المثل الثاني
الابن الضال
عاد نرساي إلى انجيل لوقا، فقرأ مثل الابن الضال (15: 11- 32) كما تحدّث عن فرح عودة الخاطئ في المثلين السابقين لهذا المثل (لو 15: 1-10). بعد أن أورد المثل (3- 20)، توقّف عند الابن الأصغر (21- 46) الذي ابتعد عن أبيه وصار أجيراً يرعى الخنازير (47- 69). وتساءل الشاعرُ عن الغنى الأدبي للخبر (70- 84)، فرأى فيه مثَلاً يطلب تفسيراً (85- 122): الانسان أو الأب، الابن الاصغر.... وفعلت الخطيئة فعلها في الابن الأصغر (23- 148) قبل أن يعود إلى ذاته (149- 182) وينطلق إلى أبيه (183- 202). استقبل الأب ابنه (203- 216) وسمع كلامه المتواضع (217- 244)، فغفر له ودلّ على رحمته العظيمة (245- 264)، وأعاد إلى الابن كرامته (265- 276). وبعد كلام عن الأخ الأكبر (277- 296)، يتحدّث الشاعر عن ألم الوالد مع ولديه (297- 306). في النهاية، يبحث الشاعر عن المعنى الروحي للمثل في خط ما نقرأ من شرح مثل الزؤان في انجيل متّى (13: 36- 43): بالنسبة إلى الابن الأصغر (307- 332) وإلى الابن الأكبر (333- 362)، وأخيراً، بالنسبة إلى حياتنا (363- 394)، وإلى كل واحد منا (395- 432).
طلبتُ أن أتتلمذ لدى المعلّمين، لدى أسفار الروح،
فشرعتُ أهجّي السطور المكتوبة: رجل وابناه.
المثل الانجيلي
وقعتُ في رأس المقطع على خبر اقتسام الخيرات:
أبٌ يورث ابنيه غنى حبّه.
5. سمعتُ الأصغر يقول لوالده:
"أعطني حصّتي فأكون مسلّطاً على نشاطي،
أعطنيه لأكون سيّد أموالي وأدبّر ما لي:
حقُّ أبناء الأحرار أن يكونوا أسياداً،
فهبني أن أمتلك اسم الابن بالفعل،
10. فيعرف كلُّ انسان أنني من نسل يملك الحريّة.
إن كنتُ الوارثَ، فحقّق فيَّ اسم الوارث،
واختبر وجداني وامتحنّي: هل أدبّر حياتي".
عرف الأب أن ولده لن ينجح،
فما رفض أن يُلبّي له رغبة نفسه.
15. ومع أن ضلال الابن لم يضلّ من عذوبته،
لم يفكّر بأن يكثر العطاء لمن نقص فهمُه.
ومع أن من حقّه أن يكثر العطاء لمن يستحقّ،
أعطى بالتساوي غنى عذوبته العظيم:
قسم أبو المراحم بالتساوي غناه لابنَيه،
20. وما حسب حساب الفاجر، الذي تواقح فسأل.
الابن الأصغر
أخذ ابنُ الغنيّ ميراثَه، وأمسك أمواله،
فانفصلا كل بحصّته، وصار الواحد غريباً عن الآخر.
جمع الأصغر الغنى الذي وصل إليه من بيت أبيه،
وابتعد، فأقام في موضع يبتعد به عن معارفه.
25. انفصل بمقتناه، وانفصل عن حبّ والده،
ورغب وأحبّ الإقامة مع الغرباء.
نسيَ عنايةَ البيت الأبويّ وما فيها من جمال،
وشرع يتيه في ما لا يليق ببيوت الأحرار.
خرج بالنفس والجسد، وتنكّر لبني جنسه،
30. فراحت مقتنياتُه مع أفكاره في إثر الضلال.
أخذ الضال كل غناه وخرج معه،
وما أبقى لدى قرابته فضلة حبّ.
خرج من الأمان، وأحبّ الصحراء المليئة بالرعدة،
فاهتمّت نفسُه بالشراهة والفجور.
35. لزم الشرّ، فحبلت أفكاره بالشهوة البغيضة،
وولد فمُه ثمرةَ الفجور التي ربّتها عيناه.
سحر الفجورُ عقل الابن الحكيم،
ومثل منفيّ، خرج ينحطّ أمام الدناءات.
نسي حكمته، واحتقر اسم كرامته،
40. فما عاد يتذكّر من هو، وابن من هو، وما هو نسله.
أكل طعام الشراهة مع الشرهين،
وأغنى نفسه بشراب الشرّ مع الفاجرين.
سكر عقلُه بشهوات الجسد والنفس،
وأسرعت عيناه، بلا حياء، وراء رغباته.
45. تكالب، واشتعلتْ فيه الشهوات اللحميّة، طعام الموت،
فما تبيّن أنه يُبيد بطعامه مقتنى حياته.
صار الابن أجيراً
بدّد غناه، وصرف فضّته لدى الزناة،
فأضاع فهمه ومقتناه.
فاستقرض وأكل، ولم يُشبع شرهه،
50. فصار في الضيق، ورهن نفسه وأجّرها لقاء الأكل اليوميّ.
اتّفق الشره مع الغاشّ ليعمل مجاناً،
فكدَنه المبُغضُ بنير قاسٍ ومرير.
استغلّه بقساوة وبلا رأفة،
واستصغره، فجعله يرعى الحيوان الحقير.
55. أرسله، وهو أكرم الكرماء، يرعى الخنازير الحقيرة،
ووهبه الخروب طعاماً، كما للبهائم.
البغيضُ الذي استأجره، ساوى حياتَه مع الحيوانات،
وأسر سعْيَ تمييزه مع (الحيوانات) الصامتة.
كان طعامهُ أقلّ من طعام البهائم التي يقودها،
60. وقوتُ حياته أقلّ من قوت المواشي.
أكل الأكلَ الحقير فما شبع،
ورغب أن يملأ بطنه من الخروب.
وإلى جوعه أضيف عذاب قاسٍ،
حين تطلّع إلى أكله: هو قليل وقريب من لا شيء.
65. عذابُ نفسه ضايقه أكثر من الجوع:
بعد أن أضاع مقتناه، أضاع حكمتَه!
أردتُ أن أتأمّل عذابه وجوعه، فتميّزتُ
السبب، ولماذا كُتب عن الاثنين في الانجيل.
سحقني خبرُه منذ البداية حين وقعتُ عليه.
مثل أم حكاية من الواقع
70. هل هو مثَل، هل هو حكاية؟
وتساءلتُ: هل خبرُه حقيقيّ، أو غير حقيقيّ هو؟
كُتب: أَخذ الغنى من بيت أبيه.
وحين قرأتُ ظلّت أفكاري تتردّد،
فتبصّرتُ: هل أقرأ الخبر كمثل أو حكاية؟
75. دُهشتُ جداً من كاتب الروح يكتب الخبر،
سواء اهتمّ، فرسمه في ذاكرته أو جعله في كتاباته.
مثل صورة أدخله بين الرموز ورسّخه،
ليرى كلُّ انسان من هو، وابن من هو ولماذا صار أجيراً.
إذن، يجب أن لا نشكّ في الحكاية،
80. وكارِزُ الروح يبيّن أن الخبر حقيقيّ.
هو مثل، لا خبر واقعي
وإذ هو مثَلٌ مثَل، فالخبرُ حقّ والدرسُ عظيم.
غنى عظيمٌ خفيَ في خبره وإن كان مثَلاً،
فيه ترسّخت قوّة الخالق وعملُ يديه.
تفسير المثَل
85. "فالانسان" الذي كُتب عنه هو إله الكلّ الذي أَتقن كلّ شيء،
وابناه طغمتا الأبرار والخطأة.
"والغنى" الذي قسمه هو التمييز الذي جعله للناطقين،
لكي يتميّزوا قوّة الخالق الذي أكرمهم.
"الابن الأكبر" (يدلّ) على الكمال وأصدقاء الحبّ،
90. "والابن الأصغر" على الراغبين في حبّ الأمور الأرضية.
للصالحين والأشرار وهب الخالقُ قوّة حكمته،
وجعل تمييزَه في الأثمة والصديقين.
بحبّ حافظ الأبرارُ على كنوزهم من الضرر،
والقلوب المتراخية بدّدت الغنى بإرادتها.
95. أولئك هم البنون الذين ظلّوا لدى أبيهم،
وأدّوا الحبّ الواجب من الانسان إلى خالقه.
أخذ الأصغرُ الغنى الذي وصل إليه وابتعد جداً،
(فدلّ) على الأشرار الذين أبغضوا حبّ الأمور الروحيّة.
خرج هؤلاء، ضلّوا بعيداً عن الحقّ،
100. وابتعدوا وأقاموا هناك بمنأى عن اسم الخالق.
هم بدّدوا الغنى والفهم الذي لهم،
فترك زادُ الحياة معرفتَهم وانتهى.
هم أكلوا وشربوا بشراهة،
وما شبعتْ رغبةُ أفكارهم البغيضة.
105. هم عملوا مجاناً مع الماكر،
فخطئوا واستسلموا لرغبات أعمالهم.
"من استأجره" جعله يعمل معه وما أعطاه أجراً:
هو قاتل البشر، وذاك الذي فرغ قلبه من الرأفة.
له أجرّ نفسه ابنُ الأحرار وصاحبُ السلطان،
115. فجعله محروماً من توجّهات (تُعلّمه) التمييز.
هو الماكر الذي جعله راعي الحقائر،
ووهبه طعام النجاسة، فلم يشبع.
هو من عوّده على شرب النجاسة والفجور،
فسكر بالخطيئة، كما بخمر، وضلّ عقلُه.
115. اقتدى الخاطئ بالثلاّب، من خلال أعماله،
ومعه أجّر نفسه لرغبات لا تُفيد.
"الخنازير" التي كُتب عنها: رعاها مجاناً، ولا قُوتَ له،
(تدلّ) على عمل الاثم الذي لا فائدة منه لمن يعمله.
وحين قال أيضاً: "رغب في أن يملأ بطنه..."،
120. (دلّ) على الرغبة الشريرة في سكرات لا تشبع.
"الخروب" هو مختلف الشراهات:
بقدر ما يتيه بها القلب، يزداد شراهة.
عمل الخطيئة في الابن الأصغر
هكذا تفعل الخطيئة كل ساعة تجاه أقربائها،
فهي تحرّك القلب للتأمّل بما لا يليق به.
125. كالزانية يُبرز وجوَه النجاسة،
وبدل الجسم، يدخل فيزني مع الروح.
ففساده أشنع من فساد الحيوانات الذليلة،
وأنجس من اتحاد البهائم التي لا فهم لها، اتحادُه.
معها زنى الابن الضالّ الذي بدّد خيراته،
130. فنجّسته باتحاد لا شرعيّة فيه.
حبّها فصله عن حبّه الشخصيّ لوالده،
وبمناجاتها أضاع مناجاة الحبّ مع أبيه.
عرّته من الفهم كما من المال،
واستعبدته لعبوديّة الاثم لدى الغرباء.
135. ابن الأحرار يعمل عملَ العبيد مع من أهانه،
فكدَنه مع الحيوانات، بالعمل تجاه الطعام.
بلا رأفة، عمل الشرّير بالابن المنفيّ،
وما حزن على انحطاطه الحقير الدنيء.
في جهله أكرم من ذلّه،
140. فما ميّز لمن يتعب، ولا عرف لمن يعمل.
غرقت أعضاء نفسه، وكأنها نعست،
فما أدرك وقرَ العمل القاسي.
سكر قلبه بالشهوات، كما بالخمر،
وما رأى بشاعات نفسه البغيضة.
145. مثل ميت ارتمى في اثم النفس وبشاعتها،
وعثُّ الشهوات نخره وما أحسّ به.
فسُد وتفكّك كله بكل الشهوات،
فما بقي فيه جزء حيٌّ مُعافى.
عودة إلى الذات
غرق في مرض قاس أقام فيه، فصمتَ،
150. إلى أن دعته الطبيعة من صمته وتكلّمت معه.
مثل شوكة غرزت الطبيعة في ضميره،
فاستيقظ فجأة ورأى شخصه مهاناً في الاثم.
رأى جسده يتفكّك ونفسه، وقرحُ الاثم (يسيل)،
فتعذّب، وناح على فساد لا حُسن فيه.
155. ولول وبكى بأنّات كئيبة، واشتكى،
وقال في نفسه: "أين أنتِ أيها الارادة التي تميّز؟
أين أنتِ، يا معرفتي، يا مالكةَ حكمة التمييز،
صرتِ خرساء وما تأمّلتِ في حقارة نفسك.
أين أنت، يا ضميري، يا رفيق الساهرين الذين على الدوام يسهرون:
160. دخل اللصوص وسلبوا غناك، وما توجَّعتَ ولا شعرت.
أين أنتَ، يا عقلي، يا حوذيّ الجسد، ومدبّر الحواس:
بَطُل سعْيُك السريع فغُلبتَ في الجهاد.
أين أنتِ، يا نفسي، يا ينبوعاً يسقي الحياة للجسد:
فرغتْ حكمتُك، وتوقّف ريّ النطق فيك".
165. وتساءل: "أين أنتَ، يا موت، يا من مُتّ في الاثم،
لا أعرف إن كنتُ بين الأحياء أو بين الأموات".
ناح على ذلَّه، وتعذّب كثيراً،
وبدأ يصيح بالاثم الذي أرسله إلى المنفى وسباه غناه.
"أواه من الاثم"! صاح الخاطئ بمرارة:
170. "بدّد خيراتي، وجعلني أضحوكة لدى معارفي.
أواه من البغيض الذي يبغض ويجعل تابعه بغيضاً:
جعلني بغيضاً وقبيح الوجه على عيون الناظرين إلي.
أوّاه من النجس، فكله منجّس وينجّس الكل:
نجّس حواسي وجعلني أناجي المخازي.
175. أواه! ما أمرّ خدمة الإثم، وما أثقل نيره!
باطلٌ تعبُ من يؤجّر نفسه لقساوته.
أوَّاه! ما أعمى الجهالة، ويا شرّ مناجاتها!
هي تجعل الانسان كله أعمى عمّا ينبغي.
جعلتني الجلة أعمى وناقص العقل،
180. فبدّدتْ غناي الذي وصلني من بيت أبينا.
هي التي عرّتني من مساعيّ المميّزة،
فعشتُ بأكل حقير، أكل الخروب.
انطلاق إلى الأب
"كم من الأجراء يعيشون مجاناً في بيت أبينا،
وأنا هنا، في جهلي، أهلك من الجوع.
185. كم من الناس يأكلون من فتات مائدة أبي،
وأنا أُحرم من القوت، وما من أحد يروّح عني.
أقوم وأمضى إلى أبي وأبى الجميع،
وأقول: "خطئت إلى السماء وأمام وجهك".
خطئتُ كثيراً، لا قليلاً، وأنا أعترف.
190. ظلمتُ حبّك وبدّدتُ غنى عذوبتك".
أقول له: "خطئتُ وأنا لا أستحقّ أن أدعى ابنك.
منذ الآن، إجعلني مثل أجرائك فأحيا في نعمتك".
قال الابن الضالّ هذا في نفسه،
وشرع يسير في انسحاق النفس، باتجاه أبيه.
195. وإذ كان يسير، امتلأ قلبه رعدة وحبّاً،
فالرعدة تخيف، والحبّ يدعونا لنتجرّأ ونسأل.
رعدةُ ذنوبه جعلته يرتجف من فكرة العودة،
وحبُّ أبيه نبّهه لكي لا يتوانى.
محبّة الحبّ تغلّبت جداً جداً على الرعدة،
200. فأمسكتْ يديه، وقوّت حواسه لكي لا يتراخى.
عاد الضائع في الطريق الذي به خرج من بيت أبيه،
وجعل علامة التوبة أمامه حتى نهاية الطريق.
استقبال الأب لابنه
رأتْه الرحمةُ وهو يسير إلى موعد الأمان،
فخرجتْ إلى لقائه لكي تعزّيه من كربته.
205. رأتْه الاشارة التي رأته قبل أن يخرج،
فأسرعت إلى لقائه وارتمت على عنقه وقبّلته بحبّ.
رأته تعباً، مرهقاً، مسحوقاً بأعمال الاثم،
فتحنّنت على ضعفه وعلى حقارته وسط الغرباء.
رأته ممزّقاً بجراح سبّبها له الشرير،
210. فضمّدته بالمراهم وغسلت منه وساخة الاثم.
رأته منجَّس الشهوات، نفساً وجسداً،
فرشّته كله بالماء النقيّ، ماء سرّ الغفران.
رأتْ ما يجمّد الجرأة ويمنع الكلام من فمه،
فشرعت تترجم أقوالاً تملأ نفسه تعزية:
215. "ها هو ابني الذي كان ميتاً. هو الثاني. عاد حياً.
والنعجة التي ضلّت من القطيع، ها أنا وجدتُها".
كلام الابن الأصغر
سمع الولدُ الصبيّ قول الرجاء الذي ينادي به أبوه،
فشرع يلجلج مع والده ويجهر بصوته.
سمع برجاء يُحيي الموتى الذين أماتَتْهم الخطيئة،
220. فشرع يتوسّل لعله يبعثه من رذائله:
"يا أبي، أثمتُ جداً، وخطئت بلا حساب،
فلا أستحقّ أن أدعو نفسي باسم الوارث.
لا يليق اسمُ الأبناء بمن لم يعد ابن الأحرار،
ولا يحقّ لعبد الاثم أن ينال الحريّة.
225. لا تجملُ حريّةُ النفس بمن أبغض نفسه،
ولا يمسك البليد عصا السلطان.
أنا أصغر من أدعى الوارث والابن، وصغير جداً،
ولا أستحقّ أن آخذ درجة اللامائتين.
هب لي أن أعمل كغريب، من أجل خبزي اليوميّ،
230. فآخذ القوت مع الأجراء الذين في بيتك.
وإن لم يمكن أن أكون أجيراً، فأعمل وآخذ أجرتي،
أهّلني بنعمتك، أن آخذ أجراً كمسكين (من المساكين).
فأنا أعلم أني خطئتُ كثيراً وخرجتُ من درجتي،
ولا أقدر أن أفي دَين خطاياي.
235. لا أشكّ أنّ جهالتي أعظم من أن تُغفَر،
وأن البحر أصغر من أن يُغسل نجاساتِ نفسي البغيضة.
ليس بعدُ من دواء يقدر أن يشفي أمراضي الصعبة،
إلاّ رحمة أبٍ ولدني بعمل يديه".
بهذا الصراخ بكى موت نفسه،
240. وما توقّف عن التنهّد على شقاواته.
صنع مناحة عظيمة على إثمه، كمن ينوح على ميت،
وبكى خطيئته بالآهات والصراخ.
امتلأ فمُه بكاء عظيماً، مع عقله،
وسالت من عيونه دموعُ الألم.
الأب الرحيم
245. دهش والده، ومعه أجواق العلاء، من صراخ كآبته،
فأرسل إليه الحنان والمراحم لكي تُسكته.
هتفت الرحمةُ وما توقّفت: "أسكت، أيها الخاطئ:
أمر أبوك بأن يُمزّق صكُّ ذنوبك.
أسكت ولا تبكِ بعد، لئلاّ تسحق نفسَك ووالدك:
250. فأبوك تعذّب أيضاً وتنهّد على آلامك".
رأى والده أن الرحمة لا تكفي لإسكاته،
فخرج هو بنفسه، وتوسّل إليه بأن يتوقّف عن البكاء.
"توقّف ولا تبكِ ما أضعتَ في الأيام القديمة،
ففي بيت أبيك غنى عظيم لا قياس له.
255. توقّف ولا تبك جرائم جهلك،
فإن كان جرمك عظيماً، فأنا أحسبه كلا شيء وأنسيه.
عرفتُ قبل أن تخرج (من البيت) أنك ستخطأ خطأ،
وتجلّى لي أنك ستضيّع الغنى الذي أخذتَه.
إرادتي رأتْك في ذهابك وفي إيابك،
260. ونظرتُ إليك في خطيئتك وفي توبتك.
معك خرجتْ إلى بيت الغرباء، رحمةٌ تحنّنتْ عليك،
وهي نصحتْك أن تعود إلى بيت أبيك وفيه ما فيه من أمان.
فاقتربْ من خيراتك، وتنعّمْ بها كالوارث.
ضع يدك على المال، وتدبّر بحكمة في ما يخصّك".
عودة الكرامة إلى الابن
265. وأمر أبوه أهل بيته أن يكرّموه:
يكلّلونه باسم الأب ودرجة اسم والده.
"أخرجوا ثوباً نسجتْه الرحمةُ، واكسوه،
فيعرف الجميع، من بهائه، ابن من هو.
ضعوا له الخاتم، ختم أبيه، الحقيقيّ الحقيقيّ،
270. فيرى العبيدُ والأحرار أنه استعاد درجته.
ليُجعل في رجليه الحقّ النقيّ الذي لا دجل فيه،
فيدوس رأس الشرّير الذي سلبه خيراته.
اذبحوا العجل أيضاً فيتنعّم به مع رفاقه،
ويخزى المبغض الذي جعل الخروب طعامه".
275. ما قاله أبوه تمّ، وما أمره صُنع.
فشرع العبيد والأحرار معاً يفرحون في يوم عودته.
الأخ الأكبر
أما أخوه الأكبر منه، فلم يكن هنا.
كان في الحقول، يعمل عمل الأب بأمانة.
وصلَ هو أيضاً، وجاء يومَ عودة أخيه:
280. فرأى أن وليمة عظيمة صُنعت في يوم عودته.
حزن الأخُ جداً حين رأى عودة أخيه،
وغضب، وعاد إلى عمله، وما أراد أن يدخل.
سمع أبوه، فخرج إليه وطلب منه:
هكذا خرج لاستقبال أخيه بحبّ ورحمة.
285. "لا تحزن، يا ابني، لعودة أخيك إلى بيت أبيه،
لا تتنكّر له، بل شارك في يوم عودته".
فأجاب هو أيضاً والدَه المتوسّل إليه،
وبيّن حبّه الذي أكرم إرادة أبيه اكراماً.
"كلّ هذا الزمن وأنا أعمل لديك عملَ العبيد،
290. فما وقّرتني يوماً (وأعطيتني) جدياً أتنعّم به مع أحبائي.
وهذا الذي دمّر مقتنى بيتك بين الزواني،
ذبحتَ له العجل، بعد أن عاد، وهو لا يستحقّ".
فأجابه والده: "يا ابني، كل ما هو لي هو لك،
وأنت مسلط على خيراتي، لأنك البكر.
295. فوجب عليك اليوم أن تفرح وتُنشد،
لأن أخاك الميت عاد، وانبعث من ضلاله".
ألم الأب عن ابنيه
هو أيضاً سحق أباه جداً، أكثر من أخيه،
حين لامه: لماذا تحنّن على أخيه العائد؟
ذاك العذب نال من ابنيه إهانة كبيرة،
300. فتحمّل بلا حدود قساوة قلبيهما.
الاثنان سحقاه، مع أن أعمالهما لا تتساوى:
واحد حين خطئ، والآخر حين طلب (حساباً) عن غفران الخطيئة.
واحد آلمه بدمار حياته وتبديد ماله،
وآخر بلومه بعد أن قبل توبةَ القلب.
305. بعذوبة تحمّلهما كالعارف،
وعلّمهما التشبّه به لاقتناء الحياة.
المعنى الروحي والابن الأصغر
والآن، بعد أن انتهى الخبر الذي رُسم بشكل سرّي،
لنبحث عن القوّة المخفيّة في داخل الكلمات.
لنبحث عمَّا كُتب عن (الابن) الضالّ،
310. الذي فكّر بأن يعود ويمضي إلى بيت أبويه.
بالأصغر وبتوبته، رسم سرَّ الخطأة،
وبإقامته بين الغرباء، التجاوب مع الأشرار.
بخروجه (من البيت)، (رسم) البُعد عن الله،
وبعودته، توبةَ الضمير (التي تقود) إلى البرّ.
315. توسّلت كلماتُه ليُحسب بين الأجراء:
هو التمييز الذي يدين نفسه في ما به خطئ.
الأجراء هم اللامعمّدون الذين آمنوا فقط،
وما شاركوا في سرّ الولادة الروحيّة.
وبهذه الكلمة التي قال: "لا أستحقّ أن أكون ابنك"،
320. هو الفهم الثابت الذي يدين أعمالَه فيُحسِن.
الأب الذي خرج يستقبل ولده، وأسرع للقائه،
هو الرحمة التي تحنّ كل ساعة على الخطأة.
خرج، وارتمى على عنقه، وقبّله بحبّ،
فبيّن كم يرغب في أن يتوب الناس إليه.
325. والثوب الجميل الذي ألبس جسمَه وكسا عريَه،
هو المعموديّة التي تغطّي الاثم وتهب الحريّة.
والخاتم هو عربون الحياة التي لا تموت،
التي يهبها الروح للذين امتلكوا اسم الأبناء.
العجلُ المسمّن هو السرّ العظيم، سرّ الجسد والدم،
330. الذي بذبحه صالح العالم مع عظمته.
حسناً سمّى العجل المسمّن ذبيحة جسده،
لأنه يُقيت بطعام الروح وشراب الخمر.
المعنى الروحي والابن الأكبر
وإذ ذبحَه (= العجل) يوم عودة ابنه من ضلاله،
دلَّ على حبّ لا حدود له من أجل جنسنا.
335. بكلام أعلن: "ابني كان ميتاً وعاد إلى الحياة"،
فعلّمنا كم يفرح بتوبتنا.
إذ توسّل إلى ابنه الذي لامه لأنه تحنّن على الهالك،
قدّم توبيخاً لمن عارض غفرانَ الخطايا.
ليس الأبرار هم الذين يضلّون هناك (في السماء) بهذا الترتيب،
340. بل الذين يلومون هنا (على الأرض) مراحم تتحنّن.
قبْلَ الاختبار، سبق وأعلن ما سيكون،
فإن تأثّر أحد برأفة الله يهدّئ غضبته.
بيَّن اثنين بواسطة كلام وجّهه إلى الأكبر:
البار الذي هو أمين في عمل البرّ، لا يلوم (الربّ).
345. وكُتب في الانجيل: كان الذي لام (أباه) في الحقول،
فعرفنا أنه كان لدى البرّ في كل ساعة.
فالحقول هي رمز خدمة الحياة الروحيّة،
فتشير إلى العلويّة بالنسبة إلى الأرضيّة.
والجدي الذي قال عنه إن أباه لم يهبه لكي يتنعّم به،
350. هو حدودٌ منعتْه من التعامل مع الشراهات.
سمّى الجديَ الضالّ ومُضلَّ الانسان،
لأن الجداء يتيهون دوماً خارج القطيع.
يتهوّر الجدي حين يرعى، ولونه أسود،
هو يُشبه الإثم ويهاجم النفس ويملأها سواداً حتى يُفنيها.
355. الأصدقاء الذين تحدّث عنهم، هم الطبيعة التي تأسرُها الرغبات،
فتطلب ما يخصّها كما ترغب في الأمور الروحيّة.
فالطبيعة تحبّ مالها، مع أنها أرضيّة،
وكما في صراع، ترتمي بين اثنتين، بين الجسد والروح.
منعه أبوه من رغبات ترغب في الجسد،
360. ووعده بأن يتنعّم بغنى الروح.
قال لابنه: "كل ما هو لي هو لك"،
فأعلمنا أن الخيرات الموعودة هي له.
المثل الانجيليّ في حياتنا
بمثَل صوّر طبعنا كله كما في صورة،
وأدخله ووضعه في قصرٍ أتقنه في العلاء.
365. حسب ترتيب الحواس، ركّب الكون بابنيه الاثنين،
فاجتمع إليه الأخيار والأشرار، على مائدة حبّه.
بالابن الاصغر دعا الخطأة إلى التوبة،
وبالأكبر عزى الأبرار بما ينالون من أجر.
سيّدُ الطبائع دعى طبعنا أبناء وورثة،
370. وهو لنا أب: فيا للعجب العظيم الذي يفوق الوصف!
فهو أعظم ممّا يرويه اللسان،
أن يُسمّي خالقُ الكل نفسه، أبا الانسان.
يا لطبيعة أبناء الطين، كم عُظّمت،
فاستحقّت بأن تصير وارثة الخالق وابنته.
375. كم أقول وكيف أقول أن قد صار ما صار:
هو لنا الأب، ونحن الوارثون للاهوته.
صنع تجاه جنسنا حباً عظيماً لا يُوصف،
وفمُ كل ما صُنع أصغر من أن يقول كم هو (عظيم).
كيف يقدر الفم أن يحكي عن عظمة حبّه،
380. إذ جعل منا معه كائنات تعبدها البرايا كلها.
كيف يمكن أن نردّ له ديَن الحبّ،
لأن الروحيّين يبتهجون أيضاً بتوبتنا.
"هكذا تبتهج الجوقات السماويّة
لخاطئ يتوب ويتوسّل من أجل جهالته".
385. وإن كان الملائكة يفرحون معنا بتوبتنا،
فكم تكون قاسية دينونة من يلوم مراحم (الله)!
وإن تعطّش الروحيون ليرونا في برارتنا،
فمن أبغض أخاه استحقّ عذاباً مضاعفاً.
تفرح جوقات السماويين، لأنه يحيينا،
390. وأنت تحزن لأن المراحم تحنّنت على الانسان مجاناً!
الكائنات اللامتألّمة تألّمت لأننا هلكنا،
وأنت تهنأ إن بقينا في الجحيم بلا انبعاث.
هم يرغبون في وقت نملك فيه معاً،
وأنت تنتقد ذاك الذي يسعى وراء رغبتنا!
عودة إلى الذات
395. فأنا النائم والغارق في نعاس الخطيئة،
استيقظتُ وقمتُ، فتجاوبتُ مع كلام يحمل الغفران.
حرّكني خبرُ الابن الضالّ لأن أطلب قوّة (تفهم) الرموز،
ففي عودته عادت أفكاري نحو التعليم.
دفعني خبرُه لكي أقرأ ما كُتب عنه في الكتاب،
400. وأتعلّم القوّة (لأكشف) خفيّ الكلمات التي تفوّه بها الروح.
خرجتُ معه حين خرج من بيت أبيه،
وعدتُ معه حين رأيته يتوسّل إلى والده.
رأيتُه يبدّد ماله الكثير بين الزواني،
كما شاهدتُه عائداً ماضياً إلى حيث الغفران.
405. سمعتُه يركّب أقوالاً حزينة حول جهالاته،
فتألّمتُ جداً بسبب إثمي الذي يُشبه إثمه.
سمعتُه يقول: "لا أستحقّ اسم الوارث"،
فأمسكْتني الكآبةُ لأني سرتُ في طريق بدّدتُ فيها مالي.
طريق أعمالي تشبه جداً طريقاً سار فيها،
410. وعلى مثاله بدّدتُ أنا أيضاً مقتنى حياتي.
عملتُ أنا أيضاً مع المبغض وأجّرتُ له نفسي،
ومثله عشتُ من خرّوب الشهوات.
جعلني الجهل مسلوباً من الرحمة، أنا أيضاً،
كما هو بدّد ماله وما تبيّن.
415. فالرحمة التي حنتْ عليه وأخرجته إلى لقائه في يوم عودته،
تتوسّل لأجلي لدى الديّان الذي يتحرّى كل شيء.
والصوت الذي يقول: "كان ابني ميتاً فعاد إلى الحياة"،
يؤهّلني لأن أسمع: "تعال، أيها الخاطئ، خذ الغفران".
واليد التي فرشت على عريه لباسَ المجد.،
420. تُخفي وجهي لئلاّ يعير أمام الآخرين.
والرمز الذي وضع له عربونَ الحياة مثل خاتم،
يقوّي ملكات نفسي لأنتظر وعد الحياة.
والفم الذي هدَّأ غضب الأخ الذي لام الرحمة،
يوبّخ الاثم القاسي الذي يحارب أفكاري.
425. والملائكة الذين ابتهجوا في يوم عودته ومجّدوا أباه،
يكونون المحامين عن ذنبي لدى العدالة (الالهيّة).
والاصبع التي صوّرت رسمَ هلاكه وعودته إلى الحياة،
تُصوّر فوق عقلي رسم التوبيخ الذي يمنح الحياة.
أجل، يا ربّ، لأكن رفيق الابن الذي كان ميتاً فعاد إلى الحياة،
430. وليَتمّ في ما قيل في نهاية الخبر.
أجل، يا ربّ، بنعمتك أهّلني معه لموعد حبّك،
.ولتقبلني الرحمة في الدينونة، كما قُبِل هو.