الفصل الثامن عشر: مجيء المسيح في رسائل القديس بولس

الفصل الثامن عشر
مجيء المسيح
في رسائل القديس بولس


في نهاية الألف الثاني وبداية الألف الثالث، طرح الناس أكثر من سؤال حول نهاية الأزمنة. فتحدّث اللاهوت الكاثوليكيّ عن ((عواقب الانسان))، أي الموت والحياة الأبديّة، الثواب والعقاب، السماء وجهنّم. وذلك في كلام يتردّد: ((أذكر عواقبك يا انسان، فلن تخطأ إلى الأبد)). توقّف السؤال عند الخلاص الفرديّ، وهو خلاص يُشرف على التاريخ والعالم دون أن يهتمّ لهما كثيرًا. فالتعليم عن ((العواقب الأخيرة)) يُعدّ المؤمنين للصعود إلى السماء. ولكن هذه النظرة جعلت البعض يتركون الحياة الأخرى ويتعلّقون بهذه الحياة. بين الّله والانسان، اختاروا الانسان وحياته في العالم.
غير أن النظرة إلى الكتاب المقدّس لا تتوقّف عند الخلاص الفرديّ، بل تتطلّع إلى خلاص البشريّة بشكل إجمالي. تتطلّع إلى وعد يحرّك التاريخ ويعلن دينونة الّله على العالم. فنبوءات الأزمنة الأخيرة تعلن حدثًا سيأتي، حدثًا قريبًا، ملكوتًا ينزل من السماء إلى الأرض. وهكذا، كان انتقال من نهاية الأزمنة إلى نهاية حياة كل انسان. لا شكّ في أن تأخّر المجيء هو الذي قام بهذا التحوّل، بحيث لا يعيش الفرد في حقائق عامة وينسى نفسه، وهو العارف أنه ذاهب إلى الموت والدينونة، وما يستتبع ذلك من ثواب وعقاب.
فما هي نظرة بولس الرسول إلى مجيء المسيح في حياتنا وفي العالم؟ هذا ما نعالجه هنا في محطّات ثلاث: بعد نظرة إلى العالم الجلياني وما فيه من كشف في عالم الصور إلى الآخرة، نفهم أهميّة المصالحة مع الّله بالصليب وتدشين بشريّة جديدة في قيامة المسيح. وفي النهاية، نفهم أن قيامتنا قد بدأت منذ الآن مع المسيح، آدم الثاني، الذي يساعدنا على تحديد مصير البشريّة الأخير. فالّله الآب ((انتزعنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب الذي لنا فيه الفداء ومغفرة الخطايا)) (1 كور 1: 13).

1 - العالم الجليانيّ وعالم النهاية
لفظة ((جلياني)) تترجم اسم سفر الرؤيا في اللغة السريانيّة (جليانا). وهي ترتبط بالعربيّة بفعل ((جلا)) الذي يعني كشف، أظهر، أوضح. فسفر الرؤيا يحاول أن يكتشف سر الّله في كنيسته خلال الاضطهاد الذي يصيب المؤمنين. والأناجيل الازائيّة، أي متى ومرقس ولوقا، حاولت أن تكتشف بعض سرّ الّله في سقوط أورشليم سنة 70 ب.م.، وفي الحروب والقلاقل. ونفهم في النهاية أن ((ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفهما أحد)). أما الجواب العمليّ فهو: ((ما أقوله لكم فللجميع أقوله: كونوا ساهرين)) (مر 13: 32-37).
ما هي نظرة القديس بولس في هذا المجال؟ وما هي العلاقة بين العالم الجليانيّ وعالم النهاية في الفكر البولسيّ؟

أ - نظرتان
نجد في هذا المجال نظرتين: الأولى ترفض العلاقة بين عالم وعالم، يعني أن عالم النهاية عند بولس لم يكن في الأساس جليانيًا. والثانية تعتبر هذه العلاقة جوهريّة، وإلاّ ضاع معنى النهاية في الفكر البولسيّ.
أكّدت النظرة الثانية أن بولس ارتبط بالعالم الجليانيّ، وأن الصور الجليانيّة التي تحاول أن تكتشف بعض الشيء عن الآخرة، كوّنت الاطار لكلامه عن يسوع المسيح. فإن اشتمل موت وقيامة يسوع مضمون إنجيله، فوظيفتهما وتفسيرهما الجليانيّ أعطاهما معنى وبُعدًا حاسمين. فما يهمّ بولس، قبل كل شيء، ليس فقط طبيعة المسيح أو وضعه، بل مصيره بالنسبة إلى مصيرنا. لا شكّ في أن هناك كلامًا كثيرًا عن المسيح في الرسائل البولسيّة. ولكن ما قيل عن هذه الكرستولوجيّا قد قيل من أجلنا، من أجل تعليمنا.
وإذ أراد الرسول أن يعبّر عن فكره حول النهاية، عاد إلى عالم الجليان اليهوديّ وصحّحه بما عرفه من العالم اليونانيّ في كورنتوس؛ وهكذا قدّم لنا حياة خلقيّة تتطلّع إلى الآخرة. غير أن عالم الجليان هذا أبرز بشكل خاص القيامة الأخيرة، أي الانتصار النهائي لّله على الشرّ والموت، وظهور برّه المجيد وخلاصه. من أجل هذا، هتف بولس: ((أين غلبتك، أيها الموت، وأين شوكتك أيها الموت ... فالشكر لّله الذي يؤتينا الغلبة بربّنا يسوع المسيح)) (1 كور 15: 54-57). أجل، الّله الآب هو الذي يفعل وهو يفعل بوساطة ابنه يسوع.
أما النظرة الأولى فاعتبرت أن بولس انطلق من العالم الجلياني، من عالم الصور حول نهاية الكون. ولكنه تدرّج شيئًا فشيئًا نحو اسكاتولوجيا (قراءة عالم النهاية) يكيّفها مع محيط هلنستي(1)، بشّره بنفسه. نستطيع هنا أن نرى صورة الراقدين ومجيء الموت كاللص في الليل، وصوت رئيس الملائكة وهتاف بوق الّله (1 تس 4: 13 و 5: 11)، وكلها صور انطلقت من العالم اليهوديّ فقدّمت صوره عن العالم وعلاقته بالّله. انتظر المسيحيّون الأوّلون مجيء المسيح القريب، فتصوّروا مجيئه كمجيء الّله على جبل سيناء (خر 19: 9-25)، يسير في ركبه الأحياء والأموات. ولكن مجيء المسيح تأخّر. فوعى بولس أنه مائت قبل ذاك المجيء. لهذا، أخذ يتساءل: ماذا يكون بعد الموت؟ ((انساننا الظاهر ينهدم. أما انساننا الباطن فيتجدّد يومًا بعد يوم)) (2 كور 4: 16). ويذكر المسكنَ الأرضيّ الذي يشبه الخيمة التي تقتلعها الرياح، والمسكن الأبديّ الذي هو بيت يصنعه الّله لنا. نحن هنا في مقابلة بين حياة وقتيّة على هذه الأرض، حياة تُرى، وبين حياة أبديّة في السماء، حياة لا تُرى (1 كور 5: 1-10).
عند ذاك، بدأ الرسول يتوسّع في نظره إلى الانسان في إطار العالم اليونانيّ، وإلى خلقيّة لا تنقلنا حالاً إلى السماء التي ننالها بأعمالنا الصالحة، بل تربطنا بالعالم الذي نعيش فيه. فالرب في صلاته لم يطلب من الآب أن ((يُخرج المؤمنين من العالم)) (يو 17: 15). فهم مرسلون إلى العالم. لكن يجب أن يُحفظوا من الشرّ(2).
ب - تقارب من عالم الجليان
نظرتان يعرفهما شارح الكتاب المقدّس، وهما ترتبطان، في أي حال، بالمسألة الكرستولوجيّة، بشخص يسوع المسيح. فنحن لا نستطيع أن نفصل قيامة المسيح عن وظيفتها بالنسبة إلى المجيء، وهي أن تُجسّد الرجاء في انتصار الّله، وهو انتصار يحوّل الخليقة كلها بشكل نهائي ويمجّدها: ((تترقّب الخليقة تجلّي أبناء الّله... وستُعتق من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أبناء الّله)) (روم 8: 21). لا شكّ في أن القيامة هي بالنسبة إلى يسوع جزاء طاعته وأمانته لمشيئة الآب. وهي التأكيد على أنه الّله وابن الّله. غير أنها أكثر من واقع منعزل ومحروم من نتائجه الخلاصيّة. فالمسيح ((من أجلنا ومن أجل خلاصنا، تألّم ومات وقُبر وقام)). وفي القيامة، أُعلن المسيح ربًا. ولكن الرسول لا ينظر إلى ربوبيّته إلاّ بما توصّلت إليه وهو انتصار الّله النهائي على الشرّ والموت؛ وهي تمارس في الكنيسة التي تعيش الحياة اليوميّة في تطلّعها إلى المجيء، والربّ يعينها بالمواهب والأسرار في حجّها نحو الملكوت. وفي الاحتفال الليتورجيّ، بعد كلام التقديس، تقول الجماعة: ((نتذكّر موتك، يا ربّ، ونعترف بقيامتك، وننتظر مجيئك)).
انطلق بولس من مقولات جليانيّة في كلامه عن الآخرة. ولكن حدث يسوع المسيح حوّل هذه المقولات؛ ومع قيامته بدأ هذا التحوّل النهائيّ. ونحن منذ الآن أبناء الّله، وإن كانت هذه البنوّة ظاهرة فقط على مستوى الإيمان، لا على مستوى العيان. أجل، قيامة يسوع دلّت على حضور النهاية في التاريخ، وليس فقط على نهاية التاريخ كحدث جليانيّ يجعلنا نرغب في القيامة الأخيرة، التي ليست مجرّد حدث معزول به نصعد إلى السماء وننال جزاء أعمالنا، بل مشاركة في مجد الربّ القائم من الموت والعائد على سحاب السماء(3).
كان بولس قريبًا من العالم الجلياني حين توقّف عند أمانة الّله وانتقامه في النهاية، عند خلاص شامل يصل لا إلى البشريّة وحسب، بل إلى الخليقة كلها؛ عند بنية ثنائيّة للعالم: يدمّر عالم ثمّ يُبنى عالمٌ آخر، سماوات جديدة وأرض جديدة عند مجيء الّله القريب في المجد. هذه الأمور نجدها في الرسائل البولسيّة. مثلاً في ما يتعلّق بالانتقام والغضب في نهاية الأزمنة: ((منتظرين من السماوات ابنه الذي أقامه من بين الأموات، يسوع الذي ينقذنا من السخط الآتي))(4).
غير أن بولس يشدّد أيضًا على مرمى هذه النصوص، على مستوى تاريخ الخلاص كما على مستوى النظرة إلى الّله وبرّه ومجده. فقيامة المسيح تُبرز أيضًا هذا المرمى الأخير، لأن ربوبيّته على الخلق والموت، العدو الأخير، تجعل ملكوت الّله يأتي (1 كور 15: 23-28). هذه الطريقة في النظرة إلى الآخرة ترتبط بالعالم الجلياني: فإن كان الّله لا يقدر أن ((ينتقم لأخصّائه))، أن يخلّصهم ويمجّدهم، فيجب أن نبحث عن إله آخر أقوى من هذا الاله.
أما الطريقة التي بها يتطلّع بولس إلى القيامة الأخيرة للموتى، فهي تسير في الخطّ عينه. فالرسول لا ينطلق أبدًا من رغبة بشريّة في الخلود وعدم الموت. فلو فرضنا أن خلود النفس يكفي لتعزيتنا وتحريرنا من جسد ثقيل وضعيف، فالصعوبة تبقى هي هي. وإذا كان الّله لا يقدر أن يخلّصنا إلاّ إذا جعلَنا نهرب من هذا العالم، فإن قصده الخلاصيّ يبقى دومًا أدنى من قصده في الخلق، أي إنه خلق الحياة ولكنه عجز عن أن يغلب الموت.
وحين يتطلّع بولس إلى موته (1 كور 5: 1-10؛ متى 1: 20-26)، فهو لا يتكلّم عن خلود النفس(5). هذا لا يعني أنه ينكر الحياة بعد الموت (فل 1: 21؛ روم 14: 7-9)، بل إن ما أراد أن يعبّر عنه هو الفرح بأن يكون مع المسيح، واليقين بأنه يستطيع أن يلبس في نهاية الأزمنة ((مسكننا السماويّ))، أي جسد القيامة.

ج - تباعد عن عالم الجليان
حين نتوقّف عند صور ترسم الآخرة، نفهم أننا أمام الرموز لا أمام أمور تاريخيّة تنبئ بما سيحدث؛ فالاتحاد بالربّ يكون على مستوى الإيمان. هي خبرة روحيّة باطنيّة نعبّر عنها بلغة بشريّة. ولكن حين نقرأ هذه النصوص، نتجاوز الحرف لنصل إلى الخبرة التي اختبرها بولس أو غيره، فنستعد للقاء بالربّ لا يجاريه لقاء بين البشر.
كل هذا يدلّنا على تباعد بولس عن عالم الجليان الذي لا يذكر المسيح إلاّ نادرًا. وهذا ما يبرز نظرة الرسول المضمّخة بحضور يسوع المسيح، الذي ليس هو في نظره، من يبدأ زمن النهاية فقط، بل هو ذاك الذي به نلنا نعمة التبنيّ فدعونا الّله: ((أبّا، أيها الآب))، الذي نقاسمه حياته منذ الآن، والذي سنكون معه إلى الأبد فنشعّ من مجده الخاص. وهو الذي يأتي ليأخذ أحبّاءه، سواء كانوا أمواتًا أو أحياء، كي يكونوا معه (1 تس 4: 16-17). إن المجيء النهائي لّله في المجد قد انطبع بحضور المسيح. فيوم الربّ هو يوم مجيئه في المجد(6). غير أن انتظار هذا اليوم لا يملأ المؤمنين رعبًا، بل يحمل إليهم العزاء، ويدلّ على الساعة التي فيها يتّحدون اتّحادًا نهائيًا مع ذاك الذي انتظروه واشتاقوا إليه. لذلك كان بولس يستبعد كل ما يشير إلى الخوف حين يتحدّث عن هذا اللقاء الأخير. إذا كان الّله، في ابنه يسوع، قد جعل نفسه بجانبنا، ((فمن يستطيع بعد اليوم أن يكون ضدّنا، أن يشجبنا ويحكم علينا)) (روم 8: 31).
لا شكّ في أن رسول الأمم يصوّر القيامة العامة مستعينًا بصور آتية من عالم الجليان. غير أن تطوّر النهاية يجعل حضور المسيح يعطي الحدث كلّ بعده، لأنه يُتيح للمؤمنين، أحياء وأمواتًا، أن يكونوا على الدوام مع الربّ ويقاسموه مجده. ويشدّد على أن المسيح هو الذي يأتي ليأخذ المؤمنين إليه. فانتصار المسيح على الموت يعلن الملك العام والنهائيّ لّله الذي ((سيكون كلاً في الكلّ)) (1 كور 15: 23-28). ومع ذلك، فهو يربط مُلك الّله هذا بانتصار المسيح على الموت. فبفضل قيامة المسيح يعرف المؤمنون أنهم انتصروا،أنهم منذ الآن نالوا الغلبة (1 كور 15: 57).
قام المسيح، فانتصر على الموت، صار ربّ الخليقة كلها ((التي أُخضعت له)) (1 كور 15: 26-27). وهو على اتصال دائم بأخصّائه، لأنهم ينعمون بغناه: نالوا الروح، والمواهب المتنوّعة، والرجاء في مسيرتهم، والصبر في المحَن. ولا يخضع له المؤمنون فقط، بل الخليقة كلها التي تنتظر حريّتها (روم 8: 18-25). لهذا، لا نجد عند بولس التعارض الجذريّ والنهائيّ بين عالمين، بين هذا العالم الفاسد والمعادي للمؤمنين والذاهب لا محالة إلى الدمار، وبين العالم الآتي، عالم البرّ وملكوت الّله. لأن القائم من الموت يظلّ لدى أخصّائه، ولأن القيامة دلّت على ما في المخلوقات من عناصر تتوق إلى النهاية المجيدة. فالحاضر مضمّخ بقيم العالم المقبل. والبشريّة، والخليقة معها، تحمل منذ الآن في ذاتها بذار الفداء. فبفضل قيامة الربّ لا نستطيع أن نقول بعدُ، إن الّله ترك العالم وشأنه، وإنه اعتزل التاريخ البشريّ الذي ينتهي في الفشل، وهو ينتظر أن ينتقم للمؤمنين في الزمن المحدّد.

2 - المصالحة بالصليب من أجل بشريّة جديدة
انطلق بولس من إطار اسكاتولوجيّ، فتحدّث عن أبرار يصيرون كالملائكة أو كالنجوم، وأشرار يصيرون أكثر شرًا. كما عن دينونة عامة تجعل جهنّم للأشرار والفردوس للأبرار. ولكنه حافظ على دور المسيح ومكانته في الكلام عن قيامة الأجساد. فقيامة المسيح نموذج قيامتنا. لهذا يبقى الشرّ الكبير يهدّدنا، إذا كنا لا نقوم مع المسيح ولا نقاسمه مجده. لهذا، نشدّد على تأثير الكرستولوجيا البولسيّة على نظرته إلى نهاية العالم.

أ - النهاية وواقع الكنيسة
ظنّ بعض الشرّاح أن تأخّر مجيء يسوع في المجد بدّل نظرة بولس إلى الآخرة. فالخبرة التي اختبرها الرسول على طريق دمشق، أفهمته مكانة المسيح في تاريخه الحاضر. لهذا قال: ((يا ربّ، ماذا تريد أن أفعل؟)) فأرسله الربّ إلى الكنيسة: ((أدخل المدينة، وهناك يقال لك ماذا ينبغي أن تفعل)) (أع 9: 7). لا شكّ في أنه، بعد قيامة يسوع، كان انتظارُ مجيئه القريب قويًا جدًا، بحيث تُركت جانبًا الاهتماماتُ الأخرى، مثل تنظيم الكنائس وعلاقة الجماعة بالعالم. ومع ذلك، فنظرة بولس ظلّت هي هي. ففي نهاية الرسالة الأولى إلى كورنتوس التي دُوّنت بعد قيامة يسوع بعقدين من الزمن تقريبًا، ظلّ الرسول يرغب رغبة حارة بمجيء الربّ، قال: ((مرانا تا، يا ربّنا، تعال)) (1 كور 16: 22).
ومع ذلك، فهذه الرسالة كلها تدلّ على اهتمام تام بالزمن الحاضر، وذلك على جميع المستويات: هل يعيش الزوجان حياتهما الزوجيّة أم يمتنعان عن بعضهما، والزمان صار قريبًا؟ هل يتزوّج الشبّان والشابّات أم يظلّون في البتوليّة منتظرين الربّ على مثال العذارى الحكيمات؟ لقد أوصى بولس بالواقعيّة في هذا العالم: يعيش الزوجان حياتهما الزوجيّة العادية لئلاّ يقعا في تجربة إبليس. والشاب والشابة يختاران إما البتوليّة وإما الزواج. وهناك نساء متزوّجات اهتدين إلى الايمان، فيمكن لهنّ أن يعشن مع زوج ما زال وثنيًا، أو يتركنه إذا غاب السلام في البيت. فالمرأة المؤمنة تقدّس زوجها غير المؤمن، والرجل غير المؤمن يقدّس امرأته التي ما زالت على الوثنيّة. وطرح المؤمنون سؤالاً على الرسول: هل يشاركون في أعياد الوثنيّين؟ هل يأكلون من اللحوم التي ذُبحت للأصنام (1 كور 8: 1-8)؟
وهكذا برزت الحياة اليوميّة بكل متطلّباتها. فالمسيحي الذي يعيش في محيط وثنيّ بأكثريّته، عليه أن يميّز. فهو لا يستطيع أن يعيش، بعد أن قبل سرّ العماد واستنار بنور المسيح، كما كان يعيش في الماضي. فإن فعل، جدّف الناس على اسم الّله بسببه. وإذا كان الصنم ليس بشيء، فالذبيحة للوثنيّ هي، في النهاية، ذبيحة للشياطين. لذلك، لا ينسى المسيحيّ أن كأس البركة هي شركة في دمّ المسيح، والخبز الذي يكسره هو شركة في جسد المسيح. فهو لا يحقّ له أن يشكّك أخاه. ولماذا يُهلك بطعامه ذاك الذي مات المسيح من أجله؟
وما قاله بولس لأهل كورنتوس، سبق وقاله في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، وفيها ما فيها من أسئلة حول مجيء المسيح القريب. طلب من المؤمنين أن يعيشوا الواقع اليوميّ: ((تميّزوا كل شيء وتفحّصوه، وتمسّكوا بما هو حسن)) (1 تس 5: 21). فانتظار مجيء الربّ لم يمنع الرسول من أن يعطي الحياة اليوميّة كلَّ أهميّتها. لذلك، جعل في نهاية الرسالة وصايا شتى: ((كونوا في سلام بعضكم مع بعض، شجّعوا الصغار، أسندوا الضعفاء، عاملوا الجميع بصبر وأناة، لا تجازوا أحدًا على شر بشرّ. كونوا فرحين على الدوام)) (1 تس 5: 12-16).
ذاك كان انتظار بولس للنهاية منذ الرسائل الأولى. ولن يتبدّل هذا الانتظار تجاه المسائل الجديدة التي واجهتها الجماعاتُ على مستوى الحياة داخل الكنيسة، سواء في الأمور الخلقيّة أم في علاقات المسيحيّين بالذين حولهم من يهود ووثنيّين. انطلق الرسول في كل هذا من واقع الانسان الذي نال العماد، فاستنتج كيف يعيش ذاك الذي اتّحد بالمسيح، حياةً تليق بالذي دعاه إلى ملكوته ومجده (1 تس 2: 12).

ب - الصليب وانتظار النهاية
أجل، بدا التجلّي لمجد الّله وانتظار غلبته على الشرّ والخطيئة وكأنهما لم يؤثّرا التأثير الحاسم على لاهوت رسول الأمم. لا شكّ في أن الرسالة إلى رومة تبدأ بقسم تكرّس كلّه للكلام عن غضب الّله الذي ((يُعتلن من السماء على كل كفر وظلم للناس الذين يعوّقون الحق بالظلم)) (روم 1: 18). واعتلان الغضب هو، في الواقع، اعتلان نتائج هذا الغضب التي هي عقاب لخطايا البشريّة. كل هذا لا نفهم مداه إلاّ في وحي الّله في يسوع المسيح: ((بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت... وبإنسان واحد، هو يسوع المسيح، نلنا وفرة النعمة وموهبة البرّ)) (روم 5: ،12 17). حين قدّم بولس ((انجيله))، أي طريقته في عرض البشارة، جعل كلامه في إطار من الانتظار الجليانيّ. وهكذا بدا الانجيل، للوهلة الأولى، في قلب الغضب الالهي وانتقام السماء من الخطأة. فكأني بالرسول يُلقي الرعب في قلوب السامعين لكي يجعلهم يفهمون حسنات الّله وغفرانه. أما وجب عليه بالأحرى أن يبدأ بالكلام عن وفرة النعمة التي نلناها في يسوع المسيح، وعن الغفران المجانيّ الذي يأتي إلينا في أعماق شقائنا؟ لا شكّ في ذلك، وخبرة الخلاص عند بولس سابقة لخبرة الشقاء والخطيئة. فهو لو لم يعرف أنه خلص بنعمة الربّ، لما تجرّأ وكشف الخطيئة ببشاعتها. فلو فعل، لقاد الناس إلى اليأس، لا إلى الرجاء بخلاص يُعطى لهم.
إذن، لماذا لم يبدأ برهانه مع ما قاله عن ((برّ الّله وطريق الإيمان بيسوع المسيح)) (روم 3: 22)، والعقاب الذي ينتظر فاعلي الاثم؟ الجواب هو أنه اختار أن ينطلق من النظرة اليهوديّة(7) ليقود الانسان إلى موضع لم يفكّر يومًا بالوصول إليه، إلى التبرير بالإيمان وبدون أعمال الشريعة الموسويّة. وهذا التبرير (عمل الّله الذي يقود إلى القداسة) ليس خاصًا باليهود، بل يصل إلى جميع البشر. بدأ الرسول مع انتظار تجلّي البرّ النهائي، وهو انتظار شديد لدى جميع اليهود الأتقياء الذين يرغبون في عزاء ما زال يتأخّر يومًا بعد يوم، فحرّك الدهشة والمفاجأة. إن ما تجلّى في النهاية ليس غضب الّله، بل برّه. وما يتجلّى هنا يرتبط بحدث يسوع المسيح. تجلّى برّ الّله لا ليدمّر، بل ليخلّص ويقدّم برّه بشكل مجانّي، بشكل لا يفرض على الخطأة إلاّ الإيمان وتقبّل عطايا الّله. وإلاّ شابهوا اليهود، فدلّوا على أمانة الّله حين أظهروا عدم أمانتهم.
فالإطار الجلياني عن ((ظهور غضب الّله على كل الناس وظلمهم))، يجب أن يُفهم على حقيقته. وإذا كان بولس قد استعاده، فلكي لا يقف عنده بل ليتجاوزه. فالدينونة ليست الكلمة الأخيرة. إن تجلّي الّله الشخصي يجد ذروته في الرحمة والخلاص: ((ولكن هبة الّله غير خطيئة آدم. فإذا كان الموت ساد البشر بخطيئة انسان واحد، فبالأولى أن تفيض عليهم نعمة الّله والعطيّة الموهوبة بنعمة انسان واحد هو يسوع المسيح)) (روم 5: 15). فالبرهان الذي قدّمه الرسول لا يتوخّى أن يبيّن أن البشريّة يجب أن يضربها غضبُ الّله، بل بأن اليهوديّ والوثنيّ يتبرّران بالإيمان لا بالأعمال.
وهكذا ما قيل عن غضب الله العادل وانتصاره الأخير له أهمّية ثانوية. فما يهمّ الرسول هو الطريق الذي تجلّى به هذا البرّ وهذا المجد. فالصعوبة الكبرى ترتبط بكيفيّة هذا التجلّي، أي بالموت على الصليب، بالشكل الذي سبّبه هذا الصليب: ((نحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة للوثنيّين)) (1 كور 1: 23). لهذا، فالإطار الجليانيّ الذي لم يتحدّث عن طرق عجيبة اتّخذها انتصار الله، فتكلّم الرسول عنها، لم يُدخلنا في قلب هذه الاسكاتولوجيا، وإن كان الرسول أشار أكثر من مرّة إلى غضب الّله ودينونته، فهو يركّز بالأحرى على التبرير المجّاني والمصالحة التي منحها الّله للبشريّة بواسطة ((جنون الصليب)). هنا كشف إله المجد والجلال عن قدرته كما لم يكشفها في موضوع آخر.
ج - قيامة المسيح ودعوة البشريّة
رأى بولس المرمى الأخير لحدث يسوع المسيح في انتصار الّله النهائي على الشرّ والموت، وهو انتصار يتطلّع إليه برجاء لا يُقهر. غير أن هذا الانتظار لا يخفّف أبدًا من أهميّة ما نلناه من غلبة. وإذ يتأمل المؤمنُ في المسيح على الصليب، يستطيع أن يدرك أسباب هذه الغلبة، كما يستطيع أن يتذوّق منذ الآن الخيرات الآتية في علاقته بالقائم من الموت. انطلق بولس من قيامة يسوع وتأثيرها في الموت، فرسم سمات البشريّة في دعوتها التامة والنهائيّة، وأكّد أن المؤمنين صاروا أولاد الّله ووارثي الموعد. إنهم صاروا ((خليقة جديدة)) (2 كور 5: 17؛ غل 3: 28).
لقد لاحظ الرسول نتائج هذا الموت وهذه القيامة في حياة المؤمنين. فإن كانوا جميعًا، مهما كان أصلهم، قد نالوا روح الموعد، فلأنهم دُعوا إلى كرامة الأبناء الواحدة، فتكوّنت فيهم وبينهم علائق أخرى، ووُلدت بشريّة جديدة هي تلك التي أرادها الّله في ابنه. عاد بولس إلى الانجيل فاكتشف نتائج قيامة يسوع بالنسبة إلى وضع البشريّة ومستقبلها. وهكذا صار يسوع آدم الآخر، الذي يقابل آدم الأول، لأنه انتصر على الخطيئة والموت واستطاع أن ينقل الحياة (1 كور 15: 20-22؛ روم 5: 12-21). أجل، إن اعتاد بولس أن ينطلق دومًا من يسوع المسيح وإليه يعود، فلأن وجهه الذي اكتشفه في اهتدائه، ما زال مطبوعًا في قلبه وهو يحرّك عواطفه وأقواله، بل يحرّك حياته كلها.
لا شكّ في أن نقطة الانطلاق في الكلام عن القيامة كانت خبرة طريق دمشق(8). ولكن بولس لم يشبّه قيامة الانسان بقيامة المسيح. فالسامعون بعيدون كل البعد عن مثل هذه الخبرة. فحين كلّمهم عن الجسد القائم من الموت، قال إنه يختلف عمّا نرى من أجساد. فأخذ مثَل النبتة التي ترتبط بالبذرة المزروعة في الأرض: إنها ليست أبديّة، بل تيبس بدورها وتموت. ولجأ إلى تشبيه آخر ليدلّ على أن الجسد القائم من الموت يشعّ بمجد أبديّ لا يفنى، على مثال النجوم التي تشع بدون انقطاع. فلا صورة البذرة تكفي، ولا صورة النجمة تُغني، ولكنهما توجّهان أنظارنا إلى تحوّل وتمجيد: ما تمّ في جسد المسيح يتمّ في أجسادنا. وما إن أشار بولس إلى آدم الآخر حتى أشار إلى نتائج قيامته بالنسبة إلى الجميع. فالمسيح الممجّد يدشّن بشريّة جديدة تستطيع منذ الآن أن تحمل في ذاتها ((صورة السماوي)) (1 كور 15: 49). فالبشريّة أصبحت تعرف أنها مصنوعة على صورة آدم الثاني، أنها مطبوعة بطابع المسيح. ذاك هو عربون مستقبلها.
جاءت مراحل البرهان الذي قدّمه بولس مهمّة جدًا بالنسبة إلى موضوعنا: كان المؤمنون يتصوّرون القيامة كعودة الحياة إلى جسد أرضيّ يشيخ ويموت في يوم من الأيام(9). أما الرسول فلم يقدّم عرضًا انتروبولوجيا (دراسة عن الانسان)، بل بحثًا عن صور من الحياة اليوميّة تساعده على تقديم البرهان الكرستولوجي السامي. فانطلق من القائم من الموت لكي يتصوّر دعوة الانسان وكرامته. فالمسيح يعطي الآخرة مضمونها، وهي بدورها تعطي الزمن الحاضر نوعيّة الرجاء الذي يحتاجه.
وقد يقودنا البرهان الكرستولوجي إلى التقليل من أهميّة الجسد المائت. فإن كان الّله هيّأ لنا جسدًا روحيًا يختلف كل الاختلاف، فجسد الأرض المعدّ للفساد لا قيمة له، ولا نحسب له أي حساب. فكان جواب بولس منطلقًا من علاقة المؤمنين بالمسيح: ((إن أجسادكم هي أعضاء المسيح)) (1 كور 6: 15-17).

3 - المسيح آدم الثاني
تجوّلنا في الرسائل البولسيّة الأولى(10)، فرأينا الكرستولوجيا في كل مظاهرها وهي تعطيها هدفها ومضمونها وامتدادها: فالّله يريدنا مثل ابنه ومع ابنه. ثم إن مجد يسوع هو مجدنا، وحياته حياتنا. أخيرًا، سيأتي يسوع ليأخذ أحبّاءه كلهم، أحياء وأمواتًا. لقد كان بولس أكثر من فكَّر في تأثير التمثّلات عن الّله والمسيح والمجيء على خبرة المؤمنين. فهناك تمثّلات تسمِّر الانسان مكانه، تخيفه، تجعله يثور، وأخرى تحرّك فيه الإيمان والرجاء. وسرّ المسيح هو الينبوع الذي لا ينضب وفيه يجد المؤمنون نماذج المستقبل، بل نماذج عملهم على الأرض.

أ - تحوّل في انتظار المجيء
في الرسائل البولسيّة الثانية، يعلن الكاتب أن المؤمنين خلصوا منذ الآن، أنهم ماتوا وقاموا. وهكذا يكون تحوّل مع ما جاء في الرسالة إلى رومة، مثلاً: نموت مع المسيح فنقوم معه في المستقبل. أما في كولسي (2: 20)، فنحن في صيغة الماضي: سبق لنا ومُتنا وقُمنا ونلنا الخلاص التام. غير أن الواقع يبيّن لنا أن الآلام والموت ما زالت هنا، وأن خلاصنا ما زال موضوع رجاء. هنا نشير إلى أن الرسول لا يريد أبدًا أن يقول إننا تقبّلنا منذ الآن جسد مجدنا، هذا الجسد الروحي الذي حاول أن يصوّره في الفصل 15 من كورنتوس الأولى. كما أنه لم يُلغ الانشداد بين ما هو حاضر منذ الآن، وقد حصلنا عليه، وبين ما لم نحصل عليهَ بعد، بين هذا الدهر والدهر الآتي (أف 1: 21)، وذلك بقدر ما اللفظان اللذان يصوّران مستقبل المؤمنين هما لفظا الرجاء والمجد (كو 1: 27؛ أف 1: 18). ودعوة المعمّدين كي يعتبروا أن الرجاء المحفوظ فيهم هو في السماوات، تجعلنا نفهم أن انتظار المجيء يتحوّل إلى رغبة في السماء.
ولكن رغبة السماء أو ((ما هو فوق)) (كو 3: 1)، تدلّ في الرسالة إلى كولسي، على أننا نريد أن نحيا هذه الحياة الأرضيّة مع المسيح القائم من الموت، دون أن نكون عبيد قيَم تسيطر على هذا العالم. وحين تقول أف 2: 6 بأن الّله أجلسهم مع المسيح ((في السماوات))، فهي لا تريد أن تجعلهم يهربون من مسيرة التاريخ وواقع الحياة اليوميّ، بل بما أن المسيح القائم من الموت ينعش حياتهم، فهو يعطيهم معه أن يقهروا القوى المعادية (أف 6: 10-17).
هناك لفظان يدلاّن على السماء: واحد منظور يدلّ على المكان، وآخر غير منظور لا يرتبط بالمكان. استعمل بولس هذا المدلول الأخير، ليدلّ على أننا أمام بُعد آخر يعطى للحياة، لا أمام هرب من الحياة إلى مكان آخر يبدو بعيدًا. مع أن أف وكو أعلنتا أن المؤمنين الذين قاموا من الموت هم مقيمون في السماوات، إلاّ أنهما لا تجعلانهم يتركون هذا العالم. فالاتحاد التام والنهائي مع الربّ يتيح لحياتهم أن تنطبع بطابع المسيح، في بُعدها الشخصي والكنسيّ والاجتماعيّ. وفي النهاية، حين أرادت هاتان الرسالتان أن تدعما الارشاد الخلقيّ، عادتا إلى تبريرات كرستولوجيّة للانفتاح على الحياة الاجتماعيّة والعائليّة: ((أيتها النساء إخضعن لرجالكنّ... أيها الرجال أحبّوا نساءكم... أيها الأولاد أطيعوا والديكم... أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم لئلاّ يفشلوا)) (كو 3: 18-21؛ رج أف 5: 21 و 6: 9).

ب - لماذا هذا التحوّل
إذا كانت الرسائل الثانية (خاصة كولسي وأفسس) تحافظ على الانشداد بين هذا الدهر والآتي، فلماذا فرضت على نفسها أن تصوّر، عن طريق الاستعارة، حياة المسيحيّين الحاليّة على أنها قيامة تمّت وخلاص حصل منذ الآن؟ لماذا لا تقول فقط، كما قالت الرسائل الأولى، بأن المؤمنين ماتوا ودُفنوا مع المسيح الذي هو حياتهم إلى الأبد؟
ظنّ بعض الشراح أن بولس قد أعاد النظر بالعالم الآتي وبعلاقة المؤمنين بالعالم، بعد أن رأى أن المجيء تأخّر. ولكن إذا أمعنا النظر، رأينا أن الأمور هي أكثر تشعبًا: فإن كانت الكرستولوجيا قد طُبعت بطابع النظرة إلى الآخرة، فهي قد حملت معها بذار التحوّل اللاحق. والتشديد على علاقة المسيح بالمؤمنين هو الذي نقل بولس من كلام عن قيامة مقبلة للمؤمنين إلى كلام عن قيامة وخلاص حصلا منذ الآن. فإن كانت الحياة هي المسيح الذي يحيا فينا، فقد ورثنا منذ الآن الحياة الأبديّة، وصرنا قائمين معه من الموت (كو 2: 12؛ 13: 1؛ أف 2: 5-8). أجل، القيامة والخلاص المنتظران من أجل نهاية الأزمنة، حصلنا عليهما الآن في إطار الرسالة إلى كولسي. فمن أين جاء هذا التحوّل؟
واجهت كولسي وضعًا صعبًا. لقد أجبر المؤمنون على ممارسة طقوس نسكيّة متطرّفة (3: 16، 18، 21، 23). هكذا يتطهّرون جسدًا وروحًا فيُخطفون إلى السماء برؤى وإيحاءات مختلفة، ويشاركون في ليتورجية الملائكة، وينالون خيرات الّله. أدرك بولس بحدسه مرمى هذا الوضع. فالممارسات النسكيّة لم تكن، قبل كل شيء، ممارسات تنقية، كما في عدد من الديانات، بل توخّت، أول ما توخّت، إن تهيّئ المؤمنين للصعود إلى السماء (رج رؤ 4: 1-2): يُخطفون فيبلغون إلى أسرار الّله المتعلّقة بنهاية الأزمنة والخلاص.
هنا أطلّت الصعوبة. فهذه الطقوس التي ترتبط بالطعام لا تشكّل للجميع وسيلة لهذه الرحلة السماويّة. والذين رأوا رؤى اعتبروا ذواتهم أنهم فوق الآخرين فاحتقروهم (كو 2: 18). وانقسمت الجماعة بين ((نخبة)) وبين سائر المؤمنين. ثمّ إن من يجعل من الرؤى السماويّة وسائل مميّزة للاتصال باللاهوت، يعني أنه نسي البُعد الخلاصي للانجيل. فالتعلّق الايمانيّ بتعليم الرسول هو تعلّق بالمسيح نفسه، وهو رباط نهائيّ لا رباط بعده. ولكن إذا كان جميع المؤمنين بلغوا بالمعموديّة إلى ملء حياة القائم من الموت (كو2: 3)، ويستطيعون أن يبلغوا الكمال فيه (1 كو 1: 28)، فمعرفة طرق الّله لا نحصل عليها بإيحاءات خاصة ورؤى خارقة، بل بعلاقة حميمة بالمسيح، تنمو يومًا بعد يوم. لذلك ترك بولس وسائل ((الإيحاء)) هذه، وشدّد على سرّ المسيح الذي يعلو جميع الأسرار.
وعندما أراد بولس أن يبيّن أن هذه ((الرحلات السماويّة)) وما يرتبط بها من ممارسات، هي باطلة ولا نفع فيها، ركّز على أن المؤمنين نالوا منذ الآن كل شيء في المسيح. فماذا يحتاجون بعد؟ لذلك، ما عاد لهم أن ينتظروا شيئًا يتعلّق بمستقبلهم وخلاصهم. من هنا نفهم أهميّة سيادة المسيح المطلقة على أرفع الكائنات الروحيّة والسماويّة (كو 1: 15-20؛ 2: 10، 24-25؛ أف 1: 21) التي جعلتها كتب ((الرؤى)) تخدم أمام عرش الّله. ولكن، حين جعل الّله المسيح فوق جميع هذه الخلائق، فهو لم يبعده عن المؤمنين، لأنهم هم أيضًا يقيمون مع المسيح في أعلى السماوات، وهكذا يظلّون قريبين منه (أف 2: 4). ولكن كيف نتكلّم عن كيان المؤمنين مع المسيح في أعلى السماوات دون الكلام عن ((رحلة سريّة))؟ لا يحتاج المؤمنون إلى مثل هذه الممارسات؛ فهم منذ الآن قد قاموا ونالوا الخلاص. وبقدر ما ينمون في معرفة ذاك الذي اتّحدوا به، يكتشفون يومًا بعد يوم غنى المجد الفائض الذي دُعوا إليه.
ج - المعمّدون وسيادة المسيح
قدّمت لنا الرسائل الثانية صورة في ثلاث محطّات: إن جلوس المعمّدين مع المسيح، في السماوات، يفترض تحوّلهم وانتقالهم. لقد قاموا مع المسيح، وهكذا لم يعودوا خاضعين للقوى والرئاسات، ولا عادوا يحتاجون إلى وسيط من أجل خلاصهم ومن أجل معرفة هذا الخلاص، لأن المسيح يسمو، بقيامته المجيدة، على الكائنات السماويّة العليا كلها(11).
وأضافت الرسالة إلى كولسي بأن يسوع، بقيامته، هو منذ الآن ربّ السماء والأرض. ولكن أهل كولسي كانوا يعتبرون أن مجده هو مجد إنسان، وبالتالي أقلّ من مجد الملائكة الذين يخدمون أمام العرش الالهي على الدوام. هل ذلك لأن الملائكة لم ينفصلوا عن الّله، فهم لا يحتاجون إلى وسيط ومخلّص؟ فكان جواب أنه وسّع وساطة المسيح ومصالحته على جميع الكائنات بلا استثناء، فبلغت إلى القوى السماويّة والروحيّة. المسيح هو الأول، وهو يسود جميع المخلوقات التي تحتاج كلها إلى وساطته وخلاصه. ولا نقول الأول فقط، بل وحده هو الوسيط، ولا اسم سوى اسمه به تنال الخليقةُ الخلاص.

خاتمة
انطلقنا من نظرة إلى الاسكاتولوجيا، إلى عالم النهاية، عالم الموت والقيامة، فرأينا أن المسيح يملأ الحاضر كما يملأ المستقبل، يملأ هذا الدهر كما يملأ الدهر الآتي. ففي المسيح، لا تنفصل السماء عن الأرض، ونحن لا نتطلّع إلى الأبديّة ناسين هذا العالم الذي نعيش فيه. هناك نصوص رفعت الأرض ورفعتنا نحن معها إلى السماء. أما بولس، فعندما تحدّث عن مجيء المسيح إلى الأرض، فقد جعل عالم الآخرة في هذا العالم. خطئ الانسان فانحدر وانحدرت الخليقة معه. ذاك كان آدم الأول. أما المسيح، آدم الثاني، فتمجّد ومجّد معه البشريّة ورفع الخليقة بحيث تصبح أرضًا جديدة وسماوات جديدة. فالمسيح لا يرتفع وحده إلى السماء، بل يُصعدنا معه. ونحن المتضامنين مع الخليقة نرافقها في أنينها (روم 8: 22) متطلّعين إلى الخليقة الجديدة التي تبدأ على الأرض وتنتهي في السماء، وهي تمتدّ في هذا العالم متطلّعة إلى الآخرة.
ذاك هو مجيء المسيح الذي انتظره الفكر القديم من خلال معرفة باطنيّة تجهل التقليد الرسولي وعثار الصليب، والذي تنتظره بعض الشيع داخل عالم جليانيّ مليء بالخوف والدمار والموت. أما مجيء المسيح، بالنسبة إلينا، فهو ذلك النور الذي يجعل السماء على الأرض، ويدفع بالانسان ليحوّل الأرض إلى سماء. هذا يعني أنه علينا أن نسهر، أن نعمل، أن نتاجر بالوزنات. لا شكّ في أن الشرّ والألم والموت ما زالت هنا، ولكن منذ الآن قام المؤمنون وتمجّدوا مع المسيح. فلا يبقى لهم سوى النموّ في المحبّة ليبلغوا إلى المسيح الذي يجمع، في نهاية الأزمنة، ((كل ما في السماء وما على الأرض)) (أف 1: 10).
الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM