الفصل العشرون
الافخارستيا لدى بولس
المقدمة
بالواقع لا يتكلّم بولس عن الافخارستيا صراحةً إلا مرّتين: في 1 كور 10 و 11. لا نجد عنده مذهبًا مدروسًا مفصّلاً عن الموضوع. فهناك خطر كبير أن نقرأ في داخل نصوص بولس آراء ومتّجهات نشأت في عصور لاحقة فقط. هذا الخطر يهدّدنا دائمًا في نصوص قديمة (وخاصة في نصوصنا الدينيّة؟).
ليس هذا الأمر مهمًا جدًا في رأي معيّن حول ((تطوّر العقيدة)): قد وُجد كل شيء ضمنًا منذ البدء كما في نواة، والتاريخ لم يفعل إلاّ أن أظهره صراحةً، وذلك في ((الاتجاه الحسن المضبوط)) طبعًا. يبدو لي أن واقعنا الانسانيّ المخلوق أكثر من ذلك تعقّدًا. ليس التاريخ طريقًا سويًا بسيطًا من الظلمات إلى العتمة إلى النور. هناك أيضًا إلحاح وتركيز في نقطة معيّنة وعلى حساب نُقط أخرى. هناك التواري إلى النسيان واضمحلال منظورات. ويمكن أن بعض الأمور ((المنسيّة)) تعود إلى الأمام مرّة أخرى فيما بعد.
أظنّ أنه ينبغي عند دراسة الافخارستيا لدى بولس (وفي كل العهد الجديد) أن نحذر من إيجاد تأييد فقط لما نسمّي مع علم اللاهوت اللاحق بأسماء مثل ((الاستحالة الجوهريّة)) و ((كلمات التقديس)) و ((الحضور الحقيقيّ)) الخ.
النص
1 كور 10: 14-22: ((...كأس البركة التي نباركها، أما هي مشاركة في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره، أما هو مشاركة في جسد المسيح؟ فنحن على كثرتنا جسد واحد لأن هناك خبزًا واحدًا، ونحن كلنا نشترك في هذا الخبز الواحد....)) (آ 16-17).
1 كور 11: 17-34: ((...فأنا من الربّ تسلّمت ما سلّمته إليكم، وهو أن الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال: هذا هو جسدي، إنه من أجلكم. اعملوا هذا لذكري. وكذلك الكأس بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلّما شربتم، فاعملوا هذا لذكري...)) (آ 23-25).
كُتبت 1 كور في نحو سنة 54-55 (قليلاً قبلها، قليلاً بعدها؟). نحو 25 سنة بعد موت يسوع. يبدو وكأن الجماعة في كورنتوس مصابة بدرجة كبيرة من الانقسام الباطنيّ. الرسالة تُجيب على أسئلة وتعالج بعض الأسواء الموجودة في الجماعة. بالواقع، تُفتتح الرسالة بكلام عن انقسامات وتحزّبات في الكنيسة (1: 10-4: 21). ويعود هذا السوء في 11: 17-34 أيضًا لمناسبة خلافات عند ((عشاء الربّ)). بعض الأعضاء في الكنيسة يأكلون ويشربون بين جماعتهم الخاصة دون أن ينتبهوا لأعضاء فقراء. هذا غير ممكن!! غير ممكن!! إنه ضدّ روح ((عشاء الربّ)). فيُسند بولس كلامه بذكر ما قد استلمه من تقليد وما سلّمه هو للكنيسة: ((ما صنعه الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها)) (11: 23-25). فمن المهم أن نرى بوضوح أين بالضبط يتعارض موقف بعض الأعضاء مع روح ((عشاء الربّ)).
1 - ((عشاء الربّ)) طقس سياقه عشاء يهوديّ دينيّ يبارك فيه رئيس الوليمة الّله ويشكره لمناسبة طقس الخبز (في البداية) الافخارستيا لدى بولس وطقس الكأس في النهاية (((بعد العشاء)) 11: 25)، وينضمّ إلى ذلك الجالسون بقولهم ((آمين)) على بركة الرئيس وأكلهم من الخبز وشربهم من الكأس. نهمل هنا التفاصيل ونقاط النقاش بخصوص تطوّر هذا الطقس ونكتفي بإطاره العام. فما يذكره بولس عمّا صنعه الربّ يسوع ((في الليلة التي أسلم فيها)) ليس مجرّد مثال صالح من الاستعداد للتضحية حتى الموت من قبل الربّ ليُقتدى به. بل إنما هو التزام من قبل يسوع تجاه الّله، ثمّ التحاق من قبل التلاميذ بالتزام الربّ هذا، عن طريق الأكل والشرب الطقسيّ. هذا الانضمام إلى موقف الربّ في طقس العشاء يناقض موقف المسيحيّين الأنانيّ المتحزّب في كورنتوس. من انضمّ إلى الربّ في طقس ((عشاء الربّ))، لا يعود يمكنه أيضًا أن يهتمّ بنفسه فقط: ((يجب أن ينتظر بعضُكم بعضًا)) (11: 33).
2 - ثم، أردتُ أن أقول إن ((عشاء الربّ)) قربان. قد سبق لي أن أسمّيه ((طقسًا)). فكل طقس يتوجّه إلى الّله. يقال مرارًا إن يسوع في الافخارستيا يقدّم لنا جسده ودمه. يبدو لي أن هذه الجملة غير كاملة، حيث يوضع الّله ((بين قوسين)). هناك مجموعة رسائل بولس كلها تذكّرنا بأن الّله هو في المركز، وأن الّله يجب في الأخير ((أن يكون كلاً في الكل)) (1 كور 15: 28). نعم، يعطينا يسوع ((جسده)) و ((كأس العهد الجديد بدمه)) (11: 24-25) بمثابة طقس يمكّننا من الالتحاق بموقفه تجاه الّله. ((عشاء الربّ)) موجّه إلى الّله. يسوع يصلّي إلى الّله، يبارك الّله، يشكر الّله، في طقس الأكل والشرب. وفي العقليّة اليهوديّة إنه ((قربان)) (طبعًا ليس بالمعنى الوثنيّ!). إنه قربان حقيقيّ بمعنى ((ز ب ح. ت و د ه)) من مزمور 50 ونصوص نبويّة أخرى. وكل قربان حقيقيّ هو شكر واعتراف بإلهنا الخالق المخلّص وبمكاننا أمام الّله والاعتراف بأن لّله المبادرة في كل شيء. لسنا نحن نعطي شيئًا لّله في القربان، بل نعترف بأنه هو يعطينا كل شيء. ماذا يصنع يسوع إذن بحسب ما تلقّاه بولس من التقليد؟ يسوع، وجهًا لوجه مع موته الأحمر القريب ( ((دم)) ) يبارك الّله ويشكره ويدعو تلاميذه (وكنيسة كورنتوس، وإيانا) إلى أن ينضمّوا إلى ذلك الحمد والشكر على كل شيء (حياة وموت) متيقّنين بأن الّله ((سيكون الكل في الكلّ)). استلم الرسول إذن من التقليد أن الربّ يسوع ((في الليلة التي أسلم فيها)) ضمّ حياته (جسده؟) وموته القريب (دمه) إلى صلاته وقربانه، ورأى ذلك فعلاً خلاصيًا من قبل الّله لصالح العالم.
أوليس هذا هو المعنى أيضًا في كلمات بولسيّة مركزيّة أخرى؟ مثلاً: روم 3: 25: ((جعل الّله المسيح يسوع كفّارة (غطاء تابوت العهد؟) في دمه...)) = الّله يجعل موت يسوع واسطة للخلاص. روم 5: 9: ((وقد نلنا البرّ بدمه...))، والنصوص المتكلّمة عن موت يسوع على الصليب. 2 كور 5: 18-19 ((هذا كله من الّله الذي صالحنا بالمسيح (اقرأ: بموته)...)). كان هناك ولمدّة طويلة نقاش حاد بين البروتستنت والكاثوليك في موضوع طابع القداس القرباني. ولم يجادل مرّة في موضوع طابع صليب يسوع القرباني. يبدو لي ذلك عالمًا على المقلوب! أوما يكون الوقع أن ((عشاء الربّ)) فسّر الموت على الصليب قربانًا، بما أنه هو نفسه (أعني العشاء) قربان؟ مقتل يسوع في ذاته ليس قربانًا إلاّ من خلال الموقف الداخليّ، المعبّر عنه في الطقس. ولا ننس أنه - منذ قبل تدمير الهيكل في سنة 70م.- قد أخذت التقوى اليهوديّة تُعيد معايرة مفهوم القربان (مع مفاهيم كثيرة أخرى) كمثل الصلاة والصوم والصدقة كقربان. هنا يقول بولس شيئًا مماثلاً في روم 12: 1: ((فأناشدكم، أيها الاخوة، برأفة الّله أن تجعلوا من أجسادكم ذبيحة حيّةً مقدّسةً مرضيهةً عند الّله. فهذه هي عبادتكم الروحيّة)). فأقول: بإقامة ((عشاء الربّ)) يتعلّم المؤمن أن يقف موقف يسوع القرباني ( ((ذكرًا لي)) )، فيغيّر اتجاهه نحو الآخرين. يتعلّم أن يرى نفسه مدعوًا من قبل الّله مع يسوع وفي إثره إلى إقامة شركة وإلى العيش والموت من أجل الآخرين ( ((ينتظر بعضكم بعضًا)) 11: 33).
3 - وهناك النص الثاني، 1 كور 10: 16-،17 في سياق مسألة أكل اللحوم المقرّبة للأوثان. ((كأس البركة التي نباركها)) تعطي شركة في ((دم المسيح)) كما شرحنا أعلاه. و ((الخبز الذي نكسره)) يعطي شركة في ((جسد المسيح)). نعثر هنا على مفهوم ((جسد المسيح)). إنه مفهوم صعب. هناك جسد المسيح بالمعنى الكتابيّ: إنسانيّته الواقعيّة في علاقتها بالعالم والآخرين. ولكن من خلال كثرة استعمال العبارة ((في المسيح)) نخمّن معنى آخر: المؤمن (بلغة الطقس: المعمّد. أنظر روم 6: 3-11) يدخل إلى وجود جديد، ((في المسيح)). جميع المؤمنين يؤلّفون ((جسد المسيح)). فيرمز إلى هذا الكيان الجديد، إلى هذه الرسالة الجديدة، الكون من أجل الآخرين (((من أجلكم)) 11: 24) يرمز إليه ويعبّر عنه الأكل الافخارستي. وإذا استخدمنا كلمات (لا يستخدمها الرسول!!) كمثل ((سريّ)) و ((حقيقيّ))، فلا بدّ من أن نقول إن جماعة المؤمنين هم جسد المسيح ((الحقيقيّ)) ، والخبز الطقسيّ هو جسد المسيح ((السريّ الرمزيّ)).
القس لوسيان كوب
من الفادي الأقدس