الصغار" (مت 10: 42). وقالت: "من يريد أن يخلّص حياته يخسرها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي وفي سبيل الانجيل يخلّصها... من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الرديء الشرير يستحي به ابن الانسان (أي أنا يسوع المسيح) متى جاء في مجد أبيه (إذن، يسوع هو ابن الله الآب) مع الملائكة الأطهار" (مر 8: 35-38).

3- يسوع "ابن الله"
نبدأ فنشير أولاً أن ليس لهذا اللقب المعنى الدقيق والمتسامي الذي اكتشفه إيماننا بفضل أسفار العهد الجديد والتفكير اللاهوتي الذي تحدّث عن العقائد؟ بالنسبة إلينا "إبن الله" يدلّ على بنوّة كائن يتمتّع بالطبيعة الإلهية بفضل ولادته الازلية من حضن الآب. ولكن قبل أن تصل العبارة إلى هذا المستوى، فقد عرفت تاريخًا طويلاً. كانت البنوّة على المستوى الادبي لا الميتافيزيقي والكياني. فالملائكة هم "أبناء الله" (مز 29: 1؛ 7:39؛ أي 1: 6؛ 2: 1). وهذا لا يعني مشاركة في الطبيعة الالهية، بل حياة حميمة بين هذه الكائنات السماوية والله. ويقول يهوه: اسرائيل هو ابني البكر (خر 4: 22). ويقول المصريون الشيء عينه (حك 38:18). نحن هنا أمام بنوّة على مستوى التبنّي. نقرأ في تث 14: 1: "أنتم أبناء للرب إلهكم". وفي هو 1: 10: "يدعونهم أبناء الله الحي".
تقف هذه البنوّة عنك القداسة. عند حياة من التقوى على مستوى العبادة والاخلاق. فمن كان صالحًا مع الأيتام سُمّي "ابن العلي" (سي 4: 10). والبار الذي يعرف الله ويحفظ شريعته هو ابن الرب ويستطيع أن يفتخر بأن الله أبوه (حك 2: 13، 16). والملك الذي هو مسيح الرب وممثّله لدى الشعب، يستحق قبل الكل أن يُسمّى "ابن الله". هذا ما قاله النبي ناتان لداود، وهو يتكلّم باسم الرب: "أكون له أبًا ويكون لي ابنًا" (2 صم 7: 14؛ 1 أخ 17: 13). ولقد توجّه الله إلى الملك في المزمور الثاني: "أنت ابني. أنا اليوم (في يوم اعتلائك العرش) ولدتك". ونجد تفسيرًا لهذا الكلام في مز 89: "يناديني: أنت أبي وإلهي وخالقي (لا صخرتي كما تقول الترجمات) ومخلّصي. وأنا أجعله بكرًا عليًا فوق ملوك الأرض" (آ 27-28).
إن عبارة "ابن الله" هي أوسع من عبارة مسيحانيّة لأنها تنطبق أيضًا على أشخاص غير المسيح. وهي أدّق لأنها تدلّ على حياة حميمة وخاصة مع الله. أما ينبوع هذه الحياة فعلاقة خدمة أو معرفة أو طاعة مفعمة بالحب.
يسوع هو ابن الله، ولكنه بالطبيعة ابن الله. أخذ ما وجد في التقليد البيبلي ولكنه تجاوزه إلى حدود التجاوز. فعبارة "ابن الله" عبارة مفتوحة على العالم المتسامي، وتستطيع أن تنطبق على "الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس" ساعة يتمّ الزمن. لاشكّ في أن فكرة ابن الله بالطبيعة غير مقبولة اطلاقًا في العالم اليهودي الذي يشدّد على وحدانيّة الله المطلقة. والشيع التي تنطلق من العهد القديم لا تستطيع أن ترتفع إلى بنوّة الله كما ينادي بها العهد الجديد. وإلا فما هو الجديد الذي حمله يسوع المسيح؟ والذين يتحدّثون عن بنوّة على مستوى مادي ولحمي، يذكّروننا بهرطقات نبتت منذ بداية المسيحية فاعتبرت أن الله لا يمكنه أن يتجسّد، أن يتحدّ بالمادة (والجسد) لأنها تحمل الشرّ في ذاتها. كما اعتبرت ولادةَ "ابن الله" على مثال ولادة الآلهة الوثنية، بواسطة المجامعة بين رجل (هو الاله) وامرأة من نسل البشر!! الوحدانية في المسيحية مفتوحة على الثالوث، على الاله الذي هو في ثلاثة أقانيم، الآب والابن والروح القدس. وولادة الابن من الآب تشبه خروج الكلمة من العقل والفم، وخروج النور من الشمس. وحين نشدّد على الثالوث، فلأننا نعتبر أن الله محبة، وأن لا وجود للمحبة إلاّ حيث توجد عائلة، عائلة الآب والابن والروح القدس. الآب يحبّ الابن ويعطيه كل ما له. والابن يحبّ الآب ويعطيه كل ما له. والروح القدس هو الحبّ الجامع بين الآب والابن، هو شخص يحمل عمل الآب والابن إلى العالم، فيزرع كل حب لا بين البشر وحسب، بل بين الخلائق.
إذا عدنا إلى الأناجيل الازائية نسمع الارواح النجسة تسمّي يسوع "ابن الله" (مر 13:3؛ 5: 7). فقد تكون اكتشفت فيه أكثر من المسيح والملك الذي يرسله الله. ونقرأ في لو 4: 41-48: "وخرجت الشياطين من مرضى كثيرين وهي تصرخ: أنت ابن الله. فكان يسوع ينتهرها ويمنعها من الكلام، لأنها عرفت أنه المسيح". وحين يقول الشيطان ليسوع في ساعة التجربة: "إن كنت ابن الله" فهو يعود إلى الصوت السماوي الذي سُمع في تيوفانية (الظهور الالهي) العماد (مر 1: 11؛ مت 17:3؛ لو 22:3).
في مت 33:14، وبعد أن سار يسوع على المياه، سجدوا له وقالوا: "بالحقيقة أنت ابن الله". هذا يعني أننا تجاوزنا الإطار المسيحاني. وفي مت 16: 16، أعلن بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحي". فهنّأه يسوع على كلامه: "لا لحم ولا دم (أي: ليست الطبيعة البشريّة) أوحى لك بذلك، بل أبي الذي في السماوات". قال بطرس ما قال. ولا شكّ أنه سيفهمه في كل عمقه بعد القيامة. ولكن كلامه في إنجيل متى وفي جوّ الكنيسة الاولى يعني أن يسوع هو المسيح المنتظر. إنه ابن الله الحي. وإن الله هو أبوه. وهو الذي جعل بطرس يتلفّظ بهذه الأقوال السامية التي ما زالت الكنيسة تردّدها وتتعمّق في معناها.
لم يقل يسوع عن نفسه "أنا ابن الله"! فلو قالها، لما فهمها أبناء عصره. ولكنه فعل أفضل من ذلك: دلّ على اتحاد مع الله أبيه، وهو اتحاد ذو طابع فريد ومتسام، اتحاد جعله على مستوى الله نفسه. في هذا الإطار تتخذ بعض الأقوال كامل معناها. فيسوع لا يقول عن نفسه "ابن" بل هو "الابن" وليس سواه. هنا نتذكّر مثل الكرّامين القتلة. الكرّامون هم عبيد الله وخدّامه. في آخر الأمر أرسل إليهم ابنه وقال: سيهابون ابني. فلما رأى الكرّامون الابن قالوا فيما بينهم: "ها هو الوارث! تعالوا نقتله". هذه هي قصة الله مع شعبه. أرسل إليهم الأنبياء، وفي النهاية أرسل ابنه الحبيب (راجع عماد يسوع في مر 1: 11). فقتلوه. هذا ما فهمه التلاميذ بدقّة بعد موت يسوع على الصليب. وسيقول بطرس في خطبته بعد العنصرة: "فليعلم بنو اسرائيل كلهم علم اليقين أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًا ومسيحًا" (أع 2: 36).
وهناك قول شهير اعتبره الشرّاح مرتبطًا بالانجيل الرابع. إنه يدلّ على علاقة حميمة من المعرفة والمحبّة بين الآب والابن. يتوجّه يسوع إلى الآب السماوي، إلى الله، ويسمّي نفسه الابن (بشكل فريد) فيقول: "أحمدك يا أبي، يا ربّ السماء والأرض، لأنك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء. نعم، يا أبي، هذه مشيئتك. أبي أعطاني كل شيء. ما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن شاء الابن أن يظهره له" (مت 11: 25-27). البسطاء أو الصغار هم التلاميذ (مت 10: 42) وقد نالوا وحيًا خاصًا، سرّ ملكوت السماوات (مت 13: 11). أما مشيئة الله ورضاه فيعودان بنا إلى صوت الآب في عماد يسوع. وبهذا القول (آ 27) بعلن يسوع بشكل غير مباشر أن علاقته فريدة مع الله الآب. هنا نتذكّر أول كلمة تفوّه بها يسوع في إنجيل لوقا. حدّثته أمه قالت: "أنا وأبوك تعذّبنا كثيرًا ونحن نبحث عنك". فأجاب: "أما تعرفان أنه يجب أن أكون لأبي" (2: 48- 49). هكذا ذكر يسوع أباه في بداية رسالته، وسيذكره (عند لوقا) في نهاية هذه الرسالة: "يا أبت، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). لقد صلّى يسوع وبدأ صلاته بدعاء إلى الآب. إنه الابن الذي يبدأ صلاته دومًا بالتفاتة إلى الآب. نقرأ في لو 10: 21 ما يقابل نصّ متى: "أحمدك أيها الآب...". وفي ساعة النزاع: "يا أبي، إن شئت فأبعد عني هذه الكأس" (22: 42). وينتهي إنجيل لوقا: "وسأرسل إليكم ما وعد به أبي" (24: 49). نحن قريبون من إنجيل يوحنا حيث يأخذ الابنُ من الآب، حيث يرسل الابنُ الروح القدس الذي هو "قوة من العلى".
وإذا عدنا إلى مرقس وجدنا لفظة فريدة، يتفوّه بها الاطفال مع أبيهم. لفظة لم ترد في أيّ نصّ سابق في التوراة أو العالم اليهودي. هي لفظة "أبّا". وقد قالها يسوع في أحلك ساعات حياته، ساعة كان ينازع في البستان: "أبّا، أيها الآب. أنت قادر على كل شيء. أبعد عني هذه الكأس". لفظة "أبّا" لفظة أرامية تدلّ على علاقة خاصّة بشخص من الاشخاص. لسنا أمام المعنى المجازي أو الذي يقال عن طريق الاستعارة. لا أب ليسوع إلاّ الآب السماوي وهو الابن الحبيب لهذا الآب. أعلنه الآب من السماء: "أنت ابني الحبيب الذي به رضيت" (مر 1: 11). أجل، يسوع هو ابن الله، هو حبيب الله، هو موضوع رضاه. ونقرأ في لو 3: 22: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك". نحن هنا أمام سرّ يسوع في أعمق معانيه كما نادى به الملاك. "يكون المولود قدوسًا وابن الله يُدعى" (لو 1: 35). هذا المولود هو المسيح في معنى أوّل (لو 4: 34، 41؛ أع 9: 20، 22). وهو يدلّ أيضًا على العلاقة السريّة التي تربط يسوع بالله.
قال الناس في المحكمة متسائلين: "أأنت ابن الله"؟ أجاب يسوع بما لا يقبل الشكّ. فهتف الشيوخ: "أنحتاج بعد إلى شهود؟ نحن بأنفسنا سمعنا كلامه من فمه" (لو 22: 70). فلو لم يكن يسوع ابن الله، لكان أوضح أمره لليهود. لكان قال لهم: أنتم تفهمونني خطأ. ولكنه اعتبر أنهم فهموه. وهم سيقتلونه لأنه الابن كما قرأنا في مثل الكرّامين القتلة. تساءل اليهود عن هويّة يسوع: هل هو ابن الله؟ أما الوثني فلم يتوقّف عند التساؤل، بل أعلن عند الصليب وحين أسلم يسوع الروح: "بالحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (مر 15: 39). هذا هو فعل إيمان المسيحيين في رومة، وقائدُ المئة يمثّلهم جميعًا.
إن لقب "ابن الله" الذي تلفّظ به الشيوخ في محاكمة يسوع (لو 22: 70) هو تعميق للقب المسيح (آ 67: إن كنت المسيح، فقل لنا). أما في النصين الموازيين في مت 26: 63 وفي مر 14: 61، فلقب المسيح يوازي لقب ابن الله. قال عظيم الكهنة ليسوع (في إنجيل متّى): "أستحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله"؟ وفي مر 14: 61 سأل عظيمُ الكهنة يسوعَ: "هل أنت المسيح ابن المبارك"، أي ابن الله المبارك؟ فاليهود لا يتجرَّأون على التلفّظ باسم الله.
هذا التمييز بين المسيح وابن الله قد وجدناه في لو 1: 32، 35، وسنجده عند يو 10: 24، 36 (هل أنت المسيح؟... قلت إني ابن الله). إنه يدلّ على ملء سرّ يسوع.
جاءت عبارة "ابن الله" بلسان البشر (رج مت 14: 33؛ 16: 16؛ 27: 40؛ 43: 54؛ مر 15: 39). وجاءت بصورة خاصة في فم الآب. ساعة العماد (لو 22:3)، وساعة التجلي (35:9): "هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا". وجاء بلسان الملاك جبرائيل حين بشّر مريم بالحبل الالهي. وأخيرًا ورد في فم يسوع (لو 13:20؛ رج 10: 22). في مشهد البشارة تأتي عبارة ثانية فتُغني العبارة الأولى. كان قد قال الملاك في تحيّته لمريم: "يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى" (1: 32). فعبارة ابن العلي دلّت في العالم الهليني على الله، ولا تُذكر في العهد الجديد إلاّ عند لوقا (1: 76:35؛ 6: 35؛ رج مر 7:5؛ عب 7: 1). ثم قال الملاك بعد "اعتراض" مريم: "لذلك يكون المولود قدوسًا وابن العلي يُدعى" (1: 30). نحن نعلم أننا في إنجيل الطفولة أمام تعليم لاهوتي هو خلاصة تأمّل الكنيسة في سرّ يسوع، في حياته وأقواله وأعماله. نحن أمام تعليم هو ذروة التعليم الانجيلي لأنه تأمّل في شخص يسوع على ضوء القيامة. وهذا التعليم يعلن بوضوح أن يسوع هو ابن الله.

خاتمة
حين رافق التلاميذ يسوع خلال حياته على الأرض، استشفّوا أنه ليس انسانًا مثل سائر الناس. أنه ليس نبيًا مثل سائر الأنبياء، ولا صانع معجزات فقط. إنه المسيح في معنى سام جدًا. فسلطةُ أقواله وقدرةُ أعماله وإشعاعُ شخصه، كلّ هذا دلّ على لاهوته. دلّ على أنه أكثر من إنسان بار وقريب من الله. كل هذا دلّ على أنه ابن الله. لاشكّ في أنهم تأخّروا في اكتشاف هذا السرّ العميق، وانتظروا أن يكون يسوع ذاك الملك المنتصر والممجّد. ولكن الآلام والموت أفهمتهم أن يسوع هو عبد الله المتألم الذي يخلّص البشريّة. أفهمتهم أنه ابن الانسان بشكل فريد كما يقول عنه دا 7: 14. فهم التلاميذ أكثر من الناس ما تعني هذه العبارات التي استعملت للحديث عن يسوع. ولكن بشرية يسوع ظلّت حجابًا يخفي حقيقة يسوع. فلما جاءت القيامة وحلول الروح القدس، استنار إيمانهم وفهموا أن يسوع ينتمي إلى عالم الله. وبعد أن تيقّنوا أنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، استعادوا قراءة حياة يسوع وأعماله وأقواله فوصلوا في تأمّلهم إلى سر التجسّد، سر الله الذي صار انسانًا، سرّ ابن الله الذي صار ابن البشر لكي يرفع البشر إلى مستوى أبناء الله. هذا هو السرّ الفريد. كان بولس أول من كتب عنه بطريقة لاهوتية "مجرّدة". وجاءت الأناجيل الازائيّة فأعادتنا إلى يسوع الانسان فاكتشفنا معوإ تدريجيًا من هو ابن الله. ومع يوحنا سنصل إلى قمّة التأمّل في علاقة الآب بالابن، داخل الثالوث الأقدس الذي باسمه يتعمّد المؤمنون. أجل، لقد اعتمدنا باسم الآب والابن والروح القدس، الاله الواحد له المجد إلى الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM