الفصل السابع والاربعون: النبوءات: من التفسير الأصولي إلى التفسير الروحيّ

الفصل السابع والاربعون
النبوءات: من التفسير الأصولي
إلى
التفسير الروحيّ

النبوءة ظاهرة دينيّة عرفتها الديانات التي تنتظر مخلّصًا أو تعلّم طرق الخلاص التي تقود الانسان إلى نهاية الكون والتاريخ. قد تكون النبوءة نقطة انطلاق في ديانة جديدة، وقد تكون تفسيرًا جديدًا لوحي وُجد سابقًا. وإذ نتحدّث نحن بشكل خاص عن النبوءة في العهد القديم، نفهم أن ما قاله الأنبياء جاء تفسيرًا للديانة كما عرفها الشعب العبرانيّ وأعطى عنها موسى أوّل تعبير في خطّ الخروج من مصر والعبور إلى بريّة سيناء. وهذا التفسير لم يتوقّف عند ما يسمّى العهد القديم، والزمن السابق للمسيح، بل تعدّاه إلى العهد الجديد مع المسيح، إلى الكنيسة كما تقرأ اليوم هذه النصوص الكتابيّة.
نتوقّف في هذا المقال عند جوهر النبوءة، عند تفسيرها تفسيرًا أصوليًا حرفيًا، عند تفسيرها تفسيرًا روحيًا. أمَّا التفسير الأوّل فهو في أساسه دفاعيّ ويحاول أن يفرض على النصّ الملهم فكرة مسبقة. والتفسير الثاني يجعل كلام النبيّ مفتوحًا على واقع جديد، هو الوضع الذي فيه نقرأ حدث يسوع المسيح، حياته وموته وقيامته.

1- ما هي النبوءة
يرى عدد كبير من الناس أنّ النبيّ هو ذلك الذي يخبر عن الغيب أو المستقبل، بإلهام من الله. هذا ما يقوله القاموس العربيّ. أمّا القواميس الأجنبيّة فتتوقّف عند هذا المعنى في الدرجة الثانية. أمّا المعنى الأول فهو: اعلان قصد الله بإلهام علويّ. والنبي هو إنسان يلهمه الله فيتكلّم باسمه ويحمل تعليمه.
إذا عدنا إلى أصول الظاهرة النبويّة نرى أنَّ المعنى الشعبيّ ليس المعنى الأوَّل حتى في الديانات اللاعبريّة. النبيّ هو حامل كلمة الله. هو الوسيط بين الاله والبشر. يختاره الله اختيارًا خاصًا ويرسله في مهمّة تعليم أو يحمّله بلاغًا يوصله إلى الأفراد أو إلى الشعوب. هذا ما نكتشفه مثلاً عند شخص مثل إرميا. قال له الربّ: "قبل أن أصوّرك في البطن اخترتك، وقبل أن تخرج من الرحم كرّستك وجعلتك نبيًا للأممّ... أينما أرسلك تذهب، وكل ما آمرك به تقوله. ها أنا جعلت كلامي في فمك" (إر 1: 5-9).
ذاك هو النبيّ. يختاره الله اختيارًا شخصيًا، ولا يختار هو نفسه، وإلاّ أصبح نبيًا كاذبًا، ويتكلّم باسم نفسه لا باسم الله. "يدخل" فيه الله فيصبح شخصًا آخر، يتغرّب عن ذاته ليصير قريبًا من الله، وهذا واضح إلى درجة لا نعود نعرف فيها من يتكلّم: هو الله أم هو ذلك الانسان؟ وقد نرى النبيّ لا يريد أن يتكلّم، ومع ذلك فهو يُدفع إلى الكلام دفعًا. لهذا يهتف إرميا: "ويل لي يا أمي لأنك ولدتني" (15: 10).
ولكن إن كان الاختيار شخصيًا، فالتعليم الذي يقدّمه النبيّ لا يتوجّه إليه وحده،، بل هو يتوجّه إلى جماعة معيّنة، بل إلى البشريّة في بعض الأوقات وإن كان ذلك من خلال مجموعة صغيرة. فلو أراد الربّ مثلاً أن يكلّم عاموس وحده، لما كان دفعه إلى الانطلاق من الجنوب إلى الشمال، من مملكة يهوذا إلى مملكة اسرائيل. ولكنه أراده أن يحمل كلمة الحق والعدل لا إلى مملكة السامرة وحسب، بل إلى الممالك التي تحيط بها والتي مارست العنف والقتل وسفك الدماء بعضها مع بعض. هنا نفهم حقيقة أولى وهي أنّ النبيّ حين يتكلّم، فهو محدود في الزمان والمكان. هو يتوجّه إلى هذه الفئة من الناس، يتوجّه إليها في الحاضر. ولكن كلمته تبقى مفتوحة بمعنى أن فئة أخرى تعيد قراءة كلمته على ضوء واقعها. هذا ما فعلته جماعة أورشليم بأقوال النبيّ هوشع: عادت إلى ما قاله هذا النبيّ لتكتشف في كلامه تعليمًا يتوجّه إليها اليوم من قبل الربّ. هي لم تكتف بأن تكرّر ما قاله النبيّ، بل صاغته بطريقتها ودوّنته على ضوء الأحداث التي تعيشها بعد موت النبيّ بسنوات عديدة.
حين يعلن النبيّ حقيقة من الحقائق غابت أو تشوّهت، حين يحاول أن يصلح تصرّفًا فسد مع الزمن، فهو لا يعتبر نفسه في بداية مطلقة وكأن أحدًا لم يسبقه. فهو يعود إلى وحي سابق فيأخذ منه بشكل ضمنيّ أو صريح. فموسى نفسه اعتبر أن مرسله هو إله ابراهيم واسحاق ويعقوب. ويسوع نفسه جاء يكمّل الشريعة القديمة. ولكنّنا في هذه الحال لا نستطيع أن نتحدّث عن تواصل واستمراريّة. فالنبيّ "الجديد" يعيش صراعًا مع "الديانة التقليديّة" التي سبقته. قال يسوع: ما جئت لأنقض. ما جاء فقط لذلك. ولكنه في الواقع حطّم الاطار الذي سبقه وجعل فيه كمال الشريعة والناموس، فبدا تعليمه جديدًا كلّ الجدّة. وهكذا تحوّلت الديانة اليهوديّة معه تحوّلاً عميقًا أقلّه على مستوى الممارسة. لم يكن نبيًا من الأنبياء وفي تواصل كامل مع سائر الأنبياء. بل كان النبيّ الذي وحده رفع كلمة الله إلى مستوى السماء لأنّه هو كلمة الله.

2- التفسير الأصولي
بعد هذه النظرة العامّة إلى النبيّ والنبوءة، نودّ أن نتوقّف بشكل خاص عند القراءة الأصوليّة للنبوءات كما ترد في العهد القديم، وهي قراءة تحاول أن تدافع عن الديانة التي نعتنقها أو الفكرة التي نأخذ بها. غير أننا حين نتصرّف على هذا الشكل نكون قد جعلنا الروح عقيمًا وكلمة الله حرفًا ميتًا يقتل ولا يُحيي.
نبدأ فنعطي تفسيرًا لما ورد في تث 18: 15، 18. "يقيم لكم الربّ إلهكم نبيًا من إخوتكم بني قومكم مثلي، فاسمعوا له... سأقيم لهم نبيًا من بين اخوتهم مثلك (يا موسى) وألقي كلامه في فمي، فينقل إليهم جميع ما أكلمّه به". كانت قراءة أولى تستند إلى التفسير الأصوليّ فتعلن أن يسوع لا يمكن أن يكون النبيّ الذي أنبأ به موسى، أعلنه قبل الأوان وكأنه يراه مسبقًا. كان موسى متزوجًا ويسوع لا. كان موسى رجلاً سياسيًا ويسوع لا. أسّس موسى مملكة أرضيّة ويسوع لا. ويتابع "الشارح" مقابلته فيصل إلى القول إنَّ لا علاقة إطلاقًا لهذا القول النبويّ الذي نُسب إلى موسى، بيسوع المسيح. لاشكّ في أنّه كان يفكّر بشخص آخر ينطبق عليه هذا القول النبويّ الذي صار ضربًا من الغيب لا كلمة الله.
مثل هذه القراءة الحرفيّة تصل إلى الأناجيل فترى في كلام يسوع لأمه "يا امرأة" "تكبّرًا" وغطرسة، وفي عبارته "ما لي ولك" جرحًا يزداد التهابًا. لاشكّ
أنَّنا في معرض تهجّم على المسيحيّة والانجيل يدلّ على جهل فادح. فلو وعى صاحبنا أن يسوع حين سمّى أمه "امرأة"، فكّر بالمرأة الأولى التي هي أم الأحياء جميعًا. فمريم هي المرأة الثانية التي ستكون عند صليب ابنها لا أمّ يسوع وحسب، بل أم جميع التلاميذ في شخص التلميذ الحبيب. أمّا عبارة "ما لي ولك" فهي نداء إلى مريم يصل بها إلى الصليب حيث كانت واقفة وقفة المؤمن بقيامة الربّ.
أمَّا "النبيّ" الذي يتحدّث عنه سفر التثنية، فهو وليد نصّ دوّن في ما بعد المنفى. ساعة أضاع الشعب مدينته وهيكله وما عاد يعرف أن يسمع لله. فبعد موسى الذي يُعتبر أوّل الأنبياء، سيرسل الله أنبياء يحملون كلامه، ولكنهم سيخونون أوامر الربّ كما فعل موسى. لم يكن هذا الكلام نظرة إلى الأمام وإخبارًا بالغيب، بل نظرة إلى الوراء وحكمًا على أشخاص تكلّموا باسم الله، فما كانوا دومًا على مستوى كلمة الله. لهذا، انتظر الشعب في العالم اليهوديّ المتأخّر نبيًا خارقًا سيتماهى في ما بعد مع المسيح. نشير هنا أوّلاً إلى أن يسوع لم يطبّق يومًا على نفسه هذا القول "النبويّ". غير أنّ الناس الذين رافقوا يسوع وعرفوا قوّة كلامه رأوا فيه ذلك النبيّ المنتظر. فبعد تكثير الأرغفة "عاين الناس الآية التي صنعها يسوع". فقالوا: "هذا الرجل هو في الحقيقة النبيّ الآتي إلى العالم" (يو 6: 14). في الواقع قد يكون يسوع النبيّ الذي يأتي في نهاية الأزمنة، ولكنه ليس كسائر الأنبياء. وفي حواره مع بطرس والرسل، ما أراد أن يكون فقط إرميا أو أحد الأنبياء، فسأل تلاميذه: ومن أنا في رأيكم؟ وما أبدى استحسانه إلاّ حين سمع كلام بطرس "أنت المسيح ابن الله الحيّ" (مت 16: 16).
ونتوقّف عند بعض أقوال يسوع "النبويّة" التي حدّثتنا "مسبقًا" عن آلامه وموته وقيامته، كما حدثتنا عن نهاية العالم. لقد أنبأ يسوع بآلامه ثلاث مرات، وكل مرّة كانت الصورة تتوضّح بالنظر لما يحدث ليسوع في تلك الجماعة العظيمة. نقرأ في هذا المجالس مر 33:10-34. قال يسوع: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر سيسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويدفعونه إلى الأمم فيهزأون به، ويبصقون عليه، ويجلدونه، ويقتلونه، ثم ينهض بعد ثلاثة أيام". لا شكّ في أنّ يسوع قد أحسّ بالبغض والعداوة يحيطان به، وعرف أنه إن تابع طريقه سيُقتل بيد اليهود.
ولكننا لا نستطيع أن نتخيّله يسرد ما يحدث له وكأنه أمام صورة مسبقة يعرف فيها كلّ شيء بالتفصيل. إذن، ما هو هذا الكلام؟ هو فعل إيمان الجماعة المسيحيّة التي رافقت يسوع في آلامه وموته وقيامته، ولخّصت تلك الأحداث في عبارة كثيفة، وجعلتها في فم يسوع. فما عاشه يسوع صار كلمة في فمه تتأمّل فيها الكنيسة لتكشف فيه حبّ يسوع للعالم، وتتطلّع إلى قيامته وإلى قيامتها.
وماذا عن خطبة "نهاية العالم؟ أوّلاً، لا نقول "نهاية العالم"، بل "نهاية عالم" هو العالم اليهودي مع سقوط أورشليم ودمار هيكلها وزوال الكهنوت فيها. هدّدها يسوع فجاء كلامه في خطّ الأنبياء. ولكن الإنجليّين الثلاثة الذين أوردوا خطبته لم يوردوها على حرفيّتها وإلاَّ لما كنا نفهم الاختلاف بين نصّ آخر. أمّا أوضح ما نقرأ ففي لوقا الذي أشار إلى دخول الجيوش الرومانيّة إلى المدينة المقدّسة. "إذا ما رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا عندئذ أن خرابها قد اقترب" (21: 20). فالرسل استعادوا كلام يسوع وقرأوه على ضوء الواقع الجديد، لا ليقولوا فقط إنّ كلام المعلّم قد تحقّق، بل ليجدوا في كلامه نداء، إلى السهر. "ما أقوله لكم، أقوله للجمع: كونوا ساهرين" (مرقس 13: 37).

3- النبوءة وتفسيرها الروحيّ
لو قلنا إنَّ يسوع قال حرفيًا ما نجده في الأناجيل، لكنا نعتبر أنّ هذا الانجيليّ جهل الأمور أو لا سمح الله كذب لأنّه أورد ما لم يورده انجيليّ آخر. وكذا نقول عن الأنبياء في العهد القديم. النبيّ يقول كلمته كنداء من عند الله إلى التوبة، والذين يتناقلونها يعيدون قراءتها والتأمّل فيها ويدوّنونها بحسب الروح الذي قيلت فيه، لا بحسب الحرف. وهذا سيكون واجبنا نحن اليوم حين نقرأ النصوص المقدّسة. ننطلق من النصّ الحرفيّ ولا نتوقّف عنده، بل نصل إلى المعنى الروحيّ. فهو في النهاية يجعلنا نلتقي بالله في حوار حميم.
في هذا الاطار نودّ أن نتوقّف عند نصّين من العهد القديم أعيدت قراءتهما في العهد الجديد، فكان لنا معنى آخر يختلف كلّ الاختلاف عن المعنى الحرفيّ الذي نكتشفه في الأساس. الأوّل معروف وهو النبوءة عن بتوليّة العذراء. والثاني قد يجهله البعض وهو كلام يعقوب في مجمع أورشليم.
بالنسبة إلى النصّ الأوّل، نقرأ ما يقوله أشعيا بشكل حرفيّ: "لهذا يعطيكم الربّ نفسه آية: ها إنّ الصبية (ع ل م ه، غلامة أي مؤنث غلام، وهو من كان في عمر الزواج) تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (7: 14). إنّ لفظة ع ل م ه تدلّ على الصبيّة المتزوّجة كما في أم 30: 19، أو التي تستعدّ للزواج. أما هنا، فالنصّ لا يهتمّ بشكل مباشر بالصبيّة بل بالولد الذي يُولد للملك فتتأمّن استمراريّة السلالة الملكيّة. هكذا قالت ترجمة أكيلا وسيماك وتيودوسيون. جعلت مقابل "ع ل م ه" "نيانيس" في اليونانيّة التي هي الترجمة الحرفيّة للنصّ العبريّ. ولكن السبعينيّة لم تترجم النصّ ترجمة حرفيّة بل أعادت قراءته وأعطته غنى جديدًا لتدلّ على المعجزة التي يمنحها الله لشعبه فيكون معه. قالت" برتانوس" أي "العذراء، البتول".
وانطلق متّى من واقع ولادة المسيح، فرأى في النصّ الاشعيائيّ الذي تبدّل تبدّلاً كبيرًا، "نبوءة" عن حبل مريم البتوليّ بيسوع. فقال: "وكان هذا كله ليتمّ ما قال الربّ بالنبيّ القائل: ها إن العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل، أي الله معنا" (1: 22). ماذا نكتشف في هذا الكلام؟ مشروع الله هو منذ الأزل وقد تحقّق في الزمن بواسطة مريم. وما يدلّ عليه هو كلام الكتاب، وكلام الله لا يزول. ونفهم أن يسوع هو الأول في مخطط الله لا العهد القديم. فنقطة الانطلاق ليست حرف الكتاب ولا معناه، بل شخص يسوع الذي يعطي الكتاب كامل معناه. أمَّا النبيّ الذي تلفّظ بالكلمة فهو محدود في الزمان والمكان. وكلامه يتوجّه إلى الملك الذي يخامره اليأس، ويهدّد الخطر مملكته. لكن، إن كان النبيّ محدودًا، فكلمة الله ليست محدودة. هي دومًا حاضرة على مثال يسوع الذي هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. ولهذا نستعيد قراءتها اليوم لكي نطبّقها في حياتنا كما استعادها متّى خلال تأمّله في شخص يسوع والحبل البتولي.
والمثل الثاني نجده في سفر الأعمال. اجتمعت الكنائس من أنطاكية وأورشليم وغيرهما وتجادلت حول الشروط الضروريّة من أجل دخول الوثنيين إلى الكنيسة. وبرز تياران. الأوّل يقول: "إنّ لم تختتنوا بحسب شريعة موسى، فلا تستطيعون أن تخلصوا" (15: 1). أي لا تنتفعون شيئًا من دخولكم في الجماعة الجديدة. تلك كانت قراءة تقليديّة تعتبر أن الخلاص يتمّ بالايمان على مثال ابراهيم، والدخول في شعب الله. هذا الدخول يبدأ بالختان والمحافظة على الشريعة اليهوديّة. أمَّا موقف بولس وبرنابا فاختلف كل الاختلاف عن هذا الموقف الذي يقتل الكنيسة إذ يجعلها شيعة منغلقة على ذاتها. ليس الخلاص قضيّة محفوظة لفئة من الناس، لشعب من الشعوب، بل لجميع البشر الذين يخلصون باسم يسوع. قال بطرس في هذا المجال: "بنعمة الرب يسوع نؤمن أنّا نخلص نحن (اليهود) كما يخلص أولئك" (أي الوثنيّون).
وتحدّث يعقوب باسم كنيسة أورشليم فقال: "إني بعد هذا أرجع فأقيم خيمة داود التي سقطت، وأقيم ما تهدّم منها، وأنصبها ثانية، حتى تطلب الربّ بقيةُ الناس وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم" (أع 15: 16-17). لو قرأ يعقوب النصّ العبري على حرفيّته لما كان وصل أبدًا إلى هذه النظرة المسكونيّة التي تجعل جميع أمم العالم تطلب الربّ. وكذا نقول عن نصّ أشعيا. لو قرأناه قراءة حرفيّة لوصلنا إلى النتيجة المعاكسة ونفينا البتوليّة عن مريم. فالنصّ العبري يقول: الصبيّة المتزوّجة تحبل وتلد ابنًا. ولكن تبدّلت الأمور مع قراءة السبعينيّة وحدث يسوع المسيح.
أمَّا النص العبري الذي هو في أساس أع 15: 16-17 فهو عا 9: 11-12: "في ذلك اليوم أقيم خيمة داود التي سقطت... وأبنيها كأيام الدهر لكي يرثوا (= بنو اسرائيل) بقيّة أدوم وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم". ماذا يعني هذا النصّ؟ سيطرة بني اسرائيل على أدوم العدوّ التقليديّ وعلى سائر الأمم التي خضعت لداود في سالف الايام. ما الذي حصل في تفسير النصّ على لسان يعقوب الذي يفترض فيه أن يورد النصّ العبريّ؟ في الحقيقة أورد النصّ اليونانيّ الذي قرأ "آدم، أي البشر بدل "أدوم" ذاك الشعب الممقوت في يهوذا. فصار القول النبويّ كما في السبعينيّة "بقية البشر وكلّ الأمم الذين دُعي عليهم اسمي يطلبونني، يقول الربّ". نلاحظ هنا أنَّ القراءة الجديدة للنصّ أعطتنا معنى جديدًا. ولما جاء لوقا وهو الوثنيّ الأصل، ورأى نعمة الله في الأمم الوثنيّة، طبّق هذا القول النبويّ في مضمونه الجديد على الوضع الكنسيّ خلال مجمع أورشليم سنة 49-50. كم نحن بعيدون عن قراءة حرفيّة تتحدّث عن بني اسرائيل الذين يسيطرون على بقيّة أدوم وسائر الأمم، وكم توسّع المعنى وتبدّل حين تحدّث يعقوب عن "بقيّة البشر الذين يطلبون الربّ".

خاتمة
تلك كانت محاولة بسيطة لقراءة النصوص النبويّة فتبعدنا كلّ البعد عن المنطق الدفاعيّ الذي يريد أن يبرهن عن يسوع انطلاقًا من العهد القديم. ذاك كان موقف متّى وهو الذي يحدّث جماعة المسيحيين المتهوّدين ويبيّن لهم أنّ يسوع هو موسى الجديد الذي يُتمّ الكتب وبالتالي يسير حسب مشيئة الآب كما تعبّر عنها الكتب. ولقد فهمنا من هذين المثلين أننا لا نستطيع أن نقرأ النصّ البيبليّ قراءة حرفيّة لكي نصل إلى المعنى الإنجيليّ. فهناك تبدّل جذريّ ما كان النبيّ ليدري به وهو الذي يكلّم أبناء عصره. أمّا الكلمة التي تحمل غنى الله لأنّها كلمة الله، فهي جديرة بأن توصلنا إلى عمق الوحي الجديد في شخص يسوع المسيح وكنيسته. يبقى علينا أن نعرف أن النبيّ هو قبل كلّ شيء ذاك الذي يقرأ علامات الأزمنة على ضوء كلام الله، والذي يحمل كلام الله إلى معاصريه. لن نبحث نحن في كلامه عن تنبؤات وإخبار بالغيب، بل كلمة حيّة فعلت في مدّ التاريخ البيبلي، فعلت مع كتّاب العهد الجديد وهي تستطيع أن تفعل فينا اليوم لأنها حيّة فاعلة كسيف ذي حدين تدخل مفرق النفس والجسد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM