الفصل الأول :الخطيئة في العهد الجَديد

الفصل الأول
الخطيئة في العهد الجديد

الخطيئة سر لا نفهمه إلاّ على ضوء الوحي وفي جوّ الخلاص. وإن عددًا من الناس يفضّلون العيش في سراب، فتأتي النعمة وتمزّق هذا السراب وتدفعنا إلى انقلاب في حياتنا: "مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم". هذا ما قالت أشعيا في العهد القديم. وقال يوحنا المعمدان على عتبة العهد الجديد: "توبوا، فقد اقترب ملكوت الله" (مت 3: 2). وجاءت كلمات يسوع تدعونا إلى هذه التوبة وهذا التبديل في حياتنا: "تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالبشارة" (بالإنجيل) (مر 1: 15).
ليس العهد الجديد نقطة وصول وحسب، بل هو يمسك البشرية من جديد وينزع القناع عن عينيها. فنسمع صوت يوحنا المعمدان: "ها إن الفأس موضوعة على أصول الشجر. فكل شجرة لا تعطي ثمرًا جيدًا تُقطَع وتُرمى في النار" (مت 3: 10). هل نحن أمام إخطار وتهديد؟ بل نحن أمام نداء الحب الذي يواجه عمى الإنسان. هناك صفحتان انجيليّتان تشيران إلى نعمة وعي الخطيئة: الجسمانية أو الظلمة على الخطيئة ورقاد الإنسان ساعة يصبّ الشر قوّته على ضحيته، وطريق الشام حيث يقرّ الإنسان أنه مضطهد قاتل: يتعرَّى وضعُه وتسقط الغشاوة عن عينيه. قال بولس: "اضطهدت كنيسة الله" (1 كور 15: 9).
لاشكّ في أن فكرة الخطيئة ليست شيئًا جديدًا تُدخله النعمة إلى ضمير الإنسان، ولكن النعمة توعي هذا الضمير، والوحي يفرض نفسه قلقًا في قلبنا. غير أن الضمير قد يتهرّب، وبدل أن يقرَّ بخطيئته، يقف في وجه النور، وبدل أن يعترف يتمرّد. حينئذ تتّخذ الخطيئة صورة جديدة. إذًا، هناك تواز بين الخطيئة والوحي الذي يلقي ضوءه على الخطيئة. هناك حوار، بل صراع ومبارزة: من سوف ينتصر على الآخر؟ فساعة ملء النور قد تكون أيضًا ساعة الظلام، وعلى قمّة الحب تبلغ الخطيئة إلى الذروة. هذا ما اكتشفه يسوع على الصليب بصورة عميقة، وهو يدعو كل منا إلى اكتشافه.

1- يسوع وخطيئة البشر
لقد جاءت الساعة، جاء المسيح وهو يقدّم لنا سنة الغفران التي فيها ننال رضى الرب (لو 19:4). إنه يرجئ الحُكم، كما فعل مع التينة العميقة: انتظر سنة قبل أن يقتلعها (لو 8:13). وسيبكي يسوع لأن أورشليم تجاهلت ما يقدّمه لها يسوع، تجاهلت طريق السلام (لو 19: 41-42). يبقى علينا أن نسمع هذا النداء ونعرف موضوعه.
أ- الخطايا الفردية
الخطايا الفردية هي الجوالات التي ترافق كل واحد منا، التي ننساها إلى أن يأتي نظر يسوع الصافي فينبّهنا لئلا نرمى الآخرين "بأول حجر" (يو 7: 8). على هؤلاء يُشفق يسوع. إنه أبو الابن الضاّل (لو 15: 11 ي)، بل أبو الابن الأكبر الذي يحتاج إلى الرحمة العظمى، وهو صاحب القلب المغلق على رحمة الله. كان الأنبياء في العهد القديم يتحدّثون إلى الجموع: يستحلفونهم، يهدّدونهم. أما يسوع فيتوجّه إلى ابن (من أبناء الله). أمامه خاطئ ينغمس في خطيئته. عرف إرميا (13:22)، ولكن يسوع عرف بطريقة أعمق أفي الشرّ هو في داخلنا، وأن من قلوبنا يخرج ها ينجّسنا، من قلوبنا تخرج الأفكار الشريرة (مر 107: 23؛ مت 15: 19). لهذا توجّه يسوع إلى القلب، وهو يريد خلاص الإنسان بكل ما لديه: بكلمته، بتعبه (يو 6:4)، بنظرته (مر 21:10)، بصمته، بذهابه المفاجى (مر 45:6-46)، بغضبه المليء بالشفقة (مر 3: 5). هو يسير في الطرقات، يدخل إلى كل مكان، ويعرف أن ينتظره من يراه، يظن أن العالم يعيش ساعة الخطر، وهو وحده يحسّ بها. هو يحبّ الشبّان الطيّبين الذين اختارهم فالتحقوا به، ولكنه يفرح أيضًا أمام الخاطئين.
إنه طبيب يبحث عن مرضاه (مر 17:2)، إنه راع يترك التسعة والتسعين في الجبال ويبحث عن الخروف الضال (مت 18: 12). لهذا يكشف "المساكين" عن نفوسهم أمامه على مثال بطرس الذي قال من دون مواربة: "ابتعد عني، يا سيّدي، أنا رجل خاطئ" (لو 8:5). هذا هو وضع كل واحد منا، ويسوع يعرف ما في الإنسان (يو 25:2)، وهو لا يخاف أن يلاحقه. بل يحدّث العشّارين والخطأة ويؤاكلهم (لو 19: 1-6). هذا ما جعل معاصريه يشكّون به، بل يتذمرون: "دخل بيت رجل خاطئ ليقيم عنده" (لو 7:19). هذا هو موقفه، فكيف نفهمه؟
أحسّ إرميا بالخطيئة فصرخ: "وا أحشائي. وا أحشائي، إني أتوجّع" (إر 4: 19). لقد رأى فيها شرًا تاريخيًا، رأى فيها دمارًا لأورشليم. ولكن يسوع رأى شرًا آخر، فيه يرسم الإنسان صورته الأبدية، ويكشف عن وجه الجحيم الأبدي. ويتضامن يسوع مع الخاطئ ليخلّصه، ولكنه يعرف في النهاية أنه قد يأتي الرفض الأخير. فلا بد من الوقوف بوجه الكارثة، لا بدّ من تصحيح هذا التاريخ الإنساني.
ب- الخبث والرياء
الخاطئ يشبه عاملاً إنهار عليه جبل، فلا بدّ من رفعه من تحت الأنقاض. إنه بائس وتعيس، وإن يكن مسؤولاً عن الحالة التي وصل إليها. قد يكون ذهب كالابن الشاطر ليفتح طريقه بنفسه وبمعزل عن الله. ولكن مسيرته اندفعت، بفعل الوضع الاجتماعي، بما يسمّيه يسوع الخبث والرياء. ولهذا يكفي أن نقرأ بعض آيات من إنجيل متّى لنفهم خوف يسوع. إذا أحسنت إلى أحد، لا تزمِّر مثلما يعمل المراؤون... إذا صليتم، لا تكونوا مثل المرائين... ولا تردّدوا الكلام تردادًا في صلواتكم مثل الوثنيين... وإذا صمتم لا تكونوا عابسين مثل المرائين" (6: 2-7، 16-19). ويتابع يسوع: "إياكم والأنبياء الكذابين، يجيئونكم بثياب الحملان وهم في باطنهم ذئاب خاطفة" (7: 15). وسوف يوجّه كلامه إلى الفرّيسيّين ومعلمي الشريعة بمناسبة الحديث عن غسل الأيدي: "يا مراؤون، صدق أشعيا في نبوءته عنكم حين قال: هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد عني" (مت 15: 1-8؛ رج 16: 1-4؛ 23: 1-37).
الخبث هو أولى خطايا الضمير، وكل واحد منا يُرائي ويكذب على نفسه، ويتحايل على الحق، ويبحث عن مساومات في الصراع مع الواجب. ليس الخبث رذيلة عادية وحسب في نظر يسوع: إنه يتجسَّد في طبقة اجتماعية، طبقة الكتبة والفريسيين: موقفهم، نواياهم، الواجهة التي يجعلونها بيضاء ليربحوا ثقة "الصغار" (مت 23: 27-28). وينطلقون من مبادئ ومنافع دينية فيعارضون متطلّبات المسيح ومواعيده. إذًا، ليس الخبث فقط تخفيًا أمام القريب ولا تحايلاً على الضمير وحسب، لكي نتفلَّت من متطلباته. الخبث هو معارضة ساطعة وإرادية ضد مشيئة الله العلوية، هو حق نسلبه من الله وسلطة تتغلّف بالكذب. هذا هو الخمير (رمز الفساد) الذي نتنقّى منه أولاً ليصبح الإيمان والتوبة ممكنين أمام الخاطئ (مت 16: 11-12؛ لو 12: 1). أما يقشعر يسوع أمام مثل هذه الخطيئة؟
الفريسيون هم ضحية هذا الخبث الذي يستند إلى خطاياهم الشخصية ليرفض المسيح ويطلب منه أن يتحوّل عن تخومه (مر 17:5). كانت الخطايا فردية ومنعزلة، فصارت خطيئة أمّة تنغلق في الرفض فتهتف: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25). نمت شهرة يسوع فاجتذبت إليه جموعًا وثقت به. ولكن الفريسيين رفضوا هذا الحماس وزرعوا الشك والارتياب: هناك معجزات تزعجهم، فيفسّرونها على أنها عمل شيطاني: "برئيس الشياطين يطرد الشياطين" (مت 9: 34). ويتحدَّون يسوع فيطلبون آية من السماء (مت 12: 38 ي). فهل نعجب بعد هذا إن تحدث يسوع عن مسؤوليتهم تجاه الكفر وعدم الايمان به؟ "تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون، ولا تتركون الداخلين يدخلون... تقطعون البحر والبرّ لتكسبوا واحدًا إلى ديانتكم. فإذا نجحتم جعلتموه يستحقّ جهنّم ضعف ما أنتم تستحقّون" (مت 13:23- 15). وهكذا صارت خطيئة الفريسيين خطيئة الأمة. وهذه الخطيئة التي قال فيها الفرد والأمّة كلمتهما الأخيرة هي الهوّة التي يريد يسوع لشعبه أن يتجنّبها.
ج- خطيئة الشعب المختار
لا يُوجِّه يسوع كلامَه فقط إلى الأفراد، بل إلى الجماعة في دعوتها التاريخية. أجل، إن الأمّة بمُجملها قد رفضت يسوع. هناك شرّاح يرون بعض العلامات التي تدلّ على تعلّق الجموع بيسوع. وهناك آخرون يتوقّفون عند قساوة يسوع أمام قلّة إيمان شعبه. ما هو جوابنا؟ إن الأناجيل تتحدّث ولا شكّ عن الجماهير التي تَبعَتْ يسوع (سر 2: 2). ولكن ممّن تألفت هذه الجموع؟ أمن شعب منطقة معينة؟ هذا ما لا يقوله النص دومًا. ولكن نجد في بداية عظة الجبل الامكنة التي منها جاء سامعو يسوع: من الجليل، من المدن العشر، من عبر الاردن. نفوس قلقة ومتعطّشة إلى الله. أما شعب أورشليم واليهودية فقد ظلَّ مهتمًا بأعماله. تحرّك في البدء حين رأى المعجزات ثم فعل فيه السأمُ فعلَه. هذا ما نجده في مت 11. يشبِّه يسوع الجموع بأولاد جالسين في الساحات يتصايحون: "زمَّرنا لكم فما رقصتم. وندبنا لكم فما بكيتم" (مت 16:11). هم لا يهتمّون بكل ما تقدّمه لهم العناية من وسائل لتعيدهم إلى أنفسهم وإلى ربهم. وسيندّد يسوع بالمدن القريبة من البحيرة: "الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. وأنت يا كفرناحوم، ترتفعين إلى السماء، لا، إلى الجحيم ستهبطين" (مت 11: 21-23). أجل عادت هذه المدن إلى اللامبالاة، فلم يبق حول يسوع إلاّ تلاميذه وبعض المتحمّسين. وحتى بين هؤلاء، سوف تتقاسم الآراء حول المسيح (مت 13:16-15). بل هم لن يفهموا ما يعني بكلامه حين يحدّثهم عن خمير الفريسيين والصادوقيين (مت 16: 11). ولهذا سيبكي يسوع على هذا الجيل الفاسد، سيبكي على أورشليم العاصمة التي التفَّت بالخطيئة كرداء.
ولكن هذه الخطيئة تتجاوز العصر الذي يقترفها. فيسوع يرى في موقف معاصريه تخاذل "جيل البرية" وتذمره وثورته. فبعد التجلّي ببضع ساعات، نراه عند الجبل يحيط به موسى وايليا. ظهر هناك في المجد وكأنه على سيناء جديد (مت 17: 1-3). وها هو يرفع صوته غاضبًا: "إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أتحمّلكم" (مت 17: 17)؟ هذه كلمات سفر الخروج عينه (خر 3:33). فعبر تلاميذ ضائعين وأب يتردّد في إيمانه، يرى يسوع نهاية تاريخ طويل نقصه الايمان. وبعد هذا، سيتطلّع إلى المستقبل فيرى المعارضة التي سيلاقيها أخصّاؤه: "يبغضكم جميع الناس من أجل إسمي" (مت 22:10). فمدينة الدماء التي وجَّه إليها حزقيال كلامه (حز 22: 2؛ 24: 6)، تستعدُّ اليوم أيضًا لتسفك "الدم البريء" (مت 33: 35). لقد تجاوزت خطيئةُ أورشليم خطيئة الآباء. هي لم تكتف بصلب يسوع، بل هي تلاحق تلاميذَه: "تجلدهم في المجامع وتطاردهم من مدينة إلى مدينة" (مت 23: 34). وسيتجاوز التعصّب حدودَ اليهودية، فيصل إلى الأم حيث سيتّخذ الشر أبعاده الأخيرة (مت 24: 9). وهكذا تكون خطيئة البشرية الخائنة لحبّ الله وحدة لا تتجزأ. ويمتد الشر ويتوسَّع، فيُفسد شعبَ الله. ثم يجعل العالم مسرحَ حرب تكون علامُته مجيء المسيح (مت 10: 34). خطيئة أورشليم هي رمز لخطيئة البشر، وستحمل هذه المدينةُ عقابَ كل دم سُفك من أجل الايمان، منذ هابيل الصدّيق إلى زكريا بن برخيا، بل ستحمل عقابَ الدم الذي سيُسفك في الاجيال الآتية (مت 23: 35-36).
أما الأوقات الحاسمة في هذا التاريخ فهي معروفة، ونحن نجدها في مت 11-12، هناك أولاً ردَّةُ فعل الأمّة كلها. ثم موقف الرؤساء الذي اعتُبر تجديفًا على الروح القدس (مت 12: 32؛ مر 3: 29؛ لو 12: 10). رأت الجموع الآيات، وسمعت البشارة، وعرفت أن يسوع يتفوّق على المعمدان. ما كان عليها إلاّ أن تقبل بمخطّط الله، وتدخل إلى الملكوت. ولكن الناس سيرفضون النبيين معًا: يوحنا فيه شيطان ومتطلّباته عديدة. يسوع أكول وشريب، يقبل الدعوات إلى الطعام حتى مع الخطأة والعشّارين (مت 11: 18-19). هذه هي اللامبالاة. جيل لا يهتم لوحي الرب. لهذا سيتوجّه الرب إلى الصغار والجهّال: "أظهرتَ للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء" (مت 25:11). سيتقلّص عدد المؤمنين، ويكثُر عددُ الحكماء الذين لا يسألون الرب، بل نفوسَهم.
وسنتعرّف في مت 12 إلى خطيئة الروح القدس: بها يضغط الفريسيون على الشعب ليبعدوه عن مخطّط الله (مت 12: 22-33). شفى يسوع أعمى وأخرس فيه شيطان، فأتمّ معجزة واضحة. صفَّق الشعب لابن داود واستعدّ للإيمان. ولكن الكفر حاضر: تدخّل الفريسيون فعزموا على قتل يسوع. ثم ضلّلوا الشعب، فأعطوهم في نسخة رسمية تفسير معجزات هذا "الرجل": المعجزات هي عمل بعلزبول رئيس الشياطين. إذن، لا يعمل يسوعُ بروح الله. إنه حليف قوى الشر. هذا هو التجديف، هذا هو الكفر بعينه، وخطورته واضحة. أجل، انتقل الفريسيّون من اللامبالاة إلى العداوة: وضعوا حاجزًا أمام روح الله لئلاّ يدخل قلبَ الانسان. هذا هو العمى الارادي الذي يرفض آية رآها الجميعُ واضحة كل الوضوح. ولكن يسوع كشف قلوبهم الفاسدة، بعد أن جعلوه حليف الشيطان، وهو الذي جاء ليحارب الشيطان. تألّم يسوع من هذا الشر يعمر في قلوبهم فسمَّاهم "نسل الأفاعي" (مت 12: 34). وزاد: "كيف يمكنكم أن تقولوا كلامًا صالحًا وأنتم أشرار؟ والانسان الشرير من كنزه الشرير يُخرج ما هو شرير" (مت 12: 34-35). الشر يحاول أن يُفشِّل الايمان، ولكن الرحمة ستنتصر في النهاية على هذا الشر.
د- العدوّ الرئيسي: الشيطان
إن هذا الشر يدلّ على ما هو أبعد منه، يدلّنا على الشيطان. منذ البداية، وضع الإزائيون خصمين وجهًا لوجه: يسوع والشيطان (مت 4: 1ي، مر 1: 12-13، لو 4: 1ي). ومن خلال صراع يسوع والفريسيين حول بعلزبول، نستشفّ صراعًا آخر بين روحين: روح الله والروح النجس. وإن نجاة المسكون بالشيطان كانت علامة لهزيمة الشيطان هزيمةً لا رجوع عنها بيد مَن هو أقوى منه (مت 12: 29). رفض الفريسيون، ورفضت كفرناحوم المتكبّرة أن تؤمن بالمعجزات فسقطت (مت 23:11)، كما سقط الشيطان من السماء كالبرق (لو 28:10). وستكون ساعته حاضرة حين يتدخّل بواسطة أخصّاء يسوع. قال يسوع للذين جاؤوا يعتقلونه: "هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلام" (لو 22: 53). إن الجيل الذي جهل ساعة روح الله وجدّف على قداسته، سيعرف ساعة سلطان الظلمة ويُنفِّذ مخطّطه اللعين.
ويشدّد القديس يوحنا بدوره على هذا الحضور الشيطاني في العالم. كتب: "نحن نعرف أن العالم كله تحت سلطان الشرير" (1يو 5: 19). هذا الشيطان هو أبو اليهود الذين لا يؤمنون. قال يو 8: 44: "أنتم أولاد أبيكم إبليس، وتريدون أن تتبعوا رغبات أبيكم، هذا الذي كان من البدء قاتلاً. ما ثبت على الحق لأن لا حقّ فيه. وهو يكذب، والكذب في طبعه، لأنه كذّاب وأبو الكذب". نلاحظ هذه العلاقة بين اليهود والشيطان كعلاقة الابن بأبيه. هي علاقة أخلاقية أدبية مؤسَّسة على التشارك في الأفكار، وعلى الاقتداء في الأعمال. لا شيء إيجابيًا يقدّمه الشيطان. أما الله فهو وحده الخالق، ومنه يلد النور والحب والحياة (1 يو 1: 5). ولكن الشيطان يتدخّل حيث تحلّ هذه العطايا: الحذر تجاه الحقيقة، ورفض كل حب.
إن الأناجيل تحدِّد موضع الشرّ في درجات مختلفة من الحدّة. على مستوى أول، نجد مجمل الخطايا الشخصيّة التي تتوزّع مسيرة حياتنا: الضعف، العصيان. لا أحد يُفلت من الشر. المسيح يجيء ليقدّم الغفران من قبل أبيه. ولكن هذه الخطايا الفردية تنحدر إلى مستوى ثان هو الخبث والرياء: لسنا هنا أمام خطيئة كسائر الخطايا، بل أمام روح شرير وكاذب. نبدأ فنغمض عيوننا عن زلاّت حريتنا. وإن وبَّخَنا المسيحُ، دافعنا عن زلاتنا باسم برارة مزعومة تناقض بر الله. في هذه الساعة الخاصّة بالوحي، يصبح الخبثُ العنصرَ الحامل الخطيئة بوجه المسيح. فيسوع يمر في كرمه، ويُرسل النداء الأخير داعيًا إلى الايمان بالغفران. ولكن الشعب رفض مرسل الله، بل رفض أن يتوب عن خطايا الماضي. قال يسوع: "لو لم أجىء وأكلّمهم، لما كان عليهم خطيئة" (يو 15: 22-24). وضعوا توقيعهم على الماضي، فوافقوا على خطايا الآباء، ورفضوا الذي هو النور والخلاص. هذه هي خطيئة العالم، ذلك العالم الذي أرسل الله ابنه من أجله (يو 3: 16).

2- القديس بولس والخطيئة
إن خيانة اسرائيل هي جزء أساسي في التفكير البولسي حول الخطيئة. سننطلق من الواقع ونحاول أن نحلّله.
أ- الواقع
ما إن انطلق بولس في الطريق المسيحي حتى التقى بالشر آنيًا ملحًا: اضطهاد من قبل اليهود المشتّتين في الامبراطورية، هزء من قبل أهل أثينة الذين لا عمل لهم إلاّ المجادلة والكلام. وإذا قرأنا الرسالتين إلى أهل تسالونيكي، وجدنا البشارة تلقى المعارضة من قبل الوثنيين "الذين لا يعرفون الله" (2 تس 3: 2) ومن اليهود "الذين لا يطيعون الانجيل" (2 تس 1: 8). أما الكورنثيون فافتخروا بمعرفتهم، ولكنهم كانوا في الواقع جهّالاً (1 كور 1: 4-5؛ 15: 12، 34). إن موت المسيح قدَّم الفداء عن الخطيئة. ولكن الشرّير دمّر نتائج هذا الفداء وألغاها. بل إن الشر يحاول أن يُجابه هذه الوسيلة الخلاصية السامية. وهكذا أحسّ بولس منذ البداية بأن هذا الشر الذي به يصطدم يحمل شيئًا شيطانيًا.
فالمجرّب هو هنا، وما يزال يعمل (1 تس 2: 5). ولم تَعُد الخطيئة واقعًا أو حالاً من الأحوال، إنها دراما تسيطر على الأرض، على القوى الروحية، وعلى البشر (أف 6: 12-17). لا شكّ في أن الفادي انتصر، وأن "كلمة الله تعمل في المؤمنين بقوّة" (1 تس 13:2). ولكن بولس يعرف أنه في الساعة التي فيها الروح يعمل، هناك "شخص" آخر يعمل هو "سر المعصيّة" (أي الشر في كل مظاهره وفي عمله الخفيّ).
ب- تحليل الواقع: الخطيئة الشاملة
عرف بولس الرسولُ الانسانَ فأعلن: كل الناس هم خطأة: "كلهم خطئوا فحُرموا من مجد الله" (روم 3: 23). إن الصفحات الاولى من الرسالة إلى أهل رومة هي قرار اتّهام، فما على الانسان إلاّ أن يسكت. ولا سبيل إلى الخلاص إلاّ بالايمان بالمسيح. الايمان هو الخلاص الوحيد. وليس الايمان ضروريًا ليتجاوز الفكرُ التباسات الفلاسفة وتناقضاتهم، بل على الخاطئ أن يؤمن بالغفران المُعطى له، لأدن عليه أدن يعود إلى الحقيقة. واكتشف بولس وسط العالم الوثني، كما في اسرائيل، نموذج خطيئة خاصة له الأولويّة في قلب هذا الفساد العام.
ج- عبادة الأوثان
حين صوّر العهد القديم الشرّ أبرز نقاطه الرئيسيّة. لم يشدّد فقط على وحدة الخطيئة في دينونة الله، ولا في المسؤولين الرئيسيين (الملك أو المدينة)، بل في شيء له معناه هو المعابد على المشارف والصور والاصنام. اعتبر الأنبياء أن عبادة الأصنام هي تحدٍّ لله، وهي مبدأ اللاأخلاقية. توسَّع سفر الحكمة في هذا الموضوع واستعاده القديس بولس فأعطاه قوة جديدة. فالتعبّد للأصنام وتعدّد الآلهة، يدلاّن على رفض تكريم الاله الحقيقي الذي عرفه الانسان. النور يضيء، ولكن البشرية رفضت النور وخنقته. لم يعد النور الشرط المطلوب ليبدو الضمير خاطئًا، بل صار هو نفسه موضوع الخطيئة: إن النور يُرفَض، ويُرفَض معه الاله الذي يظهره.
وتعود هذه الفكرة مرارًا. تساءل بولس: لماذا عثار الصليب؟ فأجاب: لأن الحكمة لم تعرف الله، لأنهَا رفضت أن تكرمّه إكرام السجود والطاعة (1 كور 1: 21). وقال في الرسالة إلى رومة: عرف العالم الوثني الله الذي يتجلّى في صفاته الكبرى، في قدرته وأزليته وعدالته، ولكنه رفض أن يكرّمه، بل "استبدل بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الانسان الفاني والطيور والدواب والزحافات" (روم 1: 23).
قال بولس الرسول: "عرفوا الله" (روم 1: 23). فأعلن الشرّاح: لا تأتي الخطيئة من جهل سابق. بل إن الجهل ينبع منها. هم يلومون العالم الوثني لأنه توقّف عند أفكار ناقصة أو ضالّة عن الله وما أراد أن يتجاوزها، بل لأنه سقط في هذه الأفكار بخطيئته. وبما أن الوثنيين عرفوا الله بالحقيقة، فخطيئتهم هي الكفر، أي إنهم لم يكرموا الله الاكرام اللائق به. هم لا يرفضون كل عبادة، لأن الشرك هو شكل من أشكال العبادة، بل رفضوا أن يحصروا عبادتهم بالاله الواحد فسقطوا في الشرك وعبادة الأوثان. نحن أمام كبرياء غريبة. ساعة ظن الانسان أنه حكيم، سقط في تناقضات عدة: خلط بين الله والانسان، بين الأزلي والمائت، بين صورة فاسدة ومجد العلي الذي لا صورة له. هذه هي الخطيئة الكبرى التي يكتشفها بولس في عالم الفساد العام.
د- مكانة هذه الخطيئة في التاريخ
ولكن أين تقع هذه الخطيئة؟ عند معاصري بولس أم في الزمن الماضي؟ إذا كان في الزمن الماضي، فهذا يعني أن الانسان امتلك في البدء الحقيقة الدينية، ثم رذلها قبل أن يخسرها في النهاية. وهكذا تكون الخطيئة حاضرة في بداية الشرك وعبادة الاوثان. ولكن ليست تلك فكرة القديس بولس الذي يصيب بتحليله وضع الوثنية المعاصرة. فلو خسرت البشريّة الحقيقة الدينية بسبب زلّة قديمة، لكان معاصروه معذورين، ولما كان غضب الله حلّ عليهم (روم 1: 18)، وهو من يجازي كلاً بحسب أعماله (روم 2: 6). قال بولس: "صارت الحقيقة أسيرة الفساد" (روم 1: 18)، فبيَّن أنه ليس مؤرّخًا للماضي، بل الرسول الذي يندّد بالشر الحاضر. وهكذا تكون الحقيقة الدينية حاضرة منذ البدء لدى الأمم الوثنية ولكنها كانت سجينة.
قد تكون حاجة الانسان وطلب المنفعة عنده قد أضعفا هذه المعرفة. ولكن لا ننسى أن هناك فلسفة اكتشفت الواحد المطلق. غير أنها لم تقدّم له وحده الاكرام اللائق بالله، ولم تتنكّر لعبادة الاوثان، ولم تصحّح التطوّر السابق، بل تحالفت مع عالم الميتولوجيا والخرافات والطقوس الشعبية المنحطة: لقد توافق الفكر مع انحرافات الماضي. إذن، الحقيقة هي حاضرة هنا ولكنها مدنَّسة: صار المجدُ عارًا، والحقيقةُ سجينةَ الخبث والكذب. وجُعلت القداسة بقرب العبادات المزيَّفة، والالهُ الواحد بجانب الآلهة الكاذبة.
هـ- وضع اليهود
ونقول الشيء عينه عن اليهود: هم أيضًا أخطأوا ضد النور، ولاسيّما حين رفضوا أن يروا في المسيح كمال الشريعة. حملت إليهم الشريعة "معرفة إرادة الله" (روم 2: 18)، بل عبّرت عن هذه الارادة وجسّدتها. لا يشكُّ بولس بهذا المبدأ الذي يفتخرون به والذي هو ضروري كضرورة وجود الحقيقة في العالم الوثني. فيجب أن يدان اليهود والوثنيون بالنظر إلى الحقيقة، وهكذا يظهر الشر، ويقتنع كلُ واحد بخطيئته. عند اليهود كان انقلاب انتهك كل ما هو مقدس: استفادت الخطيئة من الشريعة الموسوية فاتخذت خطيئةُ الناس أبعادًا كبيرة: تدخّلت الشريعة "لتكثر المعصية" (غل 3: 19؛ روم 20).
و- الفساد الأخلاقي
تتميّز هذه الخطيئةُ الكبرى عن الفساد الاخلاقي والديني، ولكنها لا تنفصل عنه. إنها بالأحرى تتجذّر فيه بسبب مدلوله، وبسبب دينونة الله التي تصيبه. هذه الخطيئة هي نقطة انطلاق، وهي ينبوع سائر الخطايا. هنا نقرأ الاتهام الطويل الذي فيه يتذكّر بولس مفاسد العالم الوثني: "إمتلأوا بأنواع الاثم والزنى والشر والطمع والفساد، ففاضت نفوسهم حسدًا وقتلاً وخصامًا ومكرًا وفسادًا. هم ثرثارون نمّامون، أعداء الله، شتّامون متكبّرون متعجرفون، يخلقون الشر ويتنكرون لوالديهم. هم بلا فهم ولا وفاء ولا حنان ولا رضى ولا رحمة" (روم 1: 29-31).
ويربط بولس كل هذه الخطايا بالحكم الفاسد، بالعقل الفاسد (روم 1 :28). ويتابع: "رفضوا أن يحتفظوا بمعرفة الله، فأسلمهم الله إلى فساد عقولهم من أجل كل عمل شائن" (روم 1 :28). داس الانسانُ الحقيقة الأولى فاستسلم إلى الضلال. هو لم يخسر كل تمييز أدبي، وإلاّ صار الضميرُ كلمة فارغة، ولكنه لم يعد يعرف أن يميّز الشرائع والوصايا، فعارض نفسه بنفسه.
أحلَّ الانسانُ الشركَ وعبادة الاوثان محلَّ عبادة الله الواحد، فكانت النتيجة سيّئة بالنسبة إليه. رفض عبادة الله ليعبد الخلائق، فأُسلم إلى شهوات قلبه، وخضع للخليقة وللجسد. هذه هي عبودية الخطيئة التي تعمل بواسطة شهوات الجسد. بدأ الانسان فجدّف على الاله الحقيقي، وها هو يدنّس ذاته ويسلِّم نفسه للشهوات. رفض أن يكون خادم الاله الحقيقي وهيكله، فصار خادم الخطيئة التي تسكن فيه، بل تعبّد للخطيئة وحسبها له إلهًا.
ز- الخطيئة وعقاب الخطيئة
ويكشف العهد الجديد ولاسيّما القديس بولس، خصب الخطيئة هذه: هناك منطقٌ داخلي وتدخّل أول سابق للغضب الابدي. هو عقاب داخلي أعمق من وخز الضمير وتبكيته: "إن كفرك يؤدّبك ومعاصيك تعاقبك". هذا ما قاله إرميا (2: 19) لاسرائيل، ولكنه فكّر بدمار المدينة وبذهاب الشعب إلى المنفى. فعقاب الشعب الخائن هو أن يسلم إلى شعب آخر سيُعاقَب هو أيضًا بدوره كما يقول منطق سفر التثنية (32: 21، 30). أما بالنسبة إلى القديس بولس، فاليهود والوثنيون هم خائنون معًا. فلا نستطيع أن نسلّمهم على التوالي الواحد إلى الآخر. حينئذ تأتي عبارة بولس بشكل مأساوي: أسلموا إلى الخطيئة التي اقترفوها: "إن اليهود واليونانيين خاضعون جميعًا لسلطان الخطيئة" (روم 9:3). "سرى الموت إلى جميع البشر، لأنهم كلهم خطئوا" (روم 12:5). "ولكن الكتاب حبس كل شيء تحت سلطان الخطيئة" (غل 3: 22). فالخطيئة التي جعلت الناس يقفون بوجه الله، صارت عقابهم. هذا هو حكم الخطيئة الذي ستتغلَّب عليه حكمة الله الرحومة. ولكن هذا لا يمنع بولس من أن يتحدّث عن الخطيئة التي تتجاوز الذنوب الخاصّة لتصبح رفضًا للحقيقة.
ح- الخطيئة خصم الله
تجد الخطيئة نفسها في عالم شامل، فتبدو كعظمة تتجاوز البشر وتمارس سلطانًا على العالم الذي تسود عليه، تصبح شخصًا حيًا يعمل بواسطة أهواء الجسد. تصرَّف كملك ويصبح الانسان عبدًا لها وخادمًا (روم 5: 21). تحدّث العهد القديم عن الخطيئة وكأنها شخص محفوظ ليوم الدينونة (هو 13: 12؛ أش 24: 20). أما بولس فأشار إلى أن هذه الخطيئة تتجلّى في خطايا جديدة. إنها تدلُّ على حضور شخصي هو حضور العدوّ. هي لا تكتفي بأن ترفض الله، بل تقدّم عبادة وثنية لتسخر من الله. فكأني بها تصفع الله، وتحلُّ محله الوثن والخليقة النجسة فتجدف عليه. كل هذا يدلّ على إبليس، على الخصم الذي يستعبد الخليقة فيجعل من حضوره في العالم بديلاً للاله الحي. إنه يسمَّى "إله هذا العالم" (2 كور 4: 4)، وإنه لكذلك في كل مراحل خطيئة اسرائيل. إستطاع أن يقلب الشريعة ضد الله، فأفسد الغاية التي جُعلت لأجلها ورمى البشرية في الموت. إن هذا الشرَّ المفرط يدلّ على فساد يتعدّى عالم البشر.
هذا هو عالم الخطيئة كما نراه في العهد الجديد. إنه يتجسّد في النهاية في شخص يقف مجدّفًا على اسم الله. الخطيئة هي الكذب وبنت إبليس الذي هو الكذّاب وحده. الخطيئة هي رفض النور وبالتالي رفض الله، وهي في الوقت عينه إفساد لإنسان يجرحه ويقوده إلى الموت. ولكن "الحمد لله بربنا يسوع المسيح" (روم 7: 25) الذي نجّانا من هذا الموت. قادت الخطيئة "جميع الناس إلى الهلاك" ولكنّنا نلنا جميعًا الحياة بفضل طاعة إنسان واحد هو يسوع المسيح (روم 5: 18-19).
يبقى علينا أن نعمل مع المسيح لنتحرّر من سلطان الخطيئة، يبقى علينا أن لا نجعل أعضاءنا عبيدًا للخطيئة. فالكلمة الأخيرة ليست للموت بل للحياة، ليست للخطيئة بل للنعمة، ليست للهلاك بل للخلاص. ليست للظلمة بل للنور، ليست لابليس بل لله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM