يوم الأثنين
الفصل الثاني
خبرة طريق دمشق
وتأثيرها على الرسائل
مقدّمة
إذا كان صحيحًا أن الأسلوب هو الانسان، فأسلوب بولس هو تعبير حي عمّا عاشه في قرارة نفسه. وما عاشه بولس من يوم التقى بيسوع على طريق دمشق هو هذا الحدث بالذات الذي يذكره لوقا ثلاث مرات في سفر أعمال الرسل في الفصول التاسع والثاني والعشرين والسادس والعشرين والذي يعود إليه بولس في كل رسائله، إن بتلميح وإن بنوع مباشر في الرسالتين إلى أهل كورنتوس وفي الرسالة إلى أهل غلاطية وإلى أهل فليبي وفي الأولى إلى تيموتاوس. ذلك أن هذا الحدث أصبح محور حياة بولس ومركزها. أنه ميلاد جديد منه يؤرّخ بولس حياته: ما قبل هذا الميلاد وما بعد هذا الميلاد: ((أنسى ما ورائي وامتدّ إلى ما هو أمامي)) (3: 13).
انه ينطلق من ماض مات إلى الأبد إلى حاضر ومستقبل يزخران بالحياة الجديدة. فإذا ما ذكر ماضيه فلكي يعبّر عن ندامة ويكفّر عمّا ارتكب من جرائم بحقّ المسيحيّين.
وعندما يتكلّم على السر الذي كشفه الّله له في المسيح، يصبح أسلوبه شعريًا ملحميًا. فهو يكتب كما يفكّر، لا بعقله فحسب، بل بقلبه ودموعه وصلاته. كما أنه لا يكتفي بالتنظير، بل يضيف إلى هذا التنظير مرتكز دعوة إلى سلوك حياتي على مبادئ وحقائق كشفها له السيد المسيح يوم اللقاء العظيم. فتأثير هذا اللقاء على رسائله هو من تأثيره على حياته. وبالإضافة إلى كل ذلك، يريد أن يدحض اتّهامات أخصامه بخصوص ما قاله في وصف الحدث أو بخصوص صفته الرسوليّة. وهو مستعدّ أن يمهر أقواله بدمه. فما رآه وسمعه من السيّد المسيح مصوَّر في ذاكرته بوضوح ولا يمكن أن ينساه إلاّ إذا نسي ذاته.
نبدأ حديثنا بالكلام على صحّة ما قاله في وصف الحدث، ثم بالدفاع عن صفته الرسوليّة، لنتوقّف بعد ذلك عند محتوى السر الذي كشفه الّله له لنرى أخيرًا موقف بولس من ماضيه قبل أن نختم بإيمان بولس الثلاثي.
1 - الدفاع عن حقيقة الحدث
يدافع بولس عن نفسه ضدّ اتهامات اخصام كانوا له بالمرصاد وقد خان ما كانوا يأملون منه من اضطهاد للمسيحيّين. فبدلاً من أن يلقي القبض على اتباع هذه الطريق ويجرّهم موثقين إلى أورشليم، ها هوذا يدافع عن براءتهم ويبشّر بيسوع وبتعاليمه التي كانوا قد ظنوها ماتت مع سيدها إلى الأبد. فتشاوروا أكثر من مرّة ليغتالوه (اع: 9: 23) واتّهموه اشنع التهم مكذبين ما يقوله بخصوص ظهور المسيح له. ويقولون:
- إنه يفسد الناس بكذبه وباطل تعاليمه ويضلهم. فيجيب: ((نظهر أنفسنا كخدام الّله في كل شيء... كأنا مضلون ونحن صادقون)) (2 كو 6: 8- 10).
- أنه متواضع عن قرب وجريء عن بعد. فيجيب: ((فليفكّر مثل هذا المدّعي أنّا كما نحن بالكلمة في الرسالة ونحن غائبون، كذلك نحن أيضًا بالفعل ونحن حاضرون)) (2 كو 10: 11).
- أنه ليس فصيحًا ولا يحسن الكلام. فيجيب: ((إننا نتصرّف في العالم، وخصوصًا عندكم، ببساطة الّله وصدقه، لا بحكمة بشريّة بل بنعمة من الّله)) (2 كو 1: 12).
- انه ضعيف ويغيّر مقاصده. فيجيب: ((أفاكون بخفة تصرّفت؟ أم أردتُ كبشر ما أردت حتى يكون عندي معًا نعم ولا؟)) (2 كو 1: 17)؟
- انه انتهازي مع الوثنيّين. فيجيب: ((أأستعطف الناس أم الّله؟ أم أسعى إلى مرضاة الناس؟ لو كنت ما أزال أرضي الناس، لما كنت عبدًا للمسيح)) (غل 1: 10).
هذه التهمة الأخيرة صادرة عن المسيحيّين المتهودين في غلاطية الذين، بعد أن بشّرهم بولس، عادوا إلى موسى والشريعة. فهو يوبّخهم على ضلالهم ويأسف أن يكون تعليمه ذهب سدى لديهم: ((يأخذني العجب من أنكم تتحوّلون بهذه السرعة إلى انجيل آخر عن الذي دعاكم بنعمة المسيح... أيها الغلاطيون الأغبياء، من سحركم وقد رسم عيونكم يسوع المسيح مصلوبًا؟)) (غل 1: 6- 13: 1).
أراد خصومه بكل هذه التهم وما شابهها، أن يحطّوا من قيمة رسالته، وأن يُظهروه بمظهر المخاتل الكذاب والخبيث والضعيف. لكن دفاعه جاء قويًا بليغًا مستندًا، لا فقط إلى ما علّمه إياه السيّد المسيح على طريق دمشق، بل أيضًا إلى خبرته الكنسيّة بمعية بطرس ويعقوب ويوحنا. فهو يعلّم معهم باتفاق تام! ((صعدتُ وبرنابا إلى أورشليم، مستصحبًا تيطس. بوحي صعدتُ، وخلوت بذوي الاعتبار، فاطلعتهم على الانجيل الذي انادي به بين الأمم، لئلا أسعى أو أكون سعيت باطلاً!)) (غل 2: 1- 2).
2 - الدفاع عن صفته الرسوليّة
انكار صفته الرسوليّة كان لبولس بمثابة سيف أغمد في أعماقه. لذا يدافع عن هذه الصفة بكل ما أوتي من قوّة الاقناع مردّدًا دائمًا في رسائله، ولا سيّما في بدء كل منها: ((من بولس رسول يسوع المسيح))، ((من بولس عبد يسوع المسيح، المدعو ليكون رسول المسيح يسوع))، ((من بولس الرسول لا من قبل ناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والّله الآب))...
لقد اتّهموه بأنه لم يكن في عداد الرسل ولم يلتق المسيح في حياته الزمنيّة.
فيجيب ببراهين عديدة أنه رسول مثل سائر الرسل، وأنه لم ينقص عنهم بشيء: ((أخدام للمسيح هم؟ أقول كجاهل: أنا أفضل! في الأتعاب أكثر، في السجون أكثر، وفي الضربات فوق التصوّر، وفي الموت مرارًا)) (2 كو 11: 23).
اختباره شبيه باختبار الرسل. فقد رأى المسيح القائم من الموت كما رأوه هم فأصبح معهم ومثلهم شاهدًا له: ((ألست رسولاً؟ أوما رأيت يسوع ربنا؟)) (1 كو 9: 1).
فأصبح شاهدًا مثل بطرس ويعقوب ويوحنا.
وهو يفتخر بأنه لم يهتد على أيدي بشر، بل قبلَ دعوةً مباشرة ومطلقة بوحي خاص:
((أعلمكم، أيها الاخوة، أن الانجيل الذي بشرتُ به ليس وفق بشر، فإني ما تلقّيته ولا تعلّمته من بشر، بل بوحي يسوع المسيح)) (غل 1: 11- 12).
الذي أرسله إلى الأمم هو الذي أرسل بطرس إلى اليهود: ((ائتمنت على تبشير أهل القلفة، كما ائتمن بطرس على تبشير أهل الختانة)) (غل 2: 7). الفرق إذًا هو تقسيم العمل.
لكنه لا يتكبّر من جرّاء هذا الاختيار. إذًا الفضل كله يعود للذي دعاه: ((لأني أنا أصغر الرسل ولست أهلاً لأن أدعى رسولاً)) (1 كو 15: 9).
السيّد المسيح هو الذي قبض عليه (في 3: 12). فأصبح آلة طيّعة بيد من دعاه.
هكذا اعترفت به الكنيسة. حتى إنه قاوم بطرس في انطاكية (غل 2: 11...). غير أنه لم يتنكّر لرئاسته. يدافع عن اختيار المسيح له وقد وقع هذا الاختيار في وضح النهار. واختباره كاختبار الرسل إذ السيّد المسيح تدخّل شخصيًا ومباشرة في حياته وأرسله كما أرسل رسله بعد القيامة لتبشير الأمم. وهو لم ينقص عن الرسل الأفاضل بشيء، بل عمل أكثر منهم، وتعرّض مرات عديدة للموت. ظهور السيّد المسيح له لم يكن حلمًا، بل حصل في وضح النهار. ظهر له وكلّمه وأرسله كما أرسل الآخرين. فهو حقًا رسول. يقول هذا بتواضع وافتخار في آن، نظرًا إلى حقارة الطبع وعظمة النعمة. الفرق بينه وبين الرسل انهم كانوا يعرفون يسوع. وعند القيامة تعرّفوا عليه. أما هو فلأوّل مرّة، بعد القيامة ولكنه رآه مثلهم: ((ألست حرًا! الست رسولاً؟ الم أر يسوع ربنا))! (1 كو 9: 1).
لم يفكّر بأن يصبح مسيحيًا، وهو العدو المضطّهد والعنيد الذي كان يرى في المسيحيّة بدعة تُفسد ديانةَ الآباء ويجب محاربتها. لكن الذي خلقه اختاره من بطن أمه ليكون هذا الرسول ويحمل بشارة المسيح إلى الأمم وإلى بني إسرائيل. دعوتُه تدخّلٌ شخصي من الرب يسوع الذي اختاره وأرسله كما أرسل الآخرين فأصبح معهم شاهدًا ومبشّرًا، وهو لا يقل عنهم شأنًا، بل يتميّز ((بالجهاد أكثر منهم..))، وذلك بنعمة خاصة من الذي اختاره ليكون شاهدًا للقيامة.
3 - أهميّة الحدث
هذا اللقاء الشخصي بالمسيح على طريق دمشق (أع 9: 1- 22) هزّ بولس في أعماقه. ((من أنت))، ((ماذا تريد مني)). أسئلة سريعة بعد تغيير فجائي.
لا يريد أن يضيّع الوقت. يقول فيما بعد: ((ومن ذلك الحين لم أعص الرؤيا السماويّة)) (أع 26). فالمسيح الذي رآه استولى عليه، ولم يعد باستطاعة بولس أن يرفس المهماز (أْع 26). لقد انبهر أمام هذا القائم من الموت. اختبر حبًا غريبًا هزّ كيانه، فرمى وراء ظهره كل ماضيه، واقلع نحو آفاق جديدة. لقد ظهر له حبُّ الّله في المسيح فتبدّلت حياته، وراح منذ الآن يكرّس له ذاته، يكرّس ذاته للذي كان يضطهده منذ لحظات. إنها نقطة تحول في حياة بولس. باستطاعته أن يقول: ((كنت والآن صرت)). ((ماذا تريد مني؟)) شاول الفريسي، بلمحة بصر، أصبح بولس المسيحي. ها هو يبشّر بالذي كان يحاربه منذ قليل. لقد كان استفانوس إذن على حقّ، واليهود ضلّوا عن تخطيط الّله الذي ظهر كاملاً في المسيح يسوع. لقد تذكّر ما كان يقوله استفانوس عن ابن الانسان من أن المسيح حيّ. أمام استفانوس امتلأ غيظًا واحتقارًا لهذه الطريقة، وكان موافقًا على رجم أول شهيد للمسيحيّة (1ع: 8). أما الآن فيرى أن قتله كان جريمة و كان بولس موافقًا عليها ((أنا الذي كان فيما مضى مجدفًا مضطهدًا عنيفًا)) (1 ثم 1: 13). لكن صلاة استفانوس الأخيرة لم تذهب سدى. فبولس سيفيد منها وسيغفر له الّله بصلوات أول الشهداء.
هذا اللقاء الشخصي الحميم بالسيّد المسيح، الذي يذكره سفر الأعمال ثلاث مرات (9: 1- 19؛ 22: 1- 21؛ 26: 9- 18)، هزَّ بولس في أعماقه، وأحدث فيه تغييرًا جذريًا جعل معاصريه يعجبون لهذا التغيير المفاجئ. لقاء غيّر مجرى حياة بولس. كما كان له كبير الأثر في حياة الجماعة المسيحيّة. كان هذا الحدث بالنسبة إلى بولس بمثابة خلق جديد. فهو منذ ذلك الحين لا يزال يدور حواليه كما حول مركز حياتي. من هنا يقول بولس: ((أنسى ما ورائي وأنبسط إلى ما هو قدّامي)) (في 3: 13). ولا غرو، فالحدث هو من الأهميّة بحيث إن عارفي بولس وقفوا من هذا التغيير مذهولين، وبحيث إن بولس يعود إليه مرات عديدة في سفر الأعمال وفي رسائله.
بعد هذا الحدث. راح بولس يهدم ما كان قد بنى شاول الفريسي. انه يبني على أساس جديد. بولس ذاته المتحمّس والغيور صاحب الطبيعة الناريّة، مضطهد المسيحيّين، أصبح داعية لهذا الدين الجديد.
فماذا حدث: انه يتكلّم على اهتدائه كرجل قام من الموت، أو كأعمى انفتحت عيناه فجأة، أو كمجنون كما يقول له فستس (1ع 24- 26). وهكذا ظنّ كثيرون.
فما هي أهميّة ما يسميّه ظهور المسيح له والذي يتكلّم عليه مرات عديدة؟ ماذا رأى وماذا فهم؟ يصوّر بولس الحدث كلقاء شخصي بالمسيح يسوع القائم من الموت الذي لم يعرفه في الجسد لأنه لم يكن قد رآه من قبل. لذلك يسأله ((من أنت يا ربّ؟- أنا يسوع الذي أنت تضطهده)) (أع 5: 9). في لمح البصر، فهم بولس سر المسيح، وصدّق رسالته، فقرّر ألاّ يترك المسيح بعد اليوم. بولس الفريسي المتحمّس لدين السر الذي كان خفيًا منذ دهور، رأى الخلاص بيسوع القائم من الموت والذي يدعوه للرسالة. فكانت التعاليم التي نعرفها والتي أصبح بولسُ مناديًا بها ورسولَها.
لكي نفهم أهميّة هذا الحدث، لننتبه إلى أمرين: أولاً، كلام بولس عليه مرات عديدة (1كو 15؛ غل 1- 2؛ كو 3؛ 1تم1...). وفي المقدّمات: ((من بولس عبد يسوع المسيح، الرسول، سجين يسوع)). ثانيًا، أسلوب بولس الحي الذي لا يكتب بعقله فقط، بل بقلبه أيضًا وبدموعه، بالصلاة بحماس واندفاع. وعندما يصل إلى الكلام على السر الذي كان محجوبًا وكشفه الّله له، يصبح شاعرًا ملحميًا بليغًا (1 كو 1: 17...) (1كو 1- 4..). هكذا يدخلنا إلى صميم الحدث وكأننا نسمع ما يسمع ونرى ما يرى.
بولس، صاحب الطبيعة الناريّة، المتحمّس، الغيور على دين آبائه، يصبح الآن داعية لهذا الدّين الجديد، ويضع في خدمته كل غنى شخصيّته الناريّة، ويتحدّث عن الصليب كمجنون. ألم يقل له فستس: ((أراك قد جننت يا بولس؟)) (أع 24: 26). لكن هذا الجنون هو جنون الصليب: ((ولما كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون يبحثون عن الحكمة، فإننا نبشّر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيّين... لأن الحماقة من الّله أكثر حكمة من الناس...)) (1كو 1: 22- 23).
4 - محتوى اللقاء
أول حقيقة خبّرها بولس في هذا الحدث، هو أن السيّد المسيح قام وهو يكلّمه. فالمسيح إذن حيّ ولن يموت. وهذا برهان حسي على أن الأموات سيقومون مع المسيح القائم من الموت: ((كما يموت جميع الناس في آدم، فكذلك سيحيون جميعًا في المسيح)) (1كو 15: 22) الذي هو بكر القائمين من الموت (كو 1: 18). فالقيامة تشرح الصليب وعاره، وتسهّل فهم كل ما كان يبدو غير معقول، وبخاصة كل الآلام التي يتعرّض لها الانسان في الحياة الدنيا. لا بل أصبح الصليبُ علامة افتخار للمؤمنين: ((أما أنا فمعاذ الّله ان افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح)) (غل 6: 14). وموت يسوع الذي هو حدث مأساوي يصبح حدثًا خلاصيًا. إذ هكذا تغلّب يسوع على الشر. وحبّه المصلوب جاء مصالحة غير محدودة بين الّله والناس. مجدُ القيامة محا وصمة الفساد، والنعمة النازلة من عل كانت علة الانطلاقة إلى فوق بالإيمان بيسوع المسيح مالئ ضمير الانسان المنفتح على النعمة: ((مع أننا كنا أمواتًا بزلاتنا، أحيانًا مع المسيح وأقامنا معه)) (أف 2: 5- 6). فمنذ الآن نحن معه عن يمين الآب. موته أتمّ فينا موت آدم الخاطئ وولادة الانسان الجديد. فالقيامة هي تمجيد الآب للابن الذي أصبح ربًا وديانًا للأحياء والأموات (رو 14: 9). أصبح بكر القائمين من الموت أي أول من دخل العالم الجديد. وما تحقّق في المسيح يتحقّق في كنيسته. فكما كان تجسّده مشاركة لنا في طبيعتنا البشريّة، كذلك تكون قيامتنا مشاركة له في قيامته.
ويسمع بولس هذا المسيح الذي رآه منتصرًا على الموت يقول له: ((لماذا تضطهدني!)). كيف كان بولس يضطهد يسوع وهو لم يلتق به في حياته؟ فهم بولس، بهذا الكلام، سرَّ الكنيسة، جسد المسيح. فمن اضطهد الكنيسة اضطهد المسيح بالذات. هذه هي الحقيقة الثانية التي فهمها بولس خلال هذا اللقاء. فهم بولس أن المسيح وكنيسته يؤلّفان جسدًا واحدًا، فأفاض في وصف هذا السر. ((فليس هناك عبد أو حر وليس هناك ذكر أو أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع)) (غل 3: 28). والسيّد المسيح هو المركز الموحّد الذي يجعل من جماعة المسيحيّين حقيقة واحدة: ((وكما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة وأن أعضاء الجسد كلها على كثرتها ليست إلاّ جسدًا واحدًا، فكذلك المسيح)) (1كو 12: 12). فالمسيح، بالإضافة إلى أنه محيي الجسد، أي الكنيسة، هو أيضًا مركز الكون كله ومبدأ وحدته. ((هو صورة الّله الذي لا يُرى، وبكر كل خليقة. ففيه خُلق كل شيء... هو قبل كل شيء وبه قوام كل شيء... فقد حسن لدى الّله أن يُحلّ به الكمال كله وأن يصالح به من أجله كل موجود)) (كو 1: 15- 20). بالمسيح اتّحد الّله بالانسان وتجدّدت الخليقة كلها: ((فيه يحل كمال الالوهة حلولاً جسديًا وفيه تكونون كاملين)) (كو 2: 9- 10). فالّله ((يجمع تحت رأس واحد هو المسيح، كلَّ ما في السماوات وما في الأرض)) (أف 1: 10).
لذلك فبولس لم يعرف سوى يسوع المسيح: ((فإني لم أشأ أن أعرف شيئًا وأنا بينكم، غير يسوع، بل يسوع المسيح المصلوب)) (1كو 2: 2). فأصبح يرى كل شيء من خلال يسوع المسيح الذي به أصبحنا واحدًا رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخًا، و يهودًا وأممًا (1كو 12: 12..)
((فمن يفصلني عن محبّة المسيح؟)) (رو 8: 35).
من هنا ينتقل بولس إلى الحياة في المسيح، الحياة الجديدة التي ترتكز على الإيمان بيسوع المسيح، لا على الشريعة القديمة. إذ بالمسيح أصبح كلُّ شيء جديدًا. وأول من تجدّد هو الانسان. يسوع القائم من الموت جدّد بولس، فترك ماضيه وانطلق إلى رسالة جديدة. خلع الانسان القديم ولبس الجديد، يسوع المسيح. وهو يدعونا إلى اتّباعه على هذا الطريق: ((فقد خلعتم الانسان القديم ولبستم الانسان الجديد)) (كو 3: 10). فنحن منذ الآن نموت مع المسيح لننهض معه إلى حياة جديدة، في العماد الذي يمثّل الموت والقيامة. فأصبح المسيح فيكم (كو 1: 27)، وأصبحتم هياكل للروح القدس: ((أما تعلمون أنكم هيكل الّله وأن روح الّله حال فيكم؟)) (1كو 3: 16). أصبحتم شركاء في الحياة الإلهيّة. ((فإذا كنّا أبناء الّله، فنحن ورثة الّله وشركاء المسيح في الميراث، لأننا، إذا شاركناه في الآلام، نشاركه في المجد أيضًا)) (رو 8: 17).
فحياتنا المسيحيّة يجب أن تصبح وفاء وأمانة للروح القدس.
وهذه الشراكة في الحياة الالهيّة لم تأت نتيجة أعمال برّ عملناها، بل هي عطيّة مجانيّة من الّله.
لم يستحقّ بولس ما أغدقه عليه السيّد المسيح، منذ تجلّيه له على طريق دمشق، حيث ظهر له بغتة ((نور السماء)) (رع 9: 3)، وسمع صوتَ الرب يدعوه إلى حياة جديدة: ((لما حسن لدى الّله الذي أفردني إذ كنت في بطن أمي ودعاني بنعمته)) (أع 9: 15).
((بنعمة الّله صرت ما أنا عليه)) (1كو 15: 9-10). كذلك لا يستطيع أحد أن يقول: ((يسوع ربّ إلاّ بالهام من الروح القدس)) (1كو 12: 3). ولا يستطيع أحد أن يتوب إلاّ من دعاه لطف الّله إلى التوبة (رو 2: 4). وكذلك يدعو التسالونيكيين إلى الثبات ((لأن الّله اختاركم منذ البدء ليخلّصكم بالروح الذي يقدّسكم والإيمان بالحقّ)) (2تس 2: 13).
فنعمة الّله هي التي تعمل فينا. ((فإذا كان الاختيار بالنعمة، فليس هو إذا بالأعمال، وإلاّ لم تبق النعمة نعمة)) (رو 11: 6) واستحقاقاتنا هي أيضًا نعمة من الّله: ((أي شيء لك لم تنله؟)). النعمة هي ((نور من السماء))، لا من الأرض، ولا من الشريعة. فالانسان الجديد، الذي أصبح تحت النعمة، تحرّر من الانسان القديم الذي كان تحت الشريعة. فلم يكن بوسع الشريعة أن تحرّر أحدًا أو أن توصل أحدًا إلى الخلاص أو إلى معرفة الّله. ((لا يستطيع أحد أن يقول: "يسوع رب" إلاّ بإلهام من الروح القدس)) (1كو 12: 3).
((بنعمة الّله صرت ما أنا عليه)) (1كو 1: 10). وبنعمة الّله ننال الخلاص بفضل الإيمان (أف 2: 8)، ((وليس من الأعمال لئلا يفتخر أحد)). الّله هو الذي أحبّنا أولاً كما يقول القديس يوحنا. وبولس يشدّد على محبّة الّله لنا في المسيح. فالمسيح، في تعليم بولس، هو المركز. فنحن ((خلقنا في المسيح يسوع)) (أف 1: 10)، ((لأن لنا به جميعًا سبيلاً إلى الآب في روح واحد)) (أف 2: 18). فالمسيح هو ((حجر الزاوية)) (أف 2: 20). والّله عندما خلق، ((جمع تحت رأس واحد، هو المسيح، كل شيء)) (أف 1: 10). والّله ((أقامه من بين الأموات)) (أف 1: 20)، ((وأجلسنا معه في السموات)) (أف 2: 6). المسيح هذا جدّد الإنسان والخليقة كلها إذ حرّرها من عبوديّة الخطيئة: ((إن المسيح قد حرّرنا تحريرًا. فاثبتوا إذًا ولا تدعوا أحدًا يعود بكم إلى نير العبوديّة)) (غل 5: 1). والمسيح يتّحد بالمؤمن ويدمجه به، فيصبح واحدًا معه: ((فإننا اعتمدنا جميعًا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، أيهودًا كنا أم يونانيّين، عبيدًا أم أحرارًا، وشربنا من روح واحد)) (1كو 12: 13). فالمسيح هو أساس كل شيء: ((فما من أحد يستطيع أن يضع غيرَ الأساس الذي وضع أي يسوع المسيح)) (1كو 3: 11) بل هو كل شيء: ((فقد حسن لدى الّله أن يُحل به الكمال كله)) (كو 1: 19). وهو الوسيط الوحيد بين الّله والناس: ((لأن الّله واحد والوسيط بين الّله والناس واحد، وهو إنسان، أي المسيح يسوع)) (1تم 2: 5).
وهذه الحياة الجديدة أرادها الربّ في جماعة، داخل كنيسة. هذا أيضًا فهمه بولس من قول السيّد له: ((قم فادخل المدينة، فيقال لك ما يجب عليك أن تفعل)) (أع 9: 6). وعند دخوله دمشق، يلقاه حننيا بالسلام: ((يا أخي شاول، إن الربّ أرسلني... لتبصر وتمتلئ من الروح القدس)) (أع 9: 17).
فالكنيسة التي هي جسد المسيح الربّ، هي أيضًا منظورة، منظّمة، ولها رؤساؤها. وأعضاؤها هم أخوة بعضهم لبعض. في كنيسة دمشق، قام بولس واعتمد، فعادت إليه قواه.
فكنيسة المسيح هي الهيّة وانسانيّة. فالّله الذي يعمل في الكون يريد أن يُشركنا في عمل تقديس العالم.
كنيسته كنيسة بشر من لحم ودم، ينعشها روح الّله. فهي كالسيّد المسيح الهيّة وانسانيّة، وفي داخلها يلتقي الّله شعبه الجديد. لذا بعد أن اعتمد بولس، ((أقام بضعة أيام مع التلاميذ في دمشق)) (أع 9: 19).
ثمّ مضى إلى الرسل في أورشليم، وعنهم أخذ الكثير من تفاصيل حياة المسيح وتعليمه. لذا لا يوجد أي تناقض بين ما علّم بطرس ويعقوب، وما علّم هو. هو يعلم أن الرسل هم رفقاؤه في التبشير فينطلق مع بطرس إلى انطاكيا، وفي رحلاته التبشيريّة يصطحب بعضًا من التلاميذ أمثال مرقس وبرنابا ولوقا وتيموثاوس... فتعليمه هو تعليم سائر الرسل والفرق أنه اختصّ بالأمم بينما بطرس ويعقوب بشّرا اليهود، وهذا أمر بالغ الأهميّة إذا ما ذكرنا كيف أن اليهود كانوا يحتقرون الأمم ودياناتهم. فبولس الذي أدخله المسيح في سرّه، يشدّد على أهميّة اهتداء الوثنيّين ويجعل من اتّحادهم بالمسيح مع اليهود نقطة الثقل في هذا السر: ((فتستطيعون أن تدركوا تفهّمي سر المسيح، هذا السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في القرون الماضية وكشف الآن في الروح إلى رسله وأنبيائه القديسين، وهو أن الوثنيّين شركاء في الميراث والحق والوعد في المسيح يسوع)) (أف 4- 6). هذا السر بقي محجوبًا حتى تحقّق في المسيح، وكُشف لبولس وتجلى في الكنيسة. هنا في المسيح يلتقي كل واحد وكل شيء: دعوة الوثنيّين للخلاص، مصالحة اليهود والأمم في شخص يسوع، اتحاد يسوع بعروسته الكنيسة، خضوع الكون كله للمسيح: ((فإننا نعلم أن الخليقة جمعاء تئنّ إلى اليوم من الآم المخاض)) (رو8: 22).
بالمسيح، في المسيح، كل الكائنات خَلُصَتْ، وهي على استعداد للاشتراك في تجلي الربّ يسوع في مجده.
5 - بولس اليهودي
بالرغم من هذه النظرة الكونيّة إلى الأمور، لم ينس بولس شعبه، هذه الزيتونة الأصليّة التي طُعمت عليها الزيتونة البريّة. السر الذي كان مكتومًا منذ الدهور وظهر في المسيح، لم يحرم إسرائيل من الميراث. فبولس واثق من اهتداء اسرائيل إلى المسيح. فالّله لن يسمح بأن يذهب سدى كل تاريخ الخلاص وكل جهد الآباء والأنبياء: ((إن قساوة القلب التي أصابت قسمًا من اسرائيل ستبقى إلى أن يدخل الوثنيون بكاملهم، وهكذا ينال الخلاص اسرائيلُ باجمعه)) (رو 11: 25- 26).
ذلك أن بولس لا يزال يحسب نفسه عضوًا في الجسد الذي دعاه إليه الّله واختاره ليكون نور الأمم.
واهتداؤه إلى الربّ يسوع لا يعدُّه خروجًا عن دين آبائه، بل تتويجًا لهذا الدين.
لقد ذهب بإيمانه إلى النهاية. وتبديلُ موقفه ليس خيانة لديانة آبائه، بل تصحيحًا لمسار كاد أن يضيّعه التشديدُ على تفاصيل الشريعة مع البعد عن روحها. لم يعتبر أنه انتقل من دين إلى دين: فيسوع هو مسيح اسرائيل المنتظر، ورسالته هي تبشير جميع الشعوب كما أوحى الّله لإبراهيم: ((ببنيك تتبارك جميع الشعوب)) (تك 12: 3). لا يتكلّم بولس على اهتداء شخصيّ، بل على دعوة ورسالة، على تطوّر روحي حدث على يد السيد المسيح على طريق دمشق. فالمسيحيّة في نظر بولس، هي تكملة لمسيرة عمرها الفا سنة، وليست عدوّة منافسة لليهوديّة. بولس التقى المسيح الذي كان ينتظره اليهود، وهو لا يزال أمينًا لاله ابراهيم الذي دعاه في المسيح. وقيامة يسوع من الموت هي تحقيق لنبوءات العهد القديم. بولس لم يتنكّر لإيمانه الذي اكتمل الآن في المسيح. لم ينكر يهوديّته بل فريسيَّته المتزمّتة.
فإيمانه وتبشيره بين الأمم تحقيق لنبوءات ولتصميم الّله الخلاصي. ألم يقل له حننيا:
((إن اله آبائنا قد أعدّك لنفسه لتعرف مشيئته وترى البار وتسمع صوته بنفسه. فإنك ستكون شاهدًا له أمام جميع الناس بما رأيت وسمعت)) (أع 22: 14- 15).
فالنبوءات كلها قد تحقّقت في المسيح يسوع القائم من الموت، وهكذا تكون مخطّطات الّله كلها قد تمّت. وما دعوة بولس سوى جزء من هذا المخطّط، وهو يأمل أن يكمّل اليهود المسيرة (رو 11-12): ((أترى نبذ الّله شعبه؟ حاش له...! لا تزال بقيّة مختارة بالنعمة... إن قساوة القلب التي أصابت قسمًا من اسرائيل ستبقى إلى أن يدخل الوثنيون بكاملهم، وهكذا ينال الخلاص اسرائيل بأجمعه)) (11: 1، 5، 25، 26).
خاتمة
وهكذا، وبالرغم من تشديد بولس على رسالة السيّد المسيح ودور المسيح وعمله فينا وفي الكون، فهو يتكلّم على أب يسوع المسيح وروحه القدوس. بولس يؤمن ويبشّر بإله هو الثالوث. فكل شيء يتمّ بالروح ويتوجّه إلى الآب. كما إن كلّ شيء هو من الآب، أبي الأنوار. بولس يرينا كيف أن يسوع هو أحد ثلاثة يؤلّفون العائلة الالهيّة. لذا فصلواته تُختتم بمجدلة ترتفع للأشخاص الثلاثة ((لّله الحكيم وحده المجد بيسوع المسيح)) (رو 16: 27). ((السلام على الأخوة والمحبّة مع الإيمان من لدن الّله الآب والربّ يسوع المسيح)) (أف 6: 23). ((لتكن نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبّة الّله وشركة الروح القدس معكم)) (2كو 13: 13).
والسرّ الذي كان مكتومًا طوال الدهور، ((كشفه الّله لنا بالروح، لأن الربّ يفحص عن كل شيء حتى عن أعماق الّله)) (1كو 2: 10). والّله هو الذي أفرز بولس ودعاه ليبشّر بالابن (غل 1: 15). ((وهذا كله من الّله الذي صالحنا بالمسيح)) (2كو 5: 18). فكل شيء في المخطّط الالهي هو من تدبير الثالوث.
وهكذا فالنصوص كثيرة التي تتكلّم على الثالوث. والمخطّط الالهي سوف يتمّ ((حين يسلم الملك إلى الّله الاب)) (1كو 15: 24). ((فحينئذ يخضع الابن نفسه لذاك الذي أخضع كل شيء ليكون الّله كل شيء في كل شيء)) (1كو 1: 28).