الفصل الرابع والعشرون
سر الحكمة في الرسائل البولسية
مقدمة
تظهر الرسائل البولسية اهتمامًا خاصًا بعقيدة ((سر الله)) (1 كورنثوس 2: 1)، و((سر المسيح)) (كولوسي 4: 3)، و((سر الإنجيل)) (أفسس 6: 19). ويجد الناقدون الحديثون في هذه العبارة إشارات إلى تعاليم أسرارية وغنوصية، وذلك خصوصًا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ورسالة أفسس(1).
انطلاقًا من أنّ كل التعليم المتعلق بالإيمان المسيحي في الكتابات البولسيّة متجذر في تقليد العهد القديم(2)، يحاول هذا المقال أن يشير إلى نقاط التلاقي الموجودة بين الأعمال البولسية والأدب الرؤيوي الحكمي في اليهودية الأولى، وذلك بدراسة لغويّة ولاهوتيّة لطبيعة مفهوم ((السر)) ووظيفته في هذه الرسائل.
لهذا، وقبل الشروع في دراسة الأعمال البولسية، أرى من الضروري الحديث عن الخلفيّة الدينيّة والثقافيّة لليهوديّة الأولى التي نشط فيها القديس بولس ورفاقه، بالتركيز على الطريقة التي فهمت بها اليهوديّة العبارة موضوع كلامنا.
في الجزء الأول من هذا المقال عرض لمفهوم الحكمة في اليهوديّة الأولى، وذلك بتحليل نصوص من الحكمة الرؤيويّة التي كانت تشكل، دون شك، التيار الحكميّ، الذي كان له أثر كبير في أعمال بولس وفي المسيحيّة الأولى بشكل عام. وفي الجزء الأخير دراسة لمعنى عبارة ((سر)) في نصوص الرسائل وعلاقته العميقة بالثقافة الدينيّة اليهوديّة في القرن الأول للميلاد.
الحكمة في اليهوديّة الأولى
للحديث عن الحكمة في اليهوديّة الأولى لا يكفي الرجوع إلى الكتابات الحكميّة القانونيّة(3)، كيشوع بن سيراخ، والجامعة، وحكمة سليمان، وأيوب، بل إلى سلسلة كاملة من كتابات فترة ما بين العهدين، كأخنوخ، وكتاب اليوبيلات، ومزامير سليمان، ونظام جماعة قمران. إنّ هذه الكتابات كلها تعكس، دون شكّ، فكرًا لاهوتيًا معاصرًا ليسوع المسيح ويوحنا المعمدان والرسل... وشاول الفرّيسيّ، تلميذ غمالائيل، دون أن ننسى تلاميذ بولس الذين سيتبعونه في وقت لاحق.
والحديث عن الحكمة في اليهوديّة الأولى يعني أيضًا دراسة الإضافات التحريريّة اللاحقة إلى الكتابات القانونية في العهد القديم (نذكر مثلا أيوب 28 أو العناصر الحكمية المتأخّرة التي نجدها في الكتب الموسويّة الخمسة، والمزامير وكتب الأنبياء). يوجز كارلستون بدقّة المفاهيم الأساسية المسيطرة في ذلك الوقت والمتعلقة بالحكمة في اليهوديّة:
((الحكمة خلقها الله في البدء - سيراخ 1: 9؛ حكمة 9: 2. وهي كانت مخبأة عند الله وساكنة في السماء، وكانت موجودة عند الخلق، وهي كانت واسطته - حكمة 7: 21-22؛ 8؛ 1: 3-6؛ أمثال 3: 19؛ ارميا 10: 12 (أو أداته - أيوب 28: 12-14؛ سيراخ ،1 1-8؛ 1أخنوخ 42، 1)؛ أتت إلى الأرض، أرسلت لتدعو إسرائيل - سيراخ 24، 8؛ باروك 3: 9-4، 4 - والبشرية كلها - أمثال 8: 4، 31؛ سيراخ 1، 10، 15؛ 51: 23؛ حكمة 10. بعضهم استمع إليها - أمثال 1: 20-33؛ 1أخنوخ 93: 8؛ 2باروخ 44: 14-15، ولكنّ معظمهم لم يعرها اهتمامًا - سيراخ 6: 22؛ 1أخنوخ 42: 1-2أ؛ حكمة 10: 6-8؛ 11قمران/مزامير داود 18: 13. وعندما رفضها البشر ولم تجد مكانًا للراحة - 1 أخنوخ 42: 1؛94: 5 - عادت لتسكن عند الله - 1أخنوخ ،42 2ب؛ 4عزرا 5: 10؛ التلمود (II Para ،48 33-36)(4) )).
يبقى أن نضيف إلى هذا التحديد العام بعض المعلومات الخاصة. إبّان الخبرات القاسية التي عرفها إسرائيل تحت الحكام البطالسة والسلوقيين، وبعدها، ومع الثورة المكابيّة الدمويّة، والاضطهادات والثورات التي توالت في زمن الامبراطوريّة الرومانيّة، لم تعد الحكمة مجرّد خير موجود في الخليقة كلها وفي الشعوب التي تسكنها، ولكنّها اكتسبت جانبَين مختلفَين:
عندنا، من جهة، الحكمة (المشخصنة) الساكنة في الشريعة والمتماهية معها. والحكمة الحاضرة عند الخلق، في هذا النوع من الكتابات، هي الشريعة. ولذلك كان من الضروري، لمعرفة مشيئة الله ونيل الخلاص، دراسة الشريعة الحكمة ومعرفتها وممارستها. هذا يجعل المؤمنين في اليهودية في وضع أفضل من سائر الشعوب الذين كان عليهم أن يتعلموا منهم الحكمة الحقيقية، إذا أرادوا أن يفهموا إرادة الله. أطلق على هذا التيار الحكمي الذي فضلته اليهودية الربانية اسم ((حكمة الشريعة))(5)، وهو يجد تعبيره الأفضل في كتاب سيراخ (أنظر مثلا سيراخ 15: 1؛ 21: 11؛ 24: 1-34)، وفي مقاطع مثل باروك 3: 9-4، 4؛ تثنية 4: 6-8، وفي معظم الكتابات الربانية (أنظر مثلا St.-BI,79ss.974s; II,353s).
ومن جهة أخرى ارتبطت الحكمة بالاعتقاد بأن الله لا يكشف حكمته إلا إلى مجموعة من المختارين. تتحدّث هذه الحكمة عن خلاص المؤمنين وهي تستعلن بالروح عند نهاية الأزمنة في عالم متقلب، عنيف، ومشحون بالشر. تختلط العناصر الحكمية بالعناصر الرؤيوية والأخروية لتشكل كلها ما أسماه العلماء ((الحكمة الرؤيوية))(6)، وهي التيار الحكمي الذي يلازم العهد الجديد والذي يعبر به القديس بولس عن عقيدة السر. في ما يلي تحليل لبعض من نصوص هذا التيار.
سرّ الحكمة الرؤيويّة في أدب ما بين العهدين
في السبعينية ينحصر استعمال العبارة اليونانية - سرّ - بالكتابات التي ظهرت في الحقبة الهلينستية (طوبيا، يهوديت، الحكمة، سيراخ، دانيال، 2 مكابيين). بالإضافة إلى معانيه الوثنية والعالمية7 تتخذ عبارة ((سر)) مسحة رؤيوية وأخروية. إنّ كتاب دانيال هو ((الذي يرتبط باستعمال خاص للمفهوم في الأدب الرؤيوي لليهودية المتأخرة(8) )). فيه ينكشف تصميم الله للمستقبل، ونهاية الأزمنة الأخيرة بشكل خفي، بأحلام رمزية ورؤى(9). وحده الله (دانيال 2: 28، 29) والملهمون من روحه (دانيال 4: 9) يستطيعون أن يفسّروا معنى هذا الإعلان السريّ(10).
إن المعرفة المكتسبة عن طريق الدراسة والبحث لا تكفي للإجابة على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها الإنسان على نفسه في ما يتعلق بمصيره وبكل الأسرار التي يصادفها في الخليقة التي أعطاه الله إياها. يعبر كتاب أخنوخ بوضوح عن موقف الكاتب الرؤيويّ هذا:
((مباركُ ربّ الأرواح، ربّ الملوك، ربّ المقتدرين، ربّ الأغنياء، ربّ المجد، ربّ الحكمة. تألّقت قدرتك في كل خفيّ، من جيل إلى جيل، ومجدك أبديّ. أسرارك كلها عميقة ولا عدّ لها. عدلك لا يُقاس)). (1 أخن 63: 2-3).
ليست هذه الأسرار فقط في السماء، بعيدة عن واقع الإنسان، ولكنها حاضرة في كل الخليقة (أخنوخ العبري 48 ت 8؛ قمران/نظام الجماعة 3: 15-17). يؤثر إعلانها على كلّ الكائنات البشرية على وجه الأرض (1 أخنوخ 83: 7؛ 61: 5). أحد هذه الأسرار الأساسية معرفة الأزمنة التي سيضع فيها الله، بحكمته، حدًا للشر والظلم. لهذا سيبتهج القديسون والأبرار بالأسرار في حين أن الخطاة سيرفضونها (رؤيا باروك السريانية 81: 4؛ قمران/تفسير حبقوق 7: 1-17؛ 4 عزرا 14: 5؛ 1 أخنوخ 104: 10، 12). هذه الأسرار، التي هي مشاريع الله للإنسان والخليقة أجمع، هي حكمة الله (1 أخنوخ 48: 7) وهي موجودة منذ الأزل في السماوات (1 أخنوخ 48: 2-3) وإن لم تنكشف بالطريقة الملائمة يمكنها أن تسبب الشر (1 أخنوخ 9: 6).
ولكن، كيف نعرف مشاريع الله هذه؟ لقد رأينا أنّ اكتساب هذه المعرفة، عند الكاتب الرؤيوي، مستحيل. فالله يعطي هذه المعرفة في إعلان لأشخاص محدّدين يتلقون لاحقًا أمرًا بنقلها مدوّنة إلى جماعاتهم (رؤيا باروك السريانية 81: 4؛ دانيال 12: 4). غير أنّ الكائن البشري لا يمكنه لوحده أن يفهم الإعلانات. لهذا كان من الضروري أن يلعب الملائكة دورهم في هذا المضمار. فهم الذين يشرحون شيئًا فشيئًا للرائي معنى ما يراه وهم الذين يقودونه في عالم السماوات السري ويفسرون له كلاً من مشاريع الله (أنظر دانيال 8: 16؛ 9: 21-22؛ 1 أخنوخ 71: 3-4؛ 40: 2؛ 46: 2).
أما إذا لم يكن الإنسان قادرًا حتى على أن يفهم مشاريع الله، فكيف له أن ينفذها؟ من يكون قادرًا على أن يتمم الأمر الجديد؟ من يستطيع أن يتمم مشاريع الله لنهاية الأزمنة وما يليه؟ أما الجواب فهو ابن الإنسان، المختار، المسيا (قمران/نظام الجماعة 9: 11)، الذي هو وحده قادر على فهم حكمة الله السرية وتنفيذها على كل شعوب الأرض. فلننظر إلى النصين الآتيين:
((لأنه(11) قويّ بكل أسرار البر يمر العنف كالظل ولن يكون له موطئ قدم، لأنّ المختار يقف أمام ربّ الأرواح. مجده أزليّ، وقدرته إلى جميع الدهور. فيه يقيم روح الحكمة وروح التعليم، روح العلم وروح القدرة، روح الراقدين في البر)). (1 أخنوخ 49: 2-3)
((عندها سيجمع شعبًا مقدسًا يقوده في العدل. ويحكم أسباط شعب قدسه الرب إلهه. ولن يتحمل أن يستمر الفساد من بعدُ بينهم، والإنسان المعتاد على الشرّ لن يسكن بعد ذلك معهم. وسيعرفهم لأنهم كلهم أبناء إلههم. وسيوزعهم في أسباطهم على الأرض. والمهاجر والغريب لن يسكنا معهم بعد ذلك. وسيحكم الشعوب والأمم في الحكمة وفي عدله. (مزامير سليمان 17: 26-29).
سيجلس المختار في اليوم الأخير على العرش و((بفمه تُعلَن كل أسرار الحكمة (1 أخنوخ 51: 3). سيتم هذا في اليوم الذي سيثاب فيه الأبرار ويعاقب الخطأة (رؤيا باروك السريانية 29-30؛ دانيال 12: 1 وما يليها؛1 أخنوخ 48: 8-9).
باختصار يمكننا أن نقول إنّ أدب اليهودية الأولى قد أعطى عبارة ((سر)) ميزات خاصة. فالسر هو الذي قد أعده الله بحكمته منذ ما قبل الزمن لخلاص البشر والذي ينكشف الآن عبر مرسليه (الملائكة) للذين قد اختارهم. وفي السرّ أيضًا تدخل مختارٍ يتمم مشاريع الله ويملك معه موزعًا السلام والعدل.
يبقى أن نذكر، لننهي هذا الجزء من الدراسة، الاختلافات الأساسية الثلاث التي يشير إليها بورنكام ما بين الغنوصية والكتابات الرؤيوية الحكمية اليهودية في ما يتعلق باستعمال عبارة ((سرّ))(12):
1- إن الأسرار في الأدب الرؤيوي ليست مصيرًا محتومًا يلقاه الآلهة، ولكنّ الله هو الذي يملكها ويتصرف بها كما يشاء.
2- اقتبال هذه الأسرار في الأدب الرؤيوي ليس تألهًا، وأضيف أنه ليس هروبًا من الوضع الذي نعيشه، من الحالة البشرية ولكنه طريقة لفهم هذه الحالة وعيشها.
3- إنّ الأسرار في الأدب الرؤيوي هي إعلان أخروي وعالمي وليست مجرد شيء يهمّ فقط مجموعة صغيرة من المبتدئين.
سر الحكمة في الأعمال البولسية
ترد عبارة سر باليونانية 28 مرة في العهد الجديد؛ ثلاث مرات في قول مشترك عند الإزائيين (متى 13: 11؛ مرقس 4: 11؛ لوقا 8: 10)، و21 في الأعمال البولسية (رومية 11: 25؛ 16: 25؛ 1 كورنثوس 2: 1؛ 2: 7؛ 4: 1؛ 13: 2؛ 14: 2؛ 15: 51؛ أفسس 1: 9؛ 3: 3؛ 3: 4؛ 3: 9؛ 5: 32؛ 6: 19؛ كولوسي 1: 26ي؛ 2: 2؛ 4: 3؛ 2 تسالونيكي 2: 7؛ 1 تيموثاوس 3: 9؛ 3: 16) و4 مرات في رؤيا القديس يوحنا (رؤيا 1: 20؛ 10: 7؛ 17: ،5 7). تساعدنا هذه المعلومات الإحصائية على أن نستنتج أنّ عبارة ((سر)) هي عبارة بولسية بامتياز، ولذا كانت الأعمال البولسية المكان الأفضل لفهم معنى هذه العبارة الأساسيّ. ترد عبارة ((سر)) 9 مرات في الرسائل الأصلية و21 مرّة في الرسائل المنسوبة إلى بولس وخصوصًا في أفسس (6 مرات) وكولوسي (4 مرات).
أما التعابير الخاصة بالسر الرؤيوي الحكمي في الرسائل البولسية فهي الآتية:
1- ((إعلان السر)) في رومية 16: 25؛ أفسس 1: 9؛ 3: 3
2- ((إعلام السر)) في 1 كورنثوس 2: 1 وأفسس 6: 19
4- ((فهم السر)) في أفسس 3: 4
5- ((تدبير السر)) في أفسس 3: 9
6- ((السر الخفي منذ الدهور)) في أفسس 3: 9؛ كولوسي 1: 26
انطلاقًا من هذه المعلومات الإحصائية واللغوية، يمكننا أن ننتقل إلى تحليل مضمون النصوص البولسية التي تشير إلى السر.
السرّ، في الرسائل البولسية، معرفة تنبثق عن الله وتشير دائمًا إلى عمل يسوع المسيح وخصوصًا إلى آلامه وقيامته. هذا السر أعدّ قبل أن يكون العالم وبقي خفيًا منذ بدء الدهور (رومية 16: 25؛ 1 كورنثوس 2: 8؛ أفسس 3: 9؛ كولوسي 1: 26).
ميزات السرّ هذه نجدها في نصوص موازية في الأدب الحكمي الرؤيوي الذي سبق الحديث عنه. فكتاب أخنوخ الأثيوبي مثلا، يقدم المختار والمشاريع التي أوكله الله بها كسر الحكمة الإلهية المعدة منذ ما قبل الخليقة(13):
((لهذا صار(ابن الانسان)(14) المختارَ، وذاك كان خفيّا لديه قبل خلق العالم وحتى مجيء الدهر ولكن حكمة رب الأرواح كشفته للقديسين والأبرار)). (1 أخنوخ 48: 6-7)
والسرّ، بالعودة إلى القديس بولس، ليس سرا لكونه تصميمًا لله خفيا فحسب، بل أيضًا لكونه تجسد وانتشر في العالم لخير الأمم جميعها (أفسس 3: 5-6)، أي لكونه صار يهم الخليقة كلها(15). بإعلان هذا السر يفهم عمل الخلق وغايته، البداية والنهاية (كولوسي 1: 15-20). الحقيقة كلها تقرأ بطريقة جديدة. لهذا تبلغ الأزمنة، في إعلان السر الإلهي، نهايتها (أفسس 1: 10)، لتبدأ حقبة جديدة.
نجد في الأدب الرؤيوي الحكمي المقاربة ذاتها لهذا الموضوع: إعلان السرّ حدث عالميّ يخص البشرية كلها (قمران / نظام الجماعة 3: 15-17؛ 4: 18-23؛ 4 عزرا 14: 5؛ 1 أخنوخ 61: 5).
ثمة جانب أساسيّ للسر بحسب القديس بولس وهو مشاركة الرسول في عمل الخلاص من خلال إعلان سرّ المسيح عند الأمم. نجد هذا على سبيل المثال في كولوسي 1: 24-29 حيث يعتبر بولس خادمًا للسر ووكيلاً ومتممًا لعمل المسيح الخلاصيّ. إذا درسنا التعابير المرتبطة بالسرّ التي أتينا على ذكرها أعلاه نتأكد من أن هذا المفهوم من الثوابت في فكر بولس: أنظر مثلا رومية 16: 25-27؛ 1 كورنثوس 2ك 1؛ أفسس 3: 7-8؛ 6: 19؛ 1 تيموثاوس 3: 16.
إن دور حامل الإعلان أساسي بالنسبة إلى وجود الأدب الرؤيوي اليهودي. كاتب الكتاب هو الذي يحمل الرسالة ويحافظ على صلة لا تنقطع بالرسالة التي أعلنها الله له: قمران/تفسير حبقوق 7: 1-17؛ دانيال 12: 4. 8-31؛ رؤيا باروك السريانية 81: 4.
من ميزات السرّ المهمة عند القديس بولس علاقته المباشرة بحكمة الله. بهذه الطريقة يقدم القديس بولس إلى المؤمنين نظرة جديدة إلى العالم لا علاقة لها بالهوى أو الظرف، بل هي حكمة أزلية وسماوية أراد الله إعلانها الآن. فلنقرأ في هذه المرحلة بعضًا من النصوص النموذجية:
25 وَالْمَجْدُ لِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ، وَفْقاً لإِنْجِيلِي وَلِلْبِشَارَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَوَفْقاً لإِعْلانِ مَا كَانَ سِرّاً ظَلَّ مَكْتُوماً مَدَى الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، 26 وَلكِنْ أُذِيعَ الآنَ، بِأَمْرِ اللهِ الأَزَلِيِّ فِي الْكِتَابَاتِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ إِطَاعَةِ الإِيمَانِ؛ 27 الْمَجْدُ لِلهِ إِلَى الأَبَدِ، الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. آمِين! (رومية 16: 25-27)
6عَلَى أَنَّ لَنَا حِكْمَةً نَتَكَلَّمُ بِهَا بَيْنَ الْبَالِغِينَ. وَلَكِنَّهَا حِكْمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ مِنْ رُؤَسَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الزَّائِلِينَ. 7 بَلْ إِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمَطْوِيَّةِ فِي سِرٍّ، تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَحْجُوبَةِ الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لأَجْلِ مَجْدِنَا 8 وَهِيَ حِكْمَةٌ لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. فَلَوْ عَرَفُوهَا، 9 لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ! وَلَكِنْ، وَفْقاً لِمَا كُتِبَ: ((إِنَّ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ بَشَرٍ قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ لِمُحِبِّيهِ!)) (1 كورنثوس 2: 6-9)
8 فَلِي، أَنَا الأَصْغَرَ مِنْ أَصْغَرِ الْقِدِّيسِينَ جَمِيعاً، وُهِبَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ: أَنْ أُذِيعَ بَيْنَ الأُمَمِ بِشَارَةَ غِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُحَدُّ، 9 وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ بِمَعْرِفَةِ مَا هُوَ تَدْبِيرُ السِّرِّ الَّذِي أَبْقَاهُ اللهُ ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، مَكْتُوماً مَدَى الأَجْيَالِ. 10 وَالْغَايَةُ أَنْ يَتَجَلَّى الآنَ أَمَامَ الرِّئَاسَاتِ وَالسُّلُطَاتِ فِي الأَمَاكِنِ السَّمَاوِيَّةِ مَا يَظْهَرُ فِي الْكَنِيسَةِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْوُجُوهِ، 11 وَفْقاً لِلْقَصْدِ الأَزَلِيِّ الَّذِي قَصَدَهُ اللهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. (أفسس 3: 8-11)
24 وَالآنَ أَنَا أَفْرَحُ فِي الآلاَمِ الَّتِي أُقَاسِيهَا لأَجْلِكُمْ، وَأُتَمِّمُ فِي جَسَدِي مَا نَقَصَ مِنْ ضِيقَاتِ الْمَسِيحِ لأَجْلِ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ، 25 وَلَهَا قَدْ صِرْتُ أَنَا خَادِماً بِمُوجِبِ تَدْبِيرِ اللهِ الْمَوْهُوبِ لِي مِنْ أَجْلِكُمْ، وَهُوَ أَنْ أُتَمِّمَ كَلِمَةَ اللهِ، بِإِعْلاَنِ 26 السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً طَوَالَ الْعُصُورِ وَالأَجْيَالِ، وَلكِنْ كُشِفَ الآنَ لِقِدِّيسِيهِ، 27 الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ كَمْ هُوَ غَنِيٌّ مَجْدُ هَذَا السِّرِّ بَيْنَ الأُمَمِ: إِنَّهُ الْمَسِيحُ فِيكُمْ، وَهُوَ رَجَاءُ الْمَجْدِ؛ 28 هَذَا السِّرُّ نُعْلِنُهُ نَحْنُ، وَاعِظِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيحِ. 29 وَلأَجْلِ هَذَا أَتْعَبُ أَنَا أَيْضاً وَأُجَاهِدُ، بِفَضْلِ قُدْرَتِهِ الْعَامِلَةِ فِيَّ بِقُوَّةٍ. (كولسي 1: 24-29)
أما رومية 16: 25-27، فتشير، من جهتها، إلى أن تعليم الرسول ليس تغييرًا في مشاريع الله بل إتماما لإرادته. أما 1 كورنثوس 2: 6-9 وأفسس 3: 8-11 فتظهر بوضوح تام ان الرسول لم ينل حكمة الله هذه عن طريق التنظير البشريّ بل عن طريق إعلان يسوع المسيح إلى عبيده الرسل وإلى كل الكنيسة. وأخيرًا يشير نص كولوسي 1: 24-29 إلى أن السر المعلن من خلال التعليم في الإنجيل يعطي المؤمن حكمة جديدة بالمعنى العملي للكلمة، أي طريقة جديدة للعيش لكي يظهر كاملا أمام المسيح حين يأتي (أنظر أفسس 3: 12-13)(16).
إن مبدأ العلاقة بين السر والحكمة في الأدب الرؤيوي الحكمي هو العنصر الذي يميز النوع الأدبيّ. فلنأخذ على سبيل المثال النصين الآتيين:
((في ذلك الوقت يجلس المختار على عرشي، بفمه تُعلَن كل أسرار الحكمة لأنّ ربّ الأرواح أعطاه (إياها) ومجّده)). (1 أخنوخ 51: 3)
((أما الله، وفي أسرار عقله ومجد حكمته، فقد وضع حدًا لوجود الضلال فهو يزيله بشكل نهائي في ساعة الإفتقاد)) (قمران / نظام الجماعة 4: 18).
حكمة الله هي مصدر كل معرفة وهي أيضًا، دون شك، مصدر الأسرار السماوية (1 أخنوخ 42: 1-3؛ 63: 2-3؛ رؤيا باروك السريانية 54: 13؛ 4 عزرا 5: 10؛ مزامير سليمان 17: 23-27).
خاتمة
مضمون السرّ عند القديس بولس حكمة الله التي تمت في ابنه يسوع المسيح في ملء الزمان. وخادم السرّ هو بولس الذي، بشهادته عند كل الأمم، مهد الطريق لعمل يسوع المسيح لكي ينتشر فعليًا في الخليقة كلها. لميزات الفكر البولسي هذه، كما رأينا، ما يوازيها في أدب اليهودية الأولى.
من غير الصحيح أن نؤكد أن القديس بولس وتلاميذه استعملوا هذه النصوص كمصادر لكتاباتهم. المرجع الوحيد للقديس بولس يبدأ بالكتب الموسوية الخمسة وينتهي بكتب الأنبياء. وهو يستشهد بها دائمًا. غير أنّ الكتب الرؤيوية الحكمية شهادة على طريقة لفهم نصوص اليهودية الكلاسيكية تساعدنا على أن نفهم بشكل أفضل إلى أي درجة يمكن اعتبار الأعمال البولسية جزءا من هذا التيار التفسيري للكتابات المقدسة.
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى اختلاف كبير بين بولس والأدب الرؤيوي الحكمي. فنهاية الأزمنة، بالنسبة إلى بولس، قد حصلت، وأعلن الله سره وأرسل مسيحه الذي عاش بين الناس وأعطى تعليمه تألم على يد خاصته وجلس عن يمين الله إلى أن يأتي ثانية. بولس موجود تحت كنف المجيء الأول والمجيء الثاني، حيث على المرء أن يتصرف كعبد للمسيح ليوصل إلى البشرية كلها الخبر السارّ، خبر إتمام مشاريع الله في شخص يسوع المسيح، الرب الحكيم.
لائحة المراجع
المصادر
الفغالي، بولس، أخنوخ سابع الآباء (على هامش الكتاب 3)، بيروت، 1999.
الفغالي، بولس، رؤيا باروك في السريانية واليونانية، رؤيا ابراهيم، رؤيا إيليا (على هامش الكتاب 6)، بيروت، 2000.
الفغالي،بولس، كتابات قمران، الجزء الثاني (على هامش الكتاب 2)، بيروت، 1998.
الفغالي،بولس، كتابات قمران، الجزء الأول (على هامش الكتاب 1)، بيروت، 1997.
Dupont-Sommer, André; Philonenko, Marc (Ed.), La Bible: Ecrits In
tertestamentaires (Bibliothèque de la Pléiade), Paris 1987.
الأبحاث
Bornkamm, G., Musth,rion mue,w, in: ThWNT IV, Stuttgartet al., 1990 (reprinted), 809 - 834.
Carlston, C.E., Wisdom and Eschatology in Q, in: Delobel, J. (Ed.), Logia, n.p., n.y., 101 - 119.
Conzelmann Lindemann, Arbeitsbuch zum Neuen Testament (UTB 52) Tuebingen, 1998
Cothenet, E., San Pablo en su tiempo (C.B. 26 Estella (Navarra), 1988.
Finkenrath, G., Misterio, en: DTNT III, Salamanca, 1993, 94-98.
Goetzmann, J., Sabiduria, necedad, in: DTNT IV, Salamanca, 1992, 122-128.
Kraemer, H., , en: DENT II, Salamanca, 1998, 342-351.
Kuechler, M., Frühjüdische Weisheitstraditionen. Zum Fortgang weisheitlichen Denkens im Bereich des frühjüdischen Jahweglaubens (OBO 26), Freiburg (Swissland) - Goettingen, 1979.
Tarazi, P.N., The New Testament: An Introduction. Volume 1 Paul and Mark, Crestwood (New York), 1999.
Wilckens Fohrer, sofi,a ktl), in: ThDNT VII, Grand Rapids (Michigan), 1983, 465 - 528.
د. دانيال عيّوش