الفصل الرابع:L سر الصليب والمسيحية

الفصل الرابع
سر الصليب والمسيحية

1- الصليب رمز الايمان وشعاره
ينتصب الصليب أمام المسيحيّ كرمز إلى إيمانه في عمل الفداء الذي قام به ابن الله. وحدثُ الجلجلة التاريخي ليس فقط شهادة حب الله للبشرية الخاطئة. إنه يُجمل بطريقة موضوعية كل حقيقة المسيحيّة كما عاشها مؤسّسها وشارك فيها تلاميذه. فحين ننظر إلى الصليب في الامتداد الكامل "للسر" الذي يكشفه، فهو الدلالة المستمرة لانتصار الله على خصومه، والعلامة على شفاء الانسان من الخطيئة وعلى دعوته إلى الحياة الابدية.
إن الصليب يضمّ في منظار العناية الإلهية موتًا مذلاً للمخلّص المسمّر على أداة تعذيبه، وتمجيدًا له بيد الله الذي أقامه وأجلسه من عن يمينه كالإبن المتجسّد. لا نستطيع أن نفصل بين وجهتَي "السر المسيحي" دون أن نشوّه مدلوله. ولكن يبقى أن الصليب كعقاب مهين، لعب دورًا حاسمًا في تدبير الفداء، وظلَّ عنصرًا أساسيًا في المثال الذي سيحاول المسيحي أن يقتدي به بشكل يوافق مصيره الشخصي.
هذه المعطية، مع ما فيها من مفارقة، تميّز بصورة قاطعة الايمان الذي كرز به المسيحُ والرسل. فمنها تتفرعّ روحانية الانجيل. ولهذا يستحيل علينا أن نتطرّق (ونتعمّق) إلى المسائل المتعلقة بالحياة المسيحيّة، بالعاطفة الدينية التي تحركها، بالقداسة التي توجهها، إن لم نحسب حسابًا لهذه القيمة الاولى وما تعطيه من توجيه لعلاقات المسيحيين بالله.

2- الابن المتجسّد
إن مثالا الابن المتجسّد وتعليمه النظري هما قاعدة الحياة المسيحية. فحكمة الله (وقصده وإرادته) تصبح أمرًا واقعًا في هذه المأساة. لقد اختار الله لابنه البريء موتًا مشينًا ليفتدي البشريّة الخاطئة. "هكذا أحبَّ الله العالم حتى وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية. والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم" (يو 3: 16-17). هنا نلتقي مع ما يقوله القديس بولس في الرسالة إلى رومة (8: 31-32): "إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا (أمام المحكمة، أمام الديان)؟ الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كل شيء". ويقول أشعيا (53: 6) عن عبد الله المتألم: "أسلمه الله عن خطايانا".
اختار الله هذه الطريق، فكان اختياره كشفًا لسرّ شكّك العالم، ولكنه بدا متساميًا كل التسامي. قال القديس بولس في الرسالة الاولى إلى كورنتوس (1: 22-24): "وإذا كان اليهود يطلبون المعجزات، واليونانيون يبحثون عن الحكمة، فنحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا شك (وعقبة) لليهود وحماقة في نظر اليونانيين. وأمّا الذين دعاهم الله من اليهود واليونانيين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله". إن الناس يبحثون عن طمأنينة بشرية، لا عن صليب يتمسّكون به، وهذا الصليب لا يتمسّك بشيء منظور. يبحث اليهود عن معجزات تكفل صحة التعليم، ويبحث اليونانيون عمّا هو معقول في حكمة بشرية. فكيف تصل الفئتان إلى الحكمة الحقّة، إلى بشارة الصليب التي هي "حماقة عند الذين يسلكون طريق الهلاك، وقدرة الله عند الذين يسلكون طريق الخلاص" (1 كور 1: 18)؟ لا نضع شروطًا على الله، لا نجرّب الله كما جرّبه بطرس ساعة أراد أن يبعده عن الصلب والموت فقال له: "حاشا لك يا رب! لن يكون لك هذا المصير" المعيب (مت 16: 22). على اليهود واليونانيين، على كل البشر أن ينفتحوا على الايمان الذي هو عطيّة مجانيّة، ولو كلّفهم هذا الانفتاح أن يُنكروا نفوسهم ويحمل كل واحد صليبه ليتبع المسيح (مت 16: 24).
فالمخطط الذي نكتشفه هنا يؤسّس الحياة المسيحية على إيمان بتدخّل مباشر من قبل الله في تاريخ البشر. فينتج عن هذا أن مصير جميع الناس اتّحد بالمسيح المائت والقائم. هكذا بنى القديس بولس كل تعليمه عن يسوع المسيح. "كما يموت جميع الناس في آدم فكذلك هم في المسيح سيحيون" (1 كور 15: 22). "أدركنا أن واحدًا (يسوع المسيح) مات من أجل جميع الناس، فجميع الناس شاركوه في موته. وهو مات من أجلهم جميعًا حتى لا يحيا الأحياء من بعدُ لأنفسهم، بل للذي مات وقام من أجلهم" (2 كور 5: 14- 15).
وينتج عن كل هذا أيضًا تأثيرُ الصليب على تصرّف المسيحي. فإذا أردنا أن ندخل في عمق هذه الحقيقة، نعود إلى الواقع التاريخي الذي حدث يوم الجمعة من تلك السنة التي مات فيها يسوع في عهد بيلاطس البنطي، ونعود إلى الوثائق الحيّة التي تتحدّث عن هذا الواقع الذي ينير حياة المؤمنين كلها.

3- الخشبة
إذا عدنا إلى أسفار العهد الجديد، نكتشف أربعة ألفاظ تعبّر أفضل تعبير عن واقع الصليب. وهذه الألفاظ هي الخشبة، الارتفاع، دم الحمل، الصليب. ونبدأ بالخشبة.
جاء الرومان بالصليب إلى فلسطين. فاعتبره الوثنيون أنفسهم عقابَ عبيد اقترفوا أكبر الجرائم. وقد تنظّم فيه كل شيء ليدلّ على بشاعة هذا العقاب الذي يحطّ من قدر الانسان إلى أقصى الدركات: يُجلد المحكوم عليه، يحمل الصليب أو أقلّه قسمًا منه، يُربط عريانًا، يسمّر على خشبة منصوبة فيكون في نزاعه فريسة ألم مرير. ويوضع فوق رأسه كتابة تحمل اسمه والسبب الذي لأجله حُكم عليه. وإذا أرادوا أن يعجّلوا في موته كسروا له ساقَيْه.
لم تعرف الشريعة اليهودية هذا العقاب المخيف. أمّا الرومان فاستعملوه بطريقة عادية في فلسطين. ولنا أمثال على ذلك. فاروس صلب مرة واحدة ألفي يهوديّ. وصلب كوادراتوس كل الثائرين الذين لم يموتوا في الحرب. وصلب فلوروس عددًا كبيرًا من الناس من كل جنس. أما تيطس الذي سيصبح أمبراطورًا، فقد صلب بعد احتلال أورشليم (70 ب. م) عددًا كبيرًا جدًا بحيث نقص الخشب لصنع الصلبان. وحين كان الرسل يتحدّثون عن الصليب كان هذا أو ذاك من السامعين يتذكّر شخصًا يتمايل تحت الضرب وصراخ الجنود. أجل، ما من نفور يساوي هذا النفور أمام خشبة مذلّة صُلب عليها يسوع.
سمّى سفر التثنية (23:21) المعلّق على الصليب "ملعونًا". وانطلق القديس بولس من هذا النص فقال: "المسيح حرّرنا من لعنة الشريعة بأن صار لعنة من أجلنا، فالكتاب يقول: ملعون كل من علّق على خشبة" (غل 3: 13). كان القديس بولس قد ذكر كيف أن الشريعة لعنت الخطأة (ملعون من لا يعمل). وهو يشير هنا إلى الخشبة التي يُرفع عليها "الملعون" لكي يراه الجميع. فهذا يعني أن المسيح قبلَ موتَ اللعنة لكي يخلّصنا من الخطيئة التي هي سبب اللعنة.
وقال بطرس أمام السنهدرين (مجلس اليهود): "إله آبائنا أقام يسوع الذي علّقتموه على خشبة وقتلتموه. فهو الذي رفعه الله وجعله رئيسًا ومخلّصًا" (أع 5: 30- 31). وقال في بيت الضابط (قائد المئة) كورنيليوس: "ونحن شهود على كل ما عمل من الخير في بلاد اليهود وفي أورشليم وهو الذي صلبه اليهود وقتلوه" (أع 10: 39).
وعاد القديس بولس في خطبته في مجمع أنطاكية بسيدية إلى ما قاله متى (58:27-60) عن انزال يسوع عن الصليب، فقال: "أنزلوه عن الخشبة ووضعوه في القبر. ولكن الله أقامه من بين الأموات" (أع 13: 29-30). وسنسمع بطرس في رسالته الأولى (2: 24) يقول: "وهو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة حتى نموت عن الخطيئة فنحيا للحق".
إن التحقير المرتبط بعذاب "الخشبة" أبرز أهمية "الارتفاع" الذي يمنحه الله إلى مَن أنزله إلى أعماق الذل وسامه عقابًا أفظع من الموت. هذه هي مفارقة الحياة المسيحية التي يهزأ العالم بمتطلباتها. فإذا أردنا أن نبرز معنى هذا التحقير الذي قبله المسيح بإرادته، وجب علينا أن نشدّد على المعنى الإلهي للسر. فالفشل البشري هو شرط موقّت لانتصار نهائي.

4- الارتفاع
نقرأ عن هذا الارتفاع في اعترافين إيمانيين تفوّه بهما الرسل فدلاّ على تدخّل الله بعد أن أنهى الموتُ مهمّة يسوع على الأرض. الاعتراف الأولى يلقيه بطرس باسم الرسل: "فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا، وهذا ما تشاهدون وتسمعون" (أع 2: 33). أجل، يمين الله هي التي فعلت ما فعلت على مستوى القيامة والصعود. والاعتراف الثاني هو جواب للمجلس الذي منع بطرس والرسل من التعليم "باسم يسوع". فقالوا: فيسوع هذا قد "رفعه الله بيمينه" (أع 5: 31). إن الارتفاع هو جواب الله على ذلّ المسيح. إن موته المذلّ هو شرط لانتصار قوّة الله في القيامة وفي نتائجها وهي: غفران الخطايا وإفاضة الروح القدس.
إن مشيئة المسيح قد كشفت منذ اليوم كل سلطة بشرية معارضة: "يجب أن نطيع الله لا الناس" (أع 5: 29).
يحتلّ الموت على الصليب مكانة مميّزة في النشيد الكرستولوجي (يتحدّث عن يسوع المسيح) الذي نقرأه في الرسالة إلى أهل فيلبي (2: 6- 11). إنّه ذروة انحدار ابن الله الارادي والباعث الحاسم لارتفاعه. لم يكتف بأن اتخذ بالتجسّد صورة عبد جعلته شبيهًا بالبشر، بل واضع نفسه بحرية كاملة فصار طائعًا حتى الموت والموت على الصليب.
إن هذا النص الذي يعطي شرَّ الصليب كل أبعاده، لا ينفصل عن اعتبارات أخلاقية أوردها القديس بولس: دعا أهل فيلبي لكي يتخلّقوا بأخلاق المسيح، لكي تكون فيهم العواطف التي كانت في المسيح يسوع وهي: التواضع والطاعة.
ويربط القديس يوحنا الارتفاع بمجد ابن الله. يذكر أولاً أن موسى رفع الحية النحاسية في البريّة ليشفي الناس من عضّة الحيات. زاد: "هكذا يجب أن يُرفع ابن الانسان لكي ينال الحياة الابدية كلُّ الذين يؤمنون به" (يو 3: 14- 15). ويلمّح يسوع إلى موته في معرض جداله مع اليهود: "حين ترفعون ابن الانسان، تعرفون أني هو، وأني لا أعمل شيئًا من عندي ولا أقول إلاّ ما علّمني الآب" (يو 8: 28). إن هذا الكلام يدلّ على لاهوت المسيح. وهو يشير إلى أن الارتفاع على الصليب بيد البشر يتضمّن ارتفاعًا آخر هو ارتفاع إلهي تظهر فيه قدرة الآب والابن في أعماله قدرة وأقوال حكمة.
ويربط نصٌّ يوحناوي آخر هذين الارتفاعين بموت تحدّث عنه يسوع فاجتذب إليه الناس. قال: "وأنا متى ارتفعت عن الأرض، جذبت إليَّ الناس أجمعين"، قال هذا مشيرًا إلى نوع الميتة التي سيتحمّلها" (يو 12: 32-33). جمع الإنجيل جمعًا حميمًا "ارتفاع ابن الانسان" على الصليب وارتفاعه في المجد، فكشف في مخطّط عناية الله الوحدة التي تجمع الارتفاع إلى الذل وتدلّ على النصر الذي يؤمّن ظفر الله على الانسان الخاطئ. فبالصليب تغلّب الله على العالم (1 كور 2: 6-9)، وجرّد الرئاسات والسلاطين وانتصر عليهم في المسيح (كو 15:2).
ونصرُ الصليب هذا الذي ينشده بولس بحماس (1 كور 15: 55-58) هو ما يفسّر الخصب الذي ينتج عن الموت في الذل: "إن كانت الحبّة من القمح لا تقع في الأرض وتموت، تبقى وحدها. وإذا ماتت أخرجت حبًا كثيرًا" (يو 12: 24). ويبرز يوحنا "الساعة" ساعة تمجيد ابن الانسان (يو 23:12)، الساعة التي لأجلها تجسَّد الكلمة (يو 27:12) والتي بها سيُدان العالم ويطرح سلطانه خارجًا (يو 12: 31). ويقينُ هذا النصر هو قوّة يمتلكها يسوع لنفسه ويحاول أن ينقلها إلى أخصَّائه: "ستعانون الشدّة في هذا العالم، ولكن تشجعوا، أنا غلبت العالم" (يو 16: 33).
ولهجة النصر هذه تشرف على نصوص سفر الرؤيا. "من غلب أعطيه أن يجلس معي على عرشي، كما غلبت أنا فجلست مع أبي على عرشه" (رؤ 3: 21). إن هذا الوعد يعني التلميذ الخاضع للرب والسخي في العطاء. ولكن تاريخ الكنيسة الذي يسير مسيرته في ظل الحمل المذبوح يدلّ على هذا النصر: "ها قد غلب أسد يهوذا (تك 49: 9: يسوع هو من نسل يهوذا) ونسل داود" (أش 11: 1، 10). يسوع هو ابن داود (رؤ 5: 5). وسوف ينشد الشيوخ: "أنت الذي يحق له أن يأخذ الكتاب ويفضّ ختومه. فقد ذُبحت وافتديتنا لله بدمك من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمَّة" (رؤ 9:5). وفي النهاية يكون نشيد الخليقة كلها صدى لنشيد جمهور الملائكة: "يحقّ للحمل المذبوح أن ينال القدرة والغنى والحكمة والجبروت والاكرام والمجد والحمد".

5- دم الحمل
ماثل سفرُ الرؤيا بين يسوع والحمل المذبوح. كان أشعيا (53: 7) قد تحدّث عن عبد الله الذي يشبه "حملاً يُقاد إلى الذبح ولا يفتح فاه". هذا المقطع كان يقرأه وزير ملكة الحبشة على طريق غزة. انطلق منه فيلبس ليبشّر بيسوع (أع 8: 35)، وانطلق منه القديس بطرس ليعطي العبيد مثالاً في الصبر، فوصل إلى الألم الفدائي، لأن "المسيح تألم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه. تألم وما هدّد أحدًا، بل أسلم أمره للديّان العادل، وهو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة. شفانا وجمعنا لأنه راعى نفوسنا وحارسها" (1 بط 18:2-25).
في نظر بطرس، المسيح هو حمل الله: "افتداكم لا بالفاني من الفضة والذهب، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح" (1 بط 1: 18-19). أجل دم المسيح المراق يحرّرنا. وهذا التحرّر من الشريعة يدلّ على ارتفاع يسوع الذي يركّز إيمان المسيحيين ورجاءهم. "هو الذي جعلكم تؤمنون بالله الذي أقامه من بين الأموات ووهبه المجد" (1 بط 1: 21).
ونجد التماثل بين المسيح الممجّد والحمل في كرازة يوحنا المعمدان (يو 1: 29-36). وسيعود الانجيل الرابع بوضوح إلى طقس الحمل الفصحي في معرض حديثه عن آخر فصول الصلب: فالحربة التي طعنت جنب المخلّص لم تكسر له عظمًا (يو 19: 36). التصق الدم المراق برمز الحمل فزاد على التمجيد في السماء دينامية حالية لا تزال خصبة على الأرض. فدم المسيح في واقعه الطبيعي وقوّته الفدائية، يُذكر مرارًا في نصوص العهد الجديد وهو يرادف الصليب ويدلّ على موت المسيح كأداة خلاص.
إن الدم الفدائي يشهد بأدواره المختلفة في علاقاتنا بالله، على انتصار المسيح وتمجيده. وقد عالجت الرسالة إلى العبرانيين سموّ الليتورجيا الجديدة (مع المسيح) على ليتورجية الميثاق القديم. فالقيمة الدينية للدم المراق ترتبط بالتطهير. فالدم الذي أريق في الميثاق القديم يدلّ على دم أراقه المسيح، فتمّت له مصالحة البشر مع الله. فموت المخلّص فعَّل الميثاق الذي يجعل دعوتنا إلى الميراث الابدي واقعًا وحقيقة. فالمشاركة في دم المسيح تحلّ محل الوعود السابقة. قال يسوع: "إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الانسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة" (يو 53:6). وقالت أيضًا في العشاء الأخير: "هذا هو دمي، دم العهد الذي يُراق من أجل الكثيرين" (مر 14: 24).
ونجد صحة انتصار الصليب في القيمة التي يوليها الله للدم الذي يفدي النفوس. حدّثنا بطرس (1 بط 1: 18-19) عن "دم المسيح". وبولس (1 كور 6: 20؛ 23:7) عن المسيح الذي اشترانا ودفع الثمن. وهناك فيض الخيرات الروحية التي تدلّ على سخاء المخلّص القدير والمجيد. هذه الخيرات التي شهد لها الأنبياء تدلّ على "آلام المسيح وما يتلوها من مجد" (1 بط 1: 11). هذه الخيرات في: السلام الذي نحصل عليه بالمصالحة في دم صليبه (كو 1: 20). والاسرار التي يشير إليها يوحنا (1 يو 5: 6) حين يذكر الماء والدم اللذين تدفّقا من الجنب المطعون. والبر بالايمان الذي يسميه بولس الرسول (روم 5: 9) البر بدمه. فالدم الذي جرى مرة واحدة على الجلجلة (عب 9: 12) يحتفظ بقدرة التقديس وبدينامية بسط السلام. قال القديس بولس (أف 1: 7): "كان لنا فيه الفداء بدمه، أي غفران الخطايا". وقال أيضًا: "في المسيح صرتم قريبين بدم المسيح بعدما كنتم بعيدين. فالمسيح هو سلامنا" (أف 2: 13-14).

6- الصليب
الصليب (ستاوروس) كلمة استعملها العالم اليوناني والروماني بشكل عام. أما العهد الجديد فاحتفظ بالكلمة لما حدث على الجلجلة. فمنذ الكنيسة الأولى (مر 6:16)، سمِّي يسوعُ القائم من الموت: المصلوب. هذا اللقب يذكّرنا بالواقع التاريخي وما فيه من مهانة: أعدم يسوع بيد الجنود الرومان. ولكن مسؤولية اليهود كانت واضحة وهم الذين أسلموه إلى بيلاطس (مر 15: 15؛ أع 2: 36). ولم يحاول التقليد الرسولي أن يُخفي وجهة الذلة في الحدث. فالرسالة إلى العبرانيين (12: 2) عرضت على المؤمنين شجاعة المسيح الذي "احتمل الصليب مستخفًا بالعار". وأسند بولس سلطته الرسولية إلى فشل الجلجلة البشري الذي تحوَّل بقدرة الله إلى ينبوع حياة (2 كور 13: 4): "صُلب بضعفه، ولكنه الآن حيّ بقدرة الله".
هذا الواقع التاريخي للصليب كان الهدف النهائي لحياة المسيح على الأرض. فالإنباءات الثلاثة تدلّ على ذلك: "ها نحنُ صاعدون إلى أورشليم، وسيسلّم ابن الانسان إلى أيدي الغرباء فيستهزئون به ويجلدونه ويصلبونه" (مت 18:20-19). سيُذلُّ ابن الانسان، ويرذله رؤساء الشعب (مر 8: 31)، ويسلّمه الله إلى أيدي البشر (مر 9: 31) فيبصقون عليه ويجلدونه (مر 33:10). ويُعلَن انتصارُ الله، فيبرز تدخّل الله في الفشل البشري. إن انتصار الحياة يُجمل تمجيد "المصلوب" كله.
إن دور الصليب في مهمّة الكلمة المتجسّد دور جوهري تُبرزه الانباءات بالاَلام. فالإنباء الأول يلي اعتراف بطرس ويجعل ألم المسيح وموته كجزء لا يتجزّأ من مصيره البشري: عليه أن يتألم كثيرًا (مر 8: 31؛ لو 22:9؛ مت 16: 21). والإنباء الثاني يؤكد هذه المتطلبة: "يسلم ابن الانسان إلى أيدي البشر" (مر 9: 31). والإنباء الثالث يبرّر الصعود إلى أورشليم بضرورة الموت الذي سيلقاه يسوع (مر 10: 33). ويأتي مثل الكرَّامين القتلة (مر 12: 1- 11) فيُنهي مهمّة "الابن الحبيب" بموت قاس يتبعه انتقام رب الكرم.
إذن الموت على الصليب هو الهدف المحدّد لحياة المخلّص على الأرض. وهكذا تمّ "ما كُتب في الأنبياء" (لو 18: 31). إنه فشل في الزمن ومحنة عابرة. أما تدخّل الله "في اليوم الثالث" فيدوم إلى الأبد. إن القيامة تدشّن نظامًا جديدًا لا يحتويه الزمن.

خاتمة
الصليب هو العنصر الجوهري في الفداء، وستكون له مكانته في حياة من جعل المسيح مثاله وأصل وجوده وحياته. يتضمَّن الصليب وجهة سلبية، الفشل البشري الذي هو شرط انتصار الله. وهذا الانتصار هو الوجهة الايجابية. فانتصار الله وجو التفاؤل الذي ينتج عنه هو ميزة كل مصير مسيحي حقيقي. وفي النهاية، إن الدينامية العلوية تتولد من الصليب فتتجاوز الحدث في قدرة لا يقدر التاريخ أن يحيط بحقيقتها.
هذه هي قوّة الصليب، هذا هو النور الذي يشعّ من الصليب والذي نرمز إليه بمشاعل على رؤوس الجبال في عيد ارتفاع الصليب أو عيد تجلّيه.
ظل الصليب مخفيًا حتى اكتشفته القديسة هيلانة. وظل خفيًا في قلوب الذين ناؤوا تحت أثقال الحياة وآلامها. ولكنه سيتجلّى فينا بفضل قيامة بدأت فعلها منذ قيامة المسيح. ولن ينتهي هذا الفعل قبل نهاية العالم. هذا ما يقوله لنا القديس بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنتوس (5: 1): قد تتهدم خيمتنا الارضية. ولكن لنا في السماء بيتًا أبديًا لم تصنعه الايدي. قد يشتدّ الضيق الحاضر ولكنه يهيّئ لنا مجدًا أبديًا لا حدّ له. قد نجبر على المرور في الألم والموت، ولكن المسيح انتصر فينا وهو يهيّئ لنا الغلبة لأنه أحبّنا. فما الذي يفصلنا عن المسيح؟ ما الذي يفصلنا عن صليب المسيح؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM