الفصل الثاني :الرحمةوالرأفة في العهد الجديد

الفصل الثاني
الرحمة والرأفة في العهد الجديد

طوبى للرحماء فإنَّهم يُرحمون. فإنَّ الله يَرحمهم. هذه التطويبة التي نقرأها مع سائر التطويبات في بداية العظة على الجبل، تحدّثنا عن فضيلة الرحمة التي تقف بجانب الوداعة والسلام. كما تحدّثنا عن رحمة الربّ التي تعطى بغزارة للذين شاركوا الربّ في رحمته وحنانه.
فالرحمة أصلاً تعود إلى الرحم، إلى الحشا الذي فيه يتكوّن الولد وينمو. فالربّ هو أب وأم أيضًا. وفي هذا يقول أش 49: 15 إنَّ الله يشبه الوالدة، التي لا تنسى من ترضعه، وترحم دومًا ابن بطنها. وإن حصل ونسيته، إلاّ أنّ الربّ لا ينسى من كوّنهم في "أحشائه". هنا نتذكّر قول مز 8:103، 13: "الربّ الرؤوف، رحيم. طويل الأناة، وكثير الرحمة... كرأفة أب ببنيه يرأف الربّ بالذين يتّقونه". ونتذكّر في العهد الجديد كيف تحرِّكت أحشاء الوالد لدى عودة ابنه الذي ذهب إلى البعيد ثم عاد تائبًا.
عن هذه الرحمة سوف نتحدّث فنتوقّف على العهد الجديد، ولكن دون أن ننسى خلفيّة اللغة اليونانيّة من أجل معنى الكلمات. هل ننسى أنَّ العهد الجديد وصل إلينا كلّه في اللغة اليونانيّة؟ ولا ننسى ما في الأدب اللابيبلي، أي ذلك الأدب الذي يقف بين أسفار العهد القديم والعهد الجديد، فيأخذ من الأولى ويرفد الثانية.
نتوقّف في هذا القسم عند ثلاث ألفاظ، وبالأحرى ثلاثة جذور. اللفظة الأولى وصلت بنا إلى المحبّة والعهد فقابلت إجمالاً "ح س د" في اللغة العبريّة. والثانية ارتبطت برحم المرأة التي تحنو على ابن حشاها. والثالثة تقابل الرأفة.

1- الرحمة والمحبة
أ- الرحمة بشكل عام
اللفظة اليونانيّة التي نتحدّث عنها الآن هي "الايوس". إنَّها شعور يحرّكه اتصال بحالة من البؤس، فتدلّ على التعاطف مع الآخر الذي يعرف الشقاء.
إذا عدنا إلى السبعينيّة نرى أنَّ الايوس، تقابل عادة "ح س د" العبريّة. وفي ست مرات فقط تقابل "رح م ي م". وقد تقابل أيضًا "ح ن ن" أي الحنان. أمَّا الفعل فيقابل "ح ن ن" (تحنّن) كما يقابل "رح م". يدل "ح س د" على موقف الانسان أو الله، الذي تحرّكه علاقة متبادلة بين الأهل والأصدقاء، بين الضيف ومضيفه، بين السيّد وعبده. والتبادل يدلّ على عهد بين الفريقَين. نقرأ أش 63: 7: "أذكر رحمة الربّ". "أذكر يا ربّ مراحمك ورأفتك فإنَّها منذ الأزل" (مز 25: 6؛ رج 89: 49).
في لغة اليهوديّة المتأخّرة، أي على مشارف العهد الجديد، لا تميّز الكتابات الدينيّة بين "ح س د" و "رح م ي م" (أي مراحم). فاللفظتان تدلاّن على المحبّة كما على الرحمة والشفقة، وهما "تُوازنان" غضب الله ودينونته. فالربّ يفعل بحسب رحمته. ورحمته تُعطى لإسرائيل، للأتقياء، للذين يحبّونه، ويتّقونه، ويرفعون الصلاة إليه. تدلّ الرحمة على نعمة الله وهى كالغضب لفظة اسكاتولوجيّة، أي تقودنا إلى نهاية العالم.
أمَّا في العهد الجديد، فمفهوم الرحمة سيتوسّع. لا يحبّ الله فقط أولئك الذين يحبّونه، بل هو يُشرق شمسه على الأخيار والأشرار، ويرسل مطره على الأبرار والاثمة. فالاسم (الايوس) والفعل (الاياين) يُستعملان مرارًا ليدلاّ على موقف يطلبه الله في معاملة الإنسان للإنسان. فالعبارة التي نقرأها في هو 6: 6 (أريد رحمة لا ذبيحة) قد وردت مرّتَين في إنجيل متى (9: 13؛ 12: 7)، فدلّت على أنّ الرحمة هي الوصيّة العظمى وهي تتفوّق على الذبائح التي نستطيع أن نقدّمها لله. وسيقول يسوع للكتبة والفريسيين إنّهم أهملوا "أثقل ما في الناموس، العدل والرحمة والأمانة" (مت 23: 23). ونجد "صنع رحمة" في لو 10: 27، في مجال الحديث عمّا فعله السامريّ للجريح. إنها عبارة تدلّ على المحبّة والرحمة. في مت 18: 33 نقرأ كلام السيّد لعبده: "أفما كان ينبغي لك، أنت أيضا، أن ترحم رفيقك، كما رحمتك أنا"؟ إنَّ طلب الرحمة يتأسّس على رحمة الله كما في العالم اليهوديّ. غير أنَّ الاختلاف الوحيد هو أنّ رحمة الله تسبق رحمة الإنسان. ومن جهة ثانية، فإنَّ "الدينونة ستكون بلا رحمة على من لا يصنع الرحمة. بيد أنَّ الرحمة ستغلب الدينونة". فكأننا أمام صراع بين دينونة الله ورحمته. فالرحمة ستتغلّب. وقد جاء في بعض المخطوطات: "الرحمة تستخفُ بالدينونة".
ولكن عندما تأخذ المسيحيّة بهذه التقاليد، فهي لا تتوقّف عند هذا التفكير. بل تصل إلى معرفة الله في المسيح. فإن كانت الحكمة العلوية (من فوق) في يع 17:3 تعتبر مليئة بالرحمة، فهي تتضمّن أيضًا المحبّة والحنان.
ب- رحمة الله
تعود رحمة الله في العهد الجديد إلى معنى أصيل في العهد القديم هو "الأمانة والإخلاص". هو "أمانة الله ونعمته". هذا ما نجده في لو 1 مع مواضيعه المتجذِّرة شي العهد القديم. قيل عن أليصابات (58:1) أنَّ "الربّ عظّم رحمته لها". وأنشد زكريا الربّ الذي صنع "رحمة إلى آبائنا" (آ 72)، كما أشار إلى "أحشاء رحمة إلهنا" (آ 78). وذكرت مريم الرحمة مرّتَين في نشيدها لله: رحمته إلى جيل جيل... رحمته لابراهيم ونسله (آ 54- 55).
وستصوّر أف 2: 4 الله على أنّه غنيّ بالرحمة. وتحدثت 1 بط 1 :3 عن الله الذي ولدنا ثانية "حسب رحمته الكثيرة". هنا نجد رباطًا وثيقًا مع تاريخ الخلاص كما في روم 11: 30-32 حيث نقرأ: "فكما أنّكم قد عصيتم الله من قبل (أيها الوثنيون الذين صرتم مسيحيّين)، ونلتم الآن رحمة بسبب عصيانهم (أي عصيان اليهود الذين رفضوا الربّ يسوع)، فكذلك هم أيضًا قد عصوا الآن من أجل رحمتكم، لكي يُرحموا هم أيضًا بتوبتهم، لأن الله قد أغلق على الجميع في المعصية لكي يرحم الجميع". الرحمة هنا هي عمل الله الرحيم في تاريخ الخلاص. وتصرّف الله هو تصرّف رحمة تجاه اليهود كما تجاه الوثنيّين بالنسبة إلى طاعتهم أو عصيانهم للإنجيل. وما نلاحظه حين نقرأ الرسالة إلى رومة هو أنَّ بولس لا يتحدّث عن رحمة الله إلاّ في ف 9؛ 11؛ 15، في إطار تاريخ الخلاص.
وعمل الله الخلاصيّ يجعلنا في ملء الزمن كما عبّر عنه بولس في تي 3: 5: "خلّصنا الله، لا نظرًا لأعمال برّ عملناها، بل بحسب رحمته". في هذا المعنى، يتحدّث بولس أيضًا عن "آنية الرحمة" تجاه "آنية الغضب" في روم 9: 22-23. لا شكّ في أنَّ الرحمة تتغلّب على الغضب والعقاب الأبديّ، لأن كلمة الله الأخيرة هي للغفران. من أجل هذه الرحمة، ستمجّد الأمم الله بسبب كلّ ما عمله لأجلها (روم 9:15).
ترتبط رحمة الله بالمسيح يسوع. بتجسّده وفدائه. كما ترتبط بنعمة الله سواء شدّد النصّ تشديدًا واضحًا على عبور هذه النعمة بواسطة المسيح أم لا. نقرأ مثلاً في غل 6: 16: السلام والرحمة على جميع الذين يسلكون هذه الطريق (طريق الحريّة المسيحية). وترتبط هذه الرحمة بحاجة الإنسان إلى معونة تتعدّى امكانيّات البشر. مثلاً، صرخ طيما ابن طيما الأعمى نحو يسوع: "يا ابن داود ارحمني" (مر 10 :47). وقال الغني لابراهيم: "إرحمني يا أبت ابراهيم"، وكأني به يطلب الرحمة من الله (لو 16: 24). أمَّا البرص العشرة فوقفوا بعيدًا ورفعوا أصواتهم قائلين: "يا يسوع المعلّم ارحمنا" (لو 17: 13). مثل هذه العبارة نجدها مرارًا في العهد القديم، في أش 33: 2: "إرحمنا يا ربّ". في مز 51: "إرحمني يا الله بعظيم رحمتك".
وعى بولس أنّه صار أهلاً للثقة "برحمة الربّ" (1 كور 7: 25). وأنّه رُحم حين قلّده الله هذه الخدمة (2 كور 4: 1)، خدمة الإنجيل. واعتبر أنّه نال رحمة الربّ وغفرانه، لأنّه حين اضطهد الكنيسة، إنّما فعل ما فعل عن جهل (1 تم 1:13، 16).
هذا ما اكتشفناه في نصوص تشير إلى الرحمة "الايوس" في العهد الجديد، مع ما يرتبط بها من كلمات تصل بنا إلى الإحسان والصدقة. ونجد نفوسنا في الخط المعاكس للرحمة كما في يع 2: 13 ولفظة "أنالايوس" التي تدلّ على قلب انتفت منه الرحمة. هكذا يعاملنا الربّ "بلا رحمة" إن كان قلبنا قاسيًا تجاه إخوتنا.

2- الرحمة والمراحم
وننتقل إلى كلمة يونانيّة أخرى ترد في العهد الجديد: سبلانخنون: الحشا. والفعل الذي يرتبط بهذا الاسم: تحنّن، أشفق. نقرأ في مت 9: 36: "لما رأى يسوع الجموع تحنّن عليهم"، تحرّكت أحشاؤه كما تتحرّك أحشاء الأم من أجل ابنها. وفي 14: 14: "تحنّن عليهم وشفى مرضاهم". أمَّا الصفة المتفرّعة من الاسم فنجدها مرّتَين. في أف 4: 32 حيث يدعو بولس المؤمنين لكي يكونوا "شفوقين متسامحين". وفي 1 بط 3: 8 التي تدعو المسيحيّين ليمارسوا "الشفقة واللطف". وهناك صفة خاصة بالله: كثير الرحمة.
أ- المعنى العام
ترد هذه اللفظة (سبلانخنون) عادة في صيغة الجمع كما في مجمل اللغات الساميّة: في السريانيّة والعبريّة والأراميّة والأوغاريتيّة. تعني في الأصل الأجزاء الداخليّة في الذبيحة. ثمَّ أحشاء الإنسان ولاسيّما المرأة حيث يقيم الجنين. بل صار الأولاد "أحشاء" المرأة لارتباطهم بها، فتناديهم: يا أحشائي. ولكن يبدو أن هذا الاسم لا يعني عواطف القلب من رحمة وحنان كما في العالم اليهوديّ المتأخّر والمسيحيّة الأولى. لقد اتّخذ معنى جديدًا ليدلّ على فضيلة في الإنسان أو في الله.
لا يرد الاسم (سبلانخنون) مرارًا في السبعينيّة. في أم 12: 10 يقابل "رح م ي م" (أحشاء المنافقين). في 26: 22 يقابل "ب ط ن" (تنزل إلى أخدار البطن). وفي سي 30: 7 (تضطرب أحشاؤه، في السريانيّة: يضطرب قلبه). وهناك 12 عبارة ألّفت أصلاً في اليونانيّة فلم تكن نقلاً عن العبريّة. أمَّا الفعل فلا يرد إلاّ في أم 17: 5 (خاص بالسبعينيّة ولا نجده في العبريّة): "ولكن الذي يشفق يجد الرحمة". وفي 2 مك 6: 8.
إذا عدنا إلى "وصيّات الآباء الاثني عشر" نجد عبارات جديدة تختلف كلّ الاختلاف عمّا في السبعينيّة. فالاسم يدلّ على باطن الإنسان ومركز العواطف فيه. يدلّ على القلب والكبد. نقرأ في وصيّة شمعون (2: 4): "كان قلبي قاسيًا، وكبدي لا يلين، وأحشائي بدون رحمة" (رج وصيّة زبولون، 2: 4- 5). و"الحشا" يعني أيضًا شعور الإنسان، بل الإنسان كلّه في عمق أعماقه. نقرأ شي وصيّة نفتالي: "عندما قال هذه الكلمات أبكاني، فاشتعلتْ في أحشائي (أي فنّي، في أعماقي) رغبةٌ بأن أخبره أنَّ يوسف قد بيع".
مع الصفة نتحوّل إلى الرحمة التي هي وصيّة شاملة وملحّة. قالت وصيّة شعون (4: 4). "كان يوسف رجلاً صالحًا، كان روح الله فيه، كان شفوقًا ورحيمًا. فلم يحقد، بل أحبّني مثل سائر إخوتي". وفي وصيّة زبولون (5: 1) نقرأ: "أوصيكم يا بني، أن تحفظوا وصايا الربّ، وترحموا القريب، وتشفقوا على الجميع، لا على البشر فقط، بل على الحيوانات العجم أيضًا". وسوف نرى كيف أنَّ لفظة "حشا" ستطبّق على الله نفسه. نقرأ في وصيّة زبولون (8: 2): "في الأيام الأخيرة، يرسل الله رحمته على الأرض، فيقيم حيث يجد أحشاء رحمة". وفي وصيّة نفتالي (4: 5). "يشتّتهم الربّ على كلّ وجه الأرض حتى تأتي رحمة الربّ، رجل يمارس البرّ والرأفة تجاه البعيدين كلّهم وتجاه القريبين".
ب- المراحم في العهد الجديد
إذا جعلنا جانبًا لو 1: 78، لا نجد الاسم (سبلانخنون) ولا الصفة (أوسبلانخنوس) في الأناجيل الإزائيّة، بل الفعل فقط، وذلك في خطّ وصيّات الآباء الاثني عشر. وإذا جعلنا أمثال يسوع جانبًا لا يُستعمل فعل "رحم، أشفق" بالنسبة إلى الانسان، بل لكي يصوّر موقف يسوع ويُبرز الطبيعة الإلهيّة لأعماله.
ونبدأ مع أمثاله يسوع. فالفعل فيها يدلّ على موقف خاص بالبشر. إذا عدنا إلى مثل العبد الذي لا يرحم (مت 23:18-35). فهو يصلّي لكي يطيل السيّد عليه روحه. ونقرأ الجواب في آ 27: "تحرّكت أحشاء سيّد ذلك العبد وأطلقه". وهكذا بدا فعل "أشفق" أقوى من فعل "أطال روحه". وسوف نجد فعل "الايو" (رحم) في آ 26، 29، 33. ونجد الرحمة والغضب أيضًا في لو 15: 11- 32. من جهة، تحرّكت أحشاء الوالد حين عاد ابنه (آ 20). أمَّا الأخ الأكبر، "فغضب" ولم يرد أن يدخل، أن يقيم مع أخيه الخاطئ (حسب الأكبر نفسه أنَّه ظلّ بارًا)، الوثني (يمثل الأخ الأكبر اليهود الذين رفضوا دخول الوثنيّين إلى الكنيسة إلاّ بشروط). في هذه الأمثال صُوّرت عاطفة يسوع البشريّة بألفاظ قويّة جدًا لتدلّ على رحمة الله في عمله الخلاصي. ولقد رأى الآباء رحمة يسوع نفسه في شخص السامريّ الذي انحنى على الجريح (لو 10: 33).
وتطبّق لفظة "أشفق، رحم" على يسوع أربع مرّات في مرقس. في 6: 34، ومع معجزة تكثير الأرغفة نقرأ: "تحنّن (تحرّكت أحشاؤه) عليهم (على الشعب) لأنّهم كانوا كخراف لا راعي لها" (رج 8: 2). وفي 1: 41 و9: 22 ترتبط الرحمة بالشفاء. واستعاد متّى ما وجده في مرقس، وزاد الفعل في معرض حديثه عن إرسال يسوع للتلاميذ. "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، لأنّهم كانوا منهوكين، منطرحين مثل غنم لا راعي لها" (مت 9: 36). أمّا لوقا فيرينا حنان يسوع تجاه أرملة نائين. "إذ رآها الربّ أخذته الشفقة عليها" (13:7).
وجدنا الفعل في الأناجيل الإزائيّة ولن نجد إلاّ الإسم في رسائل القدّيس بولس على مثال ما رأينا في "وصيّات الآباء الاثني عشر". هو يرد في الجمع "سبلانخنا"، فيدلّ على أعماق الشخص. نقرأ في 2 كور 12:6: "أنتم متضايقون في أحشائكم". أي في داخلكم. ونقرأ في 7: 15 عن تيطس الذي "تزداد أحشاؤه عطفًا عليكم". وهكذا لا نجد آثار الرحمة في استعمال بولس لهذه اللفظة. نزيد على كلّ هذا أع 1: 18 و 1 يو 17:3، حيث تعني اللفظة "أحشاء" كما عند القدّيس بولس فتبقينا على مستوى الجسد دون أن تغلقنا على عالم الرحمة.


3- الرحمة والرأفة
ونصل إلى الكلمة الثالثة التي تتحدّث عن الرحمة في العهد الجديد. "أويكتيرو" رأف (أو: رئف). نقرأ في روم 9: 15 عبارة مأخوذة من العهد القديم (خر 33: 19) وهي تدلّ على حريّة الله السامية: "أترأّف على من أترأّف" (بعد: "أرحم من أرحم"). وهناك الاسم الذي يرد خمس مرات في العهد الجديد. والصفة التي ترد مرّتَين. إلى هذا نزيد "فايدوماي" الذي يعني أشفق ويرد أكثر من مرة في العهد الجديد. في روم 8: 23: "الله لم يشفق على ابنه، بل بذله". في 2 بط 2: 4: "لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا".
إذا كانت "الايوس" تدلّ على الرحمة والعطف، فالجذر "أويكتروس" يدلّ على الشفقة أمام المصيبة، وبالتالي الرثاء لما يحدث لشخص من الأشخاص. فالمتهّم الذي يطلب رحمة القاضي ورأفته يصرخ: "ترأّف بي"، وقد يطلب الإنسان الرأفة من إلهه على مثال ما نجد في حوارات مع الآلهة.
ويُستعمل فعل "أويكتيرو" في السبعينيّة كمقابل لفعل "ح ن ن" (تحنّن) عشر مرّات، وفعل "رح م" (رحم) 12 مرّة. أمّا الاسم فيقابل "رح م ي م" ويرد 25 مرّة. وهكذا يكون هذا الجذر قريبًا من فعل "الايو" فيدله مثله على رحمة الله.
سبق وقلنا إنَّ فعل "رأف" يرد مرّة واحدة في العهد الجديد، والاسم بضع مرّات، ويرد في الجمع ما عدا كو 3: 12. ففي روم 12: 1 يوبّخ بولس الجماعة برأفات الله. وفي 2 كور 1: 3 يدعو الله أب الرأفات. فالله هو أب منه تأتي كلّ رحمة فتصل إلينا. أمَّا الصفة فترسم لنا صورة "الله الرؤوف والكثير الرحمة" (يع 5: 11).
تلك هي الخلفيّة اللغويّة للرحمة في العهد الجديد. توسّعنا فيها عبر ثلاث كلمات يونانيّة، وأسندنا نصوص العيد الجديد إلى اللغة اليونانيّة الدنيوية، وإلى السبعينيّة وغيرها من النصوص اليهوديّة. يبقى علينا في فصل لاحق أن ندرس اللاهوت الذي نستخلصه من هذ النصوص التي ذكرناها.

خاتمة
في نهاية عظة السهل كما وردت في لو 6، قدّم يسوع هذا القول القاطع: "كونوا رحماء كما أنَّ آباءكم رحيم" (آ 36). هذا النداء لكي نقتدي برحمة الله، يقابل نداء آخر نقرأه في مت 48:5: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل هو". هذا يعني أنّ الرحمة هي الكمال كما يعظ به يسوع. ففي الإطار الذي فيه ورد مت 48:5 ولو 36:6، نجد كلامًا عن محبّة القريب تتضمّن محبّة الأعداء. نغفر للآخرين، لا ندينهم. ويحدّثنا لو 6: 36 ي عن السخاء الذي يعطي بلا حساب. ولكن حين نقرأ النصوص البيبليّة عن الرحمة ندرك أنَّنا لسنا فقط أمام مجرّد عاطفة بسيطة من الشفقة تتوقّف عند الظواهر والكلمات "الفارغة". كما أنّنا لا نحصر الرحمة بمغفرة الخطايا. فالعيش على صورة الله "أبي المراحم" (2 كور 1: 3) يفترض ارتدادًا داخليًا وروحيًا في الطاعة ليسوع الذي "صار شبيهًا بإخوته لكي يكون حبرًا رحيمًا" (عب 2: 17). كان الوسيط بين الله والبشر، فتحدّث عن الرحمة التي جعلها بين التطويبات. هي ينبوع سعادة ينبثق من الآب. وهي سبب سعادة الإنسان الذي يرحم فتتجاوب الرحمة التي في قلبه مع رحمة الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM